عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني

 

- 22 -

لولا علي لهلك عثمان

أخرج الحافظ العاصمي في كتابه " زين الفتى في شرح سورة هل أتى " من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أن رجلا أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت فقال: إنكم تزعمون النار يعرض على هذا و إنه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحس منها حرارة النار.

فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة.

فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن ! فقال علي: ايتوني بزند وحجر.

والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر.

فوضعها عليه ثم قال: ضع يدك على الزند.

فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار فبهت الرجل فقال عثمان: لولا علي لهلك عثمان.

قال الأميني: نحن لا نرقب من عثمان وليد بيت أمية الحيطة بأمثال هذه العلوم التي هي من أسرار الكون، وقد تقاعست عنها معرفة من هو أرقي منه في العلم، فكيف به ؟ وإنما تقلها عيبة العلوم الإلهية المتلقاة من المبدأ الأعلى منشئ الكون وملقي أسراره فيه، وهو الذي أفحم السائل هاهنا وفي كل معضلة أعوز القوم عرفانها.

وإنما كان المترقب من عثمان بعد ما تسنم عرش الخلافة الحيطة بما كان يسمعه ويراه ويفهم ويعقل من السنة المفاضة على أفراد الصحابة، لئلا يرتبك في موارد السؤال، فيرتكب العظائم ويفتي بخلاف الوارد، أو يرتأي رأيا عدت عنه المراشد لكن ويا للأسف..

- 23 -

رأي الخليفة في الجمع بين الأختين

بالملك أخرج مالك في الموطأ 2: 10 عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان: أحلتهما

/ صفحة 215 /

آية وحرمتهما آية، فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك.

قال: فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: لو كان لي من الأمر شئ ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا.

قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب.

(لفظ آخر للبيهقي) عن ابن شهاب قال أخبرني قبيصة بن ذؤيب: إن نيارا الأسلمي سأل رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأختين فيما ملكت اليمين فقال له: أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعل ذلك.

قال: فخرج نيار من عند ذلك الرجل فلقيه رجل آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أفتاك به صاحبك الذي استفيته فأخبره فقال: إني أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك عقوبة منكلة.

قال ملك العلماء في البدايع: وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: كل شئ حرمه الله تعالى من الحرائر حرمه الله تعالى من الإماء إلا الجمع في الوطئ بملك اليمين وقال الجصاص في أحكام القرآن: وروي عن عثمان وابن عباس إنهما أباحا ذلك وقالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية.

وقال: روي عن عثمان الإباحة، وروي عنه أنه ذكر التحريم والتحليل وقال: لا آمر به ولا أنهى عنه.

وهذا القول منه يدل على أنه كان ناظرا فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه فجائز أن يكون قال فيه بالإباحة ثم وقف فيه، وقطع علي فيه بالتحريم.

وقال الزمخشري: أما الجمع بينهما في ملك اليمين فعن عثمان وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرمتهما آية.

فرجح علي التحريم وعثمان التحليل.

قال الرازي: عن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحليل أولى قال ابن عبد البر في كتاب الاستذكار (1) : إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

راجع السنن الكبرى للبيهقي 7: 164، أحكام القرآن للجصاص 2: 158، المحلى لابن حزم 9: 522، تفسير الزمخشري 1: 359، تفسير القرطبي 5: 117، بدايع الصنايع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في بيان حديث الموطأ المذكور في أول العنوان في قول قبيصة: فلقي رجلا.

 

/ صفحة 216 /

للملك العلماء 2: 264، تفسير الخازن 1: 356، الدر المنثور 2: 136 نقلا عن مالك والشافعي وعبد بن حميد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي، تفسير الشوكاني 1: 418 نقلا عن الحفاظ المذكورين.

قال الأميني: يقع البحث عن هذه المسألة في موردين الأول: في حكم الجمع بين الأختين بملك اليمين ووطأهما جميعا فهو محرم على المشهور بين الفقهاء كما قاله الرازي في تفسيره 3: 193.

وهو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك كما قاله ابن كثير في تفسيره 1: 472.

ولا يجوز الجمع عند عامة الصحابة كما في بدايع 2: 264.

كان فيه خلاف بين السلف ثم زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين.

واتفق فقهاء الأمصار عليه كما قاله الجصاص في أحكام القرآن 2: 158 وذهب كافة العلماء إلى عدم جوازه ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى خلافه (قول عثمان) لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ولا يجوز عليهم تحريف التأويل وممن قال ذلك من الصحابة عمر وعلي وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل.

كذا قاله القرطبي في تفسيره 5: 116، 117.

وقال أبو عمر في الاستذكار: روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ولكن اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز والعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام والمغرب إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ظاهرا ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما لا يحل ذلك في النكاح.

(1) وحكيت الحرمة المتسالم عليها بين الأمة جمعاء عن علي وعمر والزبير وابن عباس وابن مسعود وعائشة وعمار وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وابن منبة وإسحاق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير ابن كثير 1: 473، تفسير الشوكاني 1: 411.

 

/ صفحة 217 /

ابن راهويه وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان والشعبي والحسن البصري وأشهب والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة ومالك(1).

ومع المجمعين الكتاب والسنة فمن الكتاب إطلاق الذكر الحكيم في عد المحرمات في قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين (سورة النساء 23) فقد حرمت الجمع بينهما بأي صورة من نكاح أو ملك يمين قال ابن كثير في تفسيره 1: 473: وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم.

إلى آخر الآية (2) : أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء وكذلك يجب أن يكون نظرا و قياسا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجة المحجوج بها " على " من خالفها وشذ عنها. ه‍.

وقد تمسك بهذا الإطلاق الصحابة والتابعون والعلماء وأئمة الفتوى والمفسرون وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يشدد النكير على من يفعل ذلك ويقول: لو كان لي من الأمر شئ ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا.

أو يقول للسائل: إني أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطان عاقبتك عقوبة منكلة.

وروي عن أياس بن عامر أنه قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني إتخذت إحداهما سرية وولدت لي أولادا ثم رغبت في الأخرى فما أصنع ؟ قال: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى ثم قال: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد.

أو قال: إلا الأربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب(3).

ولو لم يكن في هذا المورد غير كلام الإمام عليه السلام لنهض حجة للفتوى فإنه أعرف الأمة بمغازي الكتاب وموارد السنة، وهو باب علم النبي صلى الله عليهما وآلهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع أحكام القرآن للجصاص 2: 158، المحلى لابن حزم 9: 522، 523، تفسير القرطبي 5: 117، 118، تفسير أبي حيان 3: 213، تفسير الرازي 3: 193، الدر المنثور 2، 137.

(2) هي آية: وأن تجمعوا بين الأختين.

(3) أخرجه الجصاص في أحكام القرآن 2: 158، وأبو عمر في الاستذكار، وذكره ابن كثير في تفسيره 1: 472، والسيوطي في الدر المنثور 2: 137.

 

/ صفحة 218 /

وهو الذي خلفه صلى الله عليه وآله عدلا للكتاب ليتمسكوا بهما فلا يضلوا.

وقد أصفق على ذلك أئمة أهل البيت عليهم السلام من ولده وهم عترته صلى الله عليه وآله أعدال الكتاب وأبوهم سيدهم وقولهم حجة في كل باب.

وبهذه تعرف مقدار ما قد يعزى إلى أمير المؤمنين عليه السلام من موافقته لعثمان في رأيه الشاذ عن الكتاب والسنة وقوله: أحلتهما آية وحرمتهما آية.

وحاشاه عليه السلام من أن يختلف رأيه في حكم من أحكام الله، غير إن رماة القول على عواهنه راقهم أن يهون على الأمة خطب عثمان فكذبوا عليه صلوات الله عليه واختلقوا عليه، قال الجصاص في أحكام القرآن 2: 158: قد روى أياس بن عامر أنه قال لعلي: إنهم يقولون: إنك تقول: أحلتهما آية وحرمتهما آية. فقال: كذبوا.

ومن السنة للمجمعين ما استدل به على الحرمة ابن نجيم في البحر الرائق 3: 95، وملك العلماء في بدايع الصنايع 2: 264 وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين.

(المورد الثاني) : وهل هناك ما يخصص الحرمة المستفادة من القرآن بالسنة إلى ملك اليمين ؟ يدعي عثمان ذلك فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية.

ولم يعين الآية المحللة كما يعينها غيره من السلف، نعم: أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن حاتم والطبراني من طريق ابن مسعود إنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين الأمتين فكرهه، فقيل: يقول الله تعالى: إلا ما ملكت أيمانكم. فقال وبعيرك أيضا مما ملكت يمينك.

وفي لفظ ابن حزم: إن حملك مما ملكت يمينك (1) وقال الجصاص في أحكام القرآن 2: 158: يعنون بالمحلل قوله تعالى: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم.

والقول بهذا بعيد عن نطاق فهم القرآن وعرفان أسباب نزول الآيات، ولا تساعده الأحاديث الواردة في الآية الكريمة، وأنى للقائل من ثبوت التعارض بين الآيتين بعد ورودهما في موضوعين مختلفين ؟ ولأعلام القوم في المقام بيانات ضافية قيمة نقتصر منها بكلام الجصاص قال في " أحكام القرآن " 2: 199: إن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المحلى لابن حزم 9: 524، تفسير ابن كثير 1: 472، الدر المنثور 2: 137 نقلا عن الحفاظ المذكورين.

 

/ صفحة 219 /

الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بأحدهما على الأخرى إذ كل واحدة منهما ورود ها في سبب غير سبب الأخرى وذلك: لأن قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين.

وارد في حكم التحريم كقوله تعالى: وحلائل أبنائكم. وأمهات نسائكم. وسائر من ذكر في الآية تحريمها.

وقوله تعالى: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم.

في إباحة المسبية التي لها زوج في دار الحرب، وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما، فهو مستعمل فيهما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبية وبين زوجها وإباحتها لمالكها، فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأختين، إذ كل واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى، فيستعمل حكم كل واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه.

قال: ويدل على ذلك إنه لا خلاف بين المسلمين في أنها لم تعترض على حلائل الأبناء وأمهات النساء وسائر من ذكر تحريمهن في الآية، وإنه لا يجوز وطئ حليلة الابن ولا أم المرأة بملك اليمين ولم يكن قوله تعالى: " إلاما ملكت أيمانكم " موجبا لتخصيصهن لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع علي رضي الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى: " إلا ما ملكت أيمانكم ".

على تحريم الجمع بين الأختين يدل على أن حكم الآيتين إذا وردتا في سببين إحداهما في التحليل و الأخرى في التحريم إن كل واحدة منهما تجري على حكمهما في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأخرى، وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك.. الخ.

ونحن نردف كلام الجصاص بما ورد في سبب نزول قوله تعالى: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم.

وإنه كما سمعت من الجصاص غير السبب الوارد فيه قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين.

أخرج مسلم في صحيحه وغيره بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم.

فاستحللنا بها فروجهن

/ صفحة 220 /

وفي لفظ أحمد: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أطاس لهن أزواج من أهل الشرك فكان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من من غشيانهن قال: فنزلت هذه الآية في ذلك: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ".

وفي لفظ النسائي: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا لهن أزواج في المشركين فكان المسلمون تحرجوا من غشيانهن فأنزل الله عز وجل: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم.

راجع صحيح مسلم 1: 416، 417، صحيح الترمذي 1: 135، سنن أبي داود 1: 336، سنن النسائي 6: 110، مسند أحمد 3: 72، 84، أحكام القرآن للجصاص 2: 165، سنن البيهقي 7: 167، المحلى لابن حزم 9: 447، مصابيح السنة 2: 29، تفسير القرطبي 5: 121، تفسير البيضاوي 1: 269، تفسير ابن كثير 1: 372، تفسير الخازن 1: 375، تفسير الشوكاني 1: 418.

وعلى ذلك تأوله علي وابن عباس وعمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن مسعود وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقالوا: إن الآية وردت في ذوات الأزواج من السبايا أبيح وطؤهن بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما (1) .

وقال القرطبي في تفسيره 5: 121: قد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي هن محرمات إلا ما مملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج.

وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة، وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، و وقال به أشهب، يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري " وذكر الحديث فقال ": وهذا نص صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وطئ المسبيات ذوات الأزواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم: إلا ما ملكت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أحكام القرآن للجصاص 2: 165، سنن البيهقي 7: 167، تفسير الشوكاني 1: 418.

 

/ صفحة 221 /

أيمانكم وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. ا هـ.

(قول آخر في الآية المحللة) :

قال ملك العلماء في بدايع الصنايع 2: 264، والزمخشري في تفسيره 1: 359: عني عثمان بآية التحليل قوله عز وجل: إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (1) .

وهذا إنما يتم بالتمسك بعموم ملك اليمين لكن الممعن في لحن القول يجد إنه لا يجوز الأخذ بهذا العموم لأنه في مقام بيان ناموس العفة للمؤمنين بأن صاحبها يكون حافظا لفرجه إلا فيما أباح له الشارع في الجملة من زوجة أو ملك يمين فقال: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ولا ينافي هذا وجود شروط في كل منهما، فإن العموم لا يبطل تلكم الشروط الثابتة من الشريعة، وإنما هي التي تضيق دائرة العموم وهي الناظرة عليه، مثلا لا يقتضي هو إباحة وطي الزوجة في حال الحيض والنفاس وفي أيام شهر رمضان وفي الاحرام والايلاء والظهار والمعتدة من وطئ بشبهة، ولا إباحة وطي الأختين ولا وطئ الأمة ذات الزوج فإن هذه شرايط جاء بها الاسلام لا يخصصها أي شئ، ولا يعارض أدلتها عموم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.

ولو وسعنا عموم الآية لوجب أن نبيح كل هذه أو نراها تعارض أدلتها، ولنا عندئذ أن نقول في نكاح الأختين وفي بقية ما ورد في الكتاب مما ذكر: أحلته آية وحرمته آية.

فقد استثنيا " الزوجة وملك اليمين " بنسق واحد وهذا مما لا يفوه به أي متفقه.

وكذلك لو أخذ بعمومها في الرجال والنساء كما جوزه الجصاص لوجب أن نبيح للمرأة المالكة أن يطأها من تملكه، وهذا لا يحل إجماعا من أئمة المذاهب.

وقال ابن حزم في المحلى 9: 524: لا خلاف بين أحد من الأمة كلها قطعا متيقنا في أنه ليس على عمومه، بل كلهم مجمع قطعا على أنه مخصوص، لأنه لا خلاف ولا شك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة المؤمنين آية 6.

 

/ صفحة 222 /

في أن الغلام من ملك اليمين وهو حرام لا يحل، وإن الأم من الرضاعة من ملك اليمين والأخت من الرضاعة من ملك اليمين، وكلتاهما متفق على تحريمهما، أو الأمة يملكها الرجل قد تزوجها أبوه ووطأها وولد منها حرام على الابن.

وقال: ثم نظرنا في قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين.

وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن.

ولا تنكح المشركات حتى يؤمن.

ولم يأت نص ولا إجماع على أنه مخصوص حاش زواج الكتابيات فقط، فلا يحل تخصيص نص لا برهان على تخصيصه، وإذ لا بد من تخصيص ما هذه صفتها أو تخصيص نص آخر لا خلاف في أنه مخصص، فتخصيص المخصوص هو الذي لا يجوز غيره. ا هـ.

وأما ما قيل (1) من أن الآية المحللة قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم.

في ذيل آية عد المحرمات فباطل أيضا فإنه بمنزلة الاستثناء مما قبله من المحرمات ومنها الجمع بين الأختين، وقد عرفت إن الأمة صحابيها وتابعيها وفقهائها مجمعة على عدم الفرق في حرمة الجمع بين الأختين في الوطئ نكاحا وملك يمين، ولم يفرقوا بينهما قط، وهو الحجة، على أن ملاك التحريم في النكاح وهو الوطي موجود في ملك اليمين فالحكم فيهما شرع سواء في المراد مما وراء ذلك هوما وراء المذكورات كلها من الأمهات والبنات إلى آخر ما فيها، ومنها الجمع بين الأختين بقسميه.

وعلى فرض الاغضاء عن كل هذه وعن أسباب نزول الآيات وتسليم إمكان المعارضة بين الآيتين فإن دليل الحظر مقدم على دليل الإباحة في صورة التعارض ووحدة سبب الدليلين كما بينه علماء علم الأصول ونص عليه في هذه المسألة الجصاص في أحكام القرآن 2: 158، والرازي في تفسيره 3: 193.

لكن عثمان كان لا يعرف كل هذا، ولا أحاط بشئ من أسباب نزول الآيات فطفق يغلب دليل الإباحة في مزعمته على دليل التحريم المتسالم عليه عند الكل، وقد عزب عنه حكم العقل المستدعي لتقديم أدلة الحرمة دفعا للضرر المحتمل، وقد شذ بذلك عن جميع الأمة كما عرفت تفصيله ولم يوافقه على هذا الحسبان أي أحد إلا ما يعزى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير القرطبي 5: 117، تفسير ابن كثير 1: 474.

 

/ صفحة 223 /

إلى ابن عباس بنقل مختلف فيه كما مر عن أبي عمر في الاستذكار.

وفي كلا م الخليفة شذوذ آخر وهو قوله: كل شئ حرمه الله تعالى من الحرائر حرمه الله تعالى من الإماء إلا الجمع بالوطئ بملك اليمين.

فهو باطل في الاستثناء والمستثنى منه، أما الاستثناء فقد عرفت إطباق الكل على حرمة الجمع بين الأختين بالوطئ بملك اليمين معتضدا بالكتاب والسنة، وأما المستثنى منه فقد أبقى فيه ما هو خارج منه بالاتفاق من الأمة جمعاء وهو العدد المأخوذ في الحرائر دون الإماء.

لقد فتحت أمثال هذه المزاعم الباطلة الشاذة عن الكتاب وفقه الاسلام باب الشجار على الأمة بمصراعيه، فإنها في الأغلب لا تفقد متابعا أو مجادلا قد ضلوا وأضلوا وهم لا يشعرون، وهناك شرذمة سبقها الإجماع ولحقها من أهل الظاهر لا يأبه بهم لم يزالوا مصرين على رأي الخليفة في هذه المسألة، لكنهم شذاذ عن الطريقة المثلى، قال القرطبي في تفسيره 5: 117: شذ أهل الظاهر فقالوا: يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما يجوز الجمع بينهما في الملك، واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين: حرمتهما آية وأحلتهما آية.

ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين. " البقرة 145 " .

- 24 -

رأي الخليفة في رد الأخوين الأم عن الثلث

أخرج الطبري في تفسيره 4: 188 من طريق شعبة عن ابن عباس: إنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال: لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس وإنما قال الله: فإن كان له إخوة.

والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار وفي لفظ الحاكم والبيهقي: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس.

أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 335 وصححه، والبيهقي في سنن الكبرى 6: 227، وابن حزم في المحلى 9: 258، وذكره الرازي في تفسيره 3: 163، وابن

/ صفحة 224 /

كثير في تفسيره 1: 459، والسيوطي في الدر المنثور 2: 126، والآلوسي في روح المعاني 4: 225.

قال الأميني: ما أجاب به الخليفة ابن عباس ينم عن عدم تضلعه في العربية مع إنها لسان قومه، ولو كان له قسط منها لأجاب ابن عباس بصحة إطلاق الجمع على الاثنين وإنه المطرد في كلام العرب، لا بالعجز عن تغيير ما غلط فيه الناس كلهم العياذ بالله وما هو ببدع في ذلك عمن تقدماه يوم لم يعرفا معنى " الأب " وهو من صميم لغة الضاد ومشروح بما بعده في الذكر الحكيم، فإن إطلاق الأخوة على الأخوين قد لهج به جمهور العرب ولذلك لا تجد أي خلاف في حجب الأخوين الأم عن الثلث إلى السدس بين الصحابة العرب الأقحاح، والتابعين الذين نزلوا منزلتهم من العربية الفصحاء، والفقهاء من مذاهب الاسلام، ولا استناد لهم في الحكم إلا الآية الكريمة، وما ذلك إلا لتجويزهم إطلاق الجمع على الاثنين سواء كان ذلك أقله أو توسعا مطردا في الإطلاق.

قال الطبري في تفسيره 4: 187: قال جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الاسلام في كل زمان: عني الله جل ثناؤه بقوله: فإن كان له إخوة فلامه السدس.

اثنين كان الأخوة أو أكثر منهما، أنثيين كانتا أو كن إناثا، أو ذكرين كانا أو ذكورا، أو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، واعتل كثير ممن قال ذلك بأن ذلك قالته الأمة عن بيان الله جل ثناؤه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقلته أمة نبيه نقلا مستفيضا قطع العذر مجيئه، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده (ثم نقل حديث ابن عباس المذكور فقال) : والصواب من القول في ذلك عندي أن المعني بقوله: فإن كان له إخوة.

اثنان من أخوة الميت فصاعدا على ما قاله أصحاب رسول الله دون ما قاله ابن عباس رضي الله عنه (1) لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك.

قال: فإن قال قائل: وكيف قيل في الأخوين إخوة ؟ وقد علمت أن الأخوين في منطق العرب مثالا لا يشبه مثال الأخوة في منطقها ؟ قيل: إن ذلك كان كذلك فإن من شأنها التأليف بين الكلامين بتقارب معنييهما وإن اختلفا في بعض وجوههما فلما كان ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سيوافيك فساد عزو الخلاف إلى ابن عباس.

 

/ صفحة 225 /

كذلك وكان مستفيضا في منطقها، منتشرا مستعملا في كلامها: ضربت من عبد الله وعمرو رؤسهما، وأوجعت منهما ظهورهما، وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال: أوجعت منهما ظهرهما، وإن كان مقولا أوجعت ظهرهما كما قال الفرزدق:

بما في فؤادينا من الشوق والهوى * فيـــــبرأ منهاض الفـــؤاد المشغف

غير أن ذلك وإن كان مقولا فأفصح منه بما في أفئدتنا كما قال جل ثناؤه: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما.

فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الانسان واحدا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين فلفظ الجمع أفصح في منطقها وأشهر في كلامها، وكان الأخوان شخصين كل واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفين أشبه معناها معنى ما كان في الانسان من أعضائه واحدا لا ثاني له، فأخرج أنثييهما بلفظ أنثي العضوين اللذين وصفت، فقيل: إخوة.

في معنى الأخوين، كما قيل: ظهور.

في معنى الظهرين، وأفواه في معنى فموين، وقلوب في معنى قلبين.

وقد قال بعض النحويين إنما قيل: إخوة، لأن أقل الجمع اثنان.. الخ. ا ه‍.

وأخرج الحاكم بإسناد صححه في المستدرك 4: 335، والبيهقي في السنن 6: 227 عن زيد بن ثابت إنه كان يحجب الأم بالأخوين فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة. وذكره الجصاص في أحكام القرآن 2: 99.

وأخرج ابن جرير في تفسيره 4: 189 وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: فإن كان له إخوة فلامه السدس.

قال: أضروا بالأم، ولا يرثون ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك.

(الدر المنثور 2: 126) وذكر الجصاص في أحكام القرآن 2: 98 قول الصحابة بحجب الأخوين الأم عن الثلث كالأخوة فقال: والحجة: إن اسم الأخوة قد يقع على الاثنين كما قال تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما.

وهما قلبان.

وقال تعالى: هل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب.

ثم قال تعالى: خصمان بغى بعضنا على بعض.

فأطلق لفظ الجمع على اثنين.

وقال تعالى: وإن كانوا إخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الأنثيين.

فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما.. الخ(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بقية كلامه لا تخلو عن فوائد. فراجع الجصاص أحد أئمة الحنفية. الغدير 16

/ صفحة 226 /

قال مالك في الموطأ 1: 331: فإن كان له إخوة فلامه السدس فمضت السنة أن الأخوة اثنان فصاعدا.

وفي عمدة السالك وشرحه فيض المالك 2: 122: فإن كان معها أي الأم ولد أو كان معها ولد ابن ذكر أو أنثى أو كان معها عدد اثنان فأكثر من الأخوة ومن الأخوات فلها السدس لقوله تعالى: فإن كان له إخوة فلامه السدس.

والمراد بهم اثنان فأكثر إجماعا(1) .

وقال الشافعي كما في مختصر المزني هامش كتاب الأم 3: 140: وللأم الثلث فإن كان للميت ولد أو ولد ولد أو اثنان من الأخوة أو الأخوات فصاعدا فلها السدس.

وقال ابن كثير في تفسيره 1: 459: حكم الأخوين كحكم الأخوة عند الجمهور ثم ذكر حديث زيد بن ثابت من إن أخوين تسمي إخوة.

وقال الشوكاني في تفسيره 1: 398: قد أجمع أهل العلم على أن الاثنين من الأخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعدا في حجب الأم إلى السدس.

هذا رأي الأمة في الأخوة فقد عزب عن الخليفة صحة الإطلاق في الآية الكريمة في لسان قومه، وإن السلف لم يعرف من الأخوة معنى إلا ما يعم الأخوين وزعم أن من كان قبله شذوا عن لسان قومه، وذهبوا إلى حجب الأم بالأخوين خلاف كتاب الله، وجاء يأسف على أنه لم يستطع تغيير ما وقع ونقض ما كان من الناس، هذا مبلغ علم الرجل بالكتاب وأدلة الأحكام والفروض المسلمة بين الأمة.

وأما ابن عباس فإنه لم يشذ عن لغة قومه وهو من جبهة العرب وعلى سنام قريش ومن بيت هم أفصح من نطق بالضاد، وإنما أراد باستفهامه من الخليفة أن يعرف الملأ مقداره من أبسط شئ يجب أن يكون في مثله فضلا عن معضلات المسائل وهو الحيطة باللغة وعرفان موارد الاستعمال حتى يتسنى له أخذ الحكم من الكتاب والسنة اللذين جاءا بهذه اللغة الكريمة، ولذلك أتى في قوله بصورة الاستفهام عن مدرك الحكم لاعن أصله، فإن الحكم كان مسلما عنده لا أن ما قاله للخليفة كان رأيا له في الخلاف في حجب الأخوين، وإلا لتبعه أصحابه المقتصين أثره، لكنهم كلهم موافقون للأمة وعلمائها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا مذهب الحنابلة والكتاب لأحد أئمتهم.

 

/ صفحة 227 /

في حجب الأخوين كما ذكره ابن كثير في تفسيره 1: 459 فعد ابن عباس مخالفا في المسألة بهذه الرواية كما فعله الطبري في تفسيره 4: 188، وابن رشد في البداية 2: 327 وغير واحد من الفقهاء وأئمة الحديث ورجال التفسير أغلوطة نشأت من عدم فهم مغزى كلامه.

ـ 25 ـ

رأي الخليفة في المعترفة بالزنا

عن يحيى بن حاطب قال: توفي حاطب فأعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت له أمة نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم ترعه إلا بحبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر رضي الله عنه فحدثه فقال: لأنت الرجل لا تأتي بخير، فأفزعه ذلك فأرسل إليها عمر رضي الله عنه فقال: أحبلت ؟ فقالت: نعم من مرعوش بدرهمين.

فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه قال: وصادف عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فقال: أشيروا علي وكان عثمان رضي الله عنه جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد.

فقال: أشر علي يا عثمان ! فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر علي أنت.

قال: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فقال: صدقت صدقت والذي نفسي بيده، ما الحد إلا على من علمه. فجلدها عمر مائة وغربها عاما.

قال الأميني: أسلفنا هذا الحديث في الجزء السادس (1) وتكلمنا هنالك حول رأي الخليفة الثاني وما أمر به من الجلد والاغتراب وإنه خارج عن نطاق الشرع، وهاهنا ننظر إلى رأي عثمان وفتياه بعدم الحد.

ولو كان ما يقوله الخليفة حقا لبطلت الأقارير والاعترافات في أمثال المورد فيقال في كلها إنه لا يعلم الحد ولو علمه لأخفاه خيفة إجرائه عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحد بالاقرار ولو بعد استبراء الخبر والتريث في الحكم رجاء أن تكون هناك شبهة يدرأ بها الحد فكان صلى الله عليه وآله يقول للمعترف بالزنا: أبك جنون ؟ (2) أو يقول: لعلك قبلت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صفحة 161 ط 1، و 174 ط 2.

(2) كما في صحيح أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي في السنن 8: 225.

 

/ صفحة 228 /

أو غمزت أو نظرت ؟ (1) وكذلك مولا نا أمير المؤمنين علي وقبله الخليفة الثاني كانا يدافعان المعترف رجاء أن ينتج الأخذ والرد لشبهة في الاقرار، لكنهما بعد ثبات المعترف على ما قال كانا يجريان عليه الحد، ألا ترى قول عمر للزانية: ما يبكيك ؟ إن المرأة ربما استكرهت على نفسها.

فأخبرت إن رجلا ركبها وهي نائمة فخلى سبيلها، وإن عليا عليه السلام قال لشراحة حين أقرت بالزنا: لعلك عصيت نفسك ؟ قالت: أتيت طائعة غير مكرهة فرجمها (2) ولعل من جراء أمثال هذه القضايا طرق سمع الخليفة إن الحدود تدرأ بالشبهات، والحدود تدفع ما وجد لها مدفع، غير أنه لم يدر أن للإقرار ناموسا في الشريعة لا يعدوه ولا سيما في مورد الزنا فإنه يؤاخذ به المعترف في أول مرة كما تعطيه قصة العسيف الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، أو بعد أربع أقارير إما في مجلس واحد كما ورد في قصة الماعز في لفظ الشيخين في الصحيحين، أوفي عدة مجالس كما يظهر من حديث زاني بني ليث الوارد في سنن البيهقي 8: 228، فتقوم تلكم الأقارير مقام أربع شهادات، كما وقع في سارق جاء إلى علي فقال: إني سرقت، فرده فقال: إني سرقت.

فقال: شهدت على نفسك مرتين فقطعه (3) .

وقد عزب عن الخليفة فقه المسألة كما بيناه، وهي على ما جاءت في الأحاديث المذكورة يختلف حكمها عند أئمة المذاهب قال القاضي ابن رشد في بداية المجتهد 2: 429: أما عدد الاقرار الذي يجب به الحد فإن مالكا (4) والشافعي (5) يقولان يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة وبه قال داود وأبو ثور الطبري وجماعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى: لا يجب الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة، وبه قال أحمد واسحاق، وزاد أبو حنيفة وأصحابه في مجالس متفرقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في حديث ماعز وقد أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح وفي مقدمهم البخاري في صحيحه 10: 39.

(2) أخرجهما الجصاص في أحكام القرآن 3: 325.

(3) كنز العمال 3: 117 نقلا عن عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي.

(4) ذكر تفصيل ما ذهب إليه في الموطأ والمدونة الكبرى.

(5) يوجد تفصيل قوله في كتابه الأم 7: 169.

 

/ صفحة 229 /

ثم ماذا يعني الخليفة بقوله: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه ؟ هل يريد جهلها بالحد أو بحرمة الزنا ؟ أما العلم بثبوت الحد فليس له أي صلة بإجراء حكم الله فإنه يتبع تحقق الزنا في الخارج علم الزاني أو الزانية بترتب الحد عليهما أم لم يعلما.

على إنه ليس من الممكن في عاصمة النبوة أن يجهل ذلك أي أحد وهو يشاهد في الفينة بعد الفينة مجلودا تنال منه السياط، ومرجوما تتقاذفه الأحجار.

وأما حرمة الزنا فلا يقبل من المتعذر بالجهل بها إلا حيث يمكن صدقه كمن عاش في أقاصي البراري والفلوات والبقاع النائية عن المراكز الإسلامية، فيمكن أن يكون الحكم لم يبلغه بعد، وأما المدني يومئذ الكائن بين لوائح النبوة ومجاري الأحكام والحدود وتحت سيطرة الخلفاء، وهو يعي كل حين التشديد في الزنا وحرمته، ويشاهد العقوبات الجارية على الزناة من جراء حرمة السفاح، فعقيرة ترتفع من ألم السياط، وجنازة تشال بعد الرجم، فليس من الممكن في حقه عادة أن يجهل حرمة الزنا فلا تقبل منه دعواه الجهل، ولعل هذا مما اتفقت عليه أئمة المذاهب، قال مالك في المدونة الكبرى 4: 382 في الرجل يطأ مكاتبته يغتصبها أو تطاوعه: لا حد عليه وينكل إذا كان ممن لا يعذر بالجهالة.

وقال فيمن يطلق امرأته تطليقة قبل البناء بها فيطؤها بعد التطليقة ويقول: ظننت أن الواحدة لا تبينها مني وإنه لا يبرأها مني إلا الثلاث: قال ابن القاسم: ليس عليه الحد إن عذر بالجهالة، فأرى في مسألتك إن كان ممن يعذر بالجهالة أن يدرأ عنه الحد لأن مالكا قال في الرجل يتزوج الخامسة: إن كان ممن يعذر بالجهالة وممن يظن إنه لم يعرف أن ما بعد الأربع ليس مما حرم الله، أو يتزوج أخته من الرضاع على هذا الوجه، فإن مالكا درأ عنه الحد وعن هؤلاء.

وفي ص 401: من وطئ جارية هي عنده رهن إنه يقام عليه الحد، قال ابن - القاسم: ولا يعذر في هذا أحد ادعى الجهالة.

قال مالك: حديث التي قالت زينب بمرعوش بدرهمين (1) إنه لا يؤخذ به.

وقال مالك: أرى أن يقام الحد ولا يعذر العجم بالجهالة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يعني الحديث المذكور في عنوان المسألة الذي نبحث عما فيه.

 

/ صفحة 230 /

وقال الشافعي في كتاب الأم 7: 169 في زناء الرجل بجارية امرأته: إن زناه بجارية امرأته كزناه بغيرها إلا أن يكون ممن يعذر بالجهالة ويقول: كنت أرى أنها لي حلال.

قال شهاب الدين أبو العباس ابن النقيب المصري في عمدة السالك: ومن زنى و قال: لا أعلم تحريم الزنا وكان قريب العهد بالاسلام أو نشأ ببادية بعيدة لا يحد، وإن لم يكن كذلك حد (1) . ا هـ.

ولو قبل من كل متعذر بالجهالة لعطلت حدود الله، وتترس به كل زان و زانية، وشاع الفساد، وساد الهرج، وارتفع الأمن على الفروج والنواميس، ولو راجعت ما جاء في مدافعة النبي صلى الله عليه وآله والخلفاء عن المعترف بالزنا لإلقاء الشبهة لدرء الحد تراهم يذكرون الجنون والغمز والتقبيل وما شابه ذلك، ولا تجد ذكر الجهل بالحرمة في شئ من الروايات، فلو كان لمطلق الجهل تأثير في درء الحد لذكروه لا محالة من غير شك.

على أن الجهل حيث يسمع يجب أن يكون بادعاء من الرجل لا بالتوسم من وجناته وأسارير جبهته واستهلاله في إقراره كما زعمه الخليفة وهو ظاهر كلمات الفقهاء المذكورة.

ولما قلناه كله لم يعبأ الحضور بذلك الاستهلال، فأخذها مولانا أمير المؤمنين وعبد الرحمن فقالا: قد وقع عليها الحد.

وأما عمر فالذي يظهر من قوله لعثمان ؟ صدقت.. إلخ.

وفعله من إجراء الجلد والاغتراب إنه هزأ بهذا القول، ولو كان مصدقا لما جلدها لكنه جلدها وهي تستحق الرجم كما مر في الجزء السادس.

ـ 26 ـ

شراء الخليفة صدقة رسول الله

أخرج الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن المسيب قال: كان لعثمان آذن فكان يخرج بين يديه إلى الصلاة قال: فخرج يوما فصلى والآذن بين يديه ثم جاء فجلس الآذن ناحية ولف ردائه فوضعه تحت رأسه واضطجع ووضع الدرة بين يديه، فأقبل علي في إزار ورداء وبيده عصا، فلما رآه الآذن من بعيد قال: هذا علي قد أقبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع فيض الإله المالك في شرح عمدة السالك 2، 312.

 

/ صفحة 231 /

فجلس عثمان فأخذ عليه رداءه فجاء حتى قام على رأسه فقال: اشتريت ضيعة آل فلان و لوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائها حق، أما إني قد علمت إنه لا يشتريها غيرك.

فقام عثمان وجرى بينهما كلام حتى ألقى الله عز وجل وجاء العباس فدخل بينهما، ورفع عثمان على علي الدرة ورفع علي على عثمان العصا، فجعل العباس يسكنهما ويقول لعلي: أمير المؤمنين.

ويقول لعثمان: ابن عمك. فلم يزل حتى سكتا.

فلما أن كان من الغد رأيتهما وكل منهما آخذ بيد صاحبه وهما يتحدثان. مجمع الزوائد 7: 227.

قال الأميني: يعلمنا الحديث إن الخليفة ابتاع الضيعة ومائها وفيه حق لوقف رسول الله لا يجوز ابتياعه، فإن كان يعلم بذلك ؟ وهو المستفاد من سياق الحديث حيث إنه لم يعتذر بعدم العلم، وهو الذي يلمح إليه قول الإمام عليه السلام: وقد علمت أنه لا يشتريها غيرك.

فأي مبرر استساغ ذلك الشراء ؟ وإن كان لا يعلم ؟ فقد أعلمه الإمام عليه السلام فما هذه المماراة والتلاحي ورفع الدرة ؟ الذي اضطر الإمام إلى رفع العصا، حتى فصل بينهما العباس، أوفي الحق مغضبة ؟ وهل يكون تنبيه الغافل أو إرشاد الجاهل مجلبة لغضب الانسان، الديني ؟ فضلا عمن يقله أكبر منصة في الاسلام.

وأحسب إن ذيل الرواية ملصق بها لإصلاح ما فيها، وعلى فرض صحته فإنه لا يجديهم نفعا، فإن الإمام عليه السلام لم يأل جهدا في النهي عن المنكر سواء ارتدع فاعله أو إنه عليه السلام يأس من خضوعه للحق، وعلى كل فإنه عليه السلام كان يماشيهم على ولاء الاسلام ولا يثيره إلا الحق إذا لم يعمل به، فيجري في كل ساعة على حكمها من مكاشفة أو ملاينة، وهكذا فليكن المصلح المنزه عن الأغراض الشخصية الذي يغضب لله وحده ويدعو إلى الحق للحق.

ـ 27 ـ

الخليفة في ليلة وفاة أم كلثوم

أخرج البخاري في صحيحه في الجنائز باب يعذب الميت ببكاء أهله.

وباب من يدخل قبر المرأة ج 2: 225، 244 بالإسناد من طريق فليح بن سليما عن أنس بن مالك قال: شهدنا بنت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الصحيح عند شراح الحديث إنها أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان، وجاء في لفظ أحمد وغيره إنها رقية.

وعقبه السهيلي وقال: هو وهم بلا شك.

راجع الروض الآنف 2: 107، فتح الباري 3: 122، عمدة القاري 4: 85.

 

/ صفحة 232 /

عينيه تدمعان فقال: هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة ؟ فقال أبو طلحة " زيد بن سهل الأنصاري ": أنا، قال: فأنزل في قبرها. قال: فنزل في قبرها فقبرها.

قال ابن مبارك: قال فليح: أراه يعني الذنب.

قال أبو عبد الله " يعني البخاري نفسه ": ليقترفوا ليكتسبوا (1) وفي مسند أحمد: قال سريج: يعني ذنبا.

وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8: 31 ط ليدن، وأحمد في مسنده 3: 126، 228، 229، 270، والحاكم في المستدرك 4: 47، والبيهقي في السنن الكبرى 4: 53 من طريقين، وذكره السهيلي في الروض الأنف 2: 107 نقلا عن تاريخ البخاري وصحيحه وعن الطبري فقال: قال ابن بطال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحق الناس بذلك لأنه كان بعلها وفقد منها علقا لا عوض منه لأنه حين قال عليه السلام: أيكم لم يقارف الليلة أهله.

سكت عثمان ولم يقل أنا لأنه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه ولم يشغله الهم بالمصيبة وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقا له وكان أولى من أبي طلحة وغيره، وهذا بين في معنى الحديث ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئا لأنه فعل فعلا حلالا غير إن المصيبة لم تبلغ منه مبلغا يشغله حتى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح والله أعلم.

ويوجد الحديث في نهاية ابن الأثير 3: 276، لسان العرب 11: 189، الإصابة 4: 489، تاج العروس 6: 220.

قال الأميني: إضطربت كلمات العلماء حول هذا الحديث غير إن فليحا المتوفي سنة 163، الذي فسر المقارفة بالذنب، وأيد البخاري كلامه بقوله: ليقترفوا ليكتسبوا وسريجا المتوفى سنة 217 هم أقدم من تكلم فيه، وقال الخطابي (2) : معناه لم يذنب (3) وجاء ابن بطال (4) وخصه بمقارفة النساء، وجمع بينهما العيني (5)، وأيا ما كان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إيعاز إلى قوله تعالى: وليقترفوا ما هم مقترفون. كما في فتح الباري 3: 163، وفي قوله تعالى: إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون.

(2) أبو سليمان حمد بن محمد البستي صاحب التآليف القيمة المتوفى 388.

(3) ذكره العيني في عمدة القاري 4: 85.

(4) ذكر كلامه السهيلي في الروض الأنف 2: 107 كما مر بلفظه.

(5) عمدة القاري 4: 85

/ صفحة 233 /

فلا شك في إنه أمر استحق من جرائه عثمان الحرمان من النزول في قبر زوجته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أولى الناس بها، والمسلمون كلهم كانوا يعلمون ذلك، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الداعي إلى الستر على المؤمنين والاغضاء عن العيوب، الناهي عن إشاعة الفحشاء في كتابه الكريم، والمانع عن التجسس عما يقع في الخلوات، المبعوث لإعزاز أهل الدين، شاء وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أن يستثني موردا واحدا تلوح بأمر عظيم حرم لأجله عثمان من الحظوة بالنزول في قبر حليلته أو معقد شرفه بصهر رسول الله صلى الله عليه وآله وواسطة مفخره بهاتيك الصلة، فعرف المسلمون ذلك المقتضي بالطبع الأول وهذا المانع من المقارفة المختلف في تفسيرها، فإن كان ذنبا أثر في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حط من رتبته بما قلناه ؟ ولو كانت صغيرة وهي غير ظاهرة تسترها، لكنها بلغت من الكبر حدا لم ير صلى الله عليه وآله سترها، ولا رعى حرمة ولا كرامة لمقترفها، فإن كانت سيئة هذا شأنها ؟ فلا خير فيمن يجترح السيئآت.

وإن أريدت مقارفة النساء على الوجه المحلل فهي من منافيات المروءة ومن لوازم الفظاطة ولغلظة فأي إنسان تحبذ له نفسه التمتع بالجواري في أعظم ليلة عليه هي ليلة تصرم مجده، وانقطاع فخره، وانفصام عرى شرفه، فكيف هان ذلك على الخليفة ؟ فلم يراع حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله واستهانت تلك المصيبة العظيمة فتلذذ بالرفث إلى جارية (1) والمطلوب من الخلفاء معرفة فوق هذه من أول يومهم، ورأفة أربى مما وقع، ورقة تنيف على ما صدر منه، وحياء يفضل على ما ناء به.

ومن العسير جدا الخضوع للاعتقاد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله ارتكب ذلك الهتك والاهانة على أمر مباح مع رأفته الموصوفة على أفراد الأمة وإغراقه نزعا في الستر عليهم، وكيف في حق رجل يعلم صلى الله عليه وآله إنه سيشغل منصة الخلافة.

هذا ما عندنا وأما أنت فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.

أيحكم ضميرك الحر عندئذ في رجل هذا شأنه وهذه سيرته مع كريمة رسول الله صلى الله عليه وآله بصحة ما أخرجه ابن سعد في طبقاته 3: 38 من القول المعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يوم قارف الرجل، يوم سمع من النبي الأعظم تلك القارصة: لو كان عندي ثالثة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في عمدة قاري 4: 85.

 

/ صفحة 234 /

زوجتهما عثمان، قاله لما ماتت أم كلثوم. كذا قال ابن سعد.

أو قوله: لو كن (يعني بناته) عشرا لزوجتهن عثمان (1) أو قوله فيما أخرجه ابن عساكر: لو إن لي أربعين بنتا لزوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا تبقى منهن واحدة (2) .

أو قوله فيما جاء به ابن عساكر (3) من طريق أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال: يا عثمان ! هذا جبريل يخبرني إن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل مصاحبتها.

أكانت مصاحبة عثمان هذه أم كلثوم لدة مصاحبتها رقية وكانت مرضية للمولى سبحانه ؟ أو ترى عثمان متخلفا عن شرط الله في أم كلثوم ؟ أنا لا أدري.

على أن إسناد هذا الحديث معلول من جهات، وكفاه علة عبد الرحمن بن أبي الزناد القرشي وقد ضعفه ابن معين وابن المديني وابن أبي شيبة وعمرو بن علي والساجي وابن سعد، وقال ابن معين والنسائي: لا يحتج بحديثه (4) 28 إتخاذ الخليفة الحمى له ولذويه لقد جعل الاسلام منابت العشب من مساقط الغيث والمروج كلها شرعا سواء بين المسلمين إذا لم يكن لها مالك مخصوص كما هو الأصل في المباحات الأصلية من أجواز الفلوات وأطراف البراري، فترتع فيها مواشيهم وترعى إبلهم وخيلهم من دون أي مزاحمة بينهم، وليس لأي أحد أن يحمى لنفسه حمى فيمنع الناس عنه، فقال صلى الله عليه وآله: المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار.

وقال: ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار.

وقال: لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ.

وفي لفظ: لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ.

وفي لفظ: من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضله يوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) طبقات ابن سعد ط ليدن 8: 25.

(2) تاريخ ابن كثير 7: 212 وقال: إسناد ضعيف، أخبار الدول للقرماني ص 98.

(3) راجع تاريخ ابن كثير 7: 211.

(4) تهذيب التهذيب 6: 171.

 

/ صفحة 235 /

القيامة (1) نعم كان في الجاهلية يحمي الشريف منهم ما يروقه من قطع الأرض لمواشيه وإبله خاصة فلا يشاركه فيه أحد وإن شاركهم هو في مراتعهم، وكان هذا من مظاهر التجبر السائد عندئذ، فاكتسح رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك فيما اكتسحه من عادات الطواغيت و تقاليد الجبابرة فقال صلى الله عليه وآله: لا حمى إلا لله ولرسوله (2) وقال الشافعي في تفسير الحديث: كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدا في عشيرته استعوى كلبا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره فلم يرعه معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله.

قال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون.

قال: وقوله: إلا لله ولرسوله.

يقول: إلا ما يحمى لخيل المسلمين وركابهم التي ترصد للجهاد ويحمل عليها في سبيل الله وإبل الزكاة كما حمى عمر النقيع (3) لنعم الصدقة و الخيل المعدة في سبيل الله (4) .

واستعمل عمر على الحمى مولى له يقال له هنى فقال له: يا هنى ضم جناحك للناس، واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة، وادخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عفان (5) ونعم ابن عوف فإنهما إن تهلك يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة والصريمة يأتي بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين ! أفتاركهم أنا ؟ لا أبا لك.. الخ (6)، كان هذا الناموس متسالما عليه بين المسلمين حتى تقلد عثمان الخلافة فحمى لنفسه دون إبل الصدقة كما في أنساب البلاذري 5: 37، والسيرة الحلبية 2: 87، أو له و لحكم ابن أبي العاص كما في رواية الواقدي، أو لهما ولبني أمية كلهم كما في شرح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) توجد هذه الأحاديث في صحيح البخاري 3: 110، الأموال لأبي عبيد ص 296، سنن أبي داود 2: 101، سنن ابن ماجة 2: 94.

(2) صحيح البخاري 3: 113، الأموال لأبي عبيد ص 294، كتاب الأم للشافعي 3: 207، وفي الأخيرين تفصيل ضاف حول المسألة.

(3) على عشرين فرسخا أو نحو ذلك من المدينة " معجم البلدان ".

(4) راجع كتاب الأم 3: 208، معجم البلدان 3: 347، نهاية ابن الأثير 1: 297، لسان العرب 18: 217، تاج العروس 10: 99.

(5) في لفظ أبي عبيد: ودعني من نعم ابن عفان.

بدل (وإياي ونعم ابن عفان) .

(6) صحيح البخاري 4: 71، الأموال لأبي عبيد ص 298، كتاب الأم 3: 271.

 

/ صفحة 236 /

ابن أبي الحديد 1: 67 قال: حمى (عثمان) المرعى حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية.

وحكى في ص 235 عن الواقدي أنه قال: كان عثمان يحمي الربذة والشرف والنقيع، فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أمية حتى كان آخر الزمان، فكان يحمي الشرف (1) لإبله: وكانت ألف بعير ولإبل الحكم بن أبي العاص، ويحمي الربذة (2) لإبل الصدقة، ويحمي النقيع لخيل المسلمين وخيله و خيل بني أمية. ا هـ.

نقم ذلك المسلمون على الخليفة فيما نقموه عليه وعدته عائشة مما أنكروه عليه فقالت: وإنا عتبنا عليه كذا وموضع الغمامة المحماة (3) وضربه بالسوط والعصا، فعمدوا إليه حتى إذا ماصوه كما يماص الثوب (4) .

قال ابن منظور في ذيل الحديث: الناس شركاء فيما سقته السماء من الكلأ إذا لم يكن مملوكا فلذلك عتبوا عليه.

كانت في اتخاذ الخليفة الحمى جدة وإعادة لعادات الجاهلية الأولى التي أزاحها نبي الاسلام صلى الله عليه وآله وجعل المسلمين في الكلأ مشتركين، وقال: ثلاثة يبغضهم الله.

وعد فيهم ! من استن في الاسلام سنة الجاهلية (5) وكان حقا على الرجل أن يحمي حمى الاسلام قبل حمى الكلأ، ويتخذ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله سنة متبعة ولا يحيي سنة الجاهلية، ولن تجد لسنة الله تحويلا، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولكنه...

ـ 39 ـ

قطع الخليفة فدك لمروان

عد ابن قتيبة في المعارف ص 84، وأبو الفدا في تاريخه 1: 168 مما نقم الناس على عثمان قطعه فدك لمروان وهي صدقة رسول الله، فقال أبو الفدا: وأقطع مروان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كذا نجد. عند البخاري بالسين المهملة. وفي موطأ ابن وهب: الشرف. بالشين المعجمة وفتح الراء وهذا الصواب (معجم البلدان) .

(2) الربذة في الشرف " المذكورة " هي الحمى الأيمن.

(3) يسمى العشب بالغمامة كما يسمى بالسماء. المحماة من أحميت المكان فهو محمى. أي جعلته حمى. (الفائق للزمخشري).

(4) راجع الفائق للزمخشري 2: 117، نهاية ابن الأثير 1: 298، ج 4: 121، لسان العرب 8: 363: ج 18: 217، تاج العروس 10: 99.

(5) بهجة النفوس للحافظ الأزدي ابن أبي جمرة 4: 7 19.

 

/ صفحة 237 /

ابن الحكم فدك وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي طلبتها فاطمة ميراثا فروى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه، ولم تزل فدك في يد مروان وبنية إلى أن تولى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردها صدقة وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 6: 301 من طريق المغيرة حديثا في فدك وفيه: إنها أقطعها مروان لما مضى عمر لسبيله.

فقال: قال الشيخ: إنما أقطع مروان فدكا في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه وكأنه تأول في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده، وكان مستغنيا عنها بماله فجعلها لأقربائه ووصل بها رحمهم، وذهب آخرون إلى أن المراد بذلك التولية وقطع جريان الإرث فيه، ثم تصرف في مصالح المسلمين كما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان.

وفي العقد الفريد 2: 261 في عد ما نقم الناس على عثمان: إنه أقطع فدك مروان وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافتتح افريقية وأخذ خمسه فوهبه لمروان.

وقال ابن الحديد في شرحه 1: 67: وأقطع عثمان مروان فدك، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله عليه تارة بالميراث وتارة بالنحلة فدفعت عنها.

قال الأميني: أنا لا أعرف كنه هذا الاقطاع وحقيقة هذا العمل فإن فدك إن كان فئ للمسلمين ؟ كما ادعاه أبو بكر، فما وجه تخصيصه بمروان ؟ وإن كان ميراثا لآل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ كما احتجت له الصديقة الطاهرة في خطبتها، واحتج له أئمة الهدى من العترة الطاهرة وفي مقدمهم سيدهم أمير المؤمنين عليه وعليهم السلام، فليس مروان منهم، ولا كان للخليفة فيه رفع ووضع.

وإن كان نحلة من رسول الله صلى الله عليه وآله لبضعته الطاهرة فاطمة المعصومة صلوات الله عليها ؟ كما ادعته وشهد لها أمير المؤمنين وإبناها الإمامان السبطان وأم أيمن المشهود لها بالجنة فردت شهادتهم بما لا يرضي الله ولا رسوله، وإذا ردت شهادة أهل آية التطهير فبأي شئ يعتمد ؟ وعلى أي حجة يعول ؟.

إن دام هذا ولم يحدث به غير * لم يبك ميت ولم يفرح بمولود

/ صفحة 238 /

فإن كان فدك نحلة ؟ فأي مساس بها مروان ؟ وأي سلطة عليها لعثمان ؟ حتى يقطعها لأحد.

ولقد تضاربت أعمال الخلفاء الثلاثة في أمر فدك فانتزعها أبو بكر من أهل البيت عليهم السلام، وردها عمر إليهم، وأقطعها عثمان لمروان، ثم كان فيها ما كان في أدوار المستحوذين على الأمر منذ عهد معاوية وهلم جرا فكانت تؤخذ وتعطى، ويفعلون بها ما يفعلون بقضاء من الشهوات كما فصلناه في الجزء السابع ص 195 719 ط 3 ولم يعمل برواية أبي بكر في عصر من العصور، فإن صانعه الملأ الحضور على سماع ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وحابوه وجاملوه ؟ فقد أبطله من جاء بعده بأعمالهم وتقلباتهم فيها بأنحاء مختلفة.

بل إن أبا بكر نفسه أراد أن يبطل روايته بإعطاء الصك للزهراء فاطمة غير أن ابن الخطاب منعه وخرق الكتاب كما مر في الجزء السابع عن السيرة الحلبية، وبذلك كله تعرف قيمة تلك الرواية ومقدار العمل عليها وقيمة هذا الاقطاع، وسيوافيك قول مولانا أمير المؤمنين في قطائع عثمان.