الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى 

موضوعا أو يكون الغرض فيه غير ما ظنه القوم من الاعتراف بالخطأ في التحكيم. فقد روي عنه عليه السلام معنى هذا الخبر وتفسير مراده منه، ونقل من طرق معروفة موجودة في كتب أهل السير، انه عليه السلام لما سئل عن مراده بهذا الكلام، قال كتب إلي محمد بن أبي بكر بأن اكتب له كتابا في القضاء يعمل عليه، فكتبت له ذلك وانفذته إليه، فاعترضه معاوية فأخذه، فأسف (ع) على ظفر عدوه بذلك، واشفق من أن يعمل بما فيه من الاحكام، وتوهم ضعفة أصحابه ان ذلك من علمه ومن عنده، فتقوى الشبهة به عليهم. وهذا وجه صحيح يقتضي التأسف والتندم، وليس في الخبر المتضمن للشعر ما يقتضي ان تندمه كان على التحكيم دون غيره. فإذا جاءت رواية بتفسير ذلك عنه (ع)، كان الاخذ بها أولى.

 

في أن قتله للخوارج كان بعهد من رسول الله:

(مسألة): فإن قيل فما الوجه فيما فعله أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام عند حربه للخوارج يوم النهروان من رفعه رأسه إلى السماء ناظرا إليها تارة والى الأرض أخرى وقوله (ع): والله ما كذبت ولا كذبت. فلما قتلهم وفرغ من الحرب، قال له ابنه الحسن (ع): يا أمير المؤمنين أكان رسول الله صلى الله عليه وآله تقدم إليك في هؤلاء بشئ؟. قال: لا ولكن أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله بكل حق، ومن الحق أن أقاتل المارقين والناكثين والقاسطين. أوليس قد تعلق بهذا النظام في كتابه المعروف بالنكت. وقال هذا توهيم منه (ع) لأصحابه أن رسول الله قد تقدم إليه في أن الخوارج سيخالفوه ويقتلهم، إذ يقول والله ما كذبت ولا كذبت.

(الجواب): إنا لا ندري كيف ذهب على النظام كذب هذه الرواية، يعني التضمنة لقوله (ع) انه لم يتقدم الرسول إليه في ذلك بشئ، إن كان النظام رواها ونقلها، أم كيف استجاز ان يضيفها إليه (ع) إن كان تخرصها؟

وكيف ظن أن مثل ذلك يخفى على أحد مع ظهور الحال وتواتر الروايات عنه

الصفحة 201
عليه السلام بالانذار لقتال أهل النهروان وكيفيته، والاشعار بقتل المخدج ذي الثدية، وإنما كان عليه السلام ينظر إلى السماء ثم إلى الأرض ويقول ما كذبت ولا كذبت استبطاء لوجود المخدج، لأنه (ع) عند قتل القوم أمر بطلبه في جملة القتلى، فلما طال الامر في وجوده واشفق (ع) من وقوع شبهة من ضعفة أصحابه فيما كان يخبر به وينذر من وجوده فقلق (ع) لذلك واشتد همه وكرر قوله ما كذبت ولا كذبت، إلى أن أتاح الله وجوده والظفر به بين القتلى على الهيئة التي كان (ع) ذكرها، فلما احضروه إياه كبر (ع) واستبشر بزوال الشبهة في صحة خبره.

وقد روى من طرق مختلفة وجهات كثيرة عنه (ع) الانذار بقتال الخوارج وقتل المخدج على صفته التي وجد عليها، وأنه عليه السلام كان يقول لأصحابه أنهم لا يعبرون النهر حتى يصرعوا دونه، وأنه لا يقتل من أصحابه إلا دون العشرة، ولا يبقى من الخوارج إلا دون العشرة، حتى أن رجلا من أصحابه قال له يا أمير المؤمنين ذهب القوم وقطعوا النهر.

فقال (ع) لا والله ما قطعوه ولا يقطعونه حتى يقتلوا دونه عهدا من الله ورسوله. فكيف يستشعر عاقل ان ذلك من غير علم ولا اطلاع من الرسول صلى الله عليه وآله على وقوعه وكونه.

وقد روي عن ابن أبي عبيدة اليماني لما سمعه (ع) يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بقتال الخوارج قبل ذلك بمدة طويلة وقتل المخدج، شك فيه لضعف بصيرته فقال له: أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك؟ فقال أي ورب الكعبة مرات.

وقد روي أمر الخوارج وقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم وانذار الرسول صلى الله عليه وآله بذلك جماعة من الصحابة، لولا أن في ذكر ذلك خروجا عن غرض الكتاب لذكرناه، حتى أن عائشة روت ذلك فيما رفعه عامر عن مسروق

الصفحة 202
قال: دخلت على عائشة، فقالت من قتل الخوارج؟ قلت قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام. فسكتت. فقلت لها يا أمة أسألك بحق الله وحق نبيه وحقي، فإني لك ولد إن كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيهم شيئا لما اخبرتنيه. قالت سمعت رسول الله يقول هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة.

وعن مسروق أيضا عن عائشة أنها قالت من قتل ذا الثدية؟ قلت علي بن أبي طالب. قالت لعن الله عمرو بن العاص، فإنه كتب إلي يخبرني انه قتله بالإسكندرية، إلا أنه لا يمنعني ما في نفسي ان أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه سمعته يقول يقتلهم خير أمتي بعدي.

وروى فضالة بن أبي فضيلة وهو ممن كان شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا، قال اشتكى أمير المؤمنين عليه السلام بينبع شكاة ثقل منها، فخرج أبي يعوده، فخرجت معه، فلما دخل عليه قال لا تخرج إلى المدينة، فإن أصابك اجلك شهدك أصحابك وصلوا عليك وإنك هاهنا بين ظهراني اعراب جهينة. فقال عليه السلام اني لا أموت من مرضي هذا لأنه فيما عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وآله اني لا أموت حتى أؤمر واقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وحتى تخضب هذه من هذا وأشار (ع) إلى لحيته ورأسه.

وذكر المروي في هذا الباب يطول والامر في اخباره عليه السلام بقصة الخوارج وقتاله (ع) لهم وانذاره بذلك ظاهرا جدا.

 

بيان أن عليا قد يعرض في كلامه خدعة الحرب:

(مسألة): فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه السلام من قوله: إذا حدثتكم عن رسول الله بحديث فهو كما حدثتكم، فوالله لان أخر من السماء أحب إلي من أن اكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله. وإذا سمعتموني احدث فيما بيني وبينكم، فإنما الحرب خدعة. وأليس هذا مما نفاه النظام أيضا وقال لم

الصفحة 203
يحدثهم عن رسول الله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك، وذكر ان هذا يجري مجرى التدليس في الحديث.

(الجواب): قلنا إن أمير المؤمنين عليه السلام لفرط احتياطه بالدين وتخشنه فيه وعلمه بأن المخبر ربما دعته الضرورة إلى ترك التصريح واستعمال التعريض، أراد ان يميز للسامعين بين الامرين ويفصل لهم بين ما لا يدخل فيه التعريض من كلامه مما باطنه كظاهره، وبين ما يجوز ان يعرض فيه للضرورة، وهذا نهاية الحكمة منه وإزالة اللبس والشبهة، ويجري البيان والايضاح بالضد فيما يوهمه النظام من دخوله في باب التدليس في الحديث، لان المدلس يقصد إلى الابهام ويعدل عن البيان والايضاح طلبا لتمام غرضه. وهو عليه السلام ميز بين كلامه وفرق بين أنواعه حتى لا تدخل الشبهة فيه على أحد. واعجب من هذا كله قوله انه لو لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالمعاريض لما اعتذر من ذلك، لأنه ما اعتذر كما ظنه، وانما نفى ان يكون التعريض مما يدخل روايته عن رسول الله. كما أنه ربما دخل ما يخبر به عن نفسه قصدا للايضاح، ونفي الشبهة. وليس كل من نفى عن نفسه شيئا واخبر عن براءته منه فقد فعله. وقوله عليه السلام لان أخر من السماء يدل على أنه ما فعل ذلك ولا يفعله، وإنما نفاه حتى لا يلتبس على أحد خبره عن نفسه، ومما يجوز فيه مما يرويه ويسنده إلى رسول الله.

 

في قوله ما حدثني أحد عن الرسول إلا استحلفته:

(مسألة): فإن قيل فما الوجه فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام من أنه قال كنت إذا حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وآله بحديث استحلفته بالله أنه سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله فإن حلف صدقته وإلا فلا.

وحدثني أبو بكر وصدقني، أوليس هذا الخبر مما طعن به النظام وقال لا يخلو المحدث عنده من أن يكون ثقة أو متهما. فإن كان ثقة فما معنى

الصفحة 204
الاستحلاف؟ وإن كان متهما فكيف يتحقق قول المتهم بيمينه؟ وإذا جاز ان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بالباطل جاز ان يحلف على ذلك بالباطل؟.

(الجواب): قلنا هذا خبر ضعيف مدفوع مطعون على اسناده، لان عثمان بن المغيرة رواه عن علي بن ربيعة الوالبي عن أسماء بن الحكم الفزاري. قال سمعت عليا عليه السلام يقول كذا وكذا وأسماء بن الحكم هذا مجهول عند أهل الرواية لا يعرفونه ولا روي عنه شئ من الأحاديث غير هذا الخبر الواحد.

وقد روي أيضا من طريق سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقري عن أخيه عن جده أبي سعيد رواه هشام بن عمار والزبير بن بكار عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد عن أخيه عبد الله بن سعيد عن جده عن أمير المؤمنين عليه السلام. وقال الزبير عن سعد بن سعيد أنه ما أرى أخبث منه. وقال أبو عبد الرحمن الشيباني: عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقري متروك الحديث. وقال يحيى بن معين انه ضعيف. ورووه من طريق أبي المغيرة المخزومي عن ابن نافع عن سليمان بن يزيد عن المقري وأبو مغيرة المخزومي مجهول لا يعرفه أكثر أهل الحديث. ورووه من طريق عطا بن مسلم عن عمارة عن محرز عن أبي هريرة عن أمير المؤمنين عليه السلام قالوا: محرز لم يسمع من أمير المؤمنين (ع) بل لم يره، وعمارة وهو عمارة بن حريز وهو ابن هارون العبدي، قيل أنه متروك الحديث. ومما ينبئ عن ضعف هذا الحديث واختلاله ان من المعروف الظاهر أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يرو عن أحد قط حرفا غير النبي صلى الله عليه وآله. وأكثر ما يدعى عليه من ذلك هذا الخبر الذي نحن في الكلام عليه. وقوله ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا استحلفته، يقتضي ظاهره أنه قد سمع اخبارا عنه (ع) من جماعة من الصحابة. والمعلوم خلاف ذلك. واما تعجب النظام من الاستحلاف ففي غير موضعه، لأنا نعلم أن في عرض اليمين تهيبا لمن

الصفحة 205
عرضت عليه وتذكيرا بالله تعالى وتخويفا من عقابه، سواء كان من تعرض والاقدام عليها يزيدنا في الثقة بصيرة، وربما قوى ذلك حال الظنين لبعد الاقدام على اليمين الفاجرة، ولهذا نجد كثيرا من الجاحدين للحقوق متى عرضت عليهم اليمين امتنعوا منها وأقروا بها بعد الجحود واللجاج. ولهذا استظهر في الشريعة باليمين على المدعى عليه، وفي القاذف زوجته بالتلفظ باللعان. ولو أن ملحدا أراد الطعن على الشريعة واستعمل من الشبهة ما استعمله النظام، فقال اي معنى لليمين في الدعاوى، والمستحلف إن كان ثقة فلا معنى لاحلافه، وإن كان ظنينا متهما فهو بأن يقدم على اليمين أولى.

وكذلك في القاذف زوجته لما كان له جواب إلا ما أجبنا به النظام، وقد ذكرناه.

وقد حكي عن الزبير بن بكار في هذا الخبر تأويل قريب وهو أنه قال:

كان أبو بكر وعمر إذا جاءهما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يعرفانه لا يقبلاه حتى يأتي مع الذي ذكره آخر، فيقوما مقام الشاهدين. قال فأقام أمير المؤمنين عليه السلام اليمين مع دعوى المحدث مقام الشاهد مع اليمين في الحقوق، كما أقاما الرواية في طلب شاهدين عليهما مقام باقي الحقوق.

فان قيل أوليس هذا الحديث إذا سلمتوه واخذتم في تأويله يقتضي ان أمير المؤمنين عليه السلام ما كان يعلم الشئ الذي يخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وانه كان يستفيده إلا من المخبر، ولولا ذلك لما كان لاستحلافه معنى؟ وهذا يوجب انه (ع) كان غير محيط بعلم الشريعة على ما يذهبون إليه؟.

قلنا: قد بينا الجواب عن هذه الشبهة في كتابنا الملقب بالشافي في الإمامة، وذكرنا انه (ع) وإن كان عالما بصحة ما اخبره به المخبر، وأنه من الشرع، فقد يجوز ان يكون المخبر له به ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله، وإن

الصفحة 206
كان من شرعه، ويكون كاذبا في ادعائه السماع، فكان يستحلفه لهذه العلة.

وقلنا أيضا لا يمتنع ان يكون ذلك انما كان منه (ع) في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الأحوال لم يكن محيطا بجميع الاحكام، بل كان يستفيدها حالا بعد حال.

فان قيل: كيف خص أبا بكر في هذا الباب بما لم يخص به غيره؟

قلنا: يحتمل ان يكون أبو بكر حدثه بما علم أنه سمعه من الرسول وحضر تلقيه له من جهته صلى الله عليه وآله، فلم يحتج إلى استحلافه لهذا الوجه.

 

في حكمه بعد غنيمة المال والذرية:

(مسألة): فإن قيل فما الوجه فيما ذكره النظام في كتابه المعروف بالنكت من قوله العجب مما حكم به علي بن أبي طالب في حرب أصحاب الجمل، لأنه (ع) قتل المقاتلة ولم يغنم، فقال له قوم من أصحابه إن كان قتلهم حلالا فغنيمتهم حلال، وإن كان قتلهم حراما فغنيمتهم حرام فكيف قتلت ولم تسب؟ فقال (ع) فأيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ فقال قوم إن عائشة تصان لرسول الله صلى الله عليه وآله؟ فنحن لا نغنمها ونغنم من ليس سبيله من رسول الله صلى الله عليه وآله سبيلها، قال فلم يجبهم إلى شئ من ذلك.

فقال له عبد الله بن وهب الراسبي: أليس قد جاز ان يقتل كل من حارب مع عائشة ولا تقتل عائشة؟ قال بلى قد جاز ذلك وأحله الله عز وجل. فقال له عبد الله بن وهب: فلم لا جاز ان نغنم غير عايشة ممن حاربنا ويكون غنيمة عايشة غير حلال لنا فيما تدفعنا عن حقنا. فأمسك (ع) عن جوابه وكان هذا أول شئ حقدته الشراة على علي عليه الصلاة والسلام؟

(الجواب): قلنا ليس يشنع أمير المؤمنين عليه السلام ويعترضه في الاحكام الا من قد أعمى الله قلبه وأضله عن رشده، لأنه المعصوم الموفق المسدد على ما دلت عليه الأدلة الواضحة. ثم لو لم يكن كذلك وكان على

الصفحة 207
ما يعتقده المخالفون، أليس هو الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وآله بأنه (ع) اقضي الأمة واعرفها بأحكام الشريعة؟ وهو الذي شهد صلى الله عليه وآله له بأن الحق معه يدور كيف ما دار؟ فينبغي لمن جهل وجه شئ فعله (ع) ان يعود على نفسه باللوم ويقر عليها بالعجز والنقص، ويعلم ان ذلك موافق للصواب والسداد، وإن جهل وجهه وضل عن علته. وهذه جملة يغني التمسك بها عن كثير من التفصيل، واستعمال كثير من التأويل. وأمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل أهل القبلة إلا بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله.

وقد صرح (ع) بذلك في كثير من كلامه الذي قد مضى حكاية بعضه، ولم يسر فيهم إلا بما عهده إليه من السيرة. وليس بمنكر ان يختلف احكام المحاربين فيكون منهم من يقتل ولا يغنم. ومنهم من يقتل ولا يغنم. لان احكام الكفار في الأصل مختلفة مقاتلو أمير المؤمنين عليه السلام عندنا كفار لقتالهم له. وإذا كان في الكفار من يقر على كفره ويؤخذ الجزية منه، ومنهم من لا يقر على كفره ولا يقعد عن محاربته، إلى غير ذلك مما اختلفوا فيه من الاحكام جاز أيضا ان يكون فيهم من يغنم ومن لا يغنم، لان الشرع لا ينكر فيه هذا الضرب من الاختلاف.

وقد روي أن مرتدا على عهد أبي بكر يعرف بعلانة ارتد، فلم يعرض أبو بكر لما له. وقالت امرأته ان يكن علانة ارتد فانا لم نرتد. وروي مثل ذلك في مرتد قتل في أيام عمر بن الخطاب، فلم يعرض لما له. وروي ان أمير المؤمنين عليه السلام قتل مستوردا العجلي ولم يعرض لميراثه.

فالقتل ووجوبه ليس بامارة على تناول المال واستباحته، على أن الذي رواه النظام من القصة محرف معدول عن الصواب، والذي تظاهرت به الروايات ونقله أهل السير في هذا الباب من طرق مختلفة، أن أمير المؤمنين عليه السلام لما خطب بالبصرة وأجاب عن مسائل شتى سئل عنها، واخبر بملاحم وأشياء تكون بالبصرة، قام إليه عمار بن ياسر رضي الله عنه فقال

الصفحة 208
يا أمير المؤمنين، ان الناس يكثرون في أمر الفئ ويقولون من قاتلنا فهو وماله وولده فئ لنا. وقام رجل من بكر بن وايل يقال له عباد بن قيس، فقال يا أمير المؤمنين والله ما قسمت بالسوية ولا عدلت في الرعية، فقال عليه السلام ولم ويحك؟ قال لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية. فقال أمير المؤمنين (ع): يا أيها الناس من كانت به جراحة فليداوها بالسمن. فقال عباد بن قيس جئنا نطلب غنائمنا فجاءنا بالترهات.

فقال عليه السلام ان كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى يدركك غلام ثقيف. فقال رجل يا أمير المؤمنين ومن غلام ثقيف؟ فقال رجل لا يدع لله حرمة الا انتهكها. فقال له الرجل أيموت أو يقتل؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام بل يقصمه قاصم الجبارين يخترق سريره لكثرة ما يحدث من بطنه، يا أخا بكر أنت امرؤ ضعيف الرأي، أما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، وان الأموال كانت بينهم قبل الفرقة يقسم ما حواه عسكرهم، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم، فإن عدا علينا أحد اخذناه بذنبه، وان كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره. يا أخا بكر والله لقد حكمت فيكم بحكم رسول الله صلى الله عليه وآله من أهل مكة قسم ما حواه العسكر، ولم يعرض لما سوى ذلك. وانما اقتفينا اثره حذو النعل بالنعل. يا أخا بكر، اما علمت أن دار الحرب يحل ما فيها، ودار الهجرة محرم ما فيها إلا بحق، مهلا مهلا رحمكم الله فإن أنتم أنكرتم ذلك علي، فأيكم يأخذ أمه عايشة بسهمه؟ قالوا يا أمير المؤمنين أصبت واخطأنا وعلمت وجهلنا، أصاب الله بك الرشاد والسداد.

فاما قول النظام ان هذا أول ما حقدته الشراة عليه فباطل، لان الشراة ما شكوا قط فيه عليه السلام ولا ارتابوا بشئ من افعاله قبل التحكيم الذي منه دخلت الشبهة عليهم، وكيف يكون ذلك وهم الناصرون له بصفين والمجاهدون بين يديه والسافكون دماءهم تحت رايته. وحرب صفين كانت

الصفحة 209
بعد الجمل بمدة طويلة فكيف يدعى ان الشك منهم في أمره كان ابتداءه في حرب الجمل لولا ضعف البصائر؟

 

في أن الزبير لم يلحق بعلي وهو لم يقتل قاتله:

(مسألة): فإن قيل فما الوجه ذكره النظام من أن ابن جرموز لما أتى أمير المؤمنين عليه السلام برأس الزبير وقد قتله بوادي السباع، قال أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما كان ابن صفية بجبان، ولا لئيم، لكن الحين ومصارع السوء. فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنين. فقال (ع) سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار. فخرج ابن جرموز وهو يقول:


أتيت عليا برأس الزبير وكنت أرجى به الزلفة
فبشر بالنار قبل العيان فبئس البشارة والتحفة
فقلت له ان قتل الزبير لولا رضاك من الكلفة
فان ترض ذاك فمنك الرضا وإلا فدونك لي حلفة
ورب المحلين والمحرمين ورب الجماعة والألفة
لسيان عندي قتل الزبير وضرطة عنز بذي الجحفة

قال النظام، وقد كان يجب على علي عليه السلام أن يقيده بالزبير وكان يجب على الزبير إذ بان أنه على خطأ أن يلحق يعلي فيجاهد معه (الجواب): أنه لا شبهة في أن الواجب على الزبير أن يعدل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أو ينحاز إليه ويبذل نصرته لا سيما إن كان رجوعه على طريق التوبة والإنابة. ومن أظهر ما أظهر من المباينة والمحاربة إذا تاب وتبين خطأه يجب عليه أن يظهر ضد ما كان أظهره لا سيما وأمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحال مصاف لعدوه ومحتاج إلى نصرة من هو دون الزبير

الصفحة 210
في الشجاعة والنجدة، وليس هذا موضع استقصاء ما يتصل بهذا المعنى وقد ذكرناه في كتابنا الشافي المقدم ذكره.

فأما أمير المؤمنين، فإنما عدل أن يقيد ابن جرموز بالزبير لاحد أمرين:

إن كان ابن جرموز قتله غدرا وبعد أن آمنه وقتله بعد أن ولى مدبرا، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أمر أصحابه أن لا يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح فلما قتل ابن جرموز مدبرا كان بذلك عاصيا مخالفا لامر إمامه، فالسبب في أنه لم يقيده به أن أولياء الدم الذين هم أولاد الزبير لم يطالبوا بذلك ولا حكموا فيه وكان أكبرهم والمنظور إليه منهم عبد الله محاربا لأمير المؤمنين عليه السلام، مجاهرا له بالعداوة والمشاقة فقد أبطل بذلك حقه، لأنه لو أراد أن يطالب به لرجع عن الحرب وبايع وسلم ثم طالب بعد ذلك فانتصف له منه.

وإن كان الامر الآخر وهو ان يكون ابن جرموز ما قتل الزبير الا مبارزة من غير غدر ولا أمان تقدم على ما ذهب إليه قوم، فلا يستحق بذلك قودا ولا مسألة ها هنا في القود.

فإن قيل فعلى هذا الوجه ما معنى بشارته بالنار؟

قلنا، المعنى فيها الخبر عن عاقبة أمره، لان الثواب والعقاب إنما يحصلان على عواقب الاعمال وخواتيمها، وابن جرموز هذا خرج مع أهل النهروان على أمير المؤمنين عليه السلام، فقتل هناك. فكان بذلك الخروج من أهل النار لا بقتل الزبير.

فإن قيل: فأي فائدة لإضافة البشارة بالنار إلى قتل الزبير وقتله طاعة وقربة، وإنما يجب ان تضاف البشارة بالنار إلى ما يستحق به النار قلنا: عن هذا جوابان:

أحدهما: أنه (عليه السلام) أراد التعريف والتنبيه، وإنما يعرف

الصفحة 211
الانسان بالمشهور من أفعاله، والظاهر من أوصافه، وابن جرموز كان غفلا خاملا، وكان فعله بالزبير من أشهر ما يعرف به مثله وهذا وجه في التعريف صحيح.

والجواب الثاني: ان قتل الزبير إذا كان باستحقاق على وجه الصواب من أعظم الطاعات وأكبر القربات، ومن جرى على يده يظن به الفوز بالجنة، فأراد (عليه السلام) أن يعلم الناس أن هذه الطاعة العظيمة التي يكثر ثوابها إذا لم تعقب بما يفسده غير نافعة لهذا القاتل، وأنه سيأتي من فعله في المستقبل ما يستحق به النار، فلا تظنوا به لما اتفق على يده من هذه الطاعة خيرا. وهذا يجري مجرى أن يكون لاحدنا صاحب خصيص به خفيف في طاعته مشهور بنصيحته، فيقول هذا المصحوب بعد برهة من الزمان لمن يريد أطرافه وتعجبه: أوليس صاحبي فلان الذي كانت له من الحقوق كذا وكذا، وبلغ من الاختصاص بي إلى منزلة كذا قتلته وأبحت حريمه وسلبت ماله؟ وإن كان ذلك انما استحقه بما تجدد منه في المستقبل، وانما عرف بالحسن من أعماله على سبيل التعجب وهذا واضح.

 

في الاحكام المدعى مخالفة علي فيها لمن سواه:

(مسألة): فإن قيل فما الوجه فيما عابه النظام به عليه السلام من الاحكام التي داعى أنه خالف فيها جميع الأمة، مثل بيع أمهات الأولاد وقطع يد السارق من أصول الأصابع ودفع السارق إلى الشهود، وجلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا في خلافة عثمان وجهره بتسمية الرجال في القنوت وقبوله شهادة الصبيان بعضهم على بعض، والله تعالى يقول:

(وأشهدوا ذوي عدل منكم) وأخذه (عليه السلام) نصف دية الرجل من أولياء المرأة وأخذه نصف دية العين من المقتص من الأعور وتخليفه رجلا يصلى العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم، وأنه (عليه السلام) أحرق رجلا أتى غلاما في دبره، وأكثره ما أوجب على من فعل هذا الفعل الرجم،

الصفحة 212
وأنه أوتى بمال من مهور البغايا فقال عليه السلام ارفعوه حتى يجئ عطاء غني وباهلة. فقال النظام لم خص بهذا غنيا وباهلة؟ فان كانوا مؤمنين فمن عداهم من المؤمنين كهم في جواز تناول هذا المال وان كانوا غير مؤمنين فكيف يأخذون العطاء مع المؤمنين؟ قال وذلك المال وإن كان من مهور البغايا أو بيع لحم الخنازير بعد أن تملكه الكفار ثم يبيحه الله على المؤمنين فهو حلال طيب للمؤمنين.

(الجواب): إنا قد بينا قبل هذا الموضع أنه لا يعترض على أمير المؤمنين عليه السلام في أحكام الشريعة ويطمع فيه من عثرة أو زلة إلا معاند لا يعرف قدره، ومن شهد له النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه أقضى الأمة وان الحق معه كيف ما دار، وضرب بيده على صدره وقال: اللهم أهد قلبه وثبت لسانه لما بعثه إلى اليمن حتى قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فما شككت في قضاء بين اثنين. وقال النبي فيه: " انا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب " لا يجوز أن يعترض أحكامه عليه السلام، ولا يظن بها إلا الصحة والسداد. وأعجب من هذا كله الطعن على هذه الأحكام وأشباهها بأنها خلاف الاجماع وأي إجماع ليت شعري يكون وأمير المؤمنين عليه السلام خارج منه ولا أحد من الصحابة الذين لهم في الاحكام مذاهب وفتاوى وقيام، إلا وقد تفرد بشئ لم يكن له عليه موافق، وما عد مذهبه خروجا عن الاجماع ولولا التطويل لذكرنا شرح هذه الجملة ومعرفتها وظهورها بغنينا عن تكلف ذلك ولو كان للطعن على أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الأحكام مجال وله وجه لكان أعداؤه من بني أمية والمتقربين إليهم من شيعتهم بذلك أخبر وإليه اسبق، وكانوا يعيبونه عليه ويدخلونه في جملة مثالبهم ومعايبهم التي تمحلوها، ولما تركوا ذلك حتى يستدركه النظام بعد السنين الطويلة وفى أضرابهم عن ذلك دليل على أنه لا مطعن بذلك ولا معاب.

وبعد، فكل شئ فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه الأحكام

الصفحة 213
وكان له مذهبا، ففعله له واعتقاده إياه هو الحجة فيه، وأكبر البرهان على صحته لقيام الأدلة على أنه عليه السلام لا يزل ولا يغلط ولا يحتاج إلى بيان وجوه زايدة على ما ذكرناه إلا على سبيل الاستظهار والتقرير على الخصوم وتسهيل طريق الحجة عليهم.

فأما بيع أمهات الأولاد فلم يسر فيهن إلا بنص الكتاب وظاهره، قال الله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) (1) ولا شبهة في أن أم الولد يطؤها سيدها بملك اليمين، لأنها ليست زوجة ولا هو عاد في وطئها إلى ما لا يحل، وإذا كانت مملوكة مسترقة بطل ما يدعونه من أن ولدها أعتقها، ويبين ذلك أيضا أنه لا خلاف في أن لسيدها أن يعتقها.

ولو كان الولد قد أعتقها لما صح ذلك، لان عتق المعتق محال. وهذه الجملة توضح عن بطلان ما يروونه من أن ولدها أعتقها، ثم يقال لهم أليس هذا الخبر لم يقتض أن لها جميع أحكام المعتقات، لأنه لو اقتضى ذلك لما جاز أن يعتقها السيد، ولا أن يطأها إلا بعقد، وانما اقتضى بعض أحكام المعتقات. فلابد من مزيل فيقال لهم: فما أنكرتم من أن مخالفكم يمكنه أن يستعمله أيضا على سبيل التخصيص كما استعملتموه، فنقول انه لو أراد بيعها لم يجز إلا في دين، وعند ضرورة، وعند موت الولد. فكأنها يجري مجرى المعتقات فيما لا يجوز بيعها فيه، وان لم يجز من كل وجه كما أجريتموها مجراهن في وجه دون آخر.

فأما قطع السارق من الأصابع فهو الحق الواضح الجلي، لان الله تعالى قال (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (2) واسم اليد يقع على جملة هذا العضو إلى المنكب، ويقع عليه أيضا إلى المرافق والى الزند والى

____________

(1) المعارج 29 - 31.

(2) المائدة 38.


الصفحة 214
الأصابع كل ذلك على سبيل الحقيقة. ولهذا يقول أحدهم أدخلت يدي في الماء إلى أصول الأصابع والى الزند والى المرفق والى المنكب، فيجعل كل ذلك غاية. وقال الله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) (1) ومعلوم أن الكتابة تكون بالأصابع، ولو يرى أحدنا قلما فعقرت السكين أصابعه لقيل قطع يده وعقرها ونحو ذلك. وقال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن) (2) ومعلوم أنهن ما قطعن اكفهن إلى الزند، بل على ما ذكرناه. وإذا كان الامر على ما ذكرناه ولم يجز ان يحمل اليد على كل ما تناولته هذه اللفظة حتى يقطع من الكتف على مذهب الخوارج، لان هذا باطل عند جميع الفقهاء، وجب ان نحمله على أدنى ما تناوله، وهو من أصول الأشاجع، والقطع من الأصابع أولى بالحكمة وأرفق بالمقطوع، لأنه إذا قطع من الزند فاته من المنافع أكثر مما يفوته إذا قطع من الأشاجع. وقد روي أن علي بن أصمع سرق عيبة لصفوان، فأتى به إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقطعه من أشاجعه، فقيل له يا أمير المؤمنين أفلا من الرسغ. فقال عليه السلام فعلى أي شئ يتوكأ وبأي شي يستنجي.

ومهما شككنا فإنا لا نشك في أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أعلم باللغة العربية من النظام وجميع الفقهاء والذين خالفوه في القطع، وأقرب إلى فهم ما نطق به القرآن. وان قوله (عليه السلام) حجة في العربية وقدوة، وقد سمع الآية وعرف اللغة التي نزل بها القرآن، فلم يذهب إلى ما ذهب إليه إلا عن خبرة ويقين.

واما دفع السارق إلى الشهود، فلا أدري من أي وجه كان عيبا وهل دفعه إليهم ليقطعوه إلا كدفعه إلى غيرهم ممن يتولى ذلك منه. وفي هذا فضل استظهار عليهم وتهييب لهم من أن يكذبوا فيعظم عليهم تولي ذلك منه

____________

(1) البقرة 79.

(2) يوسف 31.


الصفحة 215
ومباشرته بنفوسهم، وهذا نهاية الحزم والاحتياط في الدين.

وأما جلد الوليد بن عقبة أربعين سوطا فإن المروي انه عليه السلام جلده بنسعة لها رأسان فكان الحد ثمانين كاملة: وهذا مأخوذ من قوله تعالى:

(وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) (1).

واما الجهر بتسمية الرجال في القنوت فقد سبقه (عليه السلام) إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وتظاهرت الرواية بأنه (صلى الله عليه وآله) كان يقنت في صلاة الصبح ويلعن قوما من أعدائه بأسمائهم فمن عاب ذلك أو طعن به فقد طعن على أصل الاسلام وقدح في الرسول صلى الله عليه وآله.

واما قبول شهادة الصبيان فالاحتياط للدين يقتضيه، ولم ينفرد أمير المؤمنين عليه السلام بذلك، بل قد قال بقوله بعينه أو قريبا منه جماعة من الصحابة والتابعين. وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في شهادة الصبي يشهد بعد كبره، والعبد بعد عتقه، والنصراني بعد إسلامه أنها جائزة. وهذا قول جماعة من الفقهاء المتأخرين كالثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وروى مالك بن انس عن هشام بن عروة ان عبد الله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح. وروي عن هشام بن عروة أنه قال سمعت أبي يقول يجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض، يؤخذ بأول قولهم. وروي عن مالك بن أنس أنه قال: المجمع عليه عندنا يعني أهل المدينة أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح، ولا تجوز على غيرهم إذا كان ذلك قبل ان يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا، فإن تفرقوا فلا شهادة لهم إلا أن يكونوا قد اشهدوا عدولا على شهادتهم قبل ان يتفرقوا، ويوشك أن يكون الوجه في الاخذ بأوائل أقوالهم لان من عادة الصبي وسجيته إذا أخبر

____________

(1) ص 44.


الصفحة 216
بالبديهة ان يذكر الحق الذي عاينه، ولا يتعمل لتحريفه. وليس جميع الشهادات تراعى فيها العدالة. وجماعة من العلماء قد أجازوا شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد مسلم، وتأولوا لذلك قول الله عز وجل: (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) (1) وقد أجازوا أيضا شهادة النساء وحدهن فيما لا يجوز أنت تنظر إليه الرجال، وقبلوا شهادة القابلة. وانما أردنا بذكر قبول شهادة النساء، أن قوله تعالى (واشهدوا ذوي عدل منكم) مخصوص غير عام في جميع الشهادات. ألا ترى ان ذلك غير مانع من قبول اليمين مع شهادة الواحد.

وبعد فليس قوله تعالى (واشهدوا ذوي عدل منكم) بمقتض غير الامر بالشهادة على هذا الوجه، وليس بمانع من قبول شهادة غير العدلين ولا تعلق له بأحكام قبول الشهادات.

فاما أخذ نصف الدية من أولياء المرأة إذ أرادوا قتل الرجل بها فهو الصحيح الواضح الذي لا يجوز خلافه، لان دية المرأة (2) عشرة آلاف درهم ودية المرأة نصفها فإذا أراد أولياء المرأة قتل الرجل، فإنما يقتلون نفسا ديتها الضعف من دية مقتولهم، فلا بد إذا اختاروا ذلك من رد الفضل بين القيمتين ولهذا لو أراد أخذ الدية لم يأخذوا أكثر من خمسة آلاف درهم. وهكذا القول في أخذ نصف الدية من المقتص من الأعور، لان دية عين الأعور عشرة آلاف درهم ودية احدى عيني الصحيح خمسة آلاف درهم. فلا بد من الرجوع بالفضل على ما ذكرناه، وما أدري من أي وجه تطرق العيب في تخليفه عليه السلام من يصلي العيدين بالضعفاء في المسجد الأعظم، وذلك من رأفته (عليه السلام) بالضعفاء ورفقه بهم، وتوصله إلى أن يحظوا بفضل هذه الصلاة من غير تحمل مشقة الخروج إلى المصلى.

____________

(1) المائدة 106.

(2) هكذا وردت والأصوب (الرجل).


الصفحة 217
فأما ما حكاه من أحراقه اللوطي، فالمعروف أنه عليه السلام القى على الفاعل والمفعول به لما رآهما الجدار، ولو صح الاحراق لم ينكران يكون ذلك الشئ عرفه من الرسول صلى الله عليه وآله. وقد روى فهد بن سليمان عن القاسم بن أمية العدوي عن عمر بن أبي حفص مولى الزبير عن شريك عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة، أن أبا بكر أتى برجل ينكح فأمر به فضربت عنقه، ثم أمر به فأحرق ولعل أمير المؤمنين (عليه السلام) احرقه بالنار بعد القتل بالسيف كما فعل أبو بكر، وليس ما روي من الاحراق بمانع من أن يكون القتل متقدما له. وقد روي قتل المتلوطين من طرق مختلفة عن الرسول صلى الله عليه وآله وكذلك روي رجمهما.

روى داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اقتلوا الفاعل والمفعول به. وروي عبد العزيز عن ابن جريح عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) مثل ذلك. وعن عمر بن أبي عمير عن عكرمة عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال فيمن يوجد يعمل بعمل قوم لوط مثل ذلك. وروى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال الذي يعمل عمل قوم لوط ارجموا الاعلى والأسفل ارجموهما جميعا. وسئل ابن عباس ما حد اللوطي؟ ينظر إلى ارفع بناء في القرية فيرمى به منكسا. ثم يتبع بالحجارة. وروي ان عثمان اشرف على الناس يوم الدار، فقال: ألم تعلموا أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا أربعة: رجل قتل فقتل، ورجل زنى بعد ان أحصن، ورجل ارتد بعد إسلام، ورجل عمل عمل قوم لوط.

فلا شبهة على ما ترى في قتل اللوطي، ولا ريب في وجوب ذلك عليه. وكيف يتهم بحيف في حد يقيمه من يتحرى فيما يخصه هذا التحري المشهور. فيقول عليه السلام لما ضربه اللعين ابن ملجم أحسنوا أسره، فإن