الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

 

بيان الخلاف في نزاهة الأنبياء عن الذنوب

 

اختلف الناس في الأنبياء عليهم السلام. فقالت الشيعة الإمامية، لا يجوز عليهم شئ من المعاصي والذنوب كبيرا كان أو صغيرا، لا قبل النبوة ولا بعدها، ويقولون في الأئمة مثل ذلك، وجوز أصحاب الحديث

الصفحة 16
والحشوية (1) على الأنبياء الكبائر قبل النبوة، ومنهم من جوزها في حال النبوة سوى الكذب فيما يتعلق بأداء الشريعة، ومنهم من جوزها كذلك في حال النبوة بشرط الاستسرار دون الاعلان، ومنهم من جوزها على الأحوال كلها، ومنعت المعتزلة (2). من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وفي حالها، وجوزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغاير، ثم اختلفوا فمنهم من جوز على النبي صلى الله عليه وسلم الإقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد، ومنهم من منع من ذلك وقال إنهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوبا، بل على سبيل التأويل.

وحكي عن النظام (3)، وجعفر بن مبشر (4)، وجماعة ممن تبعهما، أن ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو والغفلة، وأنهم مؤاخذون بذلك، وإن كان موضوعا من أممهم لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم. وجوزوا كلهم ومن قدمنا ذكره من الحشوية وأصحاب الحديث على الأئمة الكبائر والصغائر، إلا أنهم يقولون إن بوقوع الكبيرة من الإمام تفسد إمامته ويجب عزله والاستبدال به.

____________

(1) الحشوية: هم المحدثون القائلون بنفي التأويل.

(2) المعتزلة: هم جماعة من المسلمين اعتمدوا على المنطق والقياس في مناقشة القضايا الكلامية.

أهم تعاليمهم: 1 - إن مقترف الكبيرة ليس بالكافر ولا بالمؤمن بل في منزلة بين المنزلتين. 2 - حرية الاختيار، أي أن الانسان ذو إرادة حرة وليس مجبرا على إتيان أعماله. 3 - خلق القرآن. كما ناقشوا قضايا التوحيد والعدل والصفات الإلهية. أشهر المعتزلة: واصل بن العطاء وعمرو بن عبيد، وهما انفصلا عن الحسن البصري.

(3) النظام: هو إبراهيم بن سيار (توفي 231 هـ) تلميذ أبي الهذيل العلاف. متكلم معتزلي، نشأ في البصرة وأقام في بغداد حيث توفي. وهو معلم الجاحظ. عارض آراء الفقهاء وانتقد الجبرية والمرجئة. وإليه تنسب النظامية، وهي إحدى فرق المعتزلة.

(4) جعفر بن مبشر: وهو أحد المعتزلة أيضا.


الصفحة 17
واعلم أن الخلاف بيننا وبين المعتزلة. في تجويزهم الصغاير على الأنبياء صلوات الله عليهم يكاد يسقط عند التحقيق لأنهم إنما يجوزون من الذنوب ما لا يستقر له استحقاق عقاب، وإنما يكون حظه نقص الثواب على اختلافهم أيضا في ذلك، لأن أبا علي الجبائي (1) يقول: إن الصغيرة يسقط عقابها بغير موازنة، فكأنهم معترفون بأنه لا يقع منهم ما يستحقون به الذم والعقاب. وهذه موافقة للشيعة في المعنى، لأن الشيعة إنما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث كان كل شئ منها يستحق به فاعله الذم والعقاب، لأن الاحباط باطل عندهم، وإذا بطل الاحباط فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، وإذا كان استحقاق الذم والعقاب منفيا عن الأنبياء عليهم السلام وجب أن تنتفي عنهم ساير الذنوب، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلقا بالاحباط، فإذا بطل الاحباط فلا بد من الاتفاق على أن شيئا من المعاصي لا يقع من الأنبياء (ع) من حيث يلزمهم استحقاق الذم والعقاب، لكنه يجوز أن نتكلم في هذه المسألة على سبيل التقدير ونفرض أن الأمر في الصغائر والكبائر على ما تقوله المعتزلة، ومتى فرضنا ذلك لم نجوز أيضا عليهم الصغائر لما سنذكره ونبينه إنشاء الله تعالى.

تنزيه الأنبياء كافة عن الصغائر والكبائر:

(واعلم) أن جميع ما تنزه الأنبياء عليهم السلام عنه، ونمنع من وقوعه منهم من يستند إلى دلالة العلم المعجز إما بنفسه أو بواسطة، وتفسير هذه الجملة، أن العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدعي النبوة والرسالة، وجاريا مجرى قوله تعالى له: صدقت في أنك رسولي ومؤد عني.

فلا بد من أن يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على الله سبحانه في ما يؤديه عنه، لأنه تعالى لا يجوز أن يصدق الكذاب، لأن تصديق الكذاب قبيح،

____________

(1) الجبائي: هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي يكنى بأبي علي وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه تنسب الطائفة الجبائية.


الصفحة 18
كما قلنا إن الكذب قبيح، فأما الكذب في غير ما يؤديه عن الله وسائر الكبائر فإنما دل المعجز على نفيها، من حيث كان دالا على وجوب اتباع الرسول وتصديقه فيما يؤديه، وقبوله منه، لأن الغرض في بعثة الأنبياء عليهم السلام، تصديقهم بالأعلام، المعجز هو أن يمتثل ما يأتون به، فما قدح في الامتثال والقبول وأثر فيهما، يجب أن يمنع المعجز منه، فلهذا قلنا: إنه يدل على نفي الكذب والكبائر عنهم في غير ما يؤدونه بواسطة، وفي الأول يدل بنفسه، فإن قيل: لم يبق إلا أن تدلوا على أن تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والامتثال، قلنا: لا شبهة في أن من نجوز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه الإقدام على الذنوب، لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئا من ذلك، وهذا هو معنى قولنا إن وقوع الكبائر منفر عن القبول، والمرجع فيما ينفر وما لا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه، وليس ذلك مما يستخرج بالأدلة والقياس، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه، وأنه من أقوى ما ينفر عن قبول القول، فإن حظ الكبائر في هذا الباب لم يزد على حد السخف والمجون والخلاعة ولم ينقص منه.

فإن قيل: أوليس قد جوز كثير من الناس على الأنبياء عليهم السلام الكبائر مع أنهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرايع، وهذا ينقض قولكم إن الكبائر منفرة.

قلنا: هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه، لأنا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق، وأن لا يقع امتثال الأمر جملة. وإنما أردنا ما فسرناه من أن سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه، وإنا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول. كما إنا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى قبول القول. وقد يقرب من الشئ ما لا يحصل الشئ عنده، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده، ألا ترى أن

الصفحة 19
عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجره وتبرمه منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول، ولا يخرجه من أن يكون منفرا، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من أن يكون مقربا، فدل على أن المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه، فإن قيل: فهذا يقتضي أن الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة، فمن أين أنها لا تقع منهم قبل النبوة، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم، ولم يبق وجه يقتضي التنفير.

قلنا: الطريقة في الأمرين واحدة، لأنا نعلم أن من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما، لا يكون حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذنوب، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا، وفي نفوسنا كحال من لم نعهد منه إلا النزاهة والطهارة، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور، ولهذا كثيرا ما يعير الناس. وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسكن إلى قبول قوله، كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه. ولهذا من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وإن وقعت التوبة منها، ويجعلون ذلك عيبا ونقصا وقادحا ومؤثرا. وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة، وناقصا عن رتبته في باب التنفير، وجب أن لا يكون فيه شئ من التنفير، لأن الشيئين قد يشتركان في التنفير، وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه. ألا ترى أن كثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماك فيهما منفر لا محالة، وأن القليل من السخف الذي لا يقع إلا في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضا، وإن فارق الأول في قوة النفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الأول من أن يكون منفرا في نفسه.


الصفحة 20
فإن قيل: فمن أين قلتم إن الصغائر لا تجوز على الأنبياء في حال النبوة وقبلها؟

قلنا: الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمل، لأنا كما نعلم أن من يجوز كونه فاعلا لكبيرة متقدمة قد تاب منها واقلع عنها ولم يبق معه شئ من استحقاق عقابها وذمها، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك. وكذلك نعلم أن من يجوز عليه الصغائر من الأنبياء (ع) أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوته أو قبلها، وإن وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوز عليه فعل شئ منها. فأما الاعتذار في تجويز الصغائر بأن العقاب والذم عنها ساقطان فليس بشئ، لأنه لا معتبر في باب التنفير بالذم والعقاب حتى يكون التنفير واقعا عليهما، ألا ترى أن كثيرا من المباحات منفر ولا ذم عليه ولا عقاب وكثيرا من الخلق والهيئات منفر وهو خارج عن باب الذم. على أن هذا القول يوجب على قائله تجويز الكبائر عليهم قبل البعثة، لأن التوبة والاقلاع قد أزالا الذم والعقاب اللذين يقف التنفير على هذا القول عليهما.

فإن قيل: كيف تنفر الصغاير وإنما حظها تقليل الثواب وتنقيصه؟ لأنها بكونها صغائر قد خرجت من اقتضاء الذم والعقاب، ومعلوم أن قلة الثواب غير منفرة. ألا ترون أن كثيرا من الأنبياء عليهم السلام قد يتركون كثيرا من النوافل مما لو فعلوه لاستحقوا كثيرا من الثواب، ولا يكون ذلك منفرا عنهم.

قلنا: إن الصغاير لم تكن منفرة من حيث قلة الثواب معها، بل إنما كانت كذلك من حيث كانت قبائح ومعاصي لله تعالى، وقد بينا أن الملجأ في باب المنفر إلى العادة والشاهد. وقد دللنا على أنهما يقتضيان بتنفير جميع الذنوب والقبائح على الوجه الذي بيناه.


الصفحة 21
وبعد: فإن الصغاير في هذا الباب بخلاف الامتناع من النوافل، لأنها تنقص ثوابا مستحقا ثابتا. وترك النوافل ليس كذلك. وفرق واضح في العادة بين الانحطاط عن رتبة ثبتت واستحقت، وبين قوتها. وإن لا تكون حاصلة جملة. ألا ترى أن من ولي ولاية جليلة وارتقى إلى رتبة عالية، يؤثر في حالة العزل عن تلك الولاية والهبوط عن تلك الرتبة، ولا يكون حاله هذه كحاله لو لم ينل تلك الولاية ولا ارتقى إلى تلك الرتبة. وهذا الكلام الذي ذكرناه يبطل قول من جوز على الأنبياء عليهم السلام الصغائر على اختلاف مذاهبهم في تجويز ذلك عليهم على سبيل العمد أو التأويل. إلا أن أبا علي الجبائي ومن وافقه في قوله إن ذنوب الأنبياء لا تكون عمدا، وإنما يقدمون عليها تأويلا، ويمثل لذلك بقصة آدم (ع)، فإنه نهي عن جنس الشجرة دون عينها فتأول فظن أن النهي يتناول العين، فلم يقدم على المعصية مع العلم بأنها معصية قد ناقض، فإنه إنما ذهب إلى هذا المذهب تنزيها للأنبياء عليهم السلام، واعتقادا أن تعمد المعصية مع العلم يوجب كبرها، فنزهه عن معصية وأضاف إليه معصيتين، لأنه مخطئ على مذهبه في الإعراض عن تأمل مقتضى النهي، وهل يتناول الجنس أو العين لأن ذلك واجب عليه ومخطئ في التناول من الشجرة، وهاتان معصيتان.

وبعد: فإن تعمد المعصية ليس يجب أن يكون مقتضيا لكبرها لا محالة، لأنها لا يمتنع أن يكون مع التعمد لصاحبها من الخوف والوجل ما يوجب صغرها، ويمنع من كبرها. وليس له أن يقول إن النظر فيما كلفه من الامتناع من الجنس أو النوع لم يكن واجبا عليه، لأن ذلك إن لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلفا، وكيف يكون تناوله معصية؟ ولا بد على هذا من أن يخطر الله تعالى بباله ما يقتضي وجوب النظر في ذلك عليه. وإذا وجب عليه النظر ولم يفعله فقد تعمد الاخلال بالواجب، ولا فرق في باب التنفير بين الإقدام على المعصية والاخلال بالواجب. فإذا جاز عنده أن يتعمد الاخلال

الصفحة 22
بالواجب ولا يكون منه كبيرا، جاز أن يتعمد منه نفس التناول ولا يكون منه كبيرا.

فأما ما حكيناه عن النظام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما، من أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام تقع منهم على سبيل السهو والغفلة، وأنهم مع ذلك مؤاخذون بها، فليس بشئ، لأن السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من أن يكون ذنبا مؤاخذا به، ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم. وحصول السهو في أنه مؤثر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والأدلة، فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء في صحة تكليفهم مع السهو، جاز أن يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه وهذا واضح، فأما الطريق الذي به يعلم أن الأئمة عليهم السلام لا يجوز عليهم الكبائر في حال الإمامة، فهو أن الإمام إنما احتيج إليه لجهة معلومة، وهي أن يكون المكلفون عند وجوده أبعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب على ما دللنا عليه في غير موضع، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة.

فيه. وموجبة وجود إمام يكون إماما له، والكلام في إمامته كالكلام فيه، وهذا يؤدي إلى وجود ما لا نهاية له من الأئمة وهو باطل أو الانتهاء إلى إمام معصوم وهو المطلوب.

ومما يدل أيضا على أن الكبائر لا تجوز عليهم، أن قولهم قد ثبت أنه حجة في الشرع كقول الأنبياء (ع)، بل يجوز أن ينتهي الحال إلى أن الحق لا يعرف إلا من جهتهم، ولا يكون الطريق إليه إلا من أقوالهم على ما بيناه في مواضع كثيرة، وإذا ثبت هذا جملة جروا مجرى الأنبياء (ع) فيما يجوز عليهم وما لا يجوز، فإذا كنا قد بينا أن الكبائر والصغائر لا يجوزان على الأنبياء (ع) قبل النبوة ولا بعدها، لما في ذلك من التنفير عن قبول أقوالهم، ولما في تنزيههم عن ذلك من السكون إليهم، فكذلك يجب أن يكون الأئمة

الصفحة 23
عليهم السلام منزهين عن الكبائر والصغائر قبل الإمامة وبعدها، لأن الحال واحدة.

وإذ قد قدمنا ما أردنا تقديمه في هذا الباب فنحن نبتدئ بذكر الكلام على ما تعلقوا به من جواز الكبائر على الأنبياء (ع) من الكتاب.