موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي

 

في وجوب التوبة

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد - العلامة الحلي - ص 566-570

 

 

قال صاحب تجريد الاعتقاد: "والتوبة واجبة لدفعها الضرر ولوجوب الندم على كل قبيح أو إخلال بواجب".

أقول: التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية والعزم على ترك المعاودة في المستقبل لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم، وهي واجبة بالاجماع لكن اختلفوا فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو المظنون فيها ذلك ولا يجب من الصغائر المعلوم منها أنها صغائر. وقال آخرون: إنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل. وقال آخرون: إنها تجب من كل صغير وكبير من المعاصي أو الاخلال بالواجب سواء تاب عنها قبل أو لم يتب.

وقد استدل المصنف على وجوبها بأمرين: الأول: أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف منه ودفع الضرر واجب. الثاني: أنا نعلم قطعا وجوب الندم على

فعل القبيح أو الاخلال بالواجب. إذا عرفت هذا فنقول: إنها تجب عن كل ذنب لأنها تجب من المعصية لكونها معصية ومن الاخلال بواجب لكونه كذلك، وهذا عام في كل ذنب وإخلال بواجب.

 

قال: "ويندم على القبيح لقبحه وإلا انتفت وخوف النار إن كان الغاية فكذلك وكذا الاخلال".

أقول: يجب على التائب أن يندم على القبيح لقبحه وأن يعزم على ترك المعاودة إليه، إذ لولا ذلك انتفت التوبة كمن يتوب عن المعصية حفظا لسلامة بدنه أو لعرضه بحيث لا ينثلم عند الناس، فإن مثل هذا لا يعد توبة لانتفاء الندم فيه.

وأما التائب خوفا من النار فإن كان الخوف من النار هو الغاية في توبته بمعنى أنه لولا خوف النار لم يتب فكذلك أي لا يصح منه التوبة لأنها ليست توبة عن القبيح لقبحه، فجرى مجرى طالب سلامة البدن وإن لم يكن هو الغاية بأن يندم عليه لأنه قبيح وفيه عقاب النار ولولا القبح لما ندم عليه وإن كان فيه خوف النار صحت توبته، وكذا الاخلال بالواجب إن ندم عليه لأنه إخلال بواجب وعزم على فعل الواجب في المستقبل لأجل كونه إخلالا بواجب، فهي توبة صحيحة وإن كان خوفا من النار أو من فوات الجنة، فإن كان هو الغاية لم تصح توبته وإلا كانت صحيحة، ولهذا إن المسئ لو اعتذر إلى المظلوم لا لأجل إساءته بل لخوفه من عقوبة السلطان لم يقبل العقلاء عذره.

 

قال: "فلا تصح من البعض ولا يتم القياس على الواجب".

أقول: اختلف شيوخ المعتزلة فذهب أبو هاشم إلى أن التوبة لا تصح من قبيح دون قبيح، وذهب أبو علي إلى جواز ذلك، والمصنف رحمه الله استدل على مذهب أبي هاشم بأنا قد بينا أنه يجب أن يندم على القبيح لقبحه ولولا ذلك لم تكن مقبولة على ما تقدم والقبح حاصل في الجميع، فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائبا عنه لا لقبحه.

واحتج أبو علي بأنه لو لم تصح التوبة عن قبيح دون قبيح لم يصح الاتيان بواجب دون واجب، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذا يجب عليه فعل الواجب لوجوبه، فلو لزم من اشتراك القبائح في القبح عدم صحة التوبة من بعض القبائح دون بعض لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة الاتيان بواجب دون آخر. وأما بطلان التالي فبالاجماع، إذ لا خلاف في صحة صلاة من أخل بالصوم. وأجاب أبو هاشم بالفرق بين ترك القبيح لقبحه وفعل الواجب لوجوبه بالتعميم في الأول دون الثاني، فإن من قال: لا آكل الرمانة لحموضتها، فإنه لا يقدم على أكل كل حامض لاتحاد الجهة في المنع، ولو أكل الرمانة لحموضتها لم يلزم أن يتناول كل رمانة حامضة فافترقا، وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: ولا يتم القياس على الواجب، أي لا يتم قياس ترك القبيح لقبحه على فعل الواجب لوجوبه.

 

قال: "ولو اعتقد فيه الحسن صحت".

أقول: قد تصح التوبة من قبيح دون قبيح إذا اعتقد التائب في بعض القبائح أنها حسنة وتاب عما يعتقده قبيحا، فإنه يقبل توبته لحصول الشرط فيه وهو ندمه على القبيح لقبحه، ولهذا إذا تاب الخارجي عن الزنا فإنه يقبل توبته وإن كان اعتقاده قبيحا، لأنه لا يعتقده كذلك فيصدق في حقه أنه تاب عن القبيح لقبحه.

 

قال: "وكذا المستحقر".

أقول: إذا كان هناك فعلان: أحدهما عظيم القبح والآخر صغيره وهو مستحقر بالنسبة إليه حتى لا يكون معتدا به، ويكون وجوده بالنسبة إلى العظيم كعدمه حتى تاب فاعل القبيح من العظيم فإنه تقبل توبته، مثال ذلك: إن الانسان إذا قتل ولد غيره وكسر له قلما ثم تاب وأظهر الندم على قتل الولد دون كسر القلم فإنه تقبل

توبته ولا يعتد العقلاء بكسر القلم وإن كان لا بد من أن يندم على جميع إساءته، وكما أن كسر القلم حال قتل الولد لا يعد إساءة فكذا الندم.

 

قال: "والتحقيق أن ترجيح الداعي إلى الندم عن البعض يبعث عليه وإن اشترك الداعي في الندم على القبيح كما في الدواعي إلى الفعل، ولو اشترك الترجيح اشترك وقوع الندم وبه يتأول كلام أمير المؤمنين وأولاده عليهم السلام وإلا لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة".

أقول: لما شرع في تقرير كلام أبي هاشم ذكر التحقيق في هذا المقام، وتقريره أن نقول: الحق أنه تجوز التوبة عن قبيح دون قبيح، لأن الأفعال تقع بحسب الدواعي وتنتفي بحسب الصوارف، فإذا ترجح الداعي وقع الفعل.

إذا عرفت هذا فنقول: يجوز أن يرجح فاعل القبائح دواعيه إلى الندم على بعض القبائح دون بعض، وإن كانت القبائح مشتركة في أن الداعي يدعو إلى الندم عليها، وذلك بأن تقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب أو كثرة الزواجر عنه أو الشناع عند العقلاء عند فعله، ولا تقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها، وهذا في دواعي الفعل فإن الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثم يؤثر صاحب الدواعي بعض تلك الأفعال على بعض بأن يترجح دواعيه إلى ذلك الفعل بما يقترن به من زيادة الدواعي، فلا استبعاد في كون قبح الفعل داعيا إلى الندم، ثم تقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم على ذلك البعض، ولو اشتركت القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم ولم يصح الندم على البعض دون الآخر.

وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وكلام أولاده كالرضا وغيره عليهم السلام حيث نقل عنهم نفي تصحيح التوبة عن بعض القبائح دون بعض، لأنه لولا ذلك لزم خرق الاجماع، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة أن الكافر إذا تاب عن كفره وأسلم وهو مقيم على الكذب إما أن يحكم بإسلامه وتقبل توبته عن الكفر أو لا، والثاني خرق الاجماع لاتفاق المسلمين على إجراء أحكام المسلمين عليه، والأول هو المطلوب وقد التزم أبو هاشم استحقاقه عقاب الكفر وعدم قبول توبته وإسلامه لكن يمنع إطلاق الاسم عليه.

 

 

 

العودة لصفحة العلامة الحلي