عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 37 - 44
لا يجوز أن يكون له تعالى مائية على ما يذهب إليه ضرار بن عمرو الضبي وأبو حنيفة، لأن الطريق إلى إثباته تعالى وإثبات صفاته أفعاله، فلا يجوز أن يثبت على صفة لا يدل عليها الفعل إماما بنفسه أو بواسطة، لأنا إن لم نراع هذا الأصل لزم أن يكون له كيفية وكمية وغير ذلك من الأقوال الفاسدة، وذلك باطل.
والفعل بمجرده يدل على كونه قادرا، وبوقوعه محكما على كونه عالما وبوقوعه على وجه دون وجه على كونه مريدا أو كارها، وكونه قادرا عالما على كونه حيا موجودا، وكونه حيا موجودا على كونه مدركا سميعا بصيرا.
ووجوب هذه الصفات له في الأزل يدل على صفته الذاتية عند من أثبتها وليس في الفعل ما يدل على أن له مائية، فوجب نفيها.
وقول الأمة: إن الله تعالى أعلم بنفسه منا. معناه أنه يعلم من تفاصيل مقدوراته ومعلوماته ما لا يعلمه أحد، لأنه يعلم منها ما لا نهاية له، والواحد منا يعلم ذلك على وجه الجملة، فلا يجوز التوصل بذلك إلى القول بالمائية.
ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة الجسم أو الجوهر، لأن ما دل على كون الجسم محدثا قائم في جميع الأجسام، فلو كان تعالى جسما لأدى إلى كونه محدثا أو كون الأجسام قديمة، وكلا الأمرين فاسد.
وأيضا لو كان جسما لما صح منه فعل الأجسام كما لا يصح منا، على ما مضى القول فيه، والعلة في ذلك كونها أجساما، وقد دللنا على أنه فاعل الأجسام فبطل كونه جسما.
ولا يجوز وصفه بأنه جسم مع انتفاء حقيقة الجسم عنه، لأن ذلك نقض اللغة، لأن أهل اللغة يسمون الجسم ما له طول وعرض وعمق، بدلالة قولهم (هذا أطول من هذا) إذا زاد طولا، و (هذا أعرض من هذا) إذا زاد عرضا و(هذا أعمق من هذا) إذا زاد عمقا، و (هذا أجسم من هذا) إذا جمع الطول والعرض والعمق.
فعلم بذلك أن حقيقة الجسم ما قلناه، وذلك يستحيل فيه تعالى، فلا يجوز وصفه بذلك. وقولهم (إنه جسم لا كالأجسام) مناقضة، لأنه نفي ما أثبت نفيه، لأن قولهم (جسم) يقتضي أن له طولا وعرضا وعمقا، فإذا قيل بعد ذلك (لا كالأجسام) اقتضى نفي ذلك نفيه، فيكون مناقضة. وليس قولنا (شيء لا كالأشياء) مناقضة، لأن قولنا (شيء) لا يقتضي أكثر من أنه معلوم وليس فيه حس؟
فإذا قلنا (لا كالأشياء المحدثة) لم يكن في ذلك مناقضة. وقوله {الرحمن على العرش استوى} معناه استولى عليه لما خلقه، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراقمن غير سيف ودم مهراق
وقوله {لما خلقت بيدي} معناه أنه تولى خلقه بنفسه، كما يقول القائل (هذا ما عملت يداك) أي أنت فعلته.
وقيل: معناه لما خلقت لنعمتي الدينية والدنيوية. وقوله {في جنب الله} معناه في ذات الله وفي طاعته. وقوله {والسماوات مطويات بيمينه} أي بقدرته، كما قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليميــــن
وقوله {تجري بأعيننا} أي ونحن عالمون.
ولا يجوز أن يكون تعالى بصفة شيء من الأعراض، لأنه قد ثبت حدوث الأعراض أجمع، فلو كان بصفة شيء من الأعراض لكان محدثا، وقد بينا قدمه. ولأنه لو كان بصفة شيء من الأعراض لم يخلو من أن يكون بصفة ما يحتاج إلى محل أو بصفة ما لا يحتاج إلى المحل كالغناء وإرادة القديم تعالى وكراهته فإن كان بصفة القسم الأول أدى إلى قدم المحال وقد بينا حدوثها، ولو كان بصفة القسم الثاني لاستحال وجوده وقتين كاستحالة ذلك على هذه الأشياء. وأيضا لو كان بصفة الغناء لاستحال وجود الأجسام معه، وذلك باطل.
ولا يجوز عليه تعالى الحلول، لأنه لا يخلو أن يكون الحلول واجبا له أو جائزا، ولو كان واجبا لوجب ذلك في الأزل، وذلك يوجب وجود ما يحله في الأزل، وفي ذلك قدم المحال، وقد بينا فساده.
ولو كان وجوده متجددا [وهو واجب] لوجب أن يكون له مقتضى، فلا يخلو أن يكون مقتضيه صفته الذاتية أو كونه حيا، ولا يجوز أن تكون صفته الذاتية مقتضية لذلك، لأن صفة الذات لا تقتضي صفة أخرى بشرط منفصل، ووجود المحل منفصل. ولو كان كونه حيا مقتضيا لذلك اقتضاه فينا، كما أنه لما اقتضى كونه مدركا اقتضاه فينا، وذلك باطل.
وإن كان حلوله جائزا احتاج إلى معنى، وذلك المعنى لا بد أن يختص به والاختصاص يكون إما بالحلول أو المجاورة، وكلاهما يقتضيان كونه جوهرا وقد أفسدناه، فبطل بجميع ذلك عليه الحلول.
ولا يجوز أن يكون تعالى في جهة من غير أن يكون شاغلا لها، لأنه ليس في الفعل ما يدل على أنه في جهة لا بنفسه ولا بواسطة، وقد بينا أنه لا يجوز وصفه بما يدل عليه الفعل لا بنفسه ولا بواسطة.
ولا يجوز عليه تعالى الحاجة، لأن الحاجة لا تجوز إلا على من يجوز عليه المنافع والمضار، والمنافع والمضار لا يجوزان إلا على من تجوز عليه الشهوة والنفار، وهما يستحيلان عليه تعالى. والذي يدل على أنه يستحيل عليه الشهوة والنفار أنه ليس في الفعل لا بنفسه ولا بواسطة ما يدل على كونه مشتهيا ونافرا وقد بينا أنه لا يجوز إثباته على صفة لا يقتضيها الفعل لا بنفسه ولا بواسطة.
وأيضا فالشهوة والنفار لا يجوزان إلا على الأجسام، لأن الشهوة تجوز على من إذا أدرك المشتهي صلح عليه جسمه [وإذا أدرك ما ينفر عنه فسد عليه جسمه]، وهما يقتضيان كون من وجدا فيه جسما، وقد بينا أنه ليس بجسم فيجب إذا نفي الشهوة والنفار عنه.
وإذا انتفيا عنه انتفت عنه المنافع والمضار، وإذا انتفيا عنه انتفت عنه الحاجة ووجب كونه غنيا، لأن الغني هو الحي الذي ليس بمحتاج.
ولا يجوز عليه تعالى الرؤية بالبصر، لأن من شرط صحة الرؤية أن يكون المرئي نفسه أو محله مقابلا للرائي بحاسة أو في حكم المقابل، والمقابلة يستحيل عليه لأنه ليس بجسم، ومقابلة محله أيضا يستحيل عليه لأنه ليس بعرض على ما بيناه. ولأنه لو كان مرئيا لرأيناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة ووجوده، لأن المرئي إذا وجد وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن نراه، وإنما لا نراه إما لبعد مفرط أو قرب مفرط أو لحائل بيننا وبينه أو للطافة أو صغر، وكل ذلك لا يجوز عليه تعالى لأنه من صفات الأجسام والجواهر.
وبمثل ذلك بعينه يعلم أنه لا يدرك بشيء من الحواس الباقية، فلا وجه للتطويل بذكره. والحاسة السادسة غير معقولة، ولو كانت معقولة لكان حكمها حكم هذه الحواس مع اختلافها واتفاقها في هذا الحكم.
وأيضا قوله تعالى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} دليل على استحالة رؤيته، لأنه تمدح بنفي الادراك عن نفسه، وكل تمدح تعلق بنفي فإثباته لا يكون إلا نقصا، كقوله {لا تأخذه سنة ولا نوم} وقوله تعالى {ما اتخذ الله من ولد} وقوله تعالى {ولم تكن له صاحبة ولا ولدا} وقوله تعالى {لا يظلم الناس شيئا} وغير ذلك مما تعلق المدح بالنفي، فكان إثباته نقصا. والآية فيها مدح بلا خلاف وإن اختلفوا في جهة المدح، والادراك في الآية بمعنى الرؤية، لأنه نفى عن نفسه ما أثبته لنفسه بقوله {وهو يدرك الأبصار} وقوله {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} لا يعارض هذه الآية، لأن النظر المذكور في الآية معناه الانتظار، فكأنه قال: لثواب ربها منتظرة.
ومثله قوله {وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة} أي منتظرة. وليس النظر بمعنى الرؤية في شيء من كلام العرب، ألا ترى أنهم يقولون (نظرت إلى الهلال فلم أره) فيثبتون النظر وينفون الرؤية، ولو كان معناه الرؤية لكان ذلك مناقضة، ويقولون (ما زالت أنظر إليه حتى رأيته) ولا يقولون (ما زلت أراه حتى رأيته). ولو سلم أن النظر بمعنى الرؤية لجاز أن يكون معناه: إلى ثواب ربها رائية، وثواب الله يصح رؤيته.
ويحتمل أن يكون (إلى) في الآية واحد الآلاء، لأنه يقال إلي والئ والئ والئ والى، وإنما لم ينون لمكان الإضافة، فيكون (إلى) في الآية اسما لا حرفا، فيسقط بذلك شبهة المخالف. وقول موسى عليه السلام {رب أرني أنظر إليك} يحتمل أن يكون سأل الرؤية لقومه على ما حكاه الله عز وجل في قوله {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}، فسأل الله تعالى ذلك ليرد الجواب من جهته فيكون أبلغ.
ويحتمل أن يكون سأل العلم الضروري الذي تزول معه الخواطر والشبهات أو إظهار آية من آيات الساعة التي يحصل عندها العلم الذي لا شك فيه، وللأنبياء أن يسألوا تخفيف البلوى في التكليف، كما سأل إبراهيم عليه السلام فقال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} وكل ذلك لا ينافي الآية التي ذكرناها.