موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي >> مناهج اليقين في أصول الدين

 

المنهج التاسع: في المعاد

وفيه مباحث

 

البحث الأول: في أنه هل يصح عدم العالم

البحث الثاني: في وجوب المعاد

البحث الثالث: في كلام الأوائل في هذا الباب

 

 

 

البحث الأول: في أنه هل يصح عدم العالم

اختلف الناس في أن العالم هل يصح عدمه أم لا؟فقالت طائفة بامتناعه من حيث إنه واجب الوجود، فقد سلف منّا بطلان هذا، وقال قوم: إنه يصح عدمه، واختلفوا فذهب قوم الى أنه يمتنع عدمه لغيره من حيث إنه مستند الى علة واجبة قديمة ودوام العلة يستلزم دوام المعلول، وقد سلف منّا أيضا بطلان هذا الرأي.

وقالت طائفة أخرى: إنه يصح عدمه بالنظر الى ذاته وغيره، وهم جمهور المتكلمين، لكن بعضهم قال: إنه لا يعدم، وبعضهم قال: إنه لا بد من عدمه.

وقد احتجت الفلاسفة بأن العلة التامة أزلية على ما سلف فالعالم أزلي يستحيل عدمه، ولأن الزمان لو عدم لكان عدمه بعد وجوده وذلك يستلزم وجود الشيء حال عدمه.

والجواب عنهما، بالمنع من إيجاب العلة، وقد تقرر ذلك.

وبالمنع من كون التأخر بالزمان.

والدليل على إمكان العدم أن العالم ممكن فالممكن قابل للعدم والا لكان واجبا، أما أنه ممكن فلحدوثه المستدعي اتصافه بالعدم والوجود المستدعي لقبولهما، ولأنه مركب وكثير، وأما أن الممكن قابل للعدم فظاهر.

هذا بالنظر الى ذاته، وأما بالنظر الى الغير فلأنا نقول: العالم مستند الى قادر المختار لما مرّ، والقادر يجوز أن يفعل فعلا ويعدمه، وذلك يفيد المطلوب.

ونقل عن الكرامية القول بوجوب أبدية العالم بعد حدوثه لأن عدمه لا يكون بالفاعل، لأن الاعدام ليس بأثر، لأنه إن كان وجوديا لم يكن عدم الفعل بل يكون إيجادا لضد العالم، وإن كان عدميا لم يستند الى المؤثر، لأنه لا فرق بين قولنا: لم يؤثر، وبين قولنا: أثر العدم، والاّ لزم وقوع الامتياز في العدميات، ولا بالضد لأن انتفاء الأول شرط في حدوث الثاني فلو علل به دار، ولأن التضاد من الجانبين فلا أولوية لانتفاء أحدهما بالآخر.

لا يقال: الحادث أولى لانه متعلق السبب ولأنه يلزم اجتماع الوجود والعدم لو عدم ولأنه يجوز أن يكون أجزائه أكثر.

لأنا نقول: الباقي متعلق السبب أيضا، والثاني إنما يلزم لو قلنا إنه يوجد ثم يعدم حال وجوده وليس كذلك، بل نقول: إن الباقي يمنعه من الدخول في الوجود، والثالث مبني على اجتماع المثلين ولا يجوز أن يكون لانتفاء الشرط، لأن شرط العرض الجوهر فلو شرط به دار.

والجواب، أن الاعدام يجوز استناده الى الفاعل، وقوله: ان كان عدميا لم يبق فرق بين قولنا لم يؤثر، وبين قولنا: أثر العدم ممنوع، ويجوز أن يكون بطريان الضد ويكون الحادث أولى من غير أن يعرف وجه الأولوية.

مسألة : القائلون بأن العالم لا يعدم فسروا الإعادة بجمع الأجزاء بعد تفريقها جمعا بين الأدلة العقلية والشواهد النقلية، واستدلوا على ذلك بأنه لو عدم لما صحت إعادته، والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية أن ما عدم لم يبق له هوية يشير العقل إليها فلا يصح عليها الحكم بإمكان العود، ولأنه لا يتميز عن مثله لو وجد ولأنه لو أعيد لاعيد مع

الوقت لأنه من جملة مشخصاته، ولأنه من جملة الممكنات فيكون مبتدأ معادا، ولأنه لو أعيد لزم تخلل النفي بين الشيء الواحد وذلك غير معقول.

وأما بطلان التالي فلما يأتي من وجوب الاعادة.

واحتج المخالف بأنه لو استحال إعادته لزم انتقاله من الإمكان الى الامتناع.

فاعترضوا على الأول بأن القول بعدم صحة الحكم على المعدوم قول بصحته وذلك يتناقض.

وعلى الثاني بأن التميز في الخارج لا يستدعي التميز عندنا.

وعلى الثالث بأنه إنما يكون مبتدأ لو وجد مع الوقت المبتدأ وذلك محال.

واستحدث بعض المتأخرين حجة على صحة إعادة المعدوم هي القياس على التذكير بأن قال: التصور بعد زواله وعوده في الذكر يكون واحدا.

والجواب عن حجتهم، أنها مغالطة، وذلك لأن الحكم بامتناع العود إنما هو حكم بامتناع الوجود المقيد بكونه بعد العدم، وليس الامتناع هنا للذات ولا لأمر عارض مفارق لها، بل هو لامر لازم للماهية وهو كونها بعد العدم ولا يلزم من ذلك انتقال من الإمكان الى الامتناع، وعسى أن يكون قد سلف في بعض كلامنا ما يناسب هذا مما يوضحه.

مسألة : قد ذهب قوم الى أن إعدام العالم إنما هو بتفريق أجزائه، وهذا قد مضى.

وقال آخرون: إن الأجسام باقية بالبقاء فإذا اراد اللّه تعالى عدمها لم يفعل البقاء، وهذا قول الكعبي وبشر، إلاّ أن الكعبي قال: البقاء قائم بالباقي وبشر يقول البقاء قائم لا في محال.

وقال أبو علي وأبو هاشم واتباعهما: إن اللّه تعالى يفعل معنى هو الفناء يكون ضدا للجواهر يعدم به.

وقال النظام: إن الأجسام غير باقية فاذا اراد اللّه عدمها لم يوجدها بعد عدمها.

وكل هذه المذاهب منحرفة عن سنن الصواب أما قول الكعبي وبشر، فلما سلف من بيان أن البقاء ليس زائدا على الذات الا في المعقولية.

وأما قول أبي علي وأبي هاشم، فلما مضى من إبطال الفناء ولأن الفناء إن فني لذاته، لم يوجد، أو لسبب تسلسل.

وأما قول النظام، فباطل بالضرورة، والحق عندي أن الإعدام يستند الى الفاعل المختار.

مسألة : يمكن خلق عالم آخر لقوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَ هُوَ الْخَلاّٰقُ الْعَلِيمُ، ولأنه لو استحال خلق العالم الآخر لذاته استحال خلق هذا العالم، لأنه مماثل له وحكم المتماثلين واحد، وإن كان لا لذاته فهو المطلوب وللإجماع.

احتجوا باستحالة الخلاء على استحالة خلق آخر، والملازمة وجوب كرية العالم، ولأن الأرض الثانية حاصلة في وسط العالم الثاني بالطبع وهي خارجة عن وسط العالم الأول بالطبع فيتضاد مقتضى الطبيعة الواحدة هذا خلف.

والجواب عن الأول أنه مبني على مقدمات ضعيفة سلفت، وعن الثاني أنه غير عام، ولأنا نخصص أحدهما بأحد الوسطين كاختصاص الجزء الأرضيّ بأحد المكانين.

مسألة : التكليف منقطع، لنا العقل والنقل، أما العقل فلأنه لو لا ذلك لزم الإلجاء وفعل القبيح من اللّه تعالى واللاّزم بقسميه باطل.

بيان الشرطية أنه إما أن يصل كل مستحق الى ما يستحق فيلزم الأول، أو لا يصل فيلزم الثاني.

لا يقال: ينتقض بالحدود وبأنه عليه السلام كان يأمر المشرك بالإسلام فإن لم يفعل قتله.

لأنا نقول: الحدود غير ملجئة، لأن الفاعل يجوز أن لا يعلم بحاله فلا يكون علمه بالحد إلجاء، واما الأسير فإنه إنما أسلم إلجاء ولا يستحق بذلك الإسلام الثواب.

والفائدة فيه أنه قبل إسلامه لا يسمع أحكام المسلمين، فلما اسلم إلجاء دخل في زمرة المسلمين وعرف أحكامهم وانتقل من حال الاضطرار الى حال الاختيار.

واما السمع، فلأن ذلك معلوم من دين محمد عليه السلام.

البحث الثاني: في وجوب المعاد

هذا البحث يتمشى على قواعد المعتزلة دون الأشاعرة، وذلك لأنا نقول: لو لم يجب المعاد قبح التكليف والتالي باطل والمقدم مثله، والشرطية ظاهرة لحصول الظلم حينئذ وكون التكليف عبثا، وهذان المقامان لما أنكرهما الأشاعرة بطل هذا الفرع عندهم.

مسألة : اتفق المسلمون على إثبات المعاد البدني، ونازعهم الاوائل في ذلك، والدليل على ثبوته أنه ممكن والصادق أخبر بثبوته فوجب الجزم به.

أما إمكانه، فلأنه تعالى قادر على كل مقدور وعالم بكل معلوم وذلك يستلزم إمكان الإعادة إما بمعنى جمع الأجزاء ان قلنا باستحالة اعادة المعدوم، أو بمعنى إيجادها مرة ثانية إن قلنا بجوازها.

وأما الإخبار بالثبوت، فضروري من دين الأنبياء عليهم السلام.

والمنكرون لذلك قالوا: إن المنقول متأول ولا استبعاد في ذلك فإن آيات التشبيه كثيرة مع أنكم قد تأولتموها.

ثم استدلوا على الامتناع بوجوه:

أحدها: أن العالم دائم الوجود على ما مرّ فالحشر باطل.

الثاني: أن الجنة والنار إن كانتا في هذا العالم لزم التناسخ، وإن كانتا في عالم الأفلاك لزم الخرق عليها، وإن كانتا في آخر لزم الخلاء.

الثالث: قد يختلف الشخص بالسمن والهزال وعلى تقدير إعادته على أي حال كان يلزم عقاب غير العاصي وإثابة غير المطيع.

الرابع: إذا أكل الإنسان آخر، فان أعيد المأكول إلى الأكل ضاع المأكول، والاّ ضاع الاكل.

الخامس: القول بإعادة البدن يستلزم إعادة المعدوم، واللازم باطل على ما مرّ فالملزوم مثله.

بيان الشرطية أنا إما أن نقول بعدم البدن فاللازم حاصل، وإما أن لا نقول به فلا بد من القول بتفريق أجزائه وإعدام الأعراض التي باعتبارها كان يسمى بدنا فإن اعيد فلا بد من إعادة تلك الأعراض المعدومة وذلك يستلزم القول بإعادة المعدوم.

والجواب، أما تأويل النقل فباطل، لأن التأويل إنما يكون في اللفظ المحتمل، أما في اللفظ الذي يعلم بالضرورة إرادة المعنى منه فإنه يستحيل تأويله.

وأما الوجوه العقلية، فالجواب عن الأول منها، أن المنع قائم في دوام العالم، وقد بينا ضعفه، ولو سلّم ذلك فانه لا ينافي القول بالإعادة، لأن العالم هو ما سوى اللّه تعالى وليس عدم ما سوى اللّه تعالى شرطا في الإعادة اتفاقا، فالقول بالأبدية لا ينافي القول بالحشر.

وعن الثاني، لم لا يجوز وجودها في هذا العالم والتناسخ ممنوع، ولو سلمنا ذلك لكن القول بامتناع الخرق والخلاء قد سلف بطلانه.

وعن الثالث، الحق في ذلك أن الأجزاء الأصلية التي لزيد لا تزيد ولا تنقص.

وعن الرابع، قريب من هذا، فإن الأجزاء الأصلية لأحدهما فاضلة بالقياس الى الآخر.

وعن الخامس، أن اعادة المعدوم إنما يلزم على تقدير إعادة تلك الأعراض بعينها وأن تلك الأعراض داخلة في قوام الشخص، وهما ممنوعان خصوصا على رأي الأشاعرة، فإنهم يقولون باستحالة بقاء الأعراض فكيف تكون معتبرة في الشخص الباقي.

مسألة : لم يثبت بالدليل القطعي إعدام الأجزاء ثم إعادتها، بل قد ثبت عدم انتفائه على ما سلف من رأينا فيه.

والقائلون بوجوب الاعدام احتجوا بآيات:

منها قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ، ومنها قوله: كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، جعل الاعادة كالابتداء، ولما كان الابتداء إنما هو الوجود بعد العدم الصرف فكذلك الإعادة، ومنها قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ، وإنما كان الأول لأنه موجود لا موجود سواه وكذلك إنما يكون آخرا بهذا المعنى.

وهذه الآيات غير دالة على المقصود قطعا، وتأويل الأولى أن الهلاك هو الخروج عن حدّ الانتفاع، والأجسام اذا تفرقت أجزاؤها وعدمت أعراضها غير منتفع بها.

وأيضا الممكن بالنظر الى ذاته هالك، فإنه إنما يوجد بسببه، وأيضا التخصيص بالدليل العقلي الدال على الإعادة وامتناع إعادة المعدوم ثابت غير مناف لهذا النص.

وتأويل الثانية أن التشبيه مطلقا لا يستلزم التساوي من كل وجه.

وعن الثالث أنه أوّل بحسب الاستحقاق وآخر بحسبه، على أن التخصيص جائز اذا قام عليه دليل، وأيضا الآخر لا يمكن حمله هاهنا على ظاهره، فإنه إذا أعدم الخلق ثم اسكن اهل الجنّة الجنة واهل النار النار فإنه لا يخرجهم منها أبدا فلا آخر بالمعنى الذي كان به أولا، وقد حمل الأوّل هاهنا على كونه مبدأ لكل شيء والآخر على كونه غاية لكل شيء.

مسألة : عقاب القبر والميزان والصراط وإنطاق الجوارح وتطاير الكتب امور ممكنة، وقد أخبر الصادق بثبوتها فوجب الجزم بها.

مسألة : قال الجبائي وأبو الحسين والأشعري: الجنة والنار مخلوقتان الآن، وقال أبو هشام وعبد الجبار: الجنة والنار ليستا بمخلوقتين الآن.

والأول هو الحق، لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ والإعداد حقيقة في الموجود، وقوله تعالى: اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا، وَ يَوْمَ تَقُومُ السّٰاعَةُ.

قالوا: لو كانت لعدمت، لقوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ، وليس لقوله: أُكُلُهٰا دٰائِمٌ ولقوله: عَرْضُهَا السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ، وإنما يكون لو كانت في حيزهما ولعدم فائدتهما الآن.

والجواب عن الأول، المراد من الهلاك استفادة الوجود من الغير فهو بذاته هالك.

وعن الثاني، أن المراد بقدر عرض السموات والأرض وتكون خارجة عنهما.

وعن الثالث، أن فيه مصلحة خفية.

مسألة : المكلف إما مستحق العوض على اللّه تعالى او على غيره أو يكون يستحق عليه العوض، وهؤلاء يجب إعادتهم عقلا.

أما الأول، فلانتفاء الظلم في حقه تعالى، وأما الثاني، فلوجوب الانتصاف عليه، وأما الثالث فكذلك بعينه.

وأما الكفار وأطفال المؤمنين فإنه يجب إعادتهم سمعا، إذ لا خلاف بين المسلمين في ذلك، ولا دليل عقلي يدل على إعادتهم.

وأما المستحق للثواب فإنه يجب إعادته عقلا، لوجوب وصول الحق إليهم، والسمع دال على ذلك أيضا،[و]ما عدا هؤلاء فانه لا يجب إعادته.

البحث الثالث: في كلام الأوائل في هذا الباب

قالوا: النفوس باقية على ما مرّ، ولا بد لها من سعادة وشقاوة، وذلك لأنها ذات قوتين: نظرية وعملية، والناس بحسب قوتهم النظرية على أقسام:

الأول: اصحاب العقائد البرهانية المطابقة اليقينية، وهؤلاء أصحاب السعادة الأبدية.

الثاني: العقائد المطابقة المستندين الى التقليد، والأولى بهؤلاء السلامة.

الثالث: أصحاب العقائد الغير المطابقة، وهؤلاء أصحاب الشقاوة الأبدية، لأنهم مشتاقون غير واصلين ولا مشغولين عما هم مشتاقون إليه، قيل: إنهم في حياتهم الدنيا غير متعذبين لاعتقادهم حصول العلم لهم، فبعد المفارقة إن جاز زوال هذا الجزم عنهم جاز زوال الجزم بتلك العقائد، والاّ بقوا على غفلتهم ولم يتعذبوا.

أجيب عنه، بتلك بأن تعذب هؤلاء من حيث إنهم في حياتهم الدنيا كانوا يرجون الوصول بعد المفارقة، فلما انتهوا الى الغاية فقدوا ما رجوا الوصول إليه فحصل لهم التعذب بفقدان ما رجوا الوصول إليه.

الرابع: أصحاب النفوس الخالية من الاعتقادات الحقة والباطلة، فقد اضطربوا في أمر هؤلاء، فمنهم من ذهب الى أنها يفني وإلا لزم تعطيلها، اذ لا سبب لسعادتها ولا لشقاوتها ولا معطل في الطبيعة.

وذكر الشيخ أن الأليق بهؤلاء التعلق بجسم من الأجسام البخارية او الفلكية يكون موضوعا لتخيلاتهم الى أن يفضي بهم التعلق الى حصول الكمال أو ضده فيفارقون.

وهذان المذهبان باطلان على رأيهم.

أما الأول، فلاعتقادهم بقاء النفس.

وأما الثاني، فلكون النفس متعلقة بجسم بعد أن كانت متعلقة بآخر وهذا قريب من التناسخ.

واما بحسب قوتهم العملية فعلى اقسام:

الأول: الكامل في الاخلاق الفاضلة وهؤلاء أصحاب السعادة أيضا.

الثاني: صاحب الأخلاق الردية وهؤلاء متعذبون عذابا منقطعا بسبب تعلقها بالجسمانيات ومفارقتها لها.

الثالث: أصحاب النفوس الخالية عنهما والكلام فيه قريب مما مرّ.

مسألة : قالوا: اللذة إدراك الملائم، وهذا مستفاد من الاستقراء المفيد لليقين، وكما أن الإدراك متفاوت لا يقع على معانيه بالتساوي فكذلك اللّذة، وكما ان الإدراك يتفاوت باعتبار نفسه فكذلك يتفاوت باعتبار متعلقه.

اذا تقرر هذا، فنقول: المدرك بالآلة الجسمانية إن كان ملائما لها كان ذلك الإدراك لذة، كالمدرك بقوته الذوقية الحلاوة والمدرك بقوته البصرية الأشياء المستحسنة وكذلك باقي القوى، والمدرك بالقوة الوهمية إن كان ذلك ملائما لها كان ذلك هو اللذة كمن يتصور العلية ولو في أمر خسيس، والمدرك بالقوة العقلية يكون لا شك لذة أيضا.

قالوا: وهذه اللذة أقوى من غيرها، لأن نسبة اللذة الى اللذة كنسبة الإدراك إلى الإدراك والمدرك الى المدرك، ولما كان المدرك بالقوة الجسمانية إنما هو الأمور الظاهرة كالسطوح والألوان، والمدرك بالقوة العقلية هو حقائق الأشياء وتفاصيلها وتميز بعضها من بعض كالاجناس من الفصول، كان هذا الإدراك أقوى من ذلك.

وأيضا فمدرك القوة العقلية هو واجب الوجود تعالى وغيره من الأمور الباقية والطبائع الدائمة بخلاف مدرك القوة الجسمانية، فمدرك الأولى أشرف، فاللذة فيه أتم، وكذلك الألم العقلي يكون أشد من الألم الجسماني.

مسألة : قالوا: العقاب للنفس على خطيئتها هو كالمرض للبدن على نهمته، وهذا النوع من العقاب إنما يحصل للنفس بسبب ملكاتها الردية الراسخة فيها.

وأما العقاب البدني فلا يتنكر وجوده، فإن التخويف في مبادي الأفعال الإنسانية حسن لنفعه في أكثر الأشخاص، والإيفاء بذلك التخويف بتعذيب العاصي تاكيد للتخويف ومقتض لازدياد النفع، فهو أيضا حسن، وهذا العقاب انما هو شيء بالقياس الى ذلك المعذب وإن كان نافعا في حق أكثر أشخاص النوع، ولا يلتفت الى الجزئي كما لا يلتفت الى الجزء فيقطع العضو ليسلم البدن.

قيل: على هذا، القول بالقدر ينافي هذين العذرين.

أجيب عنه بأن القدر المراد به هاهنا وجوب كون الجزئيات مستندة الى أسبابها المتكثرة لا يعني به أنه لا فاعل ولا مؤثر إلا اللّه.

وهذان العذران موافقان لقواعدهم، لأنهم يقولون باستناد الفعل الى قدرة الإنسان وإرادته، وكلاهما مستندان الى أسبابهما، ومن أسباب إرادة فعل الغير التخويف، فوقوع التخويف في الأسباب المقتضية للخير واجب، وهذا لا ينافي القدر فإن جميع ما في القدر معلل عندهم.