الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

وآخر الكلام فيها إلى باب الكلام في الاختيار: " * شبهة أخرى لهم، قالوا: إن الإمامة من أركان الدين فإذا لم يجز في أركان الدين أن يثبت إلا بنص كالصلاة والزكاة والصيام وما شاكلها وجب مثله في الإمام، وربما قووا ذلك بأن وجه الصلاح فيه يعم الكل كما أن التعبد بالصلاة يعمهم * (1) ".

قال: " واعلم أنه كان لا يمتنع عندنا في الصلاة والزكاة والصيام أن يكون طريق التعبد بها الاجتهاد، وإنما نمنع (2) الآن ذلك لأن السمع بذلك ورد فيجب مثله في الإمام، لأن كلامنا في مجوز العقل لا في واجب السمع (والثابت فيه) (3)... ".

يقال له: هذه الطريقة التي حكيتها ليس يصح الاعتماد عليها إلا بعد أن تبين علة الجمع بين الإمامة وما ذكرته من الأركان وإذا حققت العلة الجامعة بين الأمرين لم يكن بد من الرجوع إلى ذكر بعض ما تقدم من صفات الإمام.

إما كونه معصوما أو فاضلا أو ما يجري مجرى ذلك مما لا مجال فيه للاجتهاد لأن العلة التي من أجلها أحلنا ثبوت الأركان المذكورة بالاجتهاد هي قيام الدليل على أن جهة وجوبها ما يعود بها علينا من الصلاح في فعل الواجبات العقلية، والامتناع من المقبحات، وأن اختيار ما هذه صفته من جملة الأفعال لا سبيل إليه فإذا حملنا اختيار الإمام في الفساد على اختيار هذه العبادات احتجنا إلى أن نبين في الإمام صفة لا يكون فيها الاجتهاد،

____________

(1) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(2) غ " يمتنع " وكذلك في حاشية المخطوطة.

(3) المغني 20 ق 1 / 110. والتكملة بين المعقوفين منه.

الصفحة 58
وصفاته التي هذه سبيلها قد تقدم الكلام فيها.

فأما قولك في الصلاة والصيام: (أن الاجتهاد فيهما لا يمتنع أن يجب عقلا) فهذا انما هو بنيته على مذهبك في جواز الاجتهاد وصحته وقد تقدم طرف مما يبطل ذلك، ومن ارتكب في الصلاة وما أشبهها ما ارتكبه صار الكلام عليه في الإمامة وهذه الأركان واحدا، وبطل أن يحمل أحد الأمرين على الآخر وآل الأمر معه إلى الموافقة على أن الصلاة والإمامة تختصان بصفتين لا مجال للاجتهاد فيهما.

قال صاحب الكتاب: " وبعد فإن الصلاة إنما وقع النص منه عليه السلام على صفتها، ولذلك يجوز في كل صلاة معينة أن تكون واقعة على وجه الغلط ولا يجوز ذلك في الصفة والشرط فكأنه عليه السلام بين صفتها وشروطها (1) ثم ألزم المكلف اختيارها على الوجه الذي يحصل معه إصابة صفتها وشروطها، وكذلك نقول في الإمام لأنه لا يمتنع منه عليه السلام أن يبين صفته وشروطه ثم يلزم المكلف على وجه يصيب الصفة والشرط، فإن كانت الصفة والشرط حاصلين في جماعة اختير الواحد منهم كما أن صفة الصلاة وشروطها إذا صحتا في أفعال فهو مخير فيها فقد بان بما قدمناه أنا لو جعلنا الصلاة أصلا لما نقوله في الإمامة لكانت (2) أقرب مما ذكروه (3)... ".

يقال له: إنما جاز ما ذكرته في الصلاة من حيث أمكن المكلف أن يصيب صفتها وشروطها ويميز صحيحها من فاسدها من جملة أفعاله، والإمام لا يمكن مثل ذلك فيه، لأن من صفاته ما لا يمكن أن يستدرك

____________

(1) غ " وشرطها ".

(2) غ " لكان ".

(3) المغني 20 ق 1 / 110.

الصفحة 59
بالاجتهاد والاختيار، ولا سبيل للمكلف في تميزه، ولو كانت جميع صفات الإمام كصفات الصلاة في إمكان إصابتها من جهة الاختيار لجوزنا اختيار الإمام على الوجه الذي قررته في اختيار الصلاة ومدار الكلام على هذا الوضع فإن أمكن الخصوم أن يبينوا أنه لا صفة للإمام إلا وللمكلفين سبيل إلى إصابتها وتمييز المختص بها فقد صح مذهبهم في جواز الاختيار، وبطل مذهبنا في وجوب النص والتشاغل بعد أن يثبت لهم ما ذكرنا بغيره لا معنى له، فإنه إذا لا ينفعنا بعد ثبوت هذا الموضع لهم شئ في باب وجوب النص ولا يضرهم، وإن لم يثبت لهم هذا وكان الثابت ما نذهب إليه من اختصاص الإمام بصفات لا سبيل إلى العلم بها إلا من جهة النص، فقد وجب النص وبطل الاختيار وصار كل ما يتكلفه الخصوم بعد صحة ما ذكرناه لا ينفعهم في إبطال وجوب النص ولا يضرنا في إثباته، على أن الصلاة لا يمكن فيها إلا النص على الصفة دون العين لأنها فعل المكلف، ولها أمثال في مقدوره فلا يتميز له صحيحها من فاسدها إلا بالصفة والشرط، والإمام يمكن النص على عينه على وجه يتميز به من غيره فليس يجب أن يكون حكم الإمام حكم الصلاة، بل الواجب أن تكون الصلاة مشبهة للانقياد للإمام والاقتداء به في هذا الوجه، من حيث رجع كل ذلك إلى أفعالنا فكما نجيز في الصلاة النص على صفتها وشروطها، ونجعل اختيار ما له تلك الصفة إلى المكلف فكذلك نجيز أن ينص للمكلف على صفة ما يلزمه من الانقياد للإمام والاقتداء به، ويفوض اختيار ماله تلك الصفة إلى اجتهاده.

فإن قيل: النص في الإمام وإن أمكن على سبيل التعيين، ولم يمكن في الصلاة فما المانع من جواز النص على صفة الإمام دون عينه كما جاز في الصلاة وإن أمكن في الإمام النص على العين ولم يمكن في الصلاة؟.


الصفحة 60
إنما أردنا بما ذكرناه أن نبين اختلاف حكم الصلاة والإمام في هذا الباب وأن الذي أوجب النص على الصفة دون العين في الصلاة غير حاصل في الإمام، والذي يمنع من أن يكون في الإمام ما جوزناه في الصلاة وإن كان ممكنا خلافه في الإمام ما تقدم ذكره من اختصاص الإمام بصفات وشروط لا تتميز للمكلف ولا سبيل له إليها بالاجتهاد على أن الذي ذكرته يقتضي دخول الاختيار في جميع العبادات والأحكام على التأويل الذي تأولته لأنه لا شئ من العبادات إلا وحكمه حكم الصلاة في تناول النص لصفته دون عينه، وتفويض اختيار ما له تلك الصفة إلى اجتهاد المكلف، وهذا يؤدي إلى بطلان قول جميع المتكلمين والفقهاء:

إن العبادات الشرعية تنقسم قسمين منصوص عليه، وآخر موكول إلى الاجتهاد.

فإن قلت: إنما صحت القسمة التي حكيتموها من قبل إن في الأحكام ما وقع النص على صفته وشرطه كالصلاة فجعل من باب النص، وفيها ما لم يحصل نص على صفته فجعل من باب الاجتهاد.

قلنا لك: هذا خلاف أصلك في الاجتهاد لأن أحكام الاجتهاد عندك بمنزلة ما وقع النص على صفته من صلاة وغيرها، لأن من مذهبك أن الصفة التي إذا تعلق ظن المجتهد بها لزم الحكم قد تناولها النص فكأن المكلف قد قيل له: إذا ظننت شبه بعض الفروع ببعض الأصول فقد لزمك الحكم، وهذا نص على صفة ما يلزمه من الأحكام كما كان ما أوردته نصا على صفة ما يلزمه من صلاة وغيرها فيجب على موجب قولك أن يكون جميع العبادات الشرعية منصوصا عليها على تأويل أنها منصوص على صفاتها أو تكون بأسرها من باب الاختيار على تأويل أن المكلف مأمور

الصفحة 61
باختيار ما له الصفة التي تناولها النص من جملة أفعاله ويبطل انقسامها على قسمين.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فقد ثبت أنه عليه السلام قد نص على الأحكام على وجوه مختلفة بحسب المصلحة، ففيها ما عينه وفيها ما خير المكلف (1) فيه كالكفارات وفيها ما فوضه إلى الاجتهاد (2) كالنفقات، وقيم المتلفات، وجزاء الصيد إلى غير ذلك، وكل ذلك من باب الدين، فما الذي يمنع في الإمامة من أن يكون طريقها الاجتهاد والاختيار كالكفارات أو الاجتهاد كجزاء الصيد، * والتوجه إلى الكعبة * إلى غير ذلك... " (3).

يقال له: ليس يمتنع في الإمامة عقلا أن يجري النص عليها مجرى النص على الكفارات لأن النص لما تناول الكفارات الثلاث على سبيل التخيير (4) علمنا أن صلاحنا متعلق بالجميع، وأن لكل واحدة منها صفة الوجوب، وأنا مخيرون بين الثلاث فمتى فعلنا إحداهن سقط عنا وراءها (5) ومثل هذا جائز في الإمامة من جهة العقل لأنه غير ممتنع أن ينص الله تعالى لنا على إمامة نفسين أو ثلاثة بأن يبين وجوب طاعة كل واحد منهم، وما يحصل لنا من اللطف في الدين، والمصلحة بالاقتداء والانقياد له، ويخيرنا في الاقتداء بكل واحد من الثلاثة فمتى اقتدينا

____________

(1) " المكلف " ساقطة من " المغني ".

(2) الاجتهاد والاختيار خ ل وكذلك في " المغني " لكن بحرف التخيير بينهما وما في المتن أوجه.

(3) المغني 20 ق 1 / 110 وما بين النجمتين ساقط منه.

(4) مثل كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان عمدا أو خالف عهدا.

(5) لعله " ما وراءها ".

الصفحة 62
بأحدهم في بعض الأفعال سقط (1) عنا الانقياد لغيره به في ذلك الفعل، وليس كذلك أن تقول إنما ألزمت أن يكون طريق الإمامة الاختيار بمعنى أن نكلف اختيار الإمام، لأن هذا إذا أردته ليس بمشبه لأمر الكفارات، لأنا لم نكلف اختيار ما هو مصلحة لنا من عرض الأفعال ليكون كفارة، بل نص لنا على أفعال ثلاثة بأعيانها، وأعلمنا أن المصلحة فيها، وخيرنا بين فعل كل واحد والآخرين، فقياس ذلك أن ينص لنا على أئمة ونخير بين اتباع كل واحد واتباع الآخرين لا أن نكلف اختيار الإمام في الأصل وإنما ألزمت دخول الاختيار والتخيير في الإمامة قياسا على الكفارات فيجب أن يكون ما ألزمته مطابقا لها.

وأما الاجتهاد في جزاء الصيد وجهة الكعبة فإنما ساغ من حيث أمكن المكلف وجود طريقه وكانت عليه أمارات لائحة وقد بينا أن الإمام يختص بصفات لا سبيل إلى إصابتها من جهة الاجتهاد لأنه لا دلالة عليها ولا أمارة ففارق حكم الإمامة جميع ما ذكرته.

قال صاحب الكتاب: " وإنما أتى القوم في ادعاء النص من جهة العقل من الوجوه التي قدمناها وهي زعمهم أن الإمام حجة لله تعالى في الزمان كالرسول (أو أنه يجب أن يكون قيما يحفظ الدين الذي شرعه الرسول) (2) وأنه يجب أن يكون معصوما فيما فوض إليه فتسلقوا بذلك إلى أنه لا بد من أن يكون منصوصا عليه أو معينا بالمعجز ونحن لا نخالف في ذلك لو كان صفة الإمام ما ذكروه، وإنما يقع الكلام بيننا وبينهم في صفة الإمام وفيما جعل إليه وقد بينا (3) من قبل أن قائلا لو قال في الإمام: إنه

____________

(1) في الأصل " سقطت ".

(2) ما بين المعقوفين من " المغني ".

(3) غ " وقد قدمنا ".

الصفحة 63
يجب أن يكون خالق الإمام (1) لكنا نوافقه في أنه يستحق العبادة ويخرج الكلام بيننا وبينه عن الإمامة (2)... " (3).

يقال له: قد اعترفت بأن الإمام لو وجب له من الصفات ما ذهبنا إليه وكان قيما بما نذهب إلى أنه القيم به والمتولي له لوجبت إبانته بالنص أو بالمعجز وبطل اختياره.

وقد دللنا بحمد الله فيما تقدم على صحة ما نذهب إليه في صفاته، وما يقوم به بما لا شبهة فيه ولا اعتراض عليه، فقد وجب بإقرارك النص على الإمام أو إبانته بالمعجز وبطل اختياره.

ولهذا قلنا قبيل هذا الفصل: أن التشاغل في وجوب النص أو إبطاله يجب أن يكون بالكلام في صفات الإمام، وهل في جملتها ما لا يستدرك إلا من جهة النص أم لا على أنا نقول لك: إنما أتيت وأتي من يذهب إلى مذهبك في دفع النص والقول بالاختيار من جهة اعتقادكم أن الإمام يجري مجرى الوكيل والوصي والشاهد، وأن اتباعه والاقتداء به غير واجبين، وأن الذي يجب من الاقتداء به ما يجب في إمام الصلاة ومن جرى مجراه فتسلقتم بإنزاله هذه المنزلة إلى تصحيح اختياره وإبطال وجوب النص عليه، ونحن لا ننكر مذهبكم فيه لو صح أنه يجري مجرى من ذكرتموه كما أن قائلا لو قال في الإمام أنه كالأجير أو العبد لكنا نوافقه في أن قوله لو صح في صفته لم يجب علينا شئ من تعظيمه وتبجيله ولجاز أن يكون اختياره مردودا إلى الجهال من الأمة فضلا عن العلماء.

____________

(1) غ " خالق الأنام ".

(2) غ " عن الإمام ".

(3) المغني 20 ق 1 / 111.

الصفحة 64

الصفحة 65

 

فصل
في إبطال ما دفع به ثبوت النص وورود السمع به


الذي نذهب إليه أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة بعده، ودل على وجوب فرض طاعته ولزومها لكل مكلف، وينقسم النص عندنا في الأصل إلى قسمين أحدهما يرجع إلى الفعل ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل.

فأما النص بالفعل والقول، فهو ما دلت عليه أفعاله صلى الله عليه وآله وأقواله المبينة لأمير المؤمنين عليه السلام من جميع الأمة، الدالة على استحقاقه من التعظيم والاجلال والاختصاص بما لم يكن حاصلا لغيره كموآخاته صلى الله عليه وآله بنفسه وإنكاحه سيدة نساء العالمين (1) ابنته عليها السلام، وأنه لم يول عليه أحدا من الصحابة، ولا ندبه لأمر أو بعثه في جيش إلا كان هو الوالي عليه المقدم فيه وأنه لم ينقم عليه من طول

____________

(1) تواتر قول رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام (سيدة نساء العاملين، وسيدة نساء المؤمنين، وسيدة نساء أهل الجنة) أنظر صحيح البخاري 4 / 183 كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة، و ج 4 / 209 كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، و ج 7 / 141 كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس، ولم يخبر بسر صاحبه حتى إذا مات أخبر به.

الصفحة 66
الصحبة وتراخي المدة شيئا، ولا أنكر منه فعلا، ولا استبطاه في صغير من الأمور ولا كبير مع كثرة ما توجه منه صلى الله عليه وآله إلى جماعة من أصحابه من العتب، إما تصريحا أو تلويحا.

وقوله صلى الله عليه وآله فيه (علي مني وأنا منه) (1) و (علي مع الحق والحق مع علي) و (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر) (2) إلى غير ما ذكرناه من الأفعال والأقوال الظاهرة التي لا يخالف فيها ولي ولا عدو، وذكر جميعها يطول، وإنما شهدت هذه الأفعال والأقوال باستحقاقه عليه السلام الإمامة ونبهت على أنه أولى بمقام الرسول من قبل أنها إذا دلت على التعظيم (3) والاختصاص الشديد، فقد كشفت عن قوة الأسباب إلى أشرف الولايات، لأن من كان أبهر فضلا، وأعلى في الدين مكانا فهو أولى بالتقديم وأقرب وسيلة إلى التعظيم، ولأن العادة فيمن يرشح (4) لشريف الولايات، ويؤهل لعظيمها أن يصنع به وينبه عليه ببعض ما قصصناه.

وقد قال قوم من أصحابنا أن دلالة الفعل ربما كانت آكد من دلالة القول، وأبعد من الشبهة، لأن القول بدخله المجاز، ويحتمل ضروبا من التأويلات لا يحتملها الفعل.

____________

(1) أخرجه النسائي في الخصائص ص 16 بلفظ (أن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي)، والترمذي 2 / 297، وأحمد في المسند ج 4 / 136، و 437، والبخاري في صحيحه 4 / 207 كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب علي بن أبي طالب، وفيه (أن عليا مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي). وسيأتي سبب هذا القول ج 3 / 244.

(2) (علي مع الحق) مرت تخريجه ج 1 ص 172 وأما حديث الطير سيأتي تخريج مصادره ص 100 من الجزء الثالث.

(3) الفضل العظيم خ ل.

(4) خ " توشح ".

الصفحة 67
فأما النص بالقول دون الفعل ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما علم سامعوه من الرسول صلى الله عليه وآله مراده منه باضطرار، وإن كنا الآن نعلم ثبوته والمراد منه استدلالا وهو النص الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالإمامة والخلافة، ويسميه أصحابنا النص الجلي كقوله عليه السلام (سلموا على علي بإمرة المؤمنين) (1) و (هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا) (2).

والقسم الآخر: لا نقطع على أن سامعيه من الرسول صلى الله عليه وآله علموا النص بالإمامة منه اضطرارا ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالا من حيث اعتبار دلالة اللفظ، وما يحسن أن يكون المراد أو لا يحسن.

فأما نحن فلا نعلم ثبوته والمراد به إلا استدلالا كقوله صلى الله عليه وآله (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (3) و (من كنت مولاه فعلي مولاه) (4) وهذا الضرب من النص هو الذي يسميه أصحابنا النص الخفي.

ثم النص بالقول ينقسم قسمة أخرى إلى ضربين:

____________

(1) أنظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 12 وابن عساكر (ترجمة أمير المؤمنين (ع)) عن بريدة الأسلمي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله أن نسلم على علي بإمرة المؤمنين...

(2) هذا الحديث هو حديث يوم الدار أخرجه الطبري في التاريخ 2 / 321 وأحمد في المسند 1 / 111 / 159، والحاكم في المستدرك 3 / 132 والحلبي في السيرة 1 / 381، والسيوطي في جمع الجوامع 6 / 397 عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي وسنعرج فيما يأتي.

(3) سيأتي الكلام على حديث المنزلة في أول الجزء الثالث أن شاء الله تعالى.

(4) سيأتي تخريج الحديث.

الصفحة 68
فضرب منه تفرد بنقله الشيعة الإمامية خاصة، وإن كان بعض من لم يفطن بما عليه فيه من أصحاب الحديث قد روى شيئا منه، وهو النص الموسوم بالجلي.

والضرب الآخر رواه الشيعي والناصبي وتلقاه جميع الأمة بالقبول على اختلافها، ولم يدفعه منهم أحد يحفل بدفعه يعد مثله خلافا وإن كانوا قد اختلفوا في تأويله وتباينوا في اعتقاد المراد به وهو النص الموسوم بالخفي الذي ذكرناه ثانيا.

ونحن الآن نشرع في الدلالة على النص الجلي لأنه الذي تفرد أصحابنا به، وكلام صاحب الكتاب في هذا الفصل كأنه مقصور عليه.

فأما النصوص الباقية فسيجئ الكلام في تأويلها وإبطال ما جرح المخالفون فيها فيما بعد بعون الله تعالى.

والطريق إلى تصحيح النص الذي ذكرناه أن نبين صفة الجماعة التي إذا أخبرت كانت صادقة، والشروط التي معها يكون خبرها دلالة وموصلا إلى العلم بالمخبر، ثم نبين أن تلك الصفات والشروط حاصلة في نقل الشيعة للنص على أمير المؤمنين عليه السلام.

أما شروط الجماعة التي إذا أخبرت أمكن أن يعلم صحة مخبرها فثلاثة:

أحدها - أن ينتهي في الكثرة إلى حد لا يصح معه أن يتفق الكذب على المخبر الواحد منها، والشرط الآخر أن يعلم أنه لم يجمعها على الكذب جامع من تواطؤ وما يقوم مقامه، والآخر (1) أن يكون اللبس والشبهة زائلين عما خبرت عنه.

____________

(1) خ " والشرط الثالث ".

الصفحة 69
هذا إذا كان الكلام في الجماعة المخبرة عن المخبر بلا واسطة فإن كانت مخبرة عن غيرها وجب اعتبار هذه الشروط فيمن خبرت عنه حتى يعلم أن الجماعات التي خبرت عنها هذه الجماعة صفتها فيما ذكرناه صفة هذه الجماعة وبه نقطع على أنه لم يتوسط بينها وبين المخبر عنه جماعة لم تكمل لها هذه الشروط فإن قال قائل: بينوا تأثير الشروط التي ذكرتموها في العلم بصحة الخبر وإن فقدها أو فقد بعضها مخل بالعلم بصحته ووجودها محصل لطريق العلم، ثم بينوا كيف السبيل إلى العلم بحصولها؟ وما الطريق إليه؟

قيل له: أما تأثير الشروط المذكورة فبين، لأن الجماعة إذا لم تبلغ الحد الذي يستحيل عليها عند بلوغه الكذب عن المخبر المخصوص اتفاقا لم نأمن من وقوع الكذب منها على هذا الوجه، كما أن الواحد والاثنين إذا أخبرا عن أمر لم نأمن في خبرهما أن يكون كذبا من حيث كان ما ذكرناه من اتفاق الكذب غير مأمون منهما وكذلك متى لم نعلم أنها لم تتواطأ أو حصل فيها ما يقوم مقام التواطؤ جوزنا أن يكون الكذب وقع منها على سبيل التواطؤ لأنا نعلم أن بالتواطؤ يجوز على الجماعة ما يستحيل لولاه والشبهة ووقوع اللبس أيضا مما يجمع على الكذب، ألا ترى إلى جواز الكذب على الخلق العظيم من المبطلين في الإخبار عن دياناتهم ومذاهبهم التي اعتقدوها بالشبهات، أو بما يجري مجراها من التقليد، وإنما جاز أن يخبروا مع كثرتهم بالكذب على سبيل الشبهة وإن لم يكن هناك تواطؤ، لأن الشبهة تخيل لهم كون الخبر صادقا (1) والمذهب حقا فكما أنهم إذا علموه صدقا جاز أن يخبروا عنه مع الكثرة من غير تواطؤ

____________

(1) خ " صدقا ".

الصفحة 70
وكان علمهم بأنه صدق يدعوهم إلى الخبر ويقوم مقام السبب الجامع، فكذلك إذا اعتقدوا فيما ليس بهذه الصفة أنه عليها لأن المعتبر فيما يجري هذا المجرى هو بالاعتقاد لا بما عليه الشئ في نفسه، ولهذا يجوز أن يختار الكذب على الصدق في بعض المواضع مع تساويهما في المنافع ودفع المضار متى اعتقد في الكذب أنه صدق ولا فرق فيما شرطناه من ارتفاع اللبس والشبهة بين أن يكون المخبر عنه مشاهدا أو غير مشاهد لأن الشبهة كما يصح دخولها فيما ليس بمشاهد كالديانات وما أشبهها فقد يصح دخولها في المشاهد على بعض الوجوه ولهذا نبطل نقل اليهود والنصارى صلب المسيح عليه السلام، ونقول إن نقلهم لو اتصل بالمخبر عنه مع استيفاء جميع أسلافهم للشروط الحاصلة في هؤلاء الأخلاف من الكثرة وغيرها لأمكن أن يكون خبرهم باطلا من جهة الشبهة ووقوع الالتباس، لأن المصلوب لا بد أن يتغير حليته، وتنكر صورته، فلا يعرفه كثير ممن كان يعرفه، وبعده عن الناظرين معين أيضا على دخول الشبهة.

ولأن اليهود الذين ادعوا قتله لم يكن لهم به معرفة مستحكمة، لأنه لم يكن مخالطا لهم ولا مكاسرا، (1) ومن هذه صورته لا يمتنع أن يشتبه الحال فيه بغيره، وقد قيل إن الله سبحانه ألقى شبه المسيح على غيره، وأن ذلك مما يجوز على عهد الأنبياء، وإن كان غير جائز في أحوال أخر، وكل هذه الوجوه ترجع إلى الشبهة واللبس، فلذلك ذكرناها، وإن كانت كالخارجة عن مقصدنا فلا بد من اشتراط ارتفاع الشبهة في المخبر عنه مشاهدا كان أو غير مشاهد.

وإنما شرطنا في الجماعات المتوسطة بين المخبر عنه مثل ما شرطناه في الجماعة التي تلينا لأنا متى لم نعلم ذلك جوزنا كون الجماعة المخبرة لنا

____________

(1) مكابرا، خ ل، ومكاسرا أوجه، لأن معناها كونه معهم في مكان واحد.

الصفحة 71
صادقة عمن خبرت عنه، وإن كان الخبر في الأصل باطلا، فليس يصح أن يعلم كون الخبر في الأصل صدقا والمخبر عنه على الحد الذي تناوله الخبر إلا بأن تحصل الشروط المذكورة في طبقات المخبرين، ومن ها هنا لم نلتفت إلى أخبار اليهود عن تأبيد الشرع وأخبارهم وأخبار النصارى عن صلب المسيح عليه السلام من حيث كان نقلهم ينتهي إلى عدد قليل لا يصح أن يؤمن فيه التواطؤ وغيره.

وإنما قلنا إن تكامل الشروط التي وصفنا مقتض كون الخبر صدقا من حيث خبر الجماعة الموصوفة لما لم يخل من أن يكون صدقا أو كذبا، وكان وقوعه كذبا لا بد أن يكون إما اتفاقا أو لتواطؤ أو لشبهة، وقد علمنا ارتفاع كل ذلك فوجب أن يكون صدقا، لأنه لا يمكن أن يقال:

أن كونه كذبا يقتضي الاجتماع عليه، ولا يحتاج إلى أحد الأقسام التي ذكرتموها كما تقولون في الصدق، لأنا سنبين عن بطلان تساوي الصدق والكذب في هذا الوجه.

وأما الطريق إلى العلم بحصول هذه الشروط في الجماعة فواضح، لأنه متعلق بالعادات، ولا شئ أجلى مما أستند إليها.

أما اتفاق الكذب عن المخبر الواحد فكل من عرف العادات يعلم ضرورة أنه لا يقع من الجماعة، وأن حال الجماعة فيه مخالفة لحال الواحد والاثنين.

ولهذا يجوز أن يخبر أحد من حضر الجامع يوم الجمعة بأن الإمام سها فتنكس على رأسه من المنبر وهو كاذب، ولا يجوز أن يخبر جميع من حضر الجامع بذلك إلا لتواطؤ أو ما يقوم مقامه، وقد مثل المتكلمون امتناع وقوع الكذب منهم إذا لم يكن تواطؤ بامتناع وقوع تصرف

الصفحة 72
مخصوص، ولباس معين، وأكل شئ واحد، ونظم قصيدة بعينها منهم من غير أن يكون لهم سبب جامع، ومثلوه أيضا بما هو معلوم من استحالة أن يخبر الواحد أو الجماعة عن الأمور الكثيرة فيقع خبرهم بالاتفاق صدقا من غير علم تقدم، وبما يعلمه أيضا من استحالة وقوع الكتابة المنتظمة أو الصنعة المحكمة من الجماعة وهي جاهلة بما وقع منها على سبيل الاتفاق، وإن كان كل واحد منها يجوز أن يقع منه كتابة الحرف والحرفين، وكل الذي ذكروه صحيح، وليس منزلة العلم باستحالة وقوع الكذب اتفاقا من الجماعة الكثيرة من غير تواطؤ بأدون رتبة وأخفى عند العقلاء من جميع ما ذكر، بل منزلة هذه العلوم أجمع عند من خبر العادات واحدة، وإنما يحمل بعضها على بعض على سبيل الكشف والايضاح، وإلا فالكل على حد واحد، وليس يخرج العلم الذي ذكرناه من حيز الضرورة وقوعه عند ضرب من الاختبار للعادة، لأنه غير ممتنع في العلوم الضرورية أن تقع عند تقدم اختبار أو غيره كالعلم بالصنائع ووقوعه عند مزاولتها والحفظ الواقع عند الدرس، وليس لأحد أن يقول: إذا جاز أن يخبر الجماعة الكثيرة بالصدق ومن غير تواطؤ فألا جاز أن يخبر الجماعة الكثيرة بالكذب على هذا الوجه؟ وأي فرق بين الأمرين؟ لأن مفارقة الصدق للكذب في هذا الباب معلومة من جهة أن الصدق يجري في العادة مجرى ما حصل فيه سبب جامع، وعلم الجماعة بكونه صدقا داع إليه وجامع عليه، وليس كذلك الكذب لأن الكذب لا بد في فعله من أمر زائد وسبب جامع، ولصحة ما ذكرناه ما استحال في العادة أن يخبر أهل بلد كبير بوقوع حادثة عظيمة وهم كاذبون مع تواطؤ (1) وما يقوم مقامه، وجاز أن يخبر بذلك وهم صادقون مع ارتفاع التواطؤ.

____________

(1) من غير تواطؤ، خ ل.

الصفحة 73
فأما ما به يعلم ارتفاع التواطؤ عن الجماعة فهو أن التواطؤ إما أن يكون واقعا بالملاقاة والمشافهة أو بالمكاتبة والمراسلة وربما تكررت هذه الأمور فيه بمجرى العادة، بل الغالب تكرره، لأن الجماعات الكثيرة العدد لا يستقر بينها ما يعمل عليه ويجمع على الأخبار به من أول وهلة، وبأيسر سبب، وما هذه حاله لا بد أن يظهر ظهورا يشترك كل من كان له اختلاط بالقوم في المعرفة به، حتى يؤدي عند عدم ظهوره إلى وجوب القطع على انتفائه وظهور ما يقع من تواطؤ الجماعة واجب في الجماعة القليلة العدد أيضا، حتى أن من خالطها على قلة عددها لا بد أن يقف على ذلك أن وقع منها، وإذا وجب ظهور ما ذكرناه فيمن قل عدده من الجماعات فهو في العدد الكثير أوجب، على أن الجماعة ربما بلغت في الكثرة مبلغا يستحيل معه عليها التواطؤ جملة، ونقطع على تعذره لأنا نعلم أن أهل بغداد بأسرهم لا يجوز أن يواطؤا جميع أهل خراسان، لا باجتماع ومشافهة، ولا بمكاتبة ومراسلة.

وأما الأسباب الجامعة على الأفعال القائمة مقام التواطؤ كتخويف السلطان وإرهابه فلا بد أيضا من ظهورها ووقوف الناس عليها لأنه ليس يجمع الجماعة على الأمر الواحد من خوف السلطان إلا ما ظهر لهم ظهورا شديدا، وما بلغ من الظهور هذا المبلغ لا بد أن يكون معروفا، فمتى لم تكن المعرفة به حاصلة وجب القطع على ارتفاعه.

فأما ما يعلم به ارتفاع (1) الشبهة واللبس عما خبرت عنه الجماعة، فهو أن الشبهة إنما تدخل فيما يرجع إلى المذاهب والاعتقادات، ويخرج عن باب ما يعلم ضرورة على الوجه الذي ذكرناه فيما تقدم، فإذا كان خبر

____________

(1) زوال، خ ل.

الصفحة 74
الجماعة عن أمر معلوم بالمشاهدة ضرورة خرج عن هذا الباب.

وقد تدخل الشبهة ويقع الالتباس أيضا في الأشياء المدركة (1) على بعض الوجوه، لأن المشاهد للشئ من بعد ربما اشتبه عليه أمره حتى يعتقد فيه خلاف الحق، كما يصيب من شاهد السراب واعتقد أنه ماء، وكذلك قد يسمع الكلام من بعد فيشتبه على السامع، إلا أنا نفرق بين أحوال المدركات ونميز بين ما يصح اعتراض الشبهة فيه وما لا يصح أن يعترضه شبهة، فمتى كان الخبر متناولا لحال لا تدخل الشبهة في مثلها، وتكاملت شروطها الباقية، قطعنا على صحته.

فأما حصول الشرائط المذكورة في جميع الطبقات فيعلم بما يرجع إلى العادة أيضا لأنها جارية بأن الأقوال التي تظهر وتنشر بعد أن لم تكن كذلك لا بد أن يعرف ذلك من حالها حتى يعلم الزمان الذي ابتدأت فيه بعينه، والرجال الذين ابتدعوها، وتولوا إظهارها، وحكم الأخبار التي يقوى فروعها (2) ويرجع نقلها إلى آحاد أو جماعة قليلة العدد هذا الحكم ولا بد فيمن كانت له خلطة بأهل الأخبار من أن يكون عارفا بحالتي ضعفها وقوتها، بهذا جرت العادات في المذاهب والأقوال الحادثة بعد أن كانت مفقودة، والقوية بعد الضعف، كما علمناه من حال الخوارج والجهمية (3) والنجارية (4) ومن جرى مجراهم ممن أحدث مقالة لم تتقدم، حتى فرق

____________

(1) خ المذكورة.

(2) خ " وقوعها ".

(3) الجهمية: هم أصحاب جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب نسب إليه أنه يرى أن الأفعال في الحقيقة لله والانسان مجبور على أفعاله، وأشياء أخرى قتله سالم بن أحوز المازي بمرو سنة 128 وانظر الملل والنحل 1 / 86، والفرق بين الفرق 128، ومقالات الاسلاميين 2 / 494.

(4) النجارية: أصحاب الحسين بن محمد بن عبد الله الرازي المتوفى في حدود سنة 220 رأس الفرقة النجارية من المعتزلة له كتب منها " البذل " في الكلام و " إثبات الرسل " و " الارجاء " و " القضاء والقدر " وغيرها أنظر الملل والنحل 1 / 88 ومقالات الاسلاميين 1 / 283.