الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى 

 

من العقلاء يستغني عن أن يكون له رئيس يأخذ على يده ويمنعه عن كثير مما يتسرع (1) بطباعه وهواه إليه من القبائح. وحكم سائر من يجوز عليه فعل القبيح من المكلفين حكم صاحب الضياع والأموال التي لا يتسع لتدبيرها والقيام بها، وكما أن من هذه حاله إذا ترك إقامة الوكيل والاستعانة به كان مفرطا مذموما موبخا (2) وأعقبه ذلك غاية الضرر فكذلك حال المكلفين متى خلوا من الرؤساء والأمراء.

وقوله: " فلا فرق بين من يدعي نصب إمام بهذه الطريقة... " إن أراد نصب الإمام المختص بالصفات التي يذكرها فقد تقدم أنا بهذه الطريقة وحدها لا نثبته، وإن أراد نصب رئيس في الجملة فهو الصحيح وقد أوضحناه.

فأما قوله: " على أنا قد بينا أن ما يكون طريقا لاجتلاب المنافع يحسن ولا يجب، وما يكون طريقا لدفع المضار قد يجب، وأن ذلك متعلق بغالب الظن، إلى آخر كلامه... (3) " فقد تقدم آنفا (4) ما يبطل ما ادعاه من اختصاص نصب الرؤساء بدفع المضار الدنياوية، واجتلاب المنافع العاجلة، ودلنا على أن للرئاسة تعلقا وكيدا بالدين بما لا يمكن دفعه.

فأما قوله: " وربما اجتمعوا على رئيس كافر، وربما اجتمعوا على رئيس مؤمن، ويحل ذلك محل اختلافهم في أغراضهم وشهواتهم، وما هذا حاله لا يجعل أصلا في باب الديانات، (5)... " فليس ننكر ما ذكره

____________

(1) يتسرع: يبادر.

(2) التوبيخ: التهديد والتأنيب.

(3) المغني 20 ق 1 / 31.

(4) آنفا: سالفا.

(5) المغني 20 / ق 1 / 31.


الصفحة 72
من جواز اجتماع الناس على رئيس كافر، ولا نمنع من أن تستقيم أحوالهم على رئاسته بعض الاستقامة، وليس ذلك بقادح في قولنا. لأنا نمنع من أن ينصب الله إماما كافرا لأمر يرجع إلى حكمته لا أن رئاسة الكافر لا يجوز أن تكون، إذ في المعلوم أن قوما يستقيمون عندها فيه [ و ] هذا - كما نقوله نحن وأنتم جميعا - لا يمتنع أن يعلم الله تعالى من بعض عباده أنه لا يؤمن إلا بأن يفعل - تعالى (1) - بعض القبائح. فنقول: إن ذلك لا يجوز أن يفعله، بل لا يحسن فكذلك القول في رئاسة الكافر، وكل هذا لا يمنع من صحة ما ذكرناه في وجوب الرئاسة على الجملة بل يؤكده.

فإن قيل: ما تقولون لو علم الله تعالى أن سائر المكلفين لا يصلحون ولا يستقيم حالهم إلا عند رئاسة كافر، أو عند رئاسة من ليست له هذه الصفات المخصوصة التي تدعونها للأئمة؟.

قيل له: إذا علم الله ذلك أسقط عن المكلفين ما الإمامة لطف فيه من التكليف، أو لم يخلقهم في الابتداء، ويجري مجراه أن يعلم الله سبحانه أن بعض المكلفين لا يصلح في شئ من تكاليفه، ولا يكون شئ من الأفعال الحسنة لطفا له، بل يعلم أن صلاحه ولطفه في فعل قبيح يفعله سبحانه، فكما أنا نوجب إسقاط التكليف عن هذا أو أن لا يخلق فكذلك نوجبه فيمن تقدم.

فأما ما طوله من الخاطر والتنبيه على النظر، إلى آخر كلامه في ذلك... (2) فليس مما نتعلق به ولا نعتمده، وقد أوضحنا عن وجه

____________

(1) الضمير في فعل يرجع إلى الله تعالى على سبيل الافتراض ولذلك قال رحمه الله بعد ذلك: " لا يجب أن يفعله بل لا يحسن ".

(2) من ص 31 ق 1 فما بعدها.


الصفحة 73
الحاجة إلى الإمام بما يغني عن غيره. وقد كنا قلنا فيما قبل: أنه ليس يجوز أن يوجب إقامة إمام لأمر يجوز أن يقوم غيره فيه مقامه، والتنبيه على النظر فيما يجوز عندنا أن يستغنى فيه عن الإمام وإن كان بعض أصحابنا تعلق بذلك تقريبا.

فأما ما ذكره وأطنب فيه (1) أيضا من شكر النعمة، وتعاطيه (2) إفساد قول من يدعي: أن الإمام يحتاج إليه لبيان كيفية الشكر لله تعالى فمما لا نرتضيه ولا نعتمده.

وقوله في آخر كلامه: " إن هذا التعليل لو صح [ لهم ] لما كان يوجب في كل عصر حجة لا محالة (3)، لأن بيان الرسول الواحد إذا انتشر بالتواتر في كيفية الشكر أغني عن حجة [ بعده ]... (4) " باطل لا يفسد بمثله المذهب الذي حكاه لأن ما بينه الرسول عن كيفية الشكر ليس مما يجب نقله لا محالة، ولو وجب نقله لم يجب على وجه التواتر الموجب للحجة لأنه لا يمتنع أن يعرض الناقلون أو أكثرهم عن النقل لداع يدعوهم إلى الإعراض، كما أنهم في الأصل لم ينقلوا ما نقلوه إلا لداع دعاهم إلى النقل، وإذا كان ذلك عليهم جائزا وغير ممتنع سقطت الحجة بالنقل وثبتت الحاجة إلى إمام مؤد لما وقع من بيان الرسول لأنه لو كان الأمر بخلاف ما ذكرناه، وعلى ما ظنه خصومنا لم يكن لله تعالى على من لم يشاهد زمن النبي حجة إذا كان النقل بالصورة التي ذكرناها، وهذا يبطل

____________

(1) أطنب فيه: بالغ في وصفه مدحا أو قدحا.

(2) تعاطى كذا: خاض فيه.

(3) المحالة: الحيلة والمراد هنا لا بد.

(4) المغني: 20 ق 1 / 35.


الصفحة 74
قوله: " إن التواتر يقوم مقام الإمام في بيان مراد الرسول (1) ".

فأما ما ذكره في السموم القاتلة، والأغذية المتبقية (2) فمما لا نعتمده أيضا في وجوب الحاجة إلى الأئمة ولو كان ذلك مما لا يستفاد بالتجربة والاختبار لما وجب الحاجة إلى الإمام في كل زمان، بل كان لا يمتنع أن ينبه عليه في الابتداء إمام واحد ويستغني من يأتي من بعده عن بيان الإمام لذلك بالنقل، وليس يجري هذا الوجه مجري ما ذكرناه قبل هذا الفصل في باب العبادات وشكر المنعم، وأنه غير ممتنع على الخلق أن يكتموا ما نبه الرسول عليه من ذلك لداع وغرض، وبين الأمرين فرق واضح. لأن ما يعلمه الناس من السموم القاتلة. والأغذية المصلحة. وما جرى مجراهما مما به قوام أبدانهم هم كالملجئين إلى نقله وإعلام أولادهم وأخلافهم (3) ومن يأتي بعدهم، مضرته ليجتنبوا منه المضر ويتناولوا المصلح. ويبعد بل يستحيل أن يكون لعاقل داع إلى كتمان ما جرى هذا المجرى، وليس بمستحيل ولا ممتنع أن يعرض الناس عن نقل العبادات وكثير من التكليفات لأغراض معقولة فلهذا جاز أن يستغنى عن المبين في كل وقت لأحوال السموم والأغذية وإن لم يجز أن يستغنى عنه في باب الدين والعبادات.

وأما قوله: " ويقال لهم: إن وقوع القتل بالسم ليس بواجب، وقد كان يجوز أن تتعلق الشهوة به فيصير غذاء، وأن تجري العادة فيه بخلاف ذلك فلا يكون قاتلا فما الذي يمنع أن يخلي الله المكلفين من حجة

____________

(1) ما بين القوسين معنى كلام القاضي لا حروفه.

(2) في الأصل " المقيئة " وأصلحناه من المغني.

(3) أخلافهم من يخلفهم، والخلف - بسكون اللام - القرن بعد القرن.


الصفحة 75
إذا كانت الحالة هذه، إلى آخر كلامه (1)... " فإنه لا يقدح في طريقة جعل الإمام مبينا لهذه الأمور، لأنهم إنما أوجبوا الحجة إليه من هذا الوجه بطبائع الانسان، وسائر الناس وعاداتهم على ما هي عليه، وما قدره صاحب الكتاب لا يصح إلا بانتقاض العادات، وخروج الناس عن طبائعهم المعروفة، ولهم أن يقولوا: إن تقديرك لو وقع لارتفعت الحاجة إلى الإمام في هذا الوجه وإن لم يرتفع من وجه آخر، كما أنا لو قدرنا عصمته جميع الخلق، وامتناع وقوع القبيح منهم لم يكن لهم حاجة إلى الإمام على بعض الوجوه ولم يمنع ذلك من القضاء بحاجتهم إليه إذا لم يكن هذه حالهم.

فأما قوله: " وبعد فإن ذلك يوجب الاستغناء بالرسول إذا بين بيانا يشتهر بطريقة التواتر هذه الأمور التي ذكروها، كما يستغنى الآن عن الإمام في وجوب الصلوات، فإن الفرض أن يستقبل القبلة (2) ويصلي بطهارة إلى غير ذلك... (3) " فقد بينا ما يصح أن يستغنى فيه بالتواتر وما لا يصح أن يستغنى بذلك فيه وفصلنا بين الأمرين.

فأما الإمام فليس يستغنى عنه في وجوب الصلوات إلى سائر ما ذكره على ما ظنه. لأن أصحابنا قد ذكروا وجوه الحاجة إليه في ذلك.

فمنها تأكيد العلوم وإزالة الشبهات.

ومنها أن يبين ذلك ويفصله، وينبه على مشكله وغامضه.

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 36.

(2) غ " الكعبة ".

(3) المغني 20 ق 1 / 36.


الصفحة 76
ومنها كونه من وراء الناقلين ليأمن المكلفون من أن يكون شئ من الشرع لم يصل إليهم.

ولو وجب أن يطلق الاستغناء عن الإمام في هذه الأمور من حيث كان لنا طريق يوصل إلى العلم بها من غير جهة لوجب على صاحب الكتاب وأهل مذهبه أن يطلقوا الاستغناء عن الرسول في جميع ما أداه إلينا مما علمناه قبل أدائه بالعقل، ومن أطلق بذلك خرج من جملة المسلمين.

وليس يمكن أن يمتنع منه ويحتج فيه إلا بمثل ما احتججنا به.

فأما قوله: " واعلم أن الذي أوجب هذا الخلاف الشديد (1) الذي هو أصل الكلام مع الإمامية (2) " إلى قوله: " لأن الرسول [ صلى الله عليه ] كما تغني مشاهدته وسماع كلامه في معرفة الأمور من قبله عن غيره في وقته فكذلك يجوز أن يستغنى بما يتواتر عنه من الأخبار في سائر ما يحتاج إليه عن إمام بعده بالصفة التي ذكروها (3)... " فقد مضى الكلام في أن التواتر لا يغني عن ذلك. والفصل بينه في الاستغناء به بعد الرسول وبين استغنائنا بمشاهدة الرسول وسماع كلامه في معرفة الأمور عن غيره واضح، لأنا نأمن في حال مشاهدته وسماع كلامه على من يكتم بعض ما يجب أداؤه، ويعرض عنه بشبهة وسهو. وما جرى مجراهما، فنستغني في حال مشاهدته بكلامه وبيانه لما ذكرناه، وليس كذلك الحال بعد وفاته، لأنا قد بينا أن الإعراض عن النقل بشبهة أو تعمد غير مأمون على

____________

(1) نتج هذا الخلاف الشديد خ ل.

(2) غ " في الإمامة ".

(3) المغني 20 ق 1 / 37.


الصفحة 77
الناقلين، فكيف يجوز أن يحمل إحدى الحالين على الأخرى مع تباعد بينهما.

فأما قوله: " ولذلك ارتكب بعضهم عند هذا الالزام القول بإبطال التواتر،... (1) " فهو سهو منه عجيب، لأنا لا نبطل - بحمد الله - التواتر، وهو عندنا الحجة في ثبوت السمعيات، وكيف نبطله وبه نحتج في النص على أعيان الأئمة، ومعجزات الأنبياء؟، فإن كان يظن إذا جوزنا على المتواترين الإعراض عن النقل بشبهة أو تعمد فقد أبطلنا التواتر، فقد وقع بعيدا، لأن الناقلين إنما يكونون متواترين إذا نقلوا أو أخبروا على وجه مخصوص، وعندنا أنهم إذا نقلوا الخبر على وجه التواتر كان نقلهم حجة، وتجويز الإعراض عن النقل عليهم لا يقدح في صحة التواتر، ولا يكون تجوزه عليهم مبطلا له.

فأما قوله: " وبعضهم ارتكب القول بجواز الكتمان على الخلق العظيم (2)، وارتكب بعضهم إبطال الاجماع (3) لأنهم رأوا مع القول بصحة هذه الأدلة أنه لا يصح تعلقهم بما قدمنا في أنه لا بد من حجة في كل

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 37.

(2) علق محقق المغني على هذه الجملة بقوله: " الأولى أن تحذف هذه الكلمة أو يضاف إليها ما تكمل به جملة " والجملة كاملة وهي أن بعضهم يرى أن الخلق وإن عظموا كثيرة يجوز عليهم كتمان ما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وآله لأمر ما.

(3) الاجماع في اللغة: العزم، وفي الشرع اتفاق العلماء، في وقت من الأوقات على شئ والاجماع - عند السنة - حجة كالنص المتواتر، وهو معتبر عند الشيعة بل أحد مصادر الفقه الأربعة وهي الكتاب والسنة والعقل والاجماع، لأن الاجماع يكشف عن رضاع المعصوم باعتبار أن أقوال التابعين تدل على قول المتبوع وأن المجمعين علماء أتقياء والتقوى تمنع من القول بلا علم فاللازم أن نؤمن بأن المجمعين ما أجمعوا إلا لوجود دليل معتبر عندهم وهو حجة بالرغم من جهل المنقول إليه العلم به، وقاعدة اللطف تقتضي أن إجماع العلماء لو كان خطأ لوجب أن يظهر الله سبحانه لهم الحق ليقربهم من الطاعة ويبعدهم من المعصية إلى غير ذلك من الأقوال، ولكن بعضهم يرى أن عد الاجماع من الأدلة فيه نوع من التسامح وما هو إلا راو وحاك لحكم من الكتاب والسنة والراوي لا يجوز الأخذ بقوله إلا بعد الوثوق والاطمئنان بالصدق وعدم الخطأ ولذا نرى أن بعضهم ضرب ببعض الاجماعات عرض الجدار إذا قام عنده الدليل بما يعارضها.


الصفحة 78
وقت، (1).... " فإنا لم نرتكب ما حكاه، بل ذهبنا إليه واعتقدناه للأدلة الباهرة التي قد ذكرنا بعضها.

وإنما يقال: ارتكب كذا وكذا فيما لا دليل عليه، وفيما يضطر المرتكب لزوم المحجة إلى ارتكابه. ولم نجوز الكتمان من حيث نضطر ليصح لنا ما ذكرناه، بل لأن الاعتبار كشف لنا عن جوازه عليهم.

فأما الاجماع فليس بباطل عندنا لأن الدليل قد دلنا على أن في جملة المجمعين معصوما. حجة لله تعالى، فليس يجوز أن ينعقد الاجماع على باطل من هذا الوجه، لا كما يدعيه المخالفون.

ثم يقال له: لكنك وأصحابك ارتكبتم أن الخلق لا يجوز عليهم الكتمان، وتجاوزتم ذلك إلى الجماعات، وادعيتم أيضا أن الأمة لا تجتمع على باطل بشبهة ولا تعمد (2) ليسلم لكم ما تريدون نصرته من الاستغناء عن الأئمة والحجج بعد الرسول صلى الله عليه وآله. ولأنكم رأيتم أن في تجويز ذلك على الأمة ونفي وجود الأئمة انسلاخا عن الدين، وخروجا عن الاسلام. وطريقنا إلى ارتفاع الثقة بشئ من العبادات

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 37.

(2) يشير إلى ما روي " لا تجتمع أمتي على ضلالة " أنظر الملل والنحل 1 / 13.


الصفحة 79
والشرع فحملتم نفوسكم على دفع المعلوم الجائز في العقول ليصح لكم مذاهبكم الفاسدة.

فأما قوله: " ثم دعا ذلك بعضهم إلى إنكار العقليات أو بعضها لكي يثبت له إثبات حجة في الزمان فأبطلوا الحجج الصحيحة لكي يثبتوا ما لا أصل له (1)، * وما لو ثبت لكان فرعا على هذه الحجج، لأن إثبات الإمام لا يمكن إلا بطريقة العقل أو التواتر... (2) * " فواضح البطلان، وكيف يبطل أدلة العقل من تقاضى خصومه إليها. ويعول في حجاجهم ودفع مذاهبهم عليها لولا يرى صاحب الكتاب أن معتمدنا من أول كلامنا إلى هذه الغاية في إثبات الرئاسة على محض دلالة العقل فكيف يتوهم المحتج بالعقل اعتقاد بطلانه؟، والذين أنكروا العقليات في الحقيقة وأبطلوها من حيث لا يشعرون هم الذين نفوا الحاجة إلى الرؤساء مع شهادة العقل بالحاجة إليهم.

فأما قولهم: " * ثم أداهم ذلك إلى إثبات أشخاص * (3) لا أصل لهم لكي يصلح (4) ما ادعوه فاثبتوا في هذا الزمان إماما مختصا بنسب واسم من غير أن يعرف منه (5) عين أو أثر... " فمبني على مجرد دعوى ومحض الاقتراح (6)، وقد دللنا على أن الإمامة واجبة في كل زمان بما لا حيلة

____________

(1) سقط ما بين النجمتين من المغني.

(2) المغني 20 ق 1 / 37.

(3) ما بين النجمتين ساقط من المغني.

(4) غ " ينجح ".

(5) غ " فيه ".

(6) الاقتراح سؤال الشئ من غير روية أو ارتجال الكلام من غير تدبر.


الصفحة 80
فيه ولا قدرة على دفعه، وإذا استحال أن يكون القديم تعالى غير مزيح لعلل عباده لما فيه لطفهم ومصلحتهم وجب القطع على وجود الأئمة، وليس جهل من جهل وجودهم ودخلت عليهم الشبهة في أمرهم بقادح في الأدلة، ولا منع معترض عليها (1).

وقوله: " لا يعرف منه عين ولا أثر "... إن أراد أن لا يعرف بالدليل فما ذكرناه يبطله، وإن أراد بالمشاهدة فليس كل ما كان غير مشاهد يجب نفيه وإبطاله.

وأما قوله: " وأدى بعضهم هذه الطريقة إلى ادعاء الضرورة في النصوص على المخالف، بل أدى بعضهم إلى القول بأن المعارف كلها ضرورية (2)... " (3) فليس فينا من يدعي الضرورة في النص إلا على السامع له، ممن وقع من جهته، فأما من يعرفه من طرق الخبر فخارج عن باب الضرورة، وما نعرف فينا أحدا محصلا يدعي أن المعارف كلها ضرورية. وقد كان يجب أن لا يعير باعتقاد الضرورة في المعارف من له مثل أبي عثمان الجاحظ (4) الذي افتتح هذا الرأي المنكر، وتناهى فيه إلى ما هو المشهور

____________

(1) الخبر محذوف فيكون تقدير الكلام: ولا منع معترض عليها بقادح فيها أي في الأدلة.

(2) غ " ضرورة ".

(3) المغني 20 ق 1 / 37.

(4) الجاحظ عمرو بن بحر الكناني بالولاء، لقب بالجاحظ لجحوظه عينيه - أي نتوء المقلة وكبرها - أديب كبير، وكاتب شهير، رئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة، ولد في البصرة، وأقام ببغداد وتردد على سامراء، فلج في آخر عمره، ومات والكتاب على صدره، كان مشوه الخلقة حتى أن المتوكل العباسي أراده لتأديب ولده، ولكنه رجع عن ذلك لدمامته وقبح صورته، ألف في فنون من العلم وخلف آثارا تشهد له بذلك، غير أن الانحراف عن علي عليه السلام يبدو واضحا في بعض ما كتبه، ولعله فعل ذلك تقربا للمنحرفين عنه ممن رفع منزلته وكفاه مؤنته أمثال محمد بن عبد الملك الزيات، ولما فلج عاد إلى البصرة ومات بها سنة 250 أو 255 تجد ترجمته في ميزان الاعتدال 3 / 247.

وفيه: " وكان من أئمة البدع " ولسان الميزان 4 / 355 وفيه " ليس بثقة ولا مأمون وسبحان من أضله على علم) وتاريخ بغداد 12 / 212 وفيه " حضرت الصلاة ولم يصل ".

ص 217، وفيات الأعيان 3 / 140، والأعلام للزركلي 5 / 239.


الصفحة 81
وأما (1) قوله: " وبعيد في كثير منهم أن يعتقد ما يظهر عنه في هذه العلل لأن اعتقادها لا يصح مع التمسك بالديانات التي ذكرناها، ولهذه الجملة قال شيخنا أبو علي (2): إن أكثر من نصر هذا المذهب كان قصده الطعن في الدين والاسلام فتسلق بذلك إلى القدح فيهما. لأنه لو طعن (3) فيهما بإظهار كفره وإلحاده لقل (4) القبول منه، فجعل هذه الطريقة سلما إلى مراده نحو هشام بن الحكم (5) وطبقته ونحو أبي عيسى الوراق (6) وأبي

____________

(1) فأما خ ل.

(2) أبو علي: محمد بن عبد الوهاب الجبائي البصري شيخ المعتزلة وهو والد أبي هاشم عبد السلام المعتزلي، ونقل قاضي القضاة في (شرح المقالات) لأبي القاسم البلخي " أن أبا علي رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل علي عليه السلام " وأنه ألقى بذلك لولده أبي هاشم عند وفاته توفي سنة 303 (شرح نهج البلاغة 1 / 9 وشذرات الذهب 2 / 241).

(3) غ " قدح ".

(4) " فإذن يقل ".

(5) هشام بن الحكم الشيباني بالولاء الكوفي، ولد بالكوفة ونشأ بواسط وسكن بغداد من أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام ألف كتبا كثيرة اشتهر منها ستة وعشرون كتابا في الأصول والفروع والتوحيد والفلسفة العقلية والإمامة والوصية والرد على الملاحدة، والقدرية والجبرية والغلاة والخوارج والناصبة. وكان في مبدأ أمره من الجهمية ثم لقي الإمام الصادق عليه السلام فاستبصر بهديه ثم صحب الكاظم عليه السلام ففاق أصحابهما. وكان سريع البديهة حاضر الجواب وكانت له صلة بيحيى بن خالد البرمكي وكان خالد يعقد له مجلس الكلام والمناظرة في قصره. فسمعه الرشيد يوما وقد جلس يسمع مناظرته على تخف وتستر وهشام لا يعلم بموضعه فقال الرشيد لما سمعه " إن لسان هذا أضر علي من مائة ألف سيف " وبلغه ذلك فاستتر حتى مات ويقال إنه عاش إلى زمن المأمون.

(6) أبو عيسى محمد بن هارون الوراق من مناظري المعتزلة، وله تصانيف على مذهبهم توفي سنة 247 (لسان الميزان 5 / 412).


الصفحة 82
حفص الحداد (1) وابن الراوندي " - إلى قوله -: " وبين شيخنا أبو علي أنهم تجاوزوا ذلك إلى إبطال التوحيد والعدل، لأن هشام بن الحكم قال بالتجسيم وبحدوث العلم (2)، وبجواز البداء (3) إلى غير ذلك مما لا يصح

____________

(1) أبو حفص الحداد.

(2) قال السيد شرف الدين: " رماه بالتجسيم وغيره من الطامات مريدوا إطفاء نور من مشكاته، ونحن أعرف الناس بمذهبه وفي أيدينا أحواله وأقواله فلا يجوز أن يخفى علينا وهو سلفنا ما ظهر لغيرنا من بعدهم في المشرب والمذهب (المراجعات 334).

(3) البداء - بفتح الباء - في الانسان أن يبدو له رأي في الشئ لم يكن له ذلك الرأي سابقا، بأن تبدل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه إذا يحدث عنده ما يغير رأيه وعلمه به، والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى لأنه من الجهل والنقص وذلك محال عليه تعالى ولا تقول به الإمامية قال الصادق عليه السلام " من زعم أن الله تعالى بدا له في شئ بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم) وقال أيضا (من زعم أن الله بدا له في شئ ولم يعلمه أمس فابرأوا منه) غير أنه وردت أخبار توهم القول بصحة البداء في المعنى المتقدم كما ورد عن الصادق عليه السلام (ما بدا لله كما بدا له في إسماعيل ابني) ولذا جعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة. والصحيح في ذلك أن نقول (كما قال الله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ومعنى ذلك أن الله تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه أو وليه أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك فيكون غير ما ظهر أولا مع سبق علمه تعالى بذلك حق العلم ولكن في علمه المخزون المصون الذي لم يطلع عليه لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي ممتحن، وهذا المقام من العلم هو المعبر عنه بأم الكتاب، كما في قصة إسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم عليهما السلام أنه يذبحه، فهو ظهور بعد خفاء بالنسبة للمخلوق لا للخالق جلت حكمته فهو كالنسخ أو قريب من النسخ، وإن اختلف اللفظ، فلا عبرة بالألفاظ كما سيأتي في كلام السيد الشريف رحمه الله وللمزيد في ذلك يراجع أصل الشيعة وأصولها للإمام كاشف الغطاء ص 232 وعقائد الإمامية للشيخ المظفر ص 45. والبداء للعلامة السيد محمد كلنتر.


الصفحة 83
معه التوحيد وقال بالجبر (1)، وما يتصل بتكليف ما لا يطاق، ولا يصح معه التمسك بالعدل، وأما حال ابن الراوندي في نصرة الإلحاد، وأنه كان يقصد بسائر ما يؤلفه إلى التشكيك فظاهر، وإنما كان يؤلف بضرب من الشهرة والمنفعة (2) وأما أبو عيسى فتمسكه بمذاهب الثنوية ظاهر، وأنه كان عند الخلوة ربما قال: " بليت بنصرة أبغض الناس إلى، وأعظمهم إقداما على القتل... " (3) فعدول عن النظر والحجاج إلى القذف والسباب والافتراء، أو استعمال طريقة جهال العامة في التشنيع على المذاهب،، وسب أهلها، وتقبيحها في النفوس بما لو صح لم يك نقضا لأصل المقالة، ولا قادحا في صحة النحلة (4)، وقلما يستعمل ذلك إلا عند نفاد الحجة، وقلة الحيلة.

ونحن مبينون عما في كلامه من الخطأ والتحامل.

فأما ما رمي به هشام بن الحكم رحمه الله بالتجسيم فالظاهر من

____________

(1) الجبر لغة الإكراه والقهر وفي اصطلاح المتكلمين نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الله تعالى أي العبد مجبر على فعله حسنا كان أو سيئا. خيرا أو شرا.

(2) التضرب: التطلب والتكسب ولعلها: لضرب من الشهوة والمنفعة.

(3) المغني 20 ق 1 / 38.

(4) النحلة - بكسر النون -: الدعوى، وفلان ينتحل مذهب كذا أي ينتسب إليه.


الصفحة 84
الحكاية عنه القول بجسم لا كالأجسام. ولا خلاف في أن هذا القول ليس تشبيه ولا ناقض لأصل، ولا معترض على فرع، وأنه غلط في عبارة يرجع في إثباتها ونفيها إلى اللغة.

وأكثر أصحابنا يقولون: إنه أورد ذلك على سبيل المعارضة للمعتزلة. فقال لهم: إذا قلتم إن القديم تعالى شئ لا كالأشياء، فقولوا: إنه جسم لا كالأجسام (1) - وليس كل من عارض بشئ وسأل عنه يكون معتقدا له، ومتدينا به، وقد يجوز أن يكون قصد به إلى استخراج جوابهم عن هذه المسألة.

ومعرفة ما عندهم فيها، أو إلى أن يبين قصورهم عن إيراد المرتضى في جوابها. إلى غير ذلك مما يتسع ذكره.

فأما الحكاية عنه أنه ذهب في الله تعالى أنه جسم له حقيقة الأجسام الحاضرة. وحديث الأشبار المدعى عليه فليس نعرفه إلا من حكاية الجاحظ عن النظام (2) وما [ هو ] فيها إلا متهم عليه، غير موثوق بقوله

____________

(1) قال الشهرستاني في الملل والنحل 1 / 185: " هشام بن الحكم صاحب غور في الأصول، لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة، فإن الرجل وراء ما يلزمه على الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه، وذلك أنه ألزم العلاف فقال: إنك تقول الباري تعالى عالم بعلم. وعلمه ذاته فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم ويباينها في أن علمه ذاته فيكون عالما لا كالعالمين فلم لا تقول: أنه جسم لا كالأجسام وصورة لا كالصور، وله قدر لا كالأقدار " ا ه ولكن العجيب أن الشهرستاني بعد وصفه هشام بما وصفه به من المعرفة نقل عنه القول بإلهية علي عليه السلام، وهو أجل من ينسب إليه مثل هذا القول.

(2) النظام: هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هاني البصري لقب بالنظام لنظمه الكلام المنثور والشعر الموزون وقيل لأنه كان ينظم الخرز بالبصرة من شيوخ المعتزلة مات في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين ومائتين كما في لسان الميزان لابن حجر 1 / 67، وله كتاب النكث طعن فيه على جملة من كبار الصحابة بما فيهم علي عليه السلام وقد نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 6 / 139 بعض تلك المطاعن، وله مسائل خالف فيها أصحابه سنشير إليها.


الصفحة 85
في مثله، وجملة الأمر إن المذاهب يجب أن تؤخذ من أفواه قائليها.

وأصحابهم المختصين بهم ومن هو مأمون في الحكاية عنهم، ولا يرجع فيها إلى دعاوى الخصوم فإنه إن يرجع إلى ذلك في المذهب اتسع الخرق، وجل الخطب، ولم نثق بحكاية في مذهب ولا استناد مقالة.

ولو كان يذهب هشام إلى ما يدعونه من التجسم يوجب أن يعلم ذلك ويزول اللبس فيه كما يعلم قول الخوارزمي وأصحابه بذلك، ولا نجد له دافعا كما ولا نجد لمقالة الخوارزمي دافعا.

ومما يدل على براءة هشام من هذا القرف (1) ورميه على هذا المعنى الذي يدعونه ما روي عن الصادق عليه السلام في قوله: " لا تزال يا هشام مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك " وقوله عليه السلام حين دخل عليه وعنده مشائخ الشيعة فرفعه على جماعتهم، وأجلسه إلى جانبه في المجلس وهو إذ ذاك حديث السن: " هذا ناصرنا بقلبه ويده ولسانه ".

وقوله عليه السلام: " هشام بن الحكم رائد حقنا، وسايق قولنا، المؤيد لصدقنا، والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أمره تبعنا. ومن خالفه وألحد فيه فقد عادانا وألحد فينا ".

وأنه عليه السلام كان يرشد في باب النظر والحجاج، ويحث الناس

____________

(1) القرف: التهمة ويقال قرف فلان فلانا وقع فيه.


الصفحة 86
على لقائه ومناظرته فكيف يتوهم عاقل - مع ما ذكرناه - على هشام هذا القول بأن ربه سبعة أشبار بشبره؟ وهل ادعاء ذلك عليه - رضوان الله عليه - مع اختصاصه المعلوم بالصادق عليه السلام وقربه منه، وأخذه عنه إلا قدح في أمر الصادق عليه السلام ونسبة له إلى المشاركة في الاعتقاد الذي نحلوه (1) هشاما وإلا كيف لم يظهر عنه (2) من التنكير (3) عنه، والتبعيد له ما يستحقه المقدم على هذا الاعتقاد المنكر، والمذهب الشنيع فأما حدوث العلم (4) فهو أيضا من حكاياتهم المختلقة وما نعرف للرجل فيه كتابا، ولا حكاه عنه ثقة.

فأما الجبر وتكليف ما لا يطاق (5) مما لا نعرفه مذهبا له، ولعله لم يتقدم صاحب الكتاب في نسبة ذلك إليه غيره. اللهم إلا أن يكون شيخه

____________

(1) نحلوه: نسبوه إليه.

(2) أي عن الإمام الصادق عليه السلام.

(3): لعله " التنكر ".

(4) أي إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد كونها.

(5) تكليف ما لا يطاق فيه معركة كلامية بين المجبرة والعدلية، قالت المجبرة:

إذا أخبر الله تعالى عن شخص معين أنه لا يؤمن قط مثل أبي لهب فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله تعالى الصادق كذبا والكذب قبيح وفعل القبيح محال على الله تعالى والمفضي إلى المحال محال فصدور الإيمان منه محال والتكليف به تكليف بالمحال وهذا هو تكليف ما لا يطاق.

وقال أهل العدل: إن العلم بعدم الإيمان لا يمنع من الإيمان، لأن العلم لا أثر له في المعلوم ولا يكلف الله تعالى بما لا يطاق (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وكيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه ونهاه عن الكفر وقد حمله عليه وكيف يصرفه على الإيمان وهو يقول (أنى تصرفون) إلى آخر ما جرى في ميدان هذه المعركة فمن أراد الاطلاع على ذلك فعليه بالكتب الكلامية للفريقين.


الصفحة 87
أبو علي الجبائي فإنه يملي بكل تحامل وعصبية، وقليل هذه الحكايات ككثيرها في أنها إذا لم تنقل من جهة الثقة وكان المرجع فيها إلى قول الخصوم المتهمين لم يحفل بها (1)، ولم يلتفت إليها. وما قدمناه من الأخبار المروية عن الصادق عليه السلام، وما كان يظهر من اختصاصه به وتقريبه له، واجتبائه (2) إياه من بين صحابته يبطل كل ذلك. ويزيف (3) حكاية روايته.

وأما البداء، فقول هشام وأكثر الشيعة فيه هو قول المعتزلة بعينه في النسخ في المعنى، ومرادهم به مراد المعتزلة بالنسخ. وإنما خالفوهم في تلقبه بالبداء لأخبار رووها (4) ولا معتبر في الألفاظ والخلاف فيها، فأما ابن الراوندي، فقد قيل: إنه إنما عمل الكتب التي شنع بها عليه معارضة للمعتزلة، وتحديا لهم. لأن القوم كانوا أساؤوا عشرته، واستنقصوا معرفته، فحمله ذلك على إظهار هذه الكتب ليبين عجزهم عن استقصاء نقضها، وتحاملهم عليه في رميه بقصور الفهم والغفلة، وقد كان يتبرأ منها تبرءا ظاهرا، وينتفي من عملها، ويضيفها إلى غيره.

وليس يشك في خطئه بتأليفها، سواء اعتقدها أم لم يعتقدها.

وما صنع ابن الراوندي من ذلك إلا ما قد صنع الجاحظ مثله أو قريبا منه، ومن جمع بين كتبه التي هي: (العثمانية) (5) و (المروانية)

____________

(1) حفل بهذا: أي بالى به.

(2) اجتباه: اصطفاه.

(3) التزييف: التغيير بغش.

(4) أنظر سفينة البحار ج 1 ص 61 مادة " بدأ ".

(5) العثمانية من رسائل الجاحظ المعروفة حاول فيها أن يطمس حتى ما اتفق عليه الناس من مناقب علي عليه السلام بكل ما أوتي من براعة في القول وتلاعب في الألفاظ، وقد طبعت هذه الرسالة في دار الكتاب العربي بمصر بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون وألحق بها قطعا من كتاب نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي المعتزلي، كما نقل طرفا من الرسالتين ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 13 من ص 215 إلى ص 225.


الصفحة 88
و (الفتيا) و (العباسية) و (الإمامية) و (كتاب الرافضة والزيدية) رأي من التضاد واختلاف القول ما يدل على شك عظيم وإلحاد شديد، وقلة تفكر في الدين.

وليس لأحد أن يقول: إن الجاحظ لم يكن معتقدا لما في هذه الكتب المختلفة، وإنما حكى مقالات الناس وحجاجهم. وليس على الحاكي جريرة (1)، ولا يلزمه تبعة. لأن هذا القول إن قنع به الخصوم فليقنعوا بمثله في الاعتذار، فإن ابن الراوندي لم يقل في كتبه هذه التي شنع بها عليه: إنني أعتقد المذاهب التي حكيتها، وأذهب إلى صحتها. بل كان يقول: قالت الدهرية (2)، وقال الموحدون، وقالت البراهمة (3)، وقال مثبتو الرسول، فإن زالت التبعة عن الجاحظ في سب الصحابة والأئمة والشهادة عليهم بالضلال، والمروق (4) عن الدين بإخراجه كلامه مخرج الحكاية فلتزولن أيضا التبعة عن ابن الراوندي بمثل ذلك.

____________

(1) الجريرة: الجناية.

(2) الدهرية - بفتح الدال وتضم - القائلون ببقاء الدهر ولا يؤمنون بالحياة الأخرى قالوا وهم المشار إليهم بقوله تعالى: (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) الجاثية 124، ويقال لهم المعطلة أيضا والتعطيل مذهب قوم من العرب بعضهم أنكر الخالق والبعث والإعادة فجعلوا الجامع لهم الطبع والمهلك لهم الدهر، وبعضهم اعترف بالخالق - جلت قدرته - وأنكر البعث (أنظر شرح نهج البلاغة 1 / 118).

(3) البراهمة قوم لا يجوزون على الله بعثة الرسل.

(4) المروق: الخروج، ومنه سميت الخوارج مارقة لقوله صلى الله عليه وآله " يمرقون من الذين كما يمرق السهم من الرمية ".