الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

فصل
في اعتراض كلامه
فيما يجب أن يكون عليه الإمام من الصفات

 

إعلم أنه وإن كان لا خلاف بيننا وبين صاحب الكتاب وأصحابه في الأوصاف التي أثبتها للإمام من كونه عاقلا حرا مسلما عدلا، فإنه قد استدل على بعض ما وقع عليه الخلاف من ذلك بما لا يدل عليه، ونحن إن أثبتنا كون الإمام عدلا، وتيقنا كونه فاسقا فطريقنا في ذلك ما تقدم بياننا له من أدلة عصمته وطهارته، فمن لم يسلك في ذلك ما سلكناه لم يصل إلى المطلوب منه، ونحن نعترض على ما استدل به على كونه عدلا ونبين ما يمكن أن يطعن به من جوز من الأمة كون الإمام بخلاف هذه الصفات.

قال صاحب الكتاب بعد أن قدم فصلا يتضمن اختلاف الناس في صفاته، وبعد أن ذكر أنه لا خلاف في كونه حرا عادلا مسلما: " فأما الذي يدل على وجوب كونه عدلا فلأنه قد ثبت أن العدالة مطلوبة في الشاهد والحاكم ولا خلاف أن الإمامة أعلى منزلة منهما فيما يتعلق بأمر الدين، لأن إليه ما إليهما وزيادة، فإذا كان الفسق يمنع من كونه شاهدا وحاكما فبأن يمنع من كونه إماما أولى ".

ثم قال: " فإن قيل: إذا لم يمنع فسقه من أن يكون إماما في

الصفحة 154
الصلاة فهلا قلتم: إنه لا يمنع من كونه إماما (1)، قيل له: إن دل ذلك على جواز كونه إماما فجوزوا كونه حاكما وشاهدا (2) بمثله وإنما جوز أن يكون إماما في الصلاة لأنها لا تتعلق بحقوق الغير (3) فجوزت إمامته كما جوزت صلاته، لأنها مبنية في الجواز على جواز صلاته، ومن حق الإمام أن يقوم بالحقوق كالحدود والأحكام، والانصاف والانتصاف، وأخذ الأموال من وجوهها، وصرفها في حقها والفاسق لا يؤمن (4) على ذلك،... " (5).

يقال له: إن لمن خالف في هذا الباب أن يقول: أنا أسوي فيما أجزته بين الإمام والحاكم والشاهد، لأنني إنما أجيز أن يكون الإمام فاسقا بما يرجع إلى المذاهب والاعتقادات، ويدخل التأويل في والشبهة، كاعتقاد مذهب الخوارج بالشبهة، أو بعض البدع التي يحمل عليها سوء التأويل فيه دون ما يتعلق بأفعال الجوارح، ويجب الحد على مرتكبه، وإذا كان هذا هو المحصل من المذهب في الإمام سويت بينه وبين الشاهد والحاكم، وجوزت في كل واحد ما جوزته في الآخر، فمن أين لك أني أمتنع من إجازة ذلك في الشاهد والحاكم؟.

فإن قلت: لا خلاف في أن الشاهد يجب أن يكون عدلا، وكذلك

____________

(1) بناء على تجويزهم إمامة الفاسق في الصلاة عملا بالحديث الذي يكذب متنه سنده: (صل خلف كل بر وفاجر) الذي وضعه وعاظ السلاطين، بإيحائهم لأن إمامة الصلاة كانت للأمير والوالي واجتراح أكثرهم للموبقات معلوم فخافوا أن ينفض الناس عنهم فطلبوا من أولئك الوعاظ - وما أكثرهم في كل زمان ومكان - أن يقولوا للناس: لا مانع من الصلاة خلفهم لأن الائتمام يجوز بالبر والفاجر عملا بالحديث الذي ما نطق به من لا ينطق من الهوى!.

(2) غ " لمثله ".

(3) لا تتعلق بالغير خ ل.

(4) غ " لا يؤتمن ".

(5) المغني 20 ق 1 / 202.


الصفحة 155
الحاكم.

قيل لك: إنما الذي لا خلاف فيه من عدالته أن لا يكون فاسقا بفسق يتعلق بأفعال الجوارح وبما لا يرجع إلى المذاهب والاعتقادات التي يسوغ فيها التأويل، وما عدا ذلك فكل الخلاف فيه، وله أيضا أن يقول: لو فرقت بين الإمام والحاكم في وجوب العدالة لجاز لي أن أقول أيضا أن الإمام إذا كان فاسقا فليس له أن يحكم بنفسه الحكم الذي يعتبر فيه العدالة، وإن كان له أن يولي الحكام فيحكموا إذا كانوا عدولا، وكيف يسوغ لأحد أن يجمع بين القول بأن الحكم يوجب العدالة، وبين القول بأن الإمام له أن يحكم مع كونه غير عدل فبطل قول صاحب الكتاب " إن إليه ما إليهما وزيادة ".

فأما قوله - في جواب من عارضه بالصلاة -: " فجوزوا كونه حاكما وشاهدا لهذه العلة " فقد بينا أنهم يجوزون ذلك على الحد الذي جوزوه في الإمام، وهو فيما دخل فيه التأويل والشبهة دون ما عداه.

فأما فرقه بين الأمرين بأن إمامة الصلاة لا تتعلق بحقوق الغير، وإمامة المسلمين كلهم تتعلق بالحقوق المتعدية فلقائل أن يقول إن إمامة الصلاة أيضا تتعلق بحقوق تتعدى إلى غير الإمام ألا ترى إن صلاة المؤتم بخلاف صلاة المنفرد، وإن الإمام يتحمل عن المؤتمين وما لا يكون حاصلا إذا كانوا منفردين، وتسقط عنهم في حال الإمامة أفعال تجب عليهم إذا انفردوا بالصلاة فكيف يقال مع ذلك: " إن إمامة الصلاة لا تتعلق بحقوق تتعدى إلى الغير ".

فأما قوله: " إن الفاسق لا يؤتمن في إقامة الحدود وأخذ الأموال وصرفها في وجوهها " فهو كذلك إلا أنه يلزم عليه أن يقال في مقابلته ومن لا يؤمن من أن يكون فاسقا ويجوز أن يكون مبطنا للفسق، وإن كان مظهرا للعدالة لا يؤمن أيضا في شئ مما ذكرته على أن لمن خالف في وجوب عدالة الإمام أن يقول: هذا لا يلزم على المذهب الذي جوزناه

الصفحة 156
وبيناه لأنه إذا كان مقدما على اعتقاد فاسد لشبهة مع تحريه الحق في كل ما يعتقده قبيحا آمنا منه أن يقدم على أخذ الأموال ووضعها في غير موضعها لأن ذلك لا يشتبه عليه قبحه أصلا.

ثم قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن فسقه إن لم يمنع من الإمامة فيجب تجويز كونه إماما، وإن ظهر منه ما يوجب الحدود، ومن هذا حاله لا يؤتمن على إقامتها، وبعد فقد ثبت أن الواجب التوصلي إلى أنه لا يضيع الحدود (1) فلو جاز كونه إماما (2) وهذا حاله لكان الحد الواجب ضائعا، وبعد فقد ثبت بإجماع الصحابة أن الإمام يجب أن يخلع بحدث يجري مجرى الفسق، لأنه لا خلاف بين الصحابة في ذلك وإنما اختلفوا في أيام عثمان هل أحدث ما يوجب (3) خلعه أم لم يحدث؟ فهذا أيضا يبين ما قلناه،... " (4).

يقال له: قد بينا أن من خالف في وجوب عدالة الإمام لم يجوز كونه متظاهرا بما يوجب الحد على فاعله، وإنما يجوز أن يكون فاسقا باعتقاد فاسد حمله عليه سوء التأويل، وليس في ضروب الفسق الذي يوجب الحدود ما يجوز أن يدخل الشبهة على أحد فيه حتى يعتقد بالتأويل إباحته، فلا يلزم على هذه الجملة أن يجوزوا كونه إماما وإن أقدم على ما يوجب إقامة الحدود قياسا على كونه خارجيا أو صاحب بدعة اعتقدها لشبهة.

فأما خلع الإمام للحدث فلا ينقض هذه الجملة لأن الصحابة لم

____________

(1) غ " لا يمنع الحدود ".

(2) " فلو جاز كونه إماما " ساقطة من " المغني ".

(3) غ " هل أحدث حدثا يوجب خلعه ".

(4) المغني 20 ق 1 / 203.


الصفحة 157
تجمع على وجوب خلع كل عاص، وإنما اعتقدوا وجوب خلع من أقدم على ما لا شبهة في مثله ولا انتظام لأمر الإمامة معه مثل أخذ الأموال وصرفها في غير وجوهها، وليس كل حدث يجري هذا المجرى، ألا ترى أنه ليس لأحد أن يعلل ما أجمعت الصحابة على استحقاق الخلع له من المعاصي بأن يقول لا علة لذلك إلا كونه معصية فيجب أن أخلع الإمام لكل معصية، وإن كانت معصية صغيرة، فلذلك ليس لأحد أن يجعل العلة فيما اقتضى الخلع كونه حدثا، تأمل.

قال صاحب الكتاب بعد أن أجاب عن سؤال لا يسأل عنه (فإن قال: إنما أسلم (1) أن الفسق الذي يتعلق بأفعال الجوارح يمنع من كونه إماما فمن أين أنه إذا كان متعلقا بمذهب وتأويل يمنع من الإمامة [ وما أنكرتم أن الباغي إذا كان متأولا، وكذلك الخارجي لا يمنع كونهما إمامين؟ ] (2).

قيل له: إن الواجب علينا منع الباغي عن بغيه وتصرفه فيما يتصرف فيه، ومن حق الإمام أن يمنع غيره، ولا يمنع، وأن تلزم طاعته، فكيف يصح كون من هذه حاله إماما، ولأن الأمير إذا ظهر منه البغي وجب على الإمام أن يعزله ويمنعه من البغي، وكذلك يجب على المسلمين إزالة الباغي عن بغيه، ويلزمهم إقامة الإمام، وذلك يمنع فيمن هذه حاله أن يكون إماما، ولأن إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، لا يجوز أن يقوم به كل أحد، فلا بد فيمن يقوم به من صفة مخصوصة، وقد ثبت إذا كان عدلا وعلى الصفات التي نقولها أن قيامه بذلك يصح ولم يثبت ذلك في الباغي، فيجب أن يكون حاله كحال سائر الناس،...) (3).

____________

(1) غ " إنا لنسلم ".

(2) التكملة من المغني ".

(3) المغني 20 ق 1 / 203.


الصفحة 158
يقال له: أما قولك: " إن الواجب علينا منع الباغي من بغيه وتصرفه فيما يتصرف فيه " فلفظ الباغي لفظ مشكل محتمل، فإن أردت به من شق عصا المسلمين، واستبد عليهم بأمورهم، واستولى على حقوقهم، فلا شك في منع من هذه صفته عن تصرفه بالقول والفعل، وليس الخلاف في ذلك، وإن أردت بالباغي من اعتقدت مذهبا فاسدا لشبهة دخلت عليه وكان متحريا في سائر أموره لما يعتقده حقا، فإن هذا إنما يجب منعه بالتنبيه والارشاد والوعظ وإقامة الحجة، ولا يجب بغير ذلك، وإن أردت بقولك: (ومن حق الإمام أن يمنع غيره ولا يمنع) المنع الذي يكون بالقهر والأخذ على اليد فذلك صحيح، وهو لا ينفع في هذا الموضع، وإن أردت الضرب الآخر من المنع الذي هو التنبيه والارشاد فلا إطباق معك عليه.

فأما قوله: " إن الأمير إذا ظهر منه البغي وجب على الإمام عزله " فإن أراد به البغي الذي قلنا إنه يمنع من الإمامة فلا شك فيما ذكره، وإن أراد به ما يرجع إلى الاعتقاد والمذاهب المتأولة فمن يوافقه على وجوب عزل الأمير إذا أظهر ذلك؟ وهل القول في الأمير في هذا الباب عند من ذهب إلى المذهب الذي حكيناه إلا كالقول في الإمام؟.

وأما قوله " إنه لا خلاف في أن العدل ومن كان على الصفات التي تقولها يصح أن يكون إماما ولم يثبت ذلك في الباغي فأكثر ما يقتضيه هذا الكلام أن يقطع على جواز إمامة العدل، ويشك فيمن لم يكن عدلا لأن فقد الإجماع فيمن ليس بعدل إنما يقتضي الشك دون القطع على أن إمامته لا تجوز، وصاحب الكتاب إنما شرع في الدلالة على فساد إمامة من ليس بعدل قطعا لا تجويزا، وهذا الكلام لا يقتضي ذلك.


الصفحة 159
ثم قال صاحب الكتاب: بعد أن سأل نفسه عما لا شبهة في مثله، وأجاب عنه:

" فإن قال جوزوا فيمن يفسق بالتأويل أن يكون إماما كما جوزتم مثله في الشاهد، قيل له: قد بينا أن شيخينا (1) يقولان: إن ذلك يمنع من صحة شهادته، فلا مسألة عليهما لأنهما قد أجريا الباب مجرى واحدا، فأما غيرهما فإنه وإن أجاز في الشاهد ذلك، فإنه لا يجيزه في الإمام لما له من الرتبة كما لا يجيزه في الأمير والحاكم، ولأنه لا يجوز أن يكون الفضل مطلوبا فيه، وما يقدح في الفضل غير معتبر، وقد علمنا أن الفسق بتأويل يقدح في الفضل، فيجب أن يكون معتبرا في هذا الباب، ولأن الواجب علينا إقامة الحكم من تأديب وغيره على من يقدم على هذا الفسق المتأول، فلا يجوز أن يكون مظهرا لمثله كما قلناه في الفسق الذي يوجب الحدود ".

ثم قال: " واعلم أن من خالف في هذا الباب لا يجيز أن يختار للإمامة من هذه حاله، وإنما نقول إذا خرج وغلب وقهر وسلك طريقة الأئمة فهو إمام، وربما قالوا يقوم مقام الإمام، فإذا صح بما سنذكره أن الواجب أن لا يكون إمام إلا باختيار أهل الحل والعقد له فقد صح ما ذكرناه بالاجماع لأنه لو كان بغيه لا يمنع من إمامته (2) لصح أن يختار وهذه حاله ابتداء (3) ". ثم اتبع بما يجري مجرى التفريع على مذاهبه في هذا الباب لا معنى لتتبعه.

____________

(1) يعني بهما أبا هاشم الكعبي وأبا علي الجبائي كما تقدم ذلك غير مرة.

(2) غ " من اقامته ".

(3) المغني 20 ق 1 / 205.


الصفحة 160
يقال له: أما من منع في الشاهد أن يكون فاسقا بالتأويل كما منع أن يكون فاسقا بغير التأويل، فليس يلزمه السؤال الذي أوردته.

فأما احتجاجه عمن أجاز ذلك بذكر الرتبة بين الشاهد والإمام، فمما لا يغني شيئا لأن لقائل أن يقول لا شبهة في أن للإمام رتبة على الشاهد إلا أنه من أين زعمتم أن مزيته وزيادة رتبته يقتضيان أن لا يكون فاسقا بالتأويل وإن جاز مثل ذلك في الشاهد، أوليس مع أن له الرتبة على الشاهد يجوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره، ولا يجب أن يكون ممن يقطع على باطنه كما لا يجب مثل ذلك في الشاهد، فإن كانت رتبته على الشاهد لا تقتضي فيه أن يكون مأمون الباطن، وجاز أن يكون مساويا للشاهد في العدالة المرجوع فيها إلى الظاهر فإلا جاز مع أن له الرتبة عليه أن يتساويا في تجويز الفسق الراجع إلى التأويل؟.

فأما الكلام في رد حال الإمام في ذلك إلى حال الأمير والحاكم فقد تقدم.

فأما قوله: " لا يجوز أن يكون الفضل مطلوبا وما يقدح في الفضل غير معتبر وأن الفسق بتأويل يقدح في الفضل " فإن الذاهب إلى المذهب الذي حكيناه يقول: إن الفضل وإن كان مطلوبا مع سلامة الأحوال فإنه لا يمتنع أن تعترض أمور تدفع المختارين إلى ترك اعتبار الفضل، واختيار من يقوم بالإمامة ويضطلع بها، وإن لم يكن فاضلا كما أن الأفضل عندك مطلوب في الإمامة مع سلامة الأحوال، ومع هذا فلا يمتنع على مذهبك أن يعترض في بعض الأحوال ما يوجب العدول عن الأفضل إلى المفضول، وإن كان الأفضل هو المطلوب مع السلامة فاجعل عذرك في العدول عن الأفضل في بعض الأحوال وإن كان هو المطلوب مع السلامة عذرا لمن عدل عن الفاضل في بعض الأحوال للضرورة، وإن كان الفضل

الصفحة 161
مطلوبا على أن من ذهب إلى هذا المذهب لا يقول: إن الفضل يقدح فيه الفسق، سواء كان بتأويل أو بغير تأويل لأن الأعمال عنده لا تتحابط ولا المستحق (1) عليها من ثواب وعقاب.

فأما قولك: " إن الواجب علينا أن لا نقيم الأحكام من تأديب وغيره على من يقدم على الفسق المتأول كما نقيم الحدود على من يفعل من الفسق ما يقتضيها " فقد تقدم أن من أجاز ما ذكرناه لا يجيز كون الإمام فاسقا بما يتعلق بأفعال الجوارح، ويوجب إقامة الحدود، وإنما يجيز ذلك فيما يرجع إلى الاعتقادات والمذاهب، فإن أردت بالأحكام التي نقيمها عليه الحدود وما أشبههما فقد أفسدناه، وإن أردت الاستدعاء والوعظ وما أشبهها فقد يجوز أن يستعمل مثل ذلك مع الإمام، ولا تكون إمامته مانعة منه، وكيف يمتنع من ذلك من يجيز أن توقف الأمة الإمام وتعلمه وتفيده العلم بالأحكام، وتناظره فيها وتحاجه، ويرجع إلى أقوالها بعد أن كان أفتى بخلافها.

فأما ما حكيته في آخر الكلام من أن من خالفك في هذا الباب لا يجيز أن يختار للإمامة ابتداء من هذا حاله، وإنما يقول بإمامته إذا خرج وغلب واستولى، فهو تمن لا يكون المذهب على الوجه الذي يسهل عليك إفساده، ومن خالف فيما حكيناه فهو في الجملة ممن يقول إن الإمامة لا تنعقد إلا باختيار أو نص وأنه لا يكون إماما بالغلبة والقهر، وإنما لا يجيز أن يختار للإمامة من يعتقد اعتقادا فاسدا بالتأويل إذا كانت الحال حال سلامة، فأما إذا اضطرت الحال إليه ولم يوجد في العصر من

____________

(1) لعله " ولا يسقط المستحق عليها " أو ما يؤدي هذا المعنى.


الصفحة 162
يضطلع بالإمامة ويقوم بها اضطلاعه (1) جاز عندهم اختياره على ما تقدم فيما فصلناه وأوضحناه.

____________

(1) أي كاضطلاعه.


الصفحة 163

 

فصل
في اعتراض ما أورده من الكلام
في القدر الذي يختص به الإمام من العلم


إعلم أن معاني الكلام في هذا الباب قد تقدم كلامنا عليها مستقصى فيما مضى من كتابنا حيث دللنا على وجوب كون الإمام عالما بجميع أحكام الدين، فإنا ذكرنا في الدلالة على ذلك وجوها استقصيناها، وأوضحنا شرحها، وفرقنا بين الولاية والتكليف، وبينا أن تكليف الشئ من لا يعلمه إذا كان له سبيل إلى علمه حسن جائز، وإن ولايته الشئ الذي لا يعلمه قبيحة، وإن كان المتولى متمكنا من أن يعلم، وذكرنا في ذلك ما لا زيادة عليه، وقد اعترف صاحب الكتاب في هذا الفصل بما نريده، وسلم غاية ما نقترحه، لأنه قال: " إن علم الإمام بجميع أحكام الدين إنما يجب على مذهب من يقول إنه حجة وإنه معصوم دون من لا يوجب ذلك " وهذا لعمري صحيح وقد دللنا على أنه حجة ومعصوم، فيجب أن يتبع (1) ذلك ما اعترف بوجوب اتباعه له من كونه عالما بجميع الأحكام.

فأما قوله في هذا الفصل: " إنه لا يشترط في ذلك من العلم ما لا تعلق له بما يقوم به، وما لا يكون أصلا لذلك، لأنا متى اعتبرنا ذلك لم

____________

(1) لا يمنع، خ ل.


الصفحة 164
يكن بعض العلوم بأن يعتبر أولى من بعض، وذلك يوجب كونه عالما بسائر اللغات، وسائر الحرف وغير ذلك،... " (1). فقد أصاب في أن ما لا تعلق له بما يقوم به الإمام لا يجب أن يعلمه، إلا أنه ظن علينا أنا نوجب هذا الجنس من العلوم، فلهذا أتبع كلامه بالحكاية عنا إيجاب كونه عالما بما جرى مجرى الغيب ومعاذ الله أن نوجب له من العلوم إلا ما تقتضيه ولايته، ويوجبه ما وليه، وأسند إليه من الأحكام الشرعية، وعلم الغيب خارج عن هذا.

فأما قوله: " فيجب أن يكون عالما أو في حكم العالم بما يتصل بالأحكام والشرائع، يبين ذلك أن الحاكم يقوم بالأمور التي يقوم هو بها، فإذا لم يعتبر في الحاكم إلا ما ذكرناه فكذلك القول في الإمام، وبعد، فلا يخلو إذا قال المخالف إنه يجب أن يعلم أكثر مما ذكرناه، وأن يوجب في كونه عالما أن يستقل بنفسه، وأن لا يحتاج إلى غيره في شئ من الأحكام، أو يجوز ذلك فيه، فإن منعه لزمه أن يعلم كل ما يتصل بالأحكام من القيم والأروش (2) وما يتصل بالصناعات وبطلان ذلك يبين جواز رجوعه إلى غيره " فقد تقدم الكلام على هذا ونظائره من كلامه لأن معنى قوله (أن يكون في حكم العالم هو أن يكون متمكنا من العلم) وقد بينا أن التمكن من العلم لا يحسن ولاية الشئ من لا يعلمه.

فأما حمله الإمام في هذا الباب على الحاكم فقد مضى الكلام أيضا فيه وبينا أن كلا الأمرين واحد في هذه القضية، وأن الحاكم لا يجوز أن يولى الحكم فيما لا يعلمه على وجه ولا سبب، وأن كل شئ لم يعلمه الحاكم المنصوب للأحكام فهو خارج عن ولايته، ومستثنى به عليه، ويجب متى عرض ما لا يعلمه من الأحكام أن لا يقدم على الحكم فيه،

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 208.

(2) الأروش - جمع الأرش بوزن العرش -: دية الجراحات.


الصفحة 165
وينهيه إلى الإمام، وبينا أن ولاية الحاكم خاصة، وولاية الإمام عامة فلا يمكن أن يقال في ولاية الإمام ما قلناه في ولاية الحاكم.

فأما إلزامه إذا ذهبنا إلى وجوب استقلاله بنفسه في العلم بالأحكام التي ولي لتنفيذها، ونصب لإقامتها أن يعلم كل شئ حتى يعلم القيم والأروش والصناعات، فمن طريف الالزام وغريبه، لأنا إنما أوجبنا ما ذهبنا إليه في هذا الباب من حيث كان الإمام حاكما في الدين، وواليا في تنفيذ أحكامه، فيجب في كل حكم لله تعالى في الدين أن يعلمه لينفذه ويضعه في مواضعه، وأبطلنا قول من خالفنا وذهب إلى جواز كونه غير عالم بكثير من الأحكام المشروعة التي تعبد بعلمها، وندب إلى معرفتها، فأين هذا من العلم بالحرف والمهن والقيم والأروش، وكل ذلك مما لا تعلق له بالشريعة ولا كلف أحد من الأمة إماما كان أو مأموما العلم به لا على سبيل الندب ولا الايجاب؟ وإنما تكليفهم المتعلق بالشريعة في ذلك أن يرجعوا إلى أهل القيم والمعرفة بالصناعات، لا أن يقوموا ذلك بأنفسهم.

ثم يقال: مثال (1) ما أجزته على الإمام فيما يتعلق بالصناعات أن يكون غير عالم فيما يكون حكم الله تعالى فيه الرجوع إلى أهل صناعة مخصوصة بهذا الحكم، لأنك قد أجزت تظاهره عليه، وليس مثال ذلك ألا يكون عالما بنفس الصناعة والمهنة على أنك تقول: إن كون الإمام عالما بجميع أحكام الشريعة أفضل وأكمل، ومن كان بهذه الصفة أولى من غيره، فهل تقول إن من كان عالما بالمهن والصناعات كان أفضل وأكمل فيما يتعلق بالإمامة، وأولى بها من غيره؟ فما تثبته أنت وأصحابك فضلا وكمالا، وتجعلونه أولى نوجبه، وما لا تثبتونه بهذه الصفات لا نوجبه نحن، من حيث لا تعلق له بأحكام الشريعة وما يجب على الإمام من إقامتها، وإنما يجب أن يكون عالما بالصنائع والمهن لو كان واليا على أهلها

____________

(1) " ومثل " خ ل.


الصفحة 166
فيها كما أوجبنا إذا كان واليا في الدين ورئيسا في الشريعة أن يكون عالما بأحكامها، فأما والأمر بخلاف ذلك فإن إلزامه العلم بالصنائع على العلم بأحكام الشريعة من بعيد الالزام.

على أنك لا تجيز أن ينصب للإمامة إلا من كان عالما بالأحكام الشرعية، أو في حكم العالم، ومعنى أن يكون في حكم العالم: أن يتمكن من الاجتهاد والاستدلال على إصابة الحكم.

وقد يجوز عندك وعند كل أحد أن ينصب للإمامة من لا يكون عالما بالصنائع والمهن ولا في حكم العالم فبان افتراق الأمرين، وإنه لا تعلق للصنائع والمهن والعلم بها بأحكام الشريعة. فما توجب أنت كون الإمام في حكم العالم به إذا لم يكن عالما نوجب نحن كونه عالما به، وما لا توجب ذلك فيه ولا تجعله شرطا في إمامته لا يجب عندنا أن يكون حاصلا له، وهذا واضح.

فأما قوله: " فإن قيل: فيجب وإن لم يكن من أهل الاجتهاد أن يجوز كونه إماما بأن يرجع إلى قول العلماء، قيل له: قد ثبت أن ذلك ممتنع في الحكام، وأن الإمام يجب أن يكون أعلى رتبة فلا يصح ذلك فيه، ولأن إلزام الحكم أوكد من الفتيا فإذا لم يحل أن يفتي المفتي إلا وهو من أهل الاجتهاد فبأن لا يحل له أن يحكم إلا وهو كذلك أولى، وقد ثبت بما سنذكره إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، وإن كانت حالهم تتفاوت (1) في العلم، وفيهم من يقصر عن صاحبه، وقد صح أن أمير المؤمنين عليه السلام

____________

(1) غ " تتقارب ".


الصفحة 167
كان أعلم منهم بالأحكام (1) وعدل مع ذلك إليهم، وذلك يبين أن القدر الذي يطلب من العلم في من يختار للإمامة ما ذكرناه،...) (2) فأول ما فيه أنا نسوي في الالزام بين الإمام والحاكم، فنقول لم لا يكون الحاكم أيضا يرجع إلى أهل الفتيا في الأحكام فيحكم بقولهم، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، فقوله: " قد ثبت أن ذلك ممتنع في الحاكم " دعوى لا نوافقه عليها، وكيف يظن لمن يلزم مثل هذا الالزام في الإمام وهو حاكم الحكام أن يسلم امتناع مثله في الحكام الذين يتولون من قبل الإمام.

فإن قيل: إن الذي يمنع من أن يكون الحاكم بهذه الصفة إجماع الأمة لأنهم متفقون مع اختلافهم على أن الحاكم لا بد من أن يكون من أهل الاجتهاد، ولا يجوز كونه عاميا مقتصرا في الأحكام على الاستفتاء.

قيل له: هذا يمكنك أن تقوله بعينه في الإمام، ولا يكون لردك حال الإمام إلى حال الحاكم معنى في أمر متى نوزعت فيه، وطولبت بالدلالة على أنه شرط في الحاكم فزعت إلى طريقة يمكن أن يستدل بها في الإمام والحاكم معا على حد واحد، والجواب عن الاعتصام بالاجماع سواء فزع إليه في الإمام أو في الحاكم أن الإجماع إذا كان هو المانع من ذلك فيجب أن يكون جائزا قبل الإجماع لجواز كل أمر اختص الإجماع بالمنع منه، وهذا يقتضي التصريح بتجويز إقامة إمام يحكم في جميع الشريعة، ويكون إماما في جميع الدين وأحكامه، وهو مع ذلك خال من جميع العلوم بأحكام الشريعة، معول في كل حكم يحدث على الاستفتاء والرجوع إلى العلماء، وفي علمنا بقبح ذلك عند كل عاقل دلالة على أن الإجماع لا مدخل له في المنع منه.

____________

(1) غ " بالأخبار ".

(2) المغني 20 ق 1 / 209.


الصفحة 168
وأما قوله: " إن إلزام الحكم آكد من الفتيا " فلقائل أن يقول:

أليس الحاكم عندك قد يكون حاكما في أشياء كثيرة من الشريعة، وإن لم يعلمها، بأن يرجع إلى من يعلمها فيستفتيه ويباحثه، ولا يجوز لأحد أن ينتصب للفتيا فيما لا يعلمه، ويرجع في معرفته إلى غيره، بل لا يجوز له أن يفتي بما يستفتى فيه غيره وإن جاز أن يحكم بما يستفتي فيه غيره، ولم يقتض ذلك تأكد حكم الفتيا على القضاء، وتولي الأحكام فألا جاز ما ألزمناك إياه من أن يكون الإمام والحاكم من غير أهل الاجتهاد، وإن لم يجز في المفتي أن يكون بهذه الصفة؟ فإن منع مما ألزمناه تأكد الحكم على الفتيا منع مما حكيناه عنك، وإن جوز أحد الأمرين جوز الآخر.

فأما ادعاؤه ثبوت إمامة من قصر في العلم عن غيره، فمبني على ما لم يصح ولا يصح، وسنتكلم على ما أحال عليه بعون الله ومشيئته، وأحد ما يدل على بطلان إمامة من ذكره تقصيره في العلم عن غيره، واعترافه على نفسه بالخلو عن معرفة كثير من الأحكام، وتوقفه فيها ورجوعه إلى غيره في إصابتها، والكلام في ذلك يجيئ في مواضعه.

فأما قوله: بعد كلام لا فائدة في حكايته لأنه كالتفريع على مذهبه:

" وبعد فإن الذي يقوم به الإمام هو الذي يقوم به الأمراء، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يولي الأمراء والعمال على النواحي إذا عرفوا من العلم القدر الذي ذكرناه فلا وجه للقول بالحاجة إلى زيادة عليه،... " (1) فقد تقدم فيما مضى الكلام على هذا المعنى، وبينا أنه لا يجوز أن يتولى الحكم في شئ من لا يعلمه سواء كان إماما أو أميرا وإن الأمير إنما لم يجب فيه العلم بجميع أحكام الحوادث حتى يكون مساويا

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 210.


الصفحة 169
للإمام من حيث كانت ولايته خاصة وولاية الإمام عامة، وبينا أن الأمير يرجع فيما لا يعلمه، وليس بأمير عليه، ولا حاكم فيه إلى الإمام، ولا يجوز في الإمام مثل ذلك، لأنه لا يمكن أن يشير إلى شئ من الشريعة ليس هو إماما فيه ومنصوبا لتنفيذ أحكامه، واستقصينا ذلك استقصاء يغني عن تكراره هاهنا.

فأما قوله: " فإن قيل: أليس الرسول صلى الله عليه وآله يجب أن يكون عالما بكل الدين وأعلم من سائر أمته، فهلا وجب في الإمام مثله ".

قيل له: إنما وجب في الرسول صلى الله عليه وآله ذلك لأن من جهته يعلم أمر الشرع وهو الحجة فيه وإليه يرجع في باب الديانات ولا يجوز أن يكون كذلك إلا ويفوق في العلم غيره، وإلا كان محتاجا إلى غيره في بعض ذلك، وليس كذلك الإمام لأنه لا يعلم من قبله الديانات والشرائع، وإنما فوض إليه القيام بأمور مخصوصة، فحاله كحال الحكام والأمراء... " (1) فقد مضى أيضا الكلام على ذلك، وبينا أن الإمام حجة في الشرع كالرسول، وأن الرجوع إليه في الديانات قد يحصل على حد الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وآله لأنه إذا وقع من الأمة ما يجوز عليها من الإعراض عن نقل بعض الأحكام حتى لم يبق نقل ذلك إلا فيمن لا تقوم الحجة به، فلا مفزع في باب العلم بذلك الحكم إلا إلى قول الإمام، ولا يصح أن يعلم إلا من جهته، ففي هذا الموضع يجري الإمام مجرى الرسول في أن الشرع يعلم من جهته، وهو الحجة فيه، فلو جوزنا أن يذهب عن الإمام بعض أحكام الشريعة لم يأمن أن يكون الذي ذهب عنه هو الذي اتفق كتمانه من الأمة فلم نثق بوصول جميع الشرع

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 211.


الصفحة 170
إلينا، ويبطل ما هو أكبر الأغراض في نصب الإمام من حفظ الشريعة، وتلافي ما يعرض فيها من خلل، على إنا نقول له: إذا كان المانع من ذلك عندك هو كون الرسول صلى الله عليه وآله ممن لا يعلم الشرع إلا من جهته فجوز فيه بعد أداء الشريعة كلها وقيام الحجة بها على المكلفين أن يذهب عنه كثير من أحكام الشريعة حتى يحتاج عند حدوثها إلى الرجوع إلى غيره، لأن العلة التي عولت عليها من أن الشرع لا يعلم إلا من جهته هاهنا مرتفعة، وهذا حد لا يبلغه أحد في الرسول صلى الله عليه وآله.

ثم أورد صاحب الكتاب كلاما طويلا (1) يشتمل على موضعين أحدهما أنه أجاب عن سؤال من يسأل عن الإمام: كيف يجوز أن يحتاج في العلم إلى غيره مع حاجة ذلك الغير إليه بأن قال: " جهة الحاجة مختلفة وأن المتناقض هو حاجته إليهم في نفس ما يحتاجون إليه فيه، وبين أنه يحتاج إليهم في العلم ويحتاجون إليه في تنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، فالجهة مختلفة " وقال: " إن ذلك يجري مجرى حاجة الإمام في إقامة الحد إلى شهادة الشهود، والشهود يحتاجون إليه في غير ذلك ويجري مجرى حاجته إلى المقومين فيما يرجع إلى ما وقع فيه التنازع وإن كانوا محتاجين إليه في غير هذا الوجه "، والموضع الآخر أنه قال: " لا اعتبار فيمن يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور أن يكون ذلك الذي احتاج إليه فيه واجبا حصوله، بل المراعى أن يكون ذلك الذي احتاج إليه حاصلا لمن تعلقت الحاجة به، ولا فرق بين أن يكون واجبا أو جائزا " قال: " ولهذا يصح عن أحدنا أن يستفيد من غيره الرزق إذا كان حاصلا له، وإن لم يكن واجبا " والكلام عليه في الفصل الأول أنه ادعى فيه أن جهة حاجة العلماء إلى الإمام وحاجته إليهم مختلفة، ولو كان الأمر على ما ظنه لما تناقض ذلك

____________

(1) اختصره المرتضى هنا وتجده في المغني 20 ق 2121 و 213 كاملا.