عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 61 - 67
التكليف عبارة عن إرادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقة، ويقال في الأمر بما فيه كلفة ومشقة أنه تكليف من حيث كان الأمر لا يكون أمرا إلا بإرادة المأمور به والرتبة معتبرة في التكليف كاعتبارها في الأمر.
يدل على ذلك أن من أراد من الغير ما يلحقه فيه مشقة سمى مكلفا له، ومتى أراد من الغير ما لا يلحقه فيه مشقة لم يسم بذلك، ولذلك لم يكن الواحد منا إذا أراد من الله تعالى الفعل مكلفا له وإذا أراد الله تعالى منا الفعل الذي فيه مشقة كان مكلفا سواء كان ذلك الفعل واجبا أو ندبا. وإعلام المكلف وجوب الفعل أو حسنه أو دلالته عليه شرط في حسن التكليف من الله، لأنه من جملة إزاحة العلة فيما كلفه.
وليس نفس الإعلام هو التكليف، ولهذا كان مكلفا له وإن لم يكن معلما له. وإنما لم يسم الواحد منا إذا أراد من الغير الصوم أو الصلاة مكلفا له، لأنه سبق في ذلك تكليف الله وإرادته، فلذلك لم يسموه بذلك.
فإذا ثبت حقيقة التكليف فيحتاج في العلم بحسنه إلى معرفة أشياء: أولها صفات التكليف، وثانيها صفات المكلف، وثالثها صفات الفعل الذي يتناوله التكليف، ورابعها ما الغرض بالتكليف.
ونحن نبين جميع ذلك على أخصر الوجوه، وقبل ذلك نبين أولا ما وجه الحسن في ابتداء الخلق، وبيان ذلك أن نقول: لا يخلو أن يكون في ابتداء الخلق غرض أو لا غرض فيه، فإن كان لا غرض فيه فهو عبث، وذلك قبيح لا يجوز عليه تعالى.
وإن كان فيه غرض لا يخلو أن يكون فيه غرض قبيح أو حسن، فالقبيح هو أن يقصد بخلق الخلق الإضرار بهم، وذلك قبيح لا يجوز على الحكيم، والغرض الحسن لا يكون إلا بحصول النفع فيه.
وذلك النفع لا يخلو أن يكون راجعا إليه تعالى أو إلى غيره، فما يرجع إليه تعالى مستحيل لاستحالة النفع عليه، وما يرجع إلى الغير هو وجه الحسن في ابتداء الخلق، سواء كان ذلك النفع راجعا إلى نفس المخلوق أو إلى غيره أو إليهما، فإن جميع ذلك وجه الحسن إذا تعرى من وجوه القبح. فإذا ثبت ذلك فالمكلف منفوع بالتفضيل ومنفوع بالثواب، وإن كان المعلوم أنه يؤلم لمصلحته أو مصلحة غيره فهو منفوع أيضا بالعوض، فتجتمع فيه الوجوه الثلاثة، وغير ذلك المكلف منفوع بالتفضيل قطعا وبالعوض إن كان في إيلامه مصلحة لغيره من المكلفين.
وإذا كان وجه الحسن الخلق ما فيه من النفع فينبغي أن يكون أول ما يخلقه الله تعالى حيا، لأن النفع لا يصح إلا على الحي، ولا بد أن يخلق فيه شهوة لمدرك يدركه فيلتذ به سواء كان هو أو غيره. ويجوز أن يبتدئ الله تعالى بخلق الجماد إذا علم أنه يخلق فيما بعد حيا مكلفا يكون من لطفه اختياره خلق جماد قبله، فإن لم يكن ذلك معلوما لم يحسن الابتداء بخلق الجماد.
ونحن نعود إلى ما وعدنا به من اعتبار شرائط حسن التكليف.
أما صفات المكلف تعالى فيجب أن يكون حكيما مأمونا منه فعل القبيح والاخلال بالواجب ليعلم انتفاء وجه القبح عن هذا التكليف، وقد مضى بيان ذلك في باب العدل
ويجب أن يكون قادرا على الثواب الذي عرض بالتكليف له وعالما بمبلغه، وقد بينا حين بينا أنه قادر لنفسه وعالم لنفسه.
ولا بد أن يكون له غرض في التكليف، ويستدل على ذلك فيما بعد. ويجب أن يكون منعما بما يجب له به العبادة، والعبادة لا تستحق إلا بأصول النعم من خلق الحياة والشهوة والبقاء والقدرة وكمال العقل وخلق المشتهي وغير ذلك مما لا يدخل نعمة كل منعم في كونها نعمة إلا بعد تقدمها، ولذلك لا يستحق بعضنا على بعض العبادة وإن استحق عليه الشكر، لأنه لا يقدر على ما هو أصول النعم ويختص الله تعالى بالقدرة على ذلك فلذلك اختص تعالى بالعبادة.
ويجب أيضا أن يكون عالما بتكامل شرائط التكليف في المكلف من أقداره وسائر ضروب التمكين. فإذا ثبت ذلك فالوجه في حسن التكليف أنه تعريض لمنزلة عظيمة لا يمكن الوصول إليها إلا بالتكليف، والتعريض للشيء في حكم إيصاله.
فعلى هذا إذا كان التكليف تعريضا للبيع للشيء يجب أن يكون نفعا، لأن من حسن منه التوصل إلى نفع حسن من الغير أن يعرضه له.
ومعنى التعريض تصيير المعرض بحيث يتمكن من الوصول إلى ما عرض له [مع إرادة المعرض للفعل الذي عرضه له] وعرض للمستحق عليه أو التوصل به إليه.
ألا ترى أن الإنسان إنما يكون معرضا لولده للعلم إذا مكنه من التعلم وأزاح علته فيه وأراد منه التعلم، ومتى لم يرد منه ذلك أو لم يزح علته فيه لا يكون معرضا له.
ومن شرط المعرض أن يكون عالما أو ظانا بوصول المعرض إلى ما عرضه له متى فعل ما وصله إليه. ألا ترى أن الواحد منا لو عرض ولده للتجارة وأمره بالسفر وغلب في ظنه أنه متى فعل جميع ما رسمه لا يحصل له شيء من الربح لا يكون الوالد معرضا له، فعلى هذا القديم تعالى عالم بأن المكلف متى فعل ما كلفه أنه يثيبه ويوصله إلى مستحقه.
واعتبرنا الإرادة لأن بها يختص بما عرض له دون ما لم يعرض له، والتمكين والإقدار يصلح للأمرين. ألا ترى أن من أعطى سيفا لغيره ليجاهد به إنما يكون معرضا له بأن يقتل به كافرا دون مؤمن إذا أراد قتل الكافر دون المؤمن، وإلا فالسيف يصلح للأمرين.
فعلى هذا إذا أقدر القديم تعالى المكلف ومكنه وخلق فيه الشهوة ويمكنه أن ينال بها المشتهي كما يمكنه أن يختلقه على وجه يشق عليه، فإنما يتخصص بأحد الوجهين دون الآخر بالإرادة.
وإنما قلنا في التكليف إنه تعريض للثواب لأنه لا يخلو أن يكون فيه غرض أو لا غرض فيه، فإن لم يكن فيه غرض كان عبثا وذلك لا يجوز عليه تعالى، وإن كان فيه غرض لم يخل أن يكون الغرض نفعه أو مضرته، ولا يجوز أن يكون الغرض مضرته لأن ذلك قبيح، فلم يبق إلا أن يكون غرضه نفعه.
وينبغي أن يكون ذلك النفع مما يستحق بالتكليف، ولا يمكن الوصول إليه إلا بالأفعال التي يتناولها التكليف، لأن الابتداء بالثواب لا يحسن لأنه يقارنه تعظيم وتبخيل، والمعلوم ضرورة قبح ذلك بمن لا يستحقه، ولا يمكن استحقاق الثواب إلا بما تناوله التكليف من واجب أو ندب. فعلى هذا متى حسن التكليف وجب، لأن المكلف متى تكاملت شروط تكليفه في وجوه جميع التمكين وجعل الفعل شاقا عليه وكان متردد الدواعي وزال عنه الالجاء وجب تكليفه، ومتى نقص بعض هذه الشروط قبح تكليفه، لأنه لو لم يكلفه لكان إما مغريا بالقبيح أو عابثا، وكلاهما لا يجوزان عليه.
يبين ذلك أنه إذا كان تعالى قادرا على إغنائه بالحسن عن القبيح فلم يفعل وأحوجه بالشهوات المخلوقة فيه والتخلية بينه وبينه فإن لم يكن له غرض كان [عابثا وإن كان فيه غرض] فلا غرض فيه إلا التكليف، وأن يكون ملزما له بحسب المشتهى وإن شق عليه ذلك للمنفعة العظيمة بالثواب، وإن لم يكن ذلك فالاغراء بتقوية الدواعي إلى نيله حاصل.
ولا يلزم أن تكون البهائم مغراة بالقبح، لأن ذلك معتبر فيمن يتصور العواقب وذلك منتف عن البهائم.
وأما الفعل الذي يتناوله التكليف فلا بد أن يصح إيجاده من المكلف على الوجه الذي كلفه، لأن ذلك يمكن لا يحسن التكليف من دونه.
ومن شروطه تقوية دواعيه بفعل اللطف مما لا ينافي التكليف، ولا بد أن يكون ما تناوله التكليف مما يستحق به المدح والثواب، لأن وجه حسن التكليف إذا كان هو التعريض للثواب لم يجز أن يتناول إلا ما يستحق به الثواب، وما يستحق به الثواب هو إما واجب أو ندب فلا يخرج التكليف عنهما.
والمباح لا مدخل له في ذلك، لأنه لا يستحق به مدح ولا ثواب، وإنما حسن التكليف الندب من حيث كان الندب مستهلا للواجب ومقويا له، فلا يصح أن يقتصر بالمكلف على تكليفه، لأنه تابع لا يستقل بنفسه. فأما الكلام في صفات المكلف فإنه فرع على العلم من المكلف، لأن الكلام في صفة الذات فرع على العلم بالذات. فإذا ثبت ذلك فالمكلف هو الحي، لأن من ليس بحي لا يحسن تكليفه.
ويسمى الحي (انسانا) وفي الملائكة والجن بأسماء أخر، والفلاسفة تسميه (نفسا). والحي هو هذه الجملة المشاهدة دون أبعاضها، وبها يتعلق جميع الأحكام من الأمر والنهي والمدح والذم.
وقال معمر وأبناء نوبخت وشيخنا أبو عبد الله: الحي هو غير هذه الجملة وهو ذات ليس بجوهر ولا عرض ولا حال في هذه الجملة.
وقال ابن الراوندي وهشام الفوطي: هو جوهر في القلب. وقال الأسواري: هو ما في القلب من الروح.
وقال النظام: هو الروح، وهو الحياة الداخلة لهذه الجملة.
وقال ابن الاخشيذ: هو جسم رقيق منساب في هذه الجملة.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أولا أن الأحكام الراجعة إلى الحي تظهر في هذه الجملة من المدح والذم والنهي وغير ذلك. وأيضا فإن الادراك يقع بأعضائها والتألم والتلذذ للادراك، ولو أنها هي الجهة لما وقع الادراك بأبعاضها. وأيضا الفعل المبتدأ يظهر في أطرافنا كحركة أيدينا وأرجلنا وغير ذلك، فلا بد من إسناد ذلك إليها أو إلى ماله به تعلق معقول، فإذا أفسدنا جميع ما ادعي من وجوه التعلق لم يبق إلا ما ذكرناه.
ولا يجوز أن يكون الفاعل في هذه الجملة غيرها، لأنه لو كان كذلك لاقتضى أن يخترع الأفعال في هذه الجملة، لأن القدرة قائمة بذلك الغير على هذا القول. وهذا باطل بما يعلم ضرورة من أن أحدنا إذا تعذر عليه حمل شيء بإحدى يديه إذا استعان باليد الأخرى تأتى ذلك أو يسهل، ولا وجه لهذا الحكم المعلوم مع القول بالاختراع، وإنما يصح ذلك على قول من يقول القدر في اليد اليمنى مقدار لا يتأتى بها حمل الثقيل، فإذا انضاف إليها القدر الذي في الشمال تأتي ذلك أو سهل، وإن الفعل لا يصح إلا باستعمال محل القدرة.
وبمثل ذلك يبطل قول من قال إنه جزء في القلب، لأن اليدين على هذا القول ليسا بمحلين للقدرة أصلا، لأنها تحل الجزء الذي في القلب. وأيضا فلو كان الفعل يفعل في هذه الجملة اختراعا لم يكن بعض الجملة بذلك أولى من بعض، وكان يجب أن يصح أن يفعل فيها كلها لفقد الاختصاص المعقول.
ومما يدل أيضا على أن الفعال هذه الجملة أن الادراك يقع بكل عضو منها، فلو لم يكن في الأعضاء حياة لما أدرك بها كما لا يدرك بالشعر والظفر.
فأما من قال الإنسان هو الروح، فليس يخلو أن يريد بالروح الحياة التي هي وغرض أو يريد به الهواء المتردد، والأول باطل من حيث أن الحياة يستحيل أن تكون حية قادرة، وإن أراد الثاني فذلك أيضا باطل، لأنه لا يصح أن تحل الحياة الهواء ولا يدرك الألم واللذة وهو على صفته، وإن أراد غيرهما فذلك غير معقول.
فأما مذهب ابن الأخشاذ فإنه أيضا يبطل بمثل ما أبطلنا به مذهب النظام وكان يجب أن لا تبطل الجملة بقطع وسطها وبقطع رأسها. وإذا قال بالتقلص في قطع اليد أو الرجل فلم لا [يتقلص في قطع الرأس والوسط ولم] يتقلص بقطع اليد تارة فيبقى حيا وتارة لا يتقلص فيموت، وما الموجب لذلك الفرق.
فإذا ثبت أن الحي هذه الجملة فالصفات التي تجب أن يكون عليها المكلف شيئان: أولهما: أن يكون قادرا ليتمكن من فعل ما كلفه ولا يكون مكلفا لما لا يطيق، وقد بينا فساده. وثانيهما: أن يكون عالما أو متمكنا من العلم به فيما يحتاج إلى العلم به من جملة ما كلفه من أحكام الأفعال أو إيقاعه على وجه مخصوص ليستحق به الثواب ولا بد من العلم به، وكذلك يستحق الثواب على ترك القبيح إذا تركه لقبحه، وذلك لا يتم إلا مع العلم بقبحه أو التمكن من العلم به بنصب الأدلة عليه يقوم مقام خلق العلم الضروري في قلبه.
ولذلك قلنا إن الكفار مكلفون للشرائع لتمكنهم من العلم بها بالنظر في معجزات الأنبياء.
ولما كانت علومه لا يصح حصولها إلا مع كمال عقله وجب أن يخلق فيه العقل، والعقل هو مجموع علوم إذا اجتمعت كان الحي عاقلا، وإذا حصل بعضها أو لم يحصل شي أصلا لم يكن عاقلا.
والعلوم التي تسمى عقلا تنقسم ثلاثة أقسام: أولها العلم بأصول الأدلة، وثانيها ما لا يتم العلم بهذه الأصول إلا معه، وثالثها ما لا يتم الغرض المطلوب إلا معه. فالأول كالعلم بأحوال الأجسام التي تتغير من حركة وسكون، والعلم باستحالة خلق الذات من النفي والاثبات المتقابلين، والعلم بأحوال الفاعلين وغير ذلك.
وليس يصح العلم إلا ممن يجب أن يكون عالما بالمدركات إذا أدركها وارتفع اللبس عنها وممن إذا مارس الصنائع بعلمها، والعلم بالعادات من أصول الأدلة الشرعية، فلا بد منه، فهو نظير القسم الثاني. والقسم الثالث العلم بجهات المدح والذم والخوف وطرق المضار حتى يصح خوفه من إهمال، النظر، فيجب عليه النظر والتوصل به إلى العلم. والذي يدل على أن ذلك هو العقل لا غير أنه متى تكاملت هذه العلوم كان عاقلا، ولا يكون عاقلا إلا وهذه العلوم حاصلة، ولو كان للعقل معنى آخر لجاز حصول هذه العلوم، ولا يحصل ذلك المعنى فلا يكون عاقلا وإن لم يكن له هذه العلوم، والمعلوم خلاف ذلك.
وسميت عقلا لأن لمكانها يمتنع من كثير من المقبحات، فشبهت بعقال الناقة التي تمنعها من السير. ولأن العلوم المكتسبة مرتبطة بها ولا يصح حصولها من دونه، فسميت به عقلا تشبيها أيضا بعقال الناقة، ولذلك لا يجوز وصف الله تعالى بأنه عاقل وإن كان عالما بجميع المعلومات. ويجب أن يكون المكلف متمكنا من الآلات التي يحتاج إليها في الأفعال التي تتعلق بتكليفه، لأن فقد الأدلة كفقد القدرة في قبح التكليف.
والآلات على ضربين: أحدهما لا يقدر على تحصيلها إلا الله تعالى كاليد والرجل، فيجب أن يخلقها له في وقت الحاجة إليها. والثاني يتمكن المكلف من تحصيلها كالعلم في الكتابة والقوس في الرمي وغير ذلك، فالتمكين من تحصيلها له وإيجاب تحصيلها عليه يقوم مقام خلقها. ولا بد من تمكينه من الإرادة في كل فعل يقع على وجه بالإرادة إذا كلف إيقاعه على ذلك الوجه، نحو صيغة الأمر والنهي والخبر وإيقاع الفعل على وجه العبادة وغير ذلك. وما يقع على وجه لا تؤثر فيه الإرادة جاز أن يكلف ذلك وإن لم يكن متمكنا من الإرادة، وذلك نحو رد عين الوديعة ورد عين المغصوب. ويجب أن يكون المكلف مشتهيا ونافرا، لأن الغرض إذا كان التعريض للثواب فلا يصح استحقاق الثواب إلا على ما يلحق فيه المشقة، فلا يصح ذلك إلا بأن يكون نافر الطبع عما كلف فعله ومشتهيا لما كلف الامتناع منه، ولهذا نقول لا بد أن يكون على المكلف مشقة في نفس الفعل أو شبهه أو أمر يتصل به، وأمثلة ذلك معروفة لا نطول بذكرها. ويجب أن تكون الموانع مرتفعة، لأن مع المنع يتعذر الفعل كتعذره مع فقد القدرة.
ولا فرق بين أن يكون المنع من جهته تعالى أو من جهة غيره في قبح تكليفه إذا لم يكن المكلف قادرا على إزالة المنع عن نفسه. ولا يحسن أن يكلفه تعالى بشرط ارتفاع الموانع، لأن ذلك إنما يحسن فيمن لا يعرف العواقب. ويجب أيضا أن لا يكون ملجأ فيما كلف، لأن الغرض بالتكليف استحقاق المدح والثواب، والالجاء لا يثبت معه استحقاق مدح.
ألا ترى أن الإنسان لا يمدح على أن لا يقتل نفسه وأولاده ولا يحرق ماله وداره، لأنه ملجأ إلى أن لا يفعله مع زوال الشبهة واللبس، لأن مع دخول الشبهة يجوز أن يفعل ذلك كما يفعل الهند من قتل نفوسهم وإحراقها لما اعتقدوا في ذلك من أنه قربة إلى الله.
والالجاء يكون بشيئين: أحدهما بأن يخلق الله فيه العلم الضروري بأنه متى رام فعلا منع منه، والثاني أنه متى فعل تخلص من ضرر عظيم أو ينال منافعا عظيمة، كمن يعدو من السبع والنار وغير ذلك. وليس من شرط التكليف أن يعلم المكلف أن مكلفا كلفه إذا علم وجوب الواجب عليه وقبح القبيح منه ويتمكن من أدائه على الوجه الذي وجب عليه وإن لم يعلم مكلفه، وكذلك اشتراك العقلاء في العلم بوجوب رد الوديعة والامتناع من الظلم وإن اختلفوا في المكلف.
وليس من شرط المكلف أن يعلم قبل الفعل أنه مكلف للفعل لا محالة وأنه أوجب عليه قطعا، لأنه لو كان كذلك لقطع على بقائه إلى وقت الفعل، وفي ذلك إغراء بالقبيح في ذلك الوقت.
وأيضا فلا مكلف إلا وهو يجوز احترامه في الثاني فكيف يكون مع ذلك قاطعا على بقائه. ولا يلزم أن يكون الأنبياء والمعصومون مغرين بالقبائح إذا قطعوا على بقائهم زمانا طويلا، لأن الإغراء لا يصح في المعصوم الموثق بأنه لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب، فعلى هذا لا يقطع على أن المكلف مكلف للصلاة إلا بعد أن يفعل الصلاة وقبل ذلك بتجويز الاحترام يجوز أن يكون غير مكلف لها، وإنما يقول له يجب عليك التشاغل بالصلاة مع ضيق الوقت لأنك لا تأمن أن تبقى على ما أنت عليه، فإذا خرج الوقت تبين أنها كانت واجبة عليك، وإنما يحصل التحرز بفعل الصلاة فلذلك يجب عليه فعلها.
وتكليف من علم الله أنه يكون، ممكن حسن صحيح، ومن قال إن ذلك غير ممكن لأن التكليف هو الإرادة على بعض الوجوه وما علم أنه لا يكون لا يصح أن يراد. فقوله باطل، لأن الإرادة تتعلق بما يصح حدوثه في نفسه سواء علم يحدث أو لا يحدث.
ألا ترى أن الواحد منا يصح أن يريد من جميع الكفار الإيمان وإن علم أن جميعهم لا يؤمن. وأيضا فإن النبي عليه السلام كان يريد من أبي لهب الإيمان وإن كان الله تعالى أعلمه أنه لا يؤمن. وأيضا فقد يريد الواحد منا من الغير تناول طعامه وإن غلب في ظنه أنه لا يتناوله. وما يستحيل مع العلم يستحيل مع الظن على حد واحد، والمعلوم أن ذلك لا يستحيل مع الظن، فيجب أن لا يستحيل مع العلم. فأما من قال إن ذلك ممكن غير إنه لا يحسن، فالذي يدل على بطلان قوله ما قدمناه من أن التكليف تعريض لنفع لا ينال إلا به، والتعريض للشئ في حكم إيصاله وأن كل من حسن منه التوصل إلى أمر من الأمور حسن من غيره تعريضه له إذا انتفت عنه وجوه القبح، وعكسه كل شيء يقبح لنا التعرض له يقبح من غيرنا تعريضنا له أيضا، ونحن نعلم أنه يحسن من الواحد منا التعرض للثواب والتوصل إليه بفعل ما يستحق به ذلك، فيجب أن يحسن منه تعالى تعريضه له.
فإذا حسن منا أن يتعرض لمنافع منقطعة من أرباح التجارات بتكليف المشاق والأسفار وحسن من غيرنا أن يعرضنا لها فيجب أن يحسن التعرض للمنافع الدائمة والتعريض لها.
والكافر إنما استضر في ذلك بفعل نفسه وسوء اختياره، لأنه أقدم على ما يستحق به العقاب وقد نهاه الله وحذره وتوعده عليه ورغبه في خلافه، فهو الذي ضر نفسه دون الذي كلفه، بل مكلفه نفعه بغاية النفع، من حيث عرضه لمنافع لا تنال إلا بفعل ما كلفه وحثه على ذلك.
ويدل على حسن ذلك أيضا أنه قد ثبت حسن تكليف من علم الله أنه يؤمن، وقد فعل الله تعالى بالكافر جميع ما فعله بالمؤمن من أقداره وخلق الشهوة فيه والنفار ونصب الأدلة وخلق العلم والتمكين وغير ذلك من الشرائط التي تقدم ذكرها، فينبغي أن يكون تكليفهما جميعا حسنا أو قبيحا. فإذا حكمنا بحسن تكليف من علم الله أنه يؤمن وجب مثل ذلك في تكليف من علم أنه يكفر، وأما من منع من حسن التكليف أصلا فلا تكلم في هذه المسألة بل تكلم بما تقدم من الكلام في حسن التكليف.
والفرق بين التكليفين لا يرجع إلى اختيار الله بل إلى اختيار المؤمن للإيمان فيحصل نفعه، واختيار الكافر الكفر فاستضر به، فأتى في ذلك من قبل نفسه.
(دليل آخر) ويدل أيضا على حسن تكليف من علم الله أنه يكفر ويموت على كفره أنه لو لم يحسن ذلك لوجب أن يكون للمكلف طريق إلى العلم بقبح ذلك، ولو علم قبحه لوجب أن يكون قاطعا على أنه لا يخرج من دار الدنيا إلا وهو يستحق الثواب، ولا يتم ذلك إلا بأمرين: أحدهما أن يعلم أنه متى رام القبيح منع منه وذلك إلجاؤنا في التكليف، أو يعلم أنه سيتوب في المستقبل وذلك ويؤدي إلى الإغراء وكلاهما فاسدان، فإذا يجب أن يكون ممن يجوز الخروج من الدنيا وهو مستحق للعقاب وهو ما أردناه. ومتى ادعي في ذلك وجه قبح فالكلام عليه قد استوفيناه في شرح الجمل يرجع إليه إنشاء الله. ومما يدل على حسن تكليف من علم الله أنه يكفر أنه ثبت أنه تعالى كلف من هذه صورته، لأنا نعلم أن كثيرا من العقلاء المكلفين يموتون على كفرهم، ولو لم يكن إلا ما علمناه من حال فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب وغيرهم لكفى، ولو كان ذلك قبيحا لما فعله الله تعالى، لأنا قد دللنا على أنه تعالى لا يفعل القبيح على حال.
ولا يلزم على ذلك بعثة نبي يعلم أنه لا يؤدي ما حمله، لأن بعثة نبي لا يؤدي إلينا مالنا فيه مصلحة يمنع من إزاحة علتنا في التكليف ويوجب منع اللطف والتمكين، فلهذا لم يجز، لا لأنه تكليف من علم الله أنه يكفر.
ولسنا ننكر أيضا أن يعرض في تكليف من علم الله أنه [يكفر وجه قبح يقبح تكليفه، بل لا ينكر ذلك في تكليف من علم الله أنه] يؤمن، لأنه لو عرض فيه وجه المفسدة لقبح تكليفه وإن آمن.
فإذا ثبت حسن التكليف بمن علم أنه يؤمن ومن علم أنه يكفر وجب أن يكون منقطعا، لأن الغرض بالتكليف إذا كان هو الثواب فلو لم يكن التكليف منقطعا لانتقض الغرض بالتكليف، لأن الثواب بالتكليف لا يمكن أن يكون مقترفا، لأن من شأنه أن يكون خالصا صافيا من الشوب والتكدير حتى يحسن إلزام المشاق. وذلك لا يصح مع التكليف، لأن التكليف لا يعرى من مشقة، وذلك يؤدي إلى حصول الثواب على خلاف الوجه المستحق ويصرف به الغموم والمضار.
وأيضا لو اقترن الثواب بالتكليف لأدى إلى أن يكون المكلف ملجأ، لأن المنافع العظيمة تلجئ إلى فعل ما ضمنت عليه، ولذلك قلنا لا بد أن يكون بين زمان التكليف وبين حال الثواب زمان متراخ يخرج المكلف من حد الالجاء. وإنما كانت المنافع العظيمة العاجلة ملجئة لأنه يقتضي أن يفعل الطاعة لأجلها دون الوجوه التي يستحق عليها الثواب، وذلك يخرجها من أن يستحق لها الثواب أصلا، وذلك ينقض الغرض. وأما القدر الذي يكون بين زمان التكليف وبين الثواب فليس بمحصور عقلا بل بحسب ما يعلمه الله تعالى، وإنما يعلم على طريق الجملة أنه لا بد من تراخ ومهلة.
فإذا ثبت وجوب انقطاع التكليف فليس الوقت وقت انقطاعه بزمان بعينه بل نوجبه على سبيل الجملة. ولا يمتنع أن يحسن الشيء أو يقبح على طريق الجملة. ولا يعلم عقلا انقطاع التكليف عن جميع المكلفين بل إنما يعلم ذلك سمعا والاجماع حاصل على ذلك.
وكان يجوز عقلا انقطاع التكليف عن بعضهم وبقاؤه على بعض، لكن الإجماع مانع منه. ومتى حصل انقطاع التكليف بفعل غير الله فقد حصل الغرض، ومتى لم يحصل فإنه تعالى يزيله. ويجوز انقطاع التكليف بإزالة العقل أو الموت أو الفناء، وأما فناء الجواهر فليس في العقل ما يدل على جوازه ولا على إحالته، والمرجع في ذلك إلى السمع، فإذا علم بالسمع أنه تفنى الجواهر ثم علمنا أن الباقي لا ينتفي إلا بضد يطرأ عليه علمنا أن الفناء (مغني يغنى)؟ الجواهر.
وما يسأل على ذلك من الشبهات فقد بينا الجواب عنه في شرح الجمل. والطريق الذي به يعلم فناء الجواهر هو السمع، وقد أجمعوا على أن الله تعالى يفني الأجسام والجواهر ويعيدها، فلا نعتد بخلاف من خالف فيه.
ويدل عليه أيضا قوله {هو الأول والآخر} فكما أنه كان أولا ولا شيء معه موجود فكذلك يجب أن يكون آخرا ولا شيء معه موجود. وقد استدل بغير ذلك من الآيات عليها اعتراضات والمعتمد ما ذكرناه.
وإذا ثبت أن الجواهر تفنى فالله تعالى يعيدها إجماعا. وأيضا فلو لم يعدها لما أمكن إيصال المستحق إليها من الثواب، وقد علمنا وجوب ذلك، فإذا لا بد من إعادتها.
[كل من مات وله حق لم يستوفه في دار الدنيا فإنه يجب إعادته على كل حال، لأن الثواب دائم لا يمكن توفيره في دار الدنيا].
وأما من يستحق العوض فإنه يجوز أن يوفر عليه في الدنيا ولا يجب إعادته، لأن الغرض منقطع.
وأما من يستحق العقاب فلا يجب إعادته، لأن العقاب يحسن إسقاطه عقلا فإذا سقط لم يحسن استيفاؤه فيما بعد فلم يجب إعادته. فإذا علمنا أنه يعاقب الكافر لا محالة علمنا أنه يعيد المستحق للعقاب، ومن كان عقابه منقطعا فلا يكون كذلك إلا وهو مستحق الثواب الدائم بطاعاته، وإذا أعيد ربما استوفى عقابه ثم نقل إلى الثواب، وربما عفي عن عقابه وفعل به الثواب، فإعادته واجبة عقلا لما يرجع إلى استحقاق الثواب دون العقاب.
وقد أجمعت الأمة على أن الله تعالى يعيد أطفال المكلفين والمجانين وإن كان ذلك غير واجب عقلا، والقدر الذي يجب إعادته هو بنية الحياة التي متى انتقصت خرج الحي من كونه حيا. ولا معتبر بالأطراف وأجزاء السمن لأن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا. ألا ترى أن أحدنا قد يستحق المدح والذم ثم يسمن فلا يتغير حاله فيما يستحقه وكذلك يهزل واستحقاقه للمدح أو الذم كما كان، فعلم بذلك أنه لا اعتبار بهذه الأجزاء.
ومن قال يجب إعادة الحياة دون الجواهر فقوله باطل، لأن المستحق للثواب والعقاب هي الجملة التي تركبت من الجواهر وكيف يجوز التبدل بها فيؤدي إلى إيصال الثواب والعقاب إلى غير المستحق، والصحيح ما قلناه أولا.