موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي

 

في إنا فاعلون

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد - العلامة الحلي - ص 423-430

 

 

قال صاحب تجريد الاعتقاد: "والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا".

أقول: اختلف العقلاء هنا، فالذي ذهب إليه المعتزلة أن العبد فاعل لأفعال نفسه، واختلفوا فقال أبو الحسين: إن العلم بذلك ضروري، وهو الحق الذي ذهب إليه المصنف رحمه الله. وقال آخرون: إنه إستدلالي. وأما جهم بن صفوان فإنه قال: إن الله تعالى هو الموجد لأفعال العباد وإضافتها إليهم على سبيل المجاز، فإذا قيل:

فلان صلى وصام، كان بمنزلة قولنا: طال وسمن. وقال ضرار بن عمرو والنجار وحفص الفرد وأبو الحسن الأشعري: إن الله تعالى هو المحدث لها والعبد مكتسب، ولم يجعل لقدرة العبد أثرا في الفعل بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى، وهذا الاقتران هو الكسب، وفسر القاضي الكسب بأن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى، وكونه طاعة ومعصية صفتان واقعتان بقدرة العبد. وقال أبو إسحاق الإسفرايني من الأشاعرة: إن الفعل واقع بمجموع القدرتين. والمصنف التجأ إلى

الضرورة هاهنا فإنا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة الحيوان اختيارا وبين حركة الحجر الهابط، ومنشأ الفرق هو اقتران القدرة في أحد الفعلين به وعدمه في الآخر.

 

قال: "والوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب".

أقول: لما فرغ من تقرير المذهب شرع في الجواب عن شبه الخصم، وتقرير الشبهة الأولى أن صدور الفعل من المكلف إما أن يقارن تجويز لا صدوره أو امتناع لا صدوره، والثاني يستلزم الجبر والأول إما أن يترجح منه الصدور على لا صدوره لمرجح أو لا لمرجح، والثاني يلزم منه الترجيح لأحد طرفي الممكن من غير مرجح وهو محال، والأول يستلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما يجب معه الترجيح، وهو ينافي التقدير ويستلزم الجبر.

والجواب أن الفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن وواجب بالنظر إلى داعيه وذلك لا يستلزم الجبر، فإن كل قادر فإنه يجب عنه الأثر عند وجود الداعي كما في حق الواجب تعالى فإن هذا الدليل قائم في حقه تعالى ووجه المخلص ما ذكرناه، على أن هذا غير مسموع من أكثرهم حيث جوزوا من القادر ترجيح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح، وبه أجابوا عن الشبهة التي أوردها الفلاسفة عليهم، فما أدري لم كان الجواب مسموعا هناك ولم يكن مسموعا هاهنا.

 

قال: "والإيجاد لا يستلزم العلم إلا مع اقتران القصد فيكفي الاجمال".

أقول: هذا الجواب عن شبهة أخرى لهم، وتقريرها أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بها، والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة. وبيان بطلان التالي أنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها وإنما نقصد الحركة إلى المنتهى وإن لم نقصد جزئيات تلك الحركة.

والجواب أن الايجاد لا يستلزم العلم، فإن الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع كالاحراق الصادر عن النار من غير علم فلا يلزم من نفي العلم نفي الايجاد، نعم الايجاد مع القصد يستلزم العلم لكن العلم الاجمالي كاف فيه وهو حاصل في الحركات الجزئية بين المبدأ والمنتهى.

 

قال: "ومع الاجتماع يقع مراده تعالى".

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم، وتقريرها أن العبد لو كان قادرا على الفعل لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنه تعالى قادر على كل مقدور، فلو كان العبد قادرا على شئ لاجتمعت قدرته وقدرة الله تعالى عليه. وأما بطلان التالي فلأنه لو أراد الله تعالى إيجاده وأراد العبد إعدامه فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح.

والجواب أن نقول: يقع مراد الله تعالى لأن قدرته أقوى من قدرة العبد وهذا هو المرجح، وهذا الدليل أخذه بعض الأشاعرة من الدليل الذي استدل به المتكلمون على الوحدانية وهناك يتمشى لتساوي قدرتي الإلهين المفروضين، أما هنا فلا.

 

قال: "والحدوث اعتباري".

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماء الأشاعرة وهي أن الفاعل يجب أن يخالف فعله في الجهة التي بها يتعلق فعله وهو الحدوث، ونحن محدثون فلا يجوز أن نفعل الحدوث.

(وتقرير الجواب) أن الفاعل لا يؤثر الحدوث لأنه أمر اعتباري ليس بزائد على الذات وإلا لزم التسلسل، وإنما يؤثر في الماهية وهي مغايرة له.

 

قال: "وامتناع الجسم لغيره".

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي أنا لو كنا فاعلين في الإحداث لصح منا إحداث الجسم لوجود العلة المصححة للتعلق وهي الحدوث. والجواب أن الجسم يمتنع صدوره عنا لا لأجل الحدوث حتى يلزم تعميم الامتناع بل إنما امتنع صدوره عنا لأننا أجسام والجسم لا يؤثر في الجسم على ما مر.

 

قال: "وتعذر المماثلة في بعض الأفعال لتعذر الإحاطة".

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماؤهم وهي أنا لو كنا فاعلين لصح منا أن نفعل مثل ما فعلناه أولا من كل جهة لوجود القدرة والعلم، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان بطلان التالي أنا لا نقدر على أن نكتب في الزمان الثاني مثل ما كتبناه في الزمان الأول من كل وجه بل لا بد من تفاوت بينهما في وضع الحروف ومقاديرها.

(وتقرير الجواب) أن بعض الأفعال تصدر عنا في الزمان الثاني مثل ما صدرت في الزمان الأول مثل كثير من الحركات والأفعال، وبعضها يتعذر علينا فيه ذلك لا لأنه ممتنع ولكن لعدم الإحاطة الكلية بما فعلناه أولا، فإن مقادير الحروف إذا لم نضبطها لم يصدر عنا مثلها إلا على سبيل الاتفاق.

 

قال: "ولا نسبة في الخيرية بين فعلنا وفعله تعالى".

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا: لو كان العبد فاعلا للإيمان لكان بعض أفعال العبد خيرا من فعله تعالى، لأن الإيمان خير من القردة والخنازير، والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله.

والجواب أن نسبة الخيرية هنا منتفية لأنكم إن عنيتم بأن الإيمان خير أنه أنفع فليس كذلك لأن الأيمان أنما هو فعل شاق مضر على البدن ليس فيه خير عاجل، وإن عنيتم به أنه خير لما فيه من استحقاق المدح والثواب به بخلاف القردة والخنازير فحينئذ لا يكون الإيمان خيرا بنفسه وإنما الخير هو ما يؤدي إليه

الإيمان من فعل الله تعالى بالعبد وهو المدح والثواب، وحينئذ يكون المدح والثواب خيرا وأنفع للعبد من القردة والخنازير لكن ذلك من فعله تعالى. (واعلم) أن هذه الشبهة ركيكة جدا، وإنما أوردها المصنف رحمه الله هنا لأن بعض الثنوية أورد هذه الشبهة على ضرار بن عمرو فأذعن لها والتزم بالجبر لأجلها.

 

قال: "والشكر على مقدمات الإيمان".

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا: لو كان العبد فاعلا للإيمان لما وجب علينا شكر الله تعالى عليه، والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة فإنه لا يحسن منا شكر غيرنا على فعلنا.

والجواب أن الشكر ليس على فعل الإيمان بل على مقدماته من تعريفنا إياه (1) وتمكيننا منه وحضور أسبابه والأقدار على شرائطه.

 

قال: والسمع متأول ومعارض بمثله والترجيح معنا.

أقول: هذا جواب عن الشبه النقلية بطريق إجمالي، وتقريره أنهم قالوا: قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على الجبر كقوله تعالى: (الله خالق كل شئ) (والله خلقكم وما تعملون) (ختم الله على قلوبهم) (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا.

والجواب أن هذه الآيات متأولة، وقد ذكر العلماء تأويلاتها في كتبهم. وأيضا فهي معارضة بمثلها وقد صنفها (2) أصحابنا على عشرة أوجه:

أحدها: الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد كقوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) (إن يتبعون إلا الظن) (حتى يغيروا ما بأنفسهم) (بل سولت لكم أنفسكم) (فطوعت له نفسه) (ومن يعمل سوءا يجز به) (كل نفس بما كسبت رهينة) (كل امرئ بما كسب رهين) (ما كان لي عليكم من

سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) إلى آخرها.

الثاني: الآيات الدالة على مدح المؤمنين على الإيمان وذم الكفار على الكفر والوعد والوعيد كقوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) (اليوم تجزون بما كنتم تعملون) (وإبراهيم الذي وفى) (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (لتجزى كل نفس بما تسعى) (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (من أعرض عن ذكري) (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا) (إن الذين كفروا بعد إيمانهم).

الثالث: الآيات الدالة على تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعالنا في التفاوت والاختلاف والظلم كقوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (الذي أحسن كل شئ خلقه) والكفر ليس بحسن وكذا الظلم، (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما إلا بالحق) (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (وما ربك بظلام للعبيد) (وما ظلمناهم) (لا ظلم اليوم) (ولا يظلمون فتيلا).

الرابع: الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي والتوبيخ على ذلك كقوله تعالى: (كيف تكفرون بالله) (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر) (ما منعك أن تسجد) (فما لهم عن التذكرة معرضين) (لم تلبسون الحق بالباطل) (لم تصدون عن سبيل الله).

الخامس: الآيات الدالة على التهديد والتخيير كقوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (اعملوا ما شئتم) (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) (فمن شاء ذكره) (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم).

السادس: الآيات الدالة على المسارعة إلى الأفعال قبل فواتها كقوله تعالى:

(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (أجيبوا داعي الله) (استجيبوا لله وللرسول)

(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) (وأنيبوا إلى ربكم).

السابع: الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به وثبوت اللطف منه كقوله تعالى: (وإياك نستعين) (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (استعينوا بالله) (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) (ولو بسط الله الرزق لعباده) (فبما رحمة من الله لنت لهم) (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).

الثامن: الآيات الدالة على استغفار الأنبياء (ربنا ظلمنا أنفسنا) (سبحانك إني كنت من الظالمين) (رب إني ظلمت نفسي) (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم).

التاسع: الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بنسبة الكفر إليهم كقوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم - إلى قوله: - بل كنتم مجرمين) وقوله: (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين) (كلما القي فيها فوج). العاشر: الآيات الدالة على التحسر والندامة على الكفر والمعصية وطلب الرجعة كقوله: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا منها) (رب ارجعون) (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم) (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة وهي معارضة لما ذكروه على أن الترجيح معنا، لأن التكليف إنما يتم بإضافة الأفعال إلينا وكذا الوعد والوعيد والتخويف والانذار، وإنما طول المصنف رحمه الله في هذه المسألة لأنها من المهمات.

 

 

 

العودة لصفحة العلامة الحلي