موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي >> مناهج اليقين في أصول الدين

 

المنهج الثامن: في الإمامة

وفيه مباحث

 

 

البحث الأول: بحث في معنى الإمام ووجوبه

وهي رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص من الأشخاص، واختلف الناس في وجوبها.

فذهب إليه جمهور المسلمين، ونازع في ذلك الأصم والهشام الفوطي وبعض الخوارج، الاّ ان الأصم الخوارج ذهبوا الى ان نصب الإمام غير واجب اذا تناصف الناس وتعادلوا، وأما هشام فإنه قال: إنه غير واجب إذا لم يتناصفوا.

والقائلون بالوجوب، منهم من أوجبها عقلا وهو مذهب الإماميّة والجاحظ والكعبي وأبي الحسين البصري وجماعة من المعتزلة، ومنهم من أوجبها سمعا وهم جمهور المعتزلة والأشاعرة، والقائلون بوجوبها عقلا منهم من أوجبها على اللّه تعالى وهم الإمامية، ومنهم من أوجب على الخلق وهم الجاحظ وأبو الحسين البصري والكعبي.

والدليل على وجوبها مطلقا أن الإمامة لطف وكل لطف واجب، أما الصغرى فضرورية، فإن الناس متى كان لهم رئيس قاهر اليد ينصف الناس ويردع الظالم، كانوا الى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وأما الكبرى فقد بينت فيما

سلف، وهذا كما هو دليل على الوجوب فهو دليل على الوجوب العقلي على اللّه تعالى.

فان قيل: لا نسلم أن الامامة لطف عقلي، بل لطف سمعي، فلا يجب عقلا ، سلمنا ولكن لطف يقوم غيره مقامه او لطف لا يقوم غيره مقامه وعلى ذلك التقدير لا يتعين الإمامة للوجوب، سلمنا لكن وجوب الإمامة لا يكفي فيه وجه المصلحة ما لم يعلم فيه انتفاء جهات القبح بأسرها، فلم لا يجوز أن تكون الإمامة قد اشتملت على نوع مفسدة لا نعلمه؟فلا يصح الحكم بالوجوب.

لا يقال: إنا نعلم فيه وجه قبح فيجب نفيه، ولأن هذا آت في معرفة اللّه تعالى فيلزم الحكم بعدم وجوبها.

لأنا نقول: قد بينا ضعف الاستدلال بعدم العلم على العدم.

وأما المعرفة فالفرق إنا إنما نحكم بوجوبها علينا وهو يكفي في بيان وجه الوجوب وإن جوّزنا فيه اشتماله على المفسدة، أما الإمامة فلما أوجبتموها على اللّه تعالى لم يصح ذلك الا بعد أن يبينوا اشتمالها على عدم المفاسد.

ثم إنا نذكر وجه المفسدة، وذلك من وجوه:

الأول: أن في نصب الإمام إثارة الفتن وقيام الحروب كما في زمن علي عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام.

الثاني: أن مع وجود الإمام يخاف المكلف فيفعل الطاعة ويترك القبيح للخوف منه، وذلك يوجب أن لا يترك المكلف القبيح لقبحه ولا يفعل الطاعة لحسنها بل للخوف وذلك من أعظم المفاسد.

الثالث: فعل الطاعة وترك المعصية عند فقدان الإمام أشدّ منهما عند وجوده، فيكفي الثواب عليهما في حالة فقده أكثر منه حالة وجوده، وذلك فساد عظيم.

سلمنا أن الإمامة لطف لكن لا نسلم أنها دائما كذلك، فإنه قد يكون في بعض الأزمنة من يستنكف من اتباع غيره، فيكون نصب الإمام في ذلك الوقت قبيحا.

سلمنا لكن هاهنا لطف آخر فلا يتعين الإمامة للوجوب، وبيانه أن الإمام معصوم، فعصمته إن كانت لإمام آخر تسلسل، وإن كانت لا لإمام آخر فقد ثبت المطلوب، لأن امتناع الإمام من المعصية وترك الواجب لا يتوقف على الإمام بل له لطف آخر.

لا يقال: إنا نعلم بالضرورة أن القوم الذين لا يكونون معصومين ينزجرون عن القبائح أتم عند وجود الإمام.

لأنا نقول: جاز أن يكون في بعض الأزمنة القوم بأسرهم معصومين فيه، فلا يكون نصب الإمام هناك واجبا، ولأنكم حينئذ تجعلون العصمة قائمة مقام الإمام في ذلك الوقت فجاز في كل وقت فلا يتعين وقت من الأوقات لوجوب نصب الإمام على التعيين، ولأنه جاز أن يكون غير العصمة سببا في الامتناع عن الإقدام على المعاصي.

سلمنا لكن هاهنا ما يدل على أنها ليست لطفا، وذلك لأنها إما أن يكون لطفا في أفعال الجوارح أو في أفعال القلوب، والقسمان باطلان.

اما الاول فعلى قسمين، وذلك أن القبائح منها ما يدل العقل عليها ومنها ما يدل السمع عليها، فإن جعلتم الإمام لطفا في الشرعيات لم يلزم وجوبه مطلقا، لأن الشرع لا يجب في كل زمان ووجوب اللطف تابع لوجوب الملطوف فيه، وان جعلتموه لطفا في العقليات، فنقول: القبائح العقلية إن تركت لوجه وجوب تركها كان ذلك مصلحة دينية، وإن تركت لا لذلك كان مصلحة دنيوية، لأن في ترك الظلم والكذب مصلحة دنيوية، ضرورة اشتماله على مصلحة النظام، لكن معنى ترك القبيح لقبحه هو أن الداعي الى ترك الظلم هو كونه ظلما وذلك من صفات القلوب.

فإن جعلنا الإمام لطفا في ترك القبيح سواء كان لوجه قبحه او لا لوجه قبحه كان ذلك الترك مصلحة دنيوية، فيكون الإمام لطفا في المصالح الدنيوية، وذلك غير واجب بالاتفاق على اللّه تعالى.

وإن جعلناه في ترك القبيح لوجه قبحه، فقد جعلنا الإمام لطفا في صفات القلوب لا في أفعال الجوارح، وذلك باطل، لأن الإمام لا اطلاع له على البواطن.

لا يقال: يحصل بسبب الإمام القاهر مواظبة الناس على فعل الواجبات العقلية من أفعال الجوارح، وذلك يفيد استعدادا تاما لخلوص الداعي في أن ذلك الفعل يفعل لوجه وجوبه ويترك لوجه قبحه وذلك مصلحة دينيّة.

لأنا نقول: هذا يقتضي وجوب اللطف في المصالح الدنيوية على اللّه تعالى، لأن على ذلك التقدير تكون المصالح الدنيوية والمواظبة عليها سببا لرعاية المصالح الدينية وذلك غير واجب اتفاقا.

سلمنا لكن متى يكون الإمام من المصالح الدينية إذا كان ظاهرا نافذ الحكم أو اذا لم يكن، وذلك لان الامام انما يفيد الانزجار عن القبائح والإقدام على الطاعات إذا كان قاهر اليد، أما إذا لم يكن فلا، لكنكم لا توجبون ذلك فيما هو لطف غير واجب، وما يوجبونه فغير لطف.

سلمنا لكن ينتقض ما ذكرتموه بالقضاة والأمراء، فإنهم إذا كانوا معصومين كان الناس أقرب الى الطاعة وأبعد من المعصية، وذلك يقتضي كون عصمة هؤلاء لطفا، فإن وجبت لزم خلاف مذهبكم وإلا انتقض دليلكم، لكن لا نسلم ان اللطف واجب، وقد تقدم.

سلمنا ان اللطف واجب، لكن ليس كل لطف، بيانه أن فاعل اللطف له ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يعلم أن الملطوف له يفعل الملطوف فيه.

وثانيها: أن لا يعلم أنه لا يفعله.

وثالثها: أن يعلم أنه لا يفعله، ففي الأول والثاني نسلم أنه يجب فعل اللطف، وأما الثالث فلا نسلم أنه يجب فيه فعل اللطف، واللّه تعالى لا بدّ وان يكون عالما، إما بالفعل فيجب اللطف، واما بعدمه فلا يجب.

واذا كان كذلك فلا يجب على اللّه تعالى نصب الإمام إلا إذا علم انتفاع المكلف به، وذلك غير معلوم، لاحتمال أن يعلم اللّه تعالى في بعض الأزمنة أن الإمام ليس في حقهم لطفا محصلا وإن كان لطفا مقربا فلا يجب فيه نصب الإمام.

ثم كل زمان يحتمل ذلك فلا يصح الحكم بالوجوب على اللّه تعالى في شيء من الأزمنة.

سلمنا لكن متى يجب اللطف إذا كان ممكنا أو إذا لم يكن، وإذا كان كذلك فيحتمل أن يكون نصب الإمام في بعض الأزمنة غير مقدور له تعالى فلا يكون واجبا.

وبيان هذا الاحتمال أن اللّه تعالى قد يعلم في بعض الأزمنة أن كل من خلقه فيه فإنه يكفر أو يفسق، فلا يكون في ذلك الزمان خلق المعصوم مقدورا له، وهذا يحتمل في كل زمان.

لا يقال: لو لم يمكن خلق المعصوم في ذلك الزمان لبطل التكليف، بخلاف الكافر فإنه لا لطف له في الحال والمآل، فلما استحال ذلك مطلقا لا جرم لم يتوقف عليه التكليف، أما اللطف الحاصل من الإمام فهو وإن لم يكن مقدورا في الحال لكنه يمكن في المستقبل فلا جرم يقبح التكليف في المآل بدون الإمام.

لأنا نقول: كما أن الكافر لما لم يكن لطفه مقدورا أصلا وحسن التكليف، فكذلك لم لا يجوز أن يقال: المعصوم في هذا اليوم لما لم يكن مقدورا لا جرم لم يتوقف عليه التكليف؟ والجواب: قد بينا أن الإمامة لطف عقلي، قوله: لم لا يقوم غيرها مقامها؟ قلنا: لاتفاق العقلاء في جميع المواطن على اختلاف طبقاتهم في الأزمنة على الاتفاق على نصب الرؤساء لأجل رفع فسادهم، ولو كان هناك طريق آخر أو بدل التجئوا إليه.

قوله: لم لا يجوز اشتمالها على نوع من المفسدة؟قلنا: لأن المفاسد محصورة لنا معلومة لكوننا مكلفين باجتنابها وتلك منفية عن الإمامة وقد تقدم هذا، وهذا السؤال غير مسموع من ابي الحسين وأصحابه لوروده عليهم.

وما ذكروه من الفساد فمندفع:

اما الأول، فلأنا نقول: لم لا يجوز أن يكون لو لا إمامة عليّ عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام لظهر من الفتن ما هو أشد من ذلك؟سلمنا لكن اللطف لا يجب مع ارتفاع المفاسد في كل زمان بل في الأكثر.

وأما الثاني، فلأن ذلك يقتضي قبح الإمامة مطلقا، سواء وجبت بالعقل او من اللّه، وذلك باطل اتفاقا.

ثم إنا نقول: المكلف إما مطيع وإما عاص، ووجه اللطف في الأول تقويته على فعل الطاعة، وأما الثاني فلا نسلم أن ترك المعصية منه لا لكونها معصية قبيح، بل القبح هو ذلك الاعتقاد وهو كون الترك لا لكونها معصية، ووجه اللطف فيه

حصول الاستعداد الشديد بسبب التكرير والتذكير الموجب لفعل الطاعة لكونها طاعة ولترك المعصية لكونها معصية.

وأما الثالث، فلأنه وارد في كل لطف مع انا قد بينا وجوبه فيما سلف، وأيضا فلا نسلم جواز ترك اللطف سواء زاد الثواب به او لم يزد، وهذا مذهب أبو علي، ثم انه يلزم من ذلك قبح كل لطف، وأيضا يلزم منه على تقدير الوجوب على اللّه تعالى.

قوله: إنه قد يتفق في بعض الأزمنة من يستنكف عن طاعة الإمام فلا يكون لطفا حينئذ، قلنا: لا نسلم اتفاق أهل زمان ما من الأزمنة التي وقع التكليف فيها على ذلك.

نعم قد يكون البعض بهذه المثابة، لكن البعض لو نظر إليه لكانت بعثة الأنبياء قبيحة لاستنكاف البعض منها.

وأيضا فإن هذا إنما يكون بالنسبة الى شخص معين، أما مطلق الرئيس فلا، ونحن الآن لم نتعرض لتعيين ذلك الرئيس.

وأيضا فلأن المفسدة الحاصلة عند عدمه أغلب منها عند وجوده، فيجب وجوده نظرا الى حكمته تعالى.

قوله: العصمة لطف آخر فلا يتعين الإمامة للوجوب، قلنا: الإمام لا شك في كونه لطفا بالنسبة الى غير المعصومين مع بقاء التكليف فيكون حينئذ واجبا، أما إذا فقد أحد الشرطين وهو جواز الخطأ على المكلفين أو التكليف لم نقل بالوجوب حينئذ، وذلك لا يضرنا.

لا يقال: مذهبكم وجوب الامامة مع التكليف مطلقا.

لأنا نقول: لا نسلم، بل مع شرط آخر وهو جواز الخطأ.

قوله: الامامة إما لطف في أفعال الجوارح أو في أفعال القلوب، قلنا: إنها مصلحة فيهما والشرع لا يسلم جواز انقطاعه مع بقاء التكليف، وهذا المنع يتأتى من القائل بعد جواز انفكاك التكليف العقلي عن السمعي.

سلمنا لكن ترك الظلم ليس مصلحة دنيوية لا غير، بل هو مصلحة دينية ودنيوية، لأن الإخلال به من التكليف العقلي والسمعي.

سلمنا لكن يكون لطفا في أفعال القلوب، فإن ترك القبيح لأجل الإمام ابتداء مما يؤثر الاستعداد التام لتركه لقبحه.

قوله: الإمام إنما يكون لطفا إذا كان ظاهرا، قلنا: ممنوع، فإنه مع غيبته يجوّز المكلف ظهوره كل لحظة فيمتنع من الإقدام على المعاصي وذلك يكون لطفا.

لا يقال: تصرف الإمام إن كان شرطا في كونه لطفا وجب على اللّه تعالى فعله وتمكينه، والاّ فلا لطف.

لأنا نقول: إن تصرفه لا بد منه في كونه لطفا، ولا نسلم أنه يجب عليه تعالى تمكينه، لأن اللطف إنما يجب إذا لم يناف التكليف، وخلق اللّه تعالى الأعوان للإمام ينافي التكليف، وإنما لطف الامامة يحصل ويتم بأمور:

منها: خلق الإمام وتمكينه بالقدر والعلوم والنص عليه باسمه ونسبه، وهذا يجب عليه تعالى، وقد فعله.

ومنها: تحمله للإمامة وقبوله، وهذا يجب على الإمام وقد فعله.

ومنها: النصرة للامام والذب عنه وامتثال أوامره وقبول قوله، وهذا يجب على الرعية.

قوله: كون القضاة والأمراء معصومين لطف، قلنا: ممنوع، ولأن هذا لا يرد على كون الإمام لطفا، بل يرد على كون اللطف واجبا فهو وارد على المعتزلة.

وأيضا، فهذا لا يرد علينا، لانا لم نثبت عصمة الإمام بكونها لطفا، بل أثبتناها بلزوم التسلسل على ما يأتي.

قوله: لم لا يجوز أن يكون بعض الأزمنة يعلم اللّه تعالى عدم الانتفاع بالإمام فيه فلا يكون نصبه واجبا، قلنا: اللطف قد يكون محصلا وقد يكون مقربا، الأول واجب على ما مرّ وكذلك الثاني أيضا، والفائدة فيه ازاحة عذر المكلف، ولا شك في أن الامام لطف مقرب في كل وقت فيكون نصبه واجبا دائما.

سلمنا، لكن لا شك في أن الإمام يكون لطفا محصلا بالنسبة الى بعض المكلفين قطعا، واتفاق الجميع على عدم الانتفاع به مما يمتنع حصوله.

قوله: لم لا يجوز أن يكون في بعض الأزمنة خلق المعصوم تميز مقدور؟قلنا:

لو كان الأمر كذلك يسقط التكليف، لأن التكليف مع فوت اللطف إذا كان الفوات من غير المكلف قبيح، واللّه تعالى لا يفعل القبيح.

البحث الثاني: في أن الإمام يجب أن يكون معصوما

اختلف الناس في ذلك، فذهبت الإمامية والإسماعيلية إليه، ونفاه الباقي، لنا وجوه:

الأول: أنه لو لم يكن معصوما لزم التسلسل، والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية أن الإمام إنما وجب نصبه لأجل الخطأ الجائز على المكلفين، فلو جاز عليه الخطأ لافتقر الى إمام آخر وتسلسل.

فان قيل: لم لا يجوز أن يكون خوف الإمام من العزل سببا موجبا لامتناع إقدامه على الخطأ.

سلمنا لكن ينتقض ما ذكرتم بالنائب له اذا كان في المشرق والإمام في المغرب، فإنه غير معصوم ولا يخاف سطوته.

سلمنا لكن الإمامة عبارة عن مجموع أمرين: أحدها ثبوتي وهو نفوذ حكمه على غيره، والثاني سلبيّ وهو انتفاء نفوذ حكم الغير عليه، فلو افتقرت الإمامة الى العصمة لكان ذلك إما للأول أو للثاني أو للمجموع، والكل باطل بالنائب المذكور، فإنه لا ينفذ حكم أحد عليه غير الإمام، والإمام في تلك الحال لا ينفذ حكمه عليه.

وأيضا لأنه يستدعي علم الإمام بالغيب وقدرته على الاختراع وهو نافذ الحكم على غيره، فقد تحقق فيه كل واحد من الوصفين، مع أن العصمة غير معتبرة فيه، فبطل اشتراط العصمة في الإمامة.

والجواب عن الأول، أن من عرف العوائد علم بالضرورة عجز الأمة عن عزل آحاد الولاة فكيف بالرئيس المطلق.

وعن الثاني، أن النائب يخاف من العزل في مستقل الوقت فكان ذلك لطفا بخلاف الإمام.

سؤال: فليكن خوف الإمام من عقاب الآخرة لطفا له.

جواب: الإمام يشارك غيره في الخوف، ولما لم يكن ذلك مغنيا عن الإمام لهم فكذلك له، ولأن رغبة الناس في الدنيا أكثر تقريبا من فعل الطاعة وترك المعصية من الآخرة.

وعن الثالث، لمنع الحصر، وأيضا فلم لا يجوز أن يكون الفرق أن الإمام حاكم على كل المسلمين فوجب عصمته، بخلاف النائب.

وأيضا فلم لا يكون العصمة لأجل حكم غيره عليه بخلاف النائب، فإن الإمام يحكم عليه فى الحال او فيما بعد.

الثاني: أن الإمام حافظ للشرع فيكون معصوما، أما الصغرى فلأن الحافظ له ليس هو الكتاب لوقوع النزاع فيه ولعدم إحاطته بجميع الأحكام وليس هو السنة للوجهين السابقين ، ولأن المسلمين اتفقوا على أنها ليست الحافظ للشرع، ولأنها متناهية والحوادث غير متناهية.

وليس هو الإجماع، لجواز الخطأ عليهم إذا خلوا من الإمام، لأن كل واحد يجوز كذبه فالمجموع كذلك، ولأن الإجماع إنما يحصل في قليل من المسائل، ولأن الإجماع إنما يثبت كونه حجة بالسمع اذا ثبت كون النقلة معصومين، وإنما يثبت ذلك بالسمع لأنا لو علمناه بالعقل لكان إجماع النصارى حجة، والسمع يتطرق إليه النسخ والتخصيص فلا بد من معرفة الناسخ والمخصص، ولا طريق الى ذلك سوى أنه لو كان لنقل، وإنما يتم هذا إذا علمنا أن الأمة لا يخل بنقل الشرائع، وإنما يكون كذلك لو عرفنا كونهم معصومين، وهذا دور ظاهر.

وليس هو القياس، لأنه ليس حجة في نفسه لافادته الظن الضعيف، ولأنه لا بد له من أصل منصوص عليه فلا يكون بانفراده حافظا، ولأن أحدا لم يقل بذلك.

وليس هو البراءة الأصلية والاّ لما وجبت بعثة الأنبياء، بل كان يكتفى بالعقل وذلك باطل.

وليس هو المجموع، لأن الكتاب والسنة قد وقع التنازع فيهما وفي معناهما، فلا يجوز أن يكون المجموع حافظا، لأنهما من جملة ذلك المجموع، وهما قد اشتملا على بعض الشرع، واذا كان واحد من المجموع قد تضمن بعض الشرع وبطل كونه دليلا على ما تضمنه ذلك البعض الذي تضمنه ذلك الفرد من جملة الشرع، فقد صار بعض الشرع غير محفوظ، فلا يكون المجموع محفوظا، فلم يبق الاّ الإمام الذي هو بعض الأمة المعصوم، لأنه لو لم يكن معصوما لتطرقت إليه الزيادة والنقصان فلا يكون محفوظا.

الثالث: إذا صدر عنه الذنب، فإما أن يتبع وهو باطل قطعا والاّ لم يكن ذنبا لقوله تعالى: وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ، وإما أن لا يتبع فلا يكون قوله مقبولا فلا يكون فيه فائدة.

الرابع: إن كان نصب الإمام واجبا على اللّه تعالى استحال صدور الذنب منه، لكن المقدم حق على ما تقدم فالتالي مثله.

بيان الشرطية أنه لو صدر عنه الذنب لجوزنا الخطأ في جميع الأحكام الّتي يأمرنا بها، وذلك مفسدة عظيمة، واللّه تعالى حكيم لا يجوز عليه المفسدة.

الخامس: قوله تعالى: لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ، أشار بذلك الى عهد الإمامة، والفاسق ظالم.

البحث الثالث: في أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه

هذا اتفاق الامامية، خلافا لباقي المسلمين، والزيدية جعلوا طريق التعين إما النصّ او القيام والدعاء الى نفسه، وذهبت العباسية الى أن طريقه النص والإرث، وباقي الجمهور قالوا: إنه النص والاختيار.

لنا أن الإمام يجب أن يكون معصوما، فيجب أن يكون منصوصا عليه، اما الصغرى فلما تقدم، وأما الكبرى فلأن العصمة أمر خفي لا يطلع أحد الا اللّه تعالى، فلا طريق الى التعيين سوى النص.

لا يقال: لا نسلم أنه لا طريق الاّ النص، فلم لا يجوز أن يكون اللّه تعالى يفوض التعيين الى اختيار الناس لعلمه بانهم لا يختارون الا المعصوم، أو لم لا يجوز أن يكون الطريق الدعاء، ويكون اللّه تعالى قد علم أنه لا يدعو الى نفسه الا معصوم؟ لأنا نقول: إما أن يفوض اللّه تعالى الاختيار الى الأمة مع علمهم بأنهم لا يختارون إلا المعصوم أو بدون ذلك، والأول هو المطلوب، لأنه يصير منصوصا عليه، والثاني باطل، لأنه ناقض لغرض الإمامة، لأن المطلوب إنما هو الانقياد الى أوامر المعصوم، فإذا جوزوا فيمن يختارونه ألا يكون معصوما جوزوا فيه أن لا يكون إماما، وذلك يمنعهم من الامتثال لأمره.

وهذا بعينه جواب عن الدعاء الى نفسه، ولأنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يفوض اللّه تعالى تعيين الأنبياء الى اختيار المكلفين، والتالي باطل فالمقدم مثله.

لا يقال: لو نص اللّه تعالى على إمام معين لاشتهر، والتالي باطل فالمقدم.

لانا نقول: لا نسلم عدم الاشتهار، فإن الإمامية مع كثرتها وتفرقها في المواطن وانتشارهم في أقطار الأرض ينقلون بالتواتر النص على أمير المؤمنين عليه السلام، ولأن الناس بعد رسول اللّه عليه السلام انقسموا الى متبوعين واتباع، والمتبوعون متعصبين على أمير المؤمنين عليه السلام لحسدهم له، فإن فضائله أكثر من فضائلهم بل لا نسبة لهم إليه البتة.

وأما التابعون فإنهم لما رأوا من أفاضلهم إخفاء هذا النص والتأويل له وسمعوه حسبوا أنه دال على التفضيل وقرب المنزلة لا على الإمامة.

البحث الرابع: في أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته

اتفقت الإمامية على ذلك، ووافقهم على ذلك بعض المعتزلة، وخالفهم الأشاعرة والباقي من المعتزلة.

لنا لو لم يكن أفضل لكان إما مساويا او أنقص، والأول باطل لعدم الاولوية، فإنه ليس أحدهما أولى بالإمامة من الآخر، والثاني كذلك، فإنه يقبح عقلا تقديم المفضول على الفاضل فيما وقع فيه التفاضل.

لا يقال: إنّما يقبح ذلك إذا لم يكن في تقديم الفاضل نوع مفسدة، اما اذا اشتمل عليها فلا.

لأنا نقول: العقل قاض بالقبح مطلقا، فإن الكذب مثلا يقبح مطلقا سواء اشتمل على نفع أولا، وأيضا زوال المفسدة بتولية المفضول بوجه من وجوه الحسن، ولا شك في أن وجه الحسن لا يقتضي الحسن الا اذا انتفت عن الفعل وجوه القبح، وهاهنا ليس كذلك، فإن تقديم المفضول وجه قبح لا ينفك عنه.

واعلم أن هذا ليس حكما عقليا لم يساعد عليه النقل، بل القرآن قد دل على ذلك أيضا في قوله تعالى: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 1، وهذا دليل قاطع على هذا المطلوب.

البحث الخامس: في اختلاف الناس في الائمة

اختلف الناس في الإمام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم، فذهبت الإمامية والكيسانية والزيدية والغلاة الى أن الإمام بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هو علي عليه السلام.

وخالفهم في ذلك جمهور السنة والصالحية من الزيدية، فإنهم ذهبوا الى أن الإمام هو أبو بكر.

وقالت طائفة أخرى من الجمهور: هو العباس.

أما الإمامية فقالوا: إن الإمامة بعد علي عليه السلام لابنه الحسن، ثم من بعده للحسين الشهيد، ثم من بعده لابنه علي بن الحسين زين العابدين، ثم لابنه محمد الباقر، ثم لابنه جعفر الصادق، ثم لابنه موسى الكاظم، ثم لابنه علي الرضا، ثم لابنه محمد الجواد التقي، ثم لابنه علي الهادي النقي، ثم لابنه الحسن الزكي العسكري، ثم لابنه القائم المنتظر صلوات اللّه عليهم.

زعمت السبائية أصحاب عبد اللّه بن سبأ أنه لم يمت، فإنه في السماء، وإن الرعد المسموع صوته، والبرق المشاهد سوطه.

والكاملية أصحاب أبي كامل معاذ بن الحسن النبهاني زعموا أن الصحابة كفرة، لمخالفتها لعلي عليه السلام، وأن عليا عليه السلام كافر لترك القتال معهم.

والقائلون بموته عليه السلام افترقوا، فالامامية ساقوها بعده الى ولده الحسن عليه السلام، والكيسانية أصحاب مولى لأمير المؤمنين عليه السلام يسمى كيسان اعتقدوا فيه الوصول الى علم التأويل والباطن والآفاق والأنفس عن ابن الحنفية، واختلفوا، فبعضهم ذهبوا أن الإمام بعد علي عليه السلام ولده محمد بن الحنفية، ونقل عنهم اختلاطات كثيرة من رفض الشرائع والإلحاد في الدين بالقول بالحلول والتناسخ وإنكار القيامة، وآخرون منهم أثبتوا إمامته بعد قتل الحسين عليه السلام.

ثم اختلفوا في موته، فذهب بعضهم الى أنه حيّ بجبل رضوى ويعود بعد الغيبة وأنه هو المهدي المنتظر، وكان هذا مذهب السيد الحميري ثم رجع عن ذلك الى مذهب الإمامية.

وذهب آخرون الى أنه مات، ثم اختلفوا بعد موته، فقال بعضهم: إن الإمام هو زين العابدين عليه السلام، وساقها آخرون الى أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية وهم الأكثر.

ثم اختلفوا بعد موت ابي هاشم، فذهب بعضهم الى أن الإمام بعده زين العابدين، وقال آخرون انه أوصى بالإمامة الى علي بن عبد اللّه بن عباس، واوصى علي الى ابنه محمد، واوصى محمد الى ابنه ابراهيم المقتول بحرّان.

ومنهم من قال: إن أبا هاشم أوصى الى ابن أخيه الحسن علي بن محمد بن الحنفية، واوصى الحسن الى ابنه علي، فهلك ولم يوص، فرجعوا عنه وقفوا على ابن الحنفية.

ومنهم من قال: بل اوصى الى بيان بن سمعان الهندي، ومنهم من قال: بل اوصى الى عبد اللّه بن عمر بن حرب الكندي، ومنهم من قال: بل أوصى الى عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن ابي طالب.

وأما القائلون بأن الإمام بعد علي عليه السلام ولده الحسن الزكي عليه السلام، اختلفوا بعد موته، فمنهم من ساقها الى ولده الحسين الملقب بالرضا من آل محمد، ومنهم ساقها الى ولده عبد اللّه، ثم الى ولده محمد وهو النفس الزكية، ثم الى اخيه ابراهيم.

والأكثرون ساقوها الى اخيه الحسين عليه السلام، ثم اختلفوا بعد قتله عليه السلام، فبعض الكيسانية ساقها الى محمد بن الحنفية، وآخرون ساقوها الى ولده زين العابدين عليه السلام، والزيدية ساقوها زيد بن علي بن زين العابدين.

وشرائط الإمامة عندهم خمسة: أولها: أن يكون من ولد الحسن والحسين.

الثاني: أن يكون شجاعا لئلاّ يهرب عن الحرب.

الثالث: أن يكون عالما يفتي الناس.

الرابع: أن يكون ورعا لئلا يتلف مال بيت المال.

الخامس: أن يدعو ويشهر سيفه.

وكان الإمام عندهم عليا عليه السلام بالنص الخفي، ثم الحسن، ثم الحسين بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا 2يعني سواء خرجا او لم يخرجا، ولم يكن زين العابدين عليه السلام عندهم إماما

لأنه لم يخرج وكان زيد ولده إماما.

وهم ثلاث فرق:

الأولى: الجارودية أصحاب ابي الجارود بن زياد بن منقذ العبدي، قال: إن النبي عليه السلام نصّ على علي عليه السلام بالوصف دون التسمية.

الثانية: السلمانية أصحاب سلمان بن جرير، قالوا: إن البيعة طريق الإمامة، واعترفوا بإمامة أبي بكر وعمر بالبيعة اجتهادا، ثم إنهم تارة يصوبون ذلك الاجتهاد، وتارة يخطئونه، وقالوا: بكفر عثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية لقتالهم عليا عليه السلام.

الثالثة: الصالحية أصحاب الحسن صالح بن حي، كان فقيها وكان يثبت إمامة أبي بكر وعمر ويفضل عليا عليه السلام على ساير الصحابة، وتوقف في عثمان لما سمع عنه من الفضائل تارة ومن الرذائل أخرى.

والقائلون بإمامة زين العابدين عليه السلام اختلفوا بعد موته: فالامامية ساقوها الى ولده محمد الباقر عليه السلام، ثم القائلون بإمامة الباقر عليه السلام اختلفوا، فمنهم من قال: إنه لم يمت، ومنهم من قال بموته، وساقوها الى ولده الصادق عليه السلام، ومنهم من ساقها الى غير ولده.

فذهب بعضهم الى أن الإمام بعد الباقر محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، وهم أصحاب المغيرة بن سعيد، ومنهم من قال: إنه ابو منصور العجلي.

والقائل بإمامة الصادق عليه السلام ذهب قوم الى أنه لم يمت وهو القائم، وهؤلاء اختلفوا، فذهبت الناووسية الى غيبته، وقال آخرون: إنه لم يغب بل يراه أولياؤه في كل وقت، وقال آخرون: إنه قد مات، واختلفوا فذهب بعضهم الى أنه لا إمام بعده وأنه سيرجع وهم الناووسية، وآخرون قالوا: إن الامام بعده موسى الكاظم عليه السلام.

وقالت الفطحية إن الامام بعده عبد اللّه الافطح ولده، وقالت الشرطية: إن الامام بعده محمد ولده.

وقالت الاسماعيلية: إن الإمام بعده ولده إسماعيل، وقالت الفضيلة أصحاب فضيل بن سويد الطحان: إن الإمامة كانت في أولاده الأربعة.

وقال آخرون: إن الإمام بعده موسى بن الحسين الطبري، زعموا إن الصادق عليه السلام اوصى بها إليه.

والبزيعية قالوا: بزيع بن موسى الحائك، وقالت الاقمصية اصحاب معاذ بن عمران الأقمص الكوفي: إن الإمام، هو معاذ وقالت الجعدية أنه أبو جعدة من الكوفة وقالت التيمية، انه عبد اللّه بن سعيد التيمي، واليعقوبية اصحاب يعقوب توقفوا في سوق الامامة الى ولده او غير ولده وجوزوهما.

والقائلون بإمامة الكاظم عليه السلام اختلفوا، فمنهم من توقف في موته وهم الممطورية، وقطع آخرون بعدم موته، والجمهور قطعوا بموته، فمنهم من ساقها الى ولده احمد بن موسى، والجمهور ساقوها الى ولده علي الرضا عليه السلام.

والقائلون بإمامة الرضا عليه السلام منهم من لم يقل بإمامة الجواد عليه السلام لصغر سنه، ومنهم من قال بإمامته وجوز إمامة الصغير لأن اللّه تعالى يخلق فيه العلم بالدين أصله وفرعه كنبوة عيسى عليه السلام.

واختلفوا بعد موت الجواد عليه السلام، فمنهم من ساقها الى ولده موسى، والجمهور قالوا: إن الإمام بعده ولده علي الهادي عليه السلام، ثم اختلفوا فمنهم من زعم أنه حي، ومنهم من قطع بموته، ثم اختلفوا فبعضهم ساقها الى ولده جعفر، والأكثر ساقوها الى ولده الحسن العسكري، ثم اختلفوا فقال قوم: إنه لم يمت، وقال آخرون: إنه مات وسيجيء، وقال قوم: إنه مات وأوصى بالإمامة الى أخيه جعفر، وقال قوم: إنه أوصى الى اخيه محمد، وقال قوم: إنه مات وأوصى بالإمامة الى ولده محمد عليه السلام وهو القائم المنتظر، وهؤلاء الإمامية.

واعلم أن هذه الاختلافات منقولة عن الشيعة، وأكثرها لم يوجد بل وجدت في كتب منقولة لا اعتبار بها.

البحث السادس: في تعيين الأئمة عليهم السلام

الإمام الحق بعد رسول اللّه عليه السلام علي عليه السلام، ويدل عليه وجوه:

الأوّل: أن الإمام إن كان واجب العصمة كان الإمام هو علي عليه السلام والتالي كالمقدم حق.

بيان الشرطية أن أبا بكر والعباس لم يكونا معصومين اتفاقا، فلو لم يكن علي عليه السلام هو الإمام لخلا الزمان من إمام وهو باطل لما تقدم، ولأن الناس قائلان: موجب للعصمة وناف لها، وكل من اعتبرها قال الإمام هو علي عليه السلام، ومن نفاها قال إنه أبو بكر والعباس، فلو اعتبر وقلنا بإمامة غير علي عليه السلام كان خرقا للإجماع وهو باطل، وأما بيان صدق المقدم فقد مضى.

الثاني: النقل المتواتر عن الرسول عليه السلام بالنص الجليّ، فإن الشيعة مع كثرتها وتفرقها في البلاد يتناقلون خلفا عن سلف أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: يا علي أنت الخليفة من بعدي، سلموا عليه بإمرة المؤمنين واسمعوا له واطيعوا.

لا يقال: لا نسلم تواتر هذه الأحاديث، فإنها لو كانت متواترة لحصل العلم بها لكل أحد والتالي باطل فكذا المقدم.

لأنا نقول: المتوقفون في هذا الخبر قسمان، منهم من عاندوا وأخفاه وقال:

إنني لم أسمعه، ومنهم من لم يعاند في ذلك، وسبب عدم تواتره عندهم حصول الشبهة لهم أولا في نفيه، فكان ذلك صارفا لهم عن اعتقاد موجبه، ولهذا شرط السيد المرتضى رحمه اللّه في خبر التواتر أن لا يكون السامع سبق الى اعتقاده نفي مخبره بشبهة او تقليد.

وأيضا فالناس قائلان: منهم من قال: العلم عقيب التواتر نظري، ومنهم من قال: إنه ضروري، ولا شك في أن النظريات لا يجب الاشتراك فيها لوقوع التفاوت في الناس بالنسبة إليها، وأما الضروريات فكذلك أيضا، خصوصا إذا كانت مستندة الى سبب كالإحساس.

الثالث: أن عليا عليه السلام كان أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيكون هو الإمام.

بيان الصغرى من وجوه:

الأول: أن الفضائل إما علمية أو عملية أما العلمية فيدل على استكماله فيها وجوه:

احدها: أنه عليه السلام كان في غاية الذكاء والفطنة وقوة الحدس شديد الحرص على تعلم العلم واستفادته، وكان معلمه أعلم الناس وأفضلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولا شك في أن القبول إذا تمّ مع وجود فاعل التام كان الفعل التام حاصلا.

وثانيها: ما نقل عنه من أصول التوحيد ومسائل العدل وفتاويه الفقهية بحيث لا يصل أحد الى أقل مراتبه.

وثالثها: انتساب أهل العلم بأسرهم إليه، فإن الأشاعرة منتسبة الى أبي الحسن الأشعري وقد كان تلميذا لأبي علي الجبائي المعتزلي، والمعتزلة بأسرهم منتسبون إليه ويدعون أنهم أخذوا أصول اعتقادهم من العدل والتنزيه والتوحيد من كلامه وخطبه عليه السلام.

وأما الأدب، فقد اتفق العلماء على أنه عليه السلام أصله ومنبعه.

وأما التفسير فلأن المفسرين يستندون أقوالهم الى عبد اللّه بن عباس، وهو تلميذ علي عليه السلام، وأما الفقه فلا شك في ظهور فضله فيه.

ورابعها: قوله عليه السلام:«أقضاكم علي»،وهذا يدل على الأفضلية، لأن القضاء يفتقر الى جميع العلوم.

وخامسها: ما نقل عنه عليه السلام من أنه قال: واللّه لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين اهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بانجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين اهل الفرقان بفرقانهم، وهذا يدل على كمال معرفته بهذه الشرائع وما يتوقف عليه من المسائل الأصولية.

وسادسها: الوقائع المنقولة عنه في فتاويه مع خطأ الصحابة دالة على أفضليته، فإنه قد نقل إن عمر أمر برجم امرأة اتت بولد لستة أشهر فنهاه عنه عليه السلام وتلا عليه قوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً، فقال: لو لا علي لهلك عمر.

وأمر عمر برجم امراة زنت وهي حامل، فنهاه وقال: ليس لك على ما في بطنها سلطان، فقال: لو لا علي لهلك عمر.

ونقل عنه مسائل دقيقة في علم الفقه وغيره عجز عنها الجميع، وذلك يدل على فضله عليه السلام.

وأما الفضائل العملية ، فإما أن يؤخذ باعتبار الشخص نفسه، أو باعتبار تكميل غيره.

أما بالاعتبار الأول، فينظمها أمور:

منها: العبادة ، ولا شك أن عليا عليه السلام كان أعظم الناس عبادة ونسكا والتزاما بالقوانين الشرعية على أشق الوجوه.

حتى أنه نقل عنه عليه السلام إنه إذا أريد اخراج شيء من الحديد من جسده ترك الى دخوله في الصلاة فيلقى متوجها بذاته نحو اللّه تعالى غافلا عن غيره حتى عن الآلام التي يفعل فيه.

ونقل عن زين العابدين عليه السلام: إنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ثم يرمي صحيفة علي عليه السلام من يده كالمتضجر ويقول: أنّي بي بعبادة عليّ.

ونقل عنه الجميع وصوله الى اللّه تعالى وبلوغه الغاية في الرياضة الموجبة للقرب منه.

ومنها: الزهد ، فقد اتفق الناس على بلوغه مرتبة لم يبلغها أحد ممن تقدمه ولا لحقه أحد ممن تأخر عنه، حتى أنه في زمن ولايته وقدرته وتمكنه لم ينل شيأ من ملاذ الدنيا ولا من طيباتها، بل كان مأكوله الخشن وملبوسه كذلك وكان يواسي فقراء أمته.

ومنها: الشجاعة ، وقد نقل عنه بالتواتر الوقائع المشهورة [الدالة على كماله منها] كيوم بدر ويوم أحد ويوم حنين ويوم الأحزاب، حتى أنه خرج في ذلك اليوم عمرو بن عبد ود فقتله، وقد وقف عنه المسلمون خوفا منه، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم:«لضربة علي أفضل من عبادة الثقلين»،وغير ذلك من الوقائع المشهورة المنقولة عنه عليه السلام.

ومنها: السخاء ، وهو في ذلك قد بلغ الغاية، فإنه قد نقل عنه بالتواتر أنه جاد بطعامه ثلاث ليال متواليات وأنزل اللّه في حقه: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً.

ومنها: حسن الخلق ، وهو قد بلغ فيه الغاية حتى نسب الى الدعابة.

ومنها: فعل الحسن وترك القبيح ، وهو قد بلغ الغاية في ذلك، فإن أحسن الأفعال الإيمان باللّه وتصديق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، وهو قد سبق الناس الى ذلك بالاتفاق.

وقد نقل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنه قال:«اوّلكم ورودا على الحوض أوّلكم اسلاما علي بن ابي طالب»،ونقل عنه عليه السلام أنه قال: انا أوّل من صلى واوّل من آمن باللّه ورسوله ولم يسبقني بالصلاة الاّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، وروي عنه عليه السلام أنه خطب الناس في ملاء عظيم وقال: أنا الصديق الاكبر وأنا الفاروق الأعظم، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.

وأما باقي الحسنات فقد بينا استكماله فيها.

واما ترك القبائح ، فلم ينقل عنه ناقل فعل قبيح، بخلاف غيره، لأنهم أسلموا بعد كفرهم.

واما بالاعتبار الثاني ، فلا شك في أن عليا عليه السلام كان أشد الناس حرصا بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على الإيمان، وكان يدعو الناس ولم يزل محاربا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ينفذه بسور من القرآن الى المشركين ويدعوهم الى الإيمان.

الثاني: قوله تعالى: فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ، اتفق الناس على أن المراد بالنفس هاهنا، هو علي عليه السلام.

ولا يريد اتحاد النفس، فإن ذلك محال، بل المراد المساواة مطلقا، والمساوي للأفضل الذي هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يكون لا شك أفضل.

وقد يمكن الاستدلال بهذا على ثبوت الولاية مطلقا من غير توسط الأفضلية بأن نقول: إنه مساو لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فثبت الولاية كما يثبت لمساويه.

الثاني: ما نقل عنه عليه السلام في خبر الطائر نقلا متواترا أنه قال:

«اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي»فجاء علي عليه السلام، والمعني من محبة اللّه تعالى هو إرادة الثواب الزائد له، وذلك لا يستحق إلا بالعمل، فيكون عمل علي عليه السلام أكمل من عمل غيره، فيكون أفضل.

الثالث: المؤاخاة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله دالة على فضله على باقي الصحابة.

الرابع: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال:«من أراد أن ينظر الى آدم في علمه والى يوشع في تقواه والى ابراهيم في حلمه والى عيسى في عبادته فلينظر الى علي بن أبي طالب»،وهذا دال على مساواته للأنبياء المذكورين، وقد كانوا هؤلاء أفضل الناس فالمساوي لهم كذلك.

الخامس: روي عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله:

«علي خير البشر فمن أبي فقد كفر».

السادس: روت عائشة أنها قالت: كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فأقبل علي عليه السلام فقال رسول اللّه:«هذا سيد العرب»فقلت: يا رسول اللّه الست سيّد العرب؟فقال:«أنا سيد العالمين وهذا سيد العرب».

السابع: ما روي عنه صلى اللّه عليه وآله أنه قال لفاطمة عليها السلام«إن اللّه اطلع على اهل الارض اطلاعة فاختار منهم أباك فجعله نبيا ثم اطلع اطلاعة ثانية فاختار منهم بعلك».

الثامن: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال:«إن أخي ووزيري وخير من أتركه بعدي يقضي ديني وينجز وعدي، علي ابن ابي طالب»،وفي هذا دلالة على الامامة من غير توسط، وهذا الباب واسع قد ذكر أصحابنا المتقدمون فيه أشياء كثيرة في كتبهم المطولة.

وأما الكبرى فقد سلفت من قبح تقديم المفضول على الفاضل.

الرابع: أنه عليه السلام ظهرت على يده معجزات كثيرة وادعى لنفسه الامامة فيجب أن يكون صادقا.

أما ظهور المعجزات فكثرتها مشهورة، وهي من وجوه:

أحدها: القوة التي بلغ بها حدا عجز عن لحوقه أشد الناس، كقلع باب خيبر وقال: واللّه ما قلعته بقوة جسمانية ولكن بقوة ربانية، ودحوه الصخرة عن فم القليب مسافة بعيدة.

وثانيها: أنه نقل عنه كلام الحيتان في فرات الكوفة وسلموا عليه بامرة المؤمنين الا الجري والمارماهي والزمار، فقال عليه السلام: أنطق اللّه لي ما طهر واصمت عنها ما حرّمه ونجّسه وبعّده.

وثالثها: إخباره بالغيوب كقوله: أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين»وقد حارب أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج.

وقال يوم البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا»،وكان آخرهم أويس القرني.

وأخبر بقتل ذي الثدية، وقال عن الخوارج لما عبروا النهر أنه أخبر لمصرعهم ومهراق دمائهم.

وأخبر بقتل الحسين عليه السلام وموضع قتله وكيفية محاربة الاعداء له، وقال عن البراء: إن الحسين عليه السلام يقتل ثم لا ينصر.

وأخبر جويريه بن مسهر بمقتله.

وقال لميثم: تؤخذ بعدي وتصلب وتطعن بحربة فتبتذر منخراك وفمك دما وتصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة أنت أقصرهم خشبه وأقربهم من المطهرة وأراه الخشبة التي يصلب عليها.

ورابعها: إجابة دعائه على بسر بن أرطاة أن يسلبه اللّه عقله فخولط، ودعا على العزان لما حلف أنه لا يرفع اخبار علي عليه السلام إلى معاوية ان كنت كاذبا فأعمى اللّه بصرك فعمي بعد أسبوع.

وخامسها: أنه نقل نقلا مشهورا يبلغ درجة التواتر أنه رجعت الشمس له مرتين: مرة في حياة النبيّ صلى اللّه عليه وآله بالمدينة، ومرة بعده صلى اللّه عليه وآله بأرض بابل.

سادسها: كلام الثعبان له، وهو أيضا مشهور.

سابعها: كلام الموتى له، فإنه نقل نقلا مشهورا أنه لما قصد العبور بالفرات قال لنصير: أدن الى الجبان وناد: يا جلندي أين العبور، فنادى نصير فكلمه جماعة من الناس فرجع إليه عليه السلام وأخبره بالقصة، فقال له ارجع وقل، يا جلندي بن كركر اين العبور، فرجع ونادى فكلمه شخص واحد فقال له: أين العبور؟فقال المنادي: يا هذا إن صاحبك قد عرف بموضعي ولي أحقاب سنين مدفون هاهنا كيف لا يعرف العبور، فرجع الى علي عليه السلام فاخبره بذلك.

ولأجل هذه القصة رجع نصير الى الكفر واعتقد فيه عليه السلام الالهية، والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.

وأما ادعاء الإمامة لنفسه فهو منقول عنه نقلا متواترا.

الخامس: أن أبا بكر والعباس كانا كافرين فلا يصلحان للإمامة.

أما الاولى، فبالاتفاق، وأما الثانية، فلقوله تعالى وقد سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يلحق به بعض ولده ما شرفه اللّه تعالى به من ثبوت الولاية على الناس: لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.

نفى ثبوت الإمامة للظالم، وإلاّ لم يكن الجواب مطابقا للسؤال.

السادس: أن الإمام لو كان غير علي عليه السلام كان ركونا الى الظالم، والتالي باطل بقوله تعالى: وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فالمقدم مثله، وبيان الشرطية ما ثبت من ظلمهما قبل الإسلام.

السابع: قوله تعالى: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ، وهذا الدليل يبني على مقدمات:

إحداها: أن لفظة إنما للحصر، ويدل عليه وجهان: الأول النقل عن أئمة اللغة، الثاني: أنّ إنّ للإثبات وما للنفي، وبعد التركيب يجب بقاء هذه المعاني وإلاّ لزم التغير والنقل وهو على خلاف الأصل، فإما أن يجعل النفي للمذكور والإثبات لغيره وذلك باطل قطعا، وإما أن يكون بالعكس، وهو المطلوب.

الثانية: أن المراد بالولي هاهنا الأولى بالتصرف، والدليل عليه النقل عن أهل اللغة، ومنه قوله: ايما امرأة نكحت نفسها بغير اذن وليها فنكاحها باطل، وقولهم السلطان ولي من لا ولي له، وغير ذلك، واذا كان يفيد الأولى وجب أن يكون حقيقة فيه وإلا كان مجازا والأصل عدمه، وإذا كان حقيقة فيه وجب أن لا يكون حقيقة في غيره وإلا لزم الاشتراك وهو خلاف الأصل.

الثالثة: أن المراد بهذه الآية هو علي عليه السلام، فنقول: لا شك أن المراد بهذه الآية ليس كل المؤمنين لوجهين:

الأول: أنه تعالى وصف الأولى بوصف غير حاصل لكل المؤمنين، فلا يكون الجميع مرادا.

الثاني: أنه يلزم أن يكون الحاكم والمحكوم عليه واحدا وذلك باطل، واذا كان المراد بها البعض فهو علي عليه السلام.

أما أولا، فلأن الناس قائلان: منهم من جعلها عامة، ومنهم من قصرها على علي عليه السلام، فلو قصرناها على غيره كان ذلك خرقا للإجماع.

وأما ثانيا، فلأن المفسرين اتفقوا على قصرها عليه عليه السلام.

وأما ثالثا، فلأن الأمة اتفقت على أن المراد هو علي عليه السلام، واختلفوا فمنهم من قال: أنه كل المراد، ومنهم من قال، أنه بعض المراد، فإذا أبطلنا العمومية كان الإجماع دالا على إرادته منها دون غيره.

فإن قيل: لا نسلم أن لفظة إنما يفيد الاختصاص ويدل عليه صحة التأكيد، فيقال: إنما جاء زيد وحده ولو كان يفيد الاختصاص لكان ذلك تكريرا، ولأنه يقال: إنما الناس العلماء ولا يفيد الاختصاص والمجاز والاشتراك على خلاف الأصل، قال: أبو الحسين البصري: لفظة إن يفيد الإثبات لا النفي ولفظة ما جعلت للتاكيد فليس لها دلالة على الحصر.

سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن لفظة«الولي»موضوعة للأول.

سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بها هاهنا الناصر؟لكن لا نسلم انحصارها في علي عليه السلام، وكيف يقال ذلك ولفظة«الذين»لفظة جمع.

والجواب: أما افادة إنما للحصر فقد دللنا عليه، قوله: إنه قد يؤكد، قلنا: لا دائما بل في موضع الاشتباه، سلمنا لكن التأكيد انما يستفاد منه فائدة المؤكد وإلاّ لم يكن تأكيدا، ولو لم يكن المؤكد دالا على الاختصاص والا لاستحال تأكيده بما يفيد الاختصاص.

قوله: قد يستعمل في عدم الاختصاص كقولنا: إنما الناس العلماء، قلنا: ذاك استعمال على سبيل المجاز، لأنا قد بينا كونه حقيقة في الاختصاص، فإن جعلناه حقيقة في عدمه كان مشتركا والأصل عدمه وإن كان الأصل عدم المجاز أيضا إلاّ أن الثاني أولى من الأول، ولأنه لا يجوز وضع المشترك بين المتناقضين وإن كان المجاز جائزا فيه، والمجاز في قولنا: إنما الناس العلماء ظاهر، لأن غير العالم لما لم يحصل له الصفة التي باعتبارها امتاز عن غيره من الحيوانات صح سلب الإنسانية عنه مجازا، وقول أبي الحسين باطل لما بيناه.

والمنع من وضع لفظة المولى للأولى غير وارد، لأنه طعن في النقل مع حصول الاستعمال الكثير.

وإرادة الناصر هاهنا باطلة، لأن نصرة المؤمنين عامة، لقوله تعالى:

اَلْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، أوجب الولاية التي هي النصرة، ونحن قد بينا أن المراد بهذه الآية بعض المؤمنين.

قوله: لا يجوز صرفها الى علي عليه السلام، قلنا: اسم الجمع قد يطلق على الواحد للتعظيم.

الثامن: قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ، أوجب الكون مع المعلوم منه الصدق ولا يعلم الصدق من أحد إلا من المعصوم فتكون مأمورين بالكون مع المعصوم، ولا معصوم إلاّ علي عليه السلام بالاتفاق.

التاسع: قوله تعالى: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فنقول: اللّه تعالى قد أمر بطاعة أولي الأمر، ولا يجوز أن يكون هو المؤمنون بأسرهم لأن الخطاب لهم، ويستحيل كون الشيء مطيعا لنفسه، فوجب قصرها على البعض، وذلك البعض إما أن يكون هو المعصوم او غيره، الثاني باطل لأن الناس لما اشتركوا في جواز الخطا استحال اختصاص بعضهم بالطاعة وبكونه أولى بالأمر، فلا بد وأن يكون معصوما، ولا معصوم إلاّ عليّ عليه السلام.

العاشر: الخبر المتواتر، وهو قوله عليه السلام يوم غدير خم وقد رجع من حجة الوداع:«معاشر المسلمين أ لست أولى منكم بانفسكم؟»قالوا: بلى يا رسول اللّه!قال:«فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه واخذل من خذله وانصر من نصره وأدر الحق معه كيفما دار».

وهذا الخبر لم ينازع فيه احد البتة، أما المخالف فإنه تأوّله، وأما المؤالف فإنه قال بظاهره فدل على قبوله مع أنه متواتر.

اذا ثبت هذا فنقول: المراد بالمولى هاهنا الأولى وذلك لأن لفظة مولى قد يراد بها هذا المعنى لقوله تعالى: اَلنّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ، وقول الأخطل فاصبحت مولاها من الناس كلّهم، ويقول للسيد مولى العبد، فيفهم العرب منه أنه أولى به في التصرف.

وهاهنا لمّا مهد النبي صلى اللّه عليه وآله قاعدة لنفسه هي أنه أولى بالتصرف من كل أحد من المسلمين بنفسه، ثم ذكر عقيبه هذا اللفظ الدال على هذا المعنى، فيحكم قطعا بإرادته منه.

ولأن هذه اللفظة تفيد هذا المعنى، وقد يعني بها الناصر وابن العم والجار والحليف والمعتق والمعتق، ولا اختصاص لعلي عليه السلام من بني هشام بهذه الأوصاف، فلو لم يرد الأول لكان عبثا.

ولأن الناس يعرفون ذلك، ويقبح من الرسول عليه السلام جمع الصحابة في ذلك الوقت الصعب وهم على طريق ونصب الأحمال كالمنبر ثم يقول: من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه او من كنت جاره فعلي جاره هذا لا يقوله محصل، فإذن المراد هو الأولى بالتصرف، ولا معنى للإمامة الاّ ذلك.

الحادي عشر: قوله عليه السلام:«أنت مني بمنزلة هارون من موسى الاّ انه لا نبي بعدي»،وهذا خبر متواتر بين الناس تأوّله الجمهور وحمله المؤالف على المعنى الظاهر فكان ذلك اعترافا بقبوله.

ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن المراد بالمنزلة هاهنا جميع منازل هارون من موسى، وأن من جملة المنازل ثبوت الولاية له لو عاش بعد موته.

بيان المقدمة الأولى أن المراد بالمنزلة لا يجوز أن يكون منزلة واحدة والا لما صح الاستثناء ولا ما هو دون الجميع لعدم الأولوية ولأنه يكون مجملا، ولأن الناس قائلان: منهم من قال: إن المراد بهذا الحديث منزلة واحدة وهي ثبوت الخلافة له في حياته كما في حق هارون، ومنهم من أثبت جميع المنازل، والأول باطل لما بينا، فيتحقق الثاني والا لزم خرق الإجماع.

وأما المقدمة الثانية ، فلأن هارون عليه السلام لو عاش لكان خليفة، لأنه قد كان خليفته في حياة موسى فيجب استمراره، وإلا كان يلزم أن يكون خائنا في حياة موسى وذلك محال.

ولأنه كان شريك موسى عليه السلام في الرسالة فيجب طاعته عليهم بعد موت أخيه.

ولأنه كان معصوما فيجب أن يكون خليفة لعدم عصمة غيره حينئذ، والأخبار في ذلك كثيرة مشهورة يبلغ مجموعه حدّ التواتر.

واحتج المخالف بوجوه:

احدها: قوله عليه السلام: اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر.

الثاني: قوله عليه السلام: الخلافة بعدي ثلاثون ثم تصير ملكا.

الثالث: أنه استخلفه في الصلاة فيكون خليفة بعد موته.

الرابع: إجماع الصحابة على إمامته.

الخامس: أن عليا عليه السلام ترك المنازعة ولو كان خليفة لنازع.

والجواب عن الأول، المنع من الحديث، مع أن بعضهم قد طعن فيه.

سلمنا لكن لا نسلم وجوب الاقتداء في كل شيء وإلا لزم التناقض لاختلافهما في كثير من المسائل، ولأن الأمر بالاقتداء أمر بالمطلق فيكفي فيه المرة الواحدة.

وعن الثاني، الطعن أيضا، مع أن هذين الحديثين من أخبار الآحاد ولا يجوز الاستدلال بهما في هذه المسألة ولا المعارضة للاخبار المتواترة في حق علي عليه السلام.

وعن الثالث، بالمنع من ذلك، بل المشهور عندنا وعند جماعة كثيرة من المخالفين أن المستخلف إنما كان عائشة، فلمّا سمع الرسول عليه السلام التكبير نهض معتمدا على الفضل بن العباس وعلي عليه السلام حتى ازاله عن مقامه.

وعن الرابع، بالمنع من الإجماع، وكيف يدعى ذلك وقد اتفق الناس كافة على امتناع جماعة من أكابر الصحابة عن البيعة، مثل علي عليه السلام والعباس وسعد بن عبادة وابي سفيان وقيس بن عبادة والزبير والنعمان بن زيد والمقداد وسلمان وأبي ذر وطائفة كثيرة.

وعن الخامس، بالمنع من ترك المنازعة، بل إنه نازع في ذلك الحال على حسب الإمكان، ولمّا لم يجد ناصرا ولا معينا كانت المنازعة منه أقل.

ثم إنا نعارض ونقول: لو كان أبو بكر إماما لما كان إماما فتكون إمامته باطلة لاستلزامها عدمها، وبيان الشرطية ما نقل عنه بالتواتر أنه قال يوم السقيفة:

«اقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم»،فلو كان إماما لكان طلب الإقالة من أعظم المعاصي والعاصي لا يصلح للإمامة لما بينا.

ولأنه نقل نقلا متواترا عن عمر أنه قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرها، وذلك دال على أنه لم يستصلح للإمامة.

وهذا باب طويل أكثر الشيعة قد طوّلوا فيه، من اراد الوقوف عليه بالاستقصاء فعليه بكتبهم.

البحث السابع: في إمامة باقي الأئمة الاثني عشر عليهم السلام

لنا في ذلك طريقان: عام وخاص، أما العام فما بينا من امتناع خلوّ الزمان من المعصوم فنقول: الناس قائلان: منهم من أوجب العصمة فقصر الإمامة على هؤلاء الاثني عشر، ومنهم من لم يقل ولم يقصرها عليهم، فلو قال بوجوب العصمة مع القول بإمامة غيرهم كان ذلك قولا لم يقل به أحد، وذلك باطل قطعا.

وأما الخاص فالنقل المتواتر بإمامة كل واحد واحد ينقله الشيعة مع كثرتهم وتفرقهم في البلاد المتباعدة سلفا عن خلف عن كل واحد واحد، ولأنا ننقل عن النبي صلى اللّه عليه وآله نقلا يوافقنا فيه المخالف أن الائمة بعده اثنى عشر خليفة، فنقول: كل من قال بهذه المقالة جعل الإمامة لهؤلاء الأئمة عليهم السلام.

وأيضا المعجزات المنقولة عن كل واحد واحد عليهم السلام مع ادعائه الامامة لنفسه دال على صدقه.

وأيضا ما روي عن النبي عليه السلام من الأخبار التي تبلغ جملتها حد التواتر، منها ما رواه سلمان الفارسي قال: كنت بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو مريض، فدخلت فاطمة عليها السلام فبكت وقالت: يا رسول اللّه أخشى الضيعة بعدك.

فقال:«يا فاطمة أ ما علمت أن اللّه ختم الفناء على جميع خلقه، وأن اللّه تعالى اطلع الى الارض فاختار منها أباك، ثم اطلع ثانية فاختار منها زوجك وأمرني أن أتخذه وليّا ووزيرا وأن أجعله خليفتي في امتي، فأبوك خير أنبياء اللّه وبعلك خير الأوصياء وانت أول من يلحق بي من أهل بيتي، ثم اطلع ثالثة فاختارك وولدك، فأنت سيدة النساء والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبناء بعلك أوصيائي الى يوم القيامة والأوصياء بعدي أخي علي والحسن والحسين ثم تسعة من ولد الحسين».

فروي عنه عليه السلام إنه قال للحسين عليه السلام:«هذا ولدي إمام ابن إمام أخو إمام أبو ائمة تسعة تاسعهم قائمهم».

وعن جابر بن عبد اللّه قال: لما نزل قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قلت: يا رسول اللّه عرفنا اللّه ورسوله فمن اولي الامر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك؟فقال عليه السلام«هم خلفائي يا جابر وائمة المسلمين بعدي اولهم علي بن ابي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم عدّ تسعة من ولد الحسين عليه السلام»،والأخبار في ذلك كثيرة بالغة مبلغ التواتر.

البحث الثامن: في كلام كلي في الغيبة

طوّل أصحابنا في هذا الباب، ونحن نقتصر هاهنا على المهم منه فنقول: قد بينا أنه لا يجوز خلو الزمان من معصوم، ولا شك في أنه غير ظاهر، فيجب أن يكون مستترا، ولأنا قد بينا بالتواتر النص من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بوجوده وتعيينه وغيبته.

وأما استبعاد الخصم بقاء مثل هذا الشخص هذا العمر فضعيف، لأنه لا شك في إمكانه، والوقوع مستفاد من الأدلة التي ذكرناها، وكيف يستبعد ذلك مع ما وجد في قديم الزمان من تطاول الأعمار أضعاف ذلك.

لا يقال: استتاره مفسدة لا يجوز فعلها من اللّه تعالى ولا منه لعصمته فهو غير موجود.

لأنا نقول: لا نسلم أن استتاره مفسدة بل فيه مصلحة خفية لا نعلمها نحن، إما من الخوف على نفسه، او لأمر آخر غير معلوم لنا على التفصيل، ومن أراد التطويل في هذا الباب فعليه بكتب أصحابنا رحمهم اللّه.

البحث التاسع: في بقية الكلام في هذا الباب

مسألة : يجب الإقرار بإمامة الاثني عشر عليهم السلام في كل وقت، والجاحد لواحد منهم غير مؤمن وان لم يخرج عن الاسلام، ويدل عليه النقل المتواتر عنهم عليهم السلام أن من أنكر واحدا من الأحياء فقد أنكر الأموات، وبالنقل عن الرسول صلى اللّه عليه وآله:«يا علي أنت والأئمة بعدي من أنكر واحدا منكم فقد أنكرني».

مسألة : الأئمة أفضل من الملائكة لأن طاعتهم أشق لوجود المعارض وهو الشهوة والغضب مع قهره بالقوة العقلية، ولقوله تعالى: إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى الْعٰالَمِينَ، والمراد بالآل هاهنا الذرية المعصومون لخروج غيرهم عنه قطعا، ولقوله عليه السلام:«يا علي أنا منك وأنت مني»، ومحمد عليه السلام أفضل من الملائكة فعلي عليه السلام كذلك.

ولأنا قد بينا في قوله تعالى وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ أن المراد به المساوي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو علي عليه السلام، والمساوي للأفضل يكون أفضل قطعا.

مسألة : فاطمة عليها السلام معصومة، ويدل عليه القرآن والسنة.

أما القرآن فقوله تعالى: إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وهي من جملتهم.

وأما السنة فقوله عليه السلام:«فاطمة بضعة مني يؤذيها ما يؤذيني»، ولو صدر عنها الذنب لكان أذاها واجبا، والتالي باطل فالمقدم مقله.

مسألة : الملائكة معصومون لقوله تعالى: لاٰ يَعْصُونَ اللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ، ولقوله سبحانه: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ، وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، ولأن صدور الذنب إنما يكون بتعلق الشهوة والغضب وهم منزهون عن ذلك.

مسألة : المحارب لعلي عليه السلام لا يسمى مؤمنا ويستحق العقاب الدائم، لقوله عليه السلام:«حربك يا علي حربي وسلمك سلمي»، وقوله عليه السلام:

«حبّك يا علي حسنة ولا تضرّ معها سيّئة وبغضك يا علي سيّئة لا ينفع معها حسنة»،ولا يخرجون بذلك عن الإسلام.