عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 140 - 146
الإيمان هو التصديق بالقلب، ولا اعتبار بما يجري على اللسان، وكل من كان عارفا بالله وبنبيه وبكل ما أوجب الله عليه معرفته مقرا بذلك مصدقا به فهو مؤمن.
والكفر نقيض ذلك، وهو الجحود بالقلب دون اللسان مما أوجب الله تعالى عليه المعرفة به، ويعلم بدليل شرعي أنه يستحق العقاب الدائم الكثير. وفي المرجئة من قال: الإيمان هو التصديق باللسان خاصة وكذلك الكفر هو الجحود باللسان، والفسق هو كل ما خرج به عن طاعة الله تعالى إلى معصيته، سواء كان صغيرا أو كبيرا.
وفيهم من ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا، والكفر هو الجحود بهما. وفي أصحابنا من قال: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح، وعليه دلت كثير من الأخبار المروية عن الأئمة عليهم السلام.
وقالت المعتزلة: الإيمان اسم للطاعات، ومنهم من جعل النوافل والفرائض من الإيمان، ومنهم من قال النوافل خارجة عن الإيمان. والاسلام والدين عندهم شيء واحد، والفسق عندهم عبارة عن كل معصية يستحق بها العقاب، والصغائر التي تقع عندهم مكفرة لا تسمى فسقا.
والكفر عندهم هو ما يستحق به عقاب عظيم، وأجريت على فاعله أحكام مخصوصة، فمرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فاسق.
وقالت الخوارج تقريب من قول المعتزلة إلا أنهم لا يسمون الكبائر كلها كفرا، وفيهم من يسميها شركا.
والفضيلية منهم يسمي كل معصية كفرا صغيرة كانت أو كبيرة.
والزيدية من كان منهم على مذهب الناصر يسمون الكبائر كفر نعمة، والباقون يذهبون مذهب المعتزلة.
والذي يدل على ما قلناه أولا هو أن الإيمان في اللغة هو التصديق، ولا يسمون أفعال الجوارح إيمانا، ولا خلاف بينهم فيه. ويدل عليه أيضا قولهم (فلان يؤمن بكذا وكذا وفلان لا يؤمن بكذا) وقال تعالى {يؤمنون بالجبت والطاغوت} قال {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق، وإذا كان فائدة هذه اللفظة في اللغة ما قلناه وجب إطلاق ذلك عليها إلا أن يمنع مانع، ومن ادعى الانتقال فعليه الدلالة، وقد قال الله تعالى {بلسان عربي مبين} وقال {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} وقال {إنا أنزلناه قرآنا عربيا} وكل ذلك يقتضي حمل هذه اللفظة على مقتضى اللغة.
وليس إذا كان ههنا ألفاظ منتقلة وجب أن يحكم في جميع الألفاظ بذلك وإنما ينتقل عما ينتقل بدليل يوجب ذلك.
وإن كان في المرجئة من قال ليس ههنا لفظ منتقل ولا يحتاج إلى ذلك.
ولا يلزمنا أن نسمي كل مصدق مؤمنا، لأنا إنما نطلق ذلك على من صدق بجميع ما أوجبه الله عليه. والاجماع مانع من تسمية من صدق بالجبت والطاغوت مؤمنا، فمنعنا ذلك بدليل وخصصنا موجب اللغة، وجرى ذلك مجرى تخصيص العرف لفظ (الدابة) ببهيمة مخصوصة وإن كان موجب اللغة يقتضي تسمية كل ما دب دابة، ويكون ذلك تخصيصا لا نقلا.
فعلى موجب هذا يلزم من ادعى انتقال هذه اللفظة إلى أفعال الجوارح أن يدل عليه.
وليس لأحد أن يقول: إن العرف لا يعرف التصديق فيه إلا بالقول، فكيف حملتموه على ما يختص القلب؟ قلنا: العرف يعرف بالتصديق باللسان والقلب، لأنهم يصفون الأخرس بأنه مؤمن، وكذلك الساكت، ويقولون (فلان يصدق بكذا وكذا وفلان لا يصدق) ويريدون ما يرجع إلى القلب، فلم يخرج بما قلناه عن موجب اللغة.
وإنما منعنا إطلاقه في المصدق باللسان أنه لو جاز ذلك لوجب تسميته بالإيمان وإن علم جحوده بالقلب، والاجماع مانع من ذلك.
فأما السجود للشمس فعندنا وإن لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر وإن فاعله ليس بمصدق في القلب، لحصول الإجماع على أن فاعله كافر ولم يجمعوا على أن نفس السجود كفر لأن فيه الخلاف.
وكلما يسأل من نظائر ذلك فالجواب عنه ما قلناه. واستدلت المرجئة على أن الطاعات ليست إيمانا، أنه لو كانت طاعة إيمانا لكانت كل معصية كفرا أو بعض كفر، ولو جاز أن يكون في الإيمان ما ليس تركه كفرا جاز أن يكون في الإيمان الكفر ما ليس تركه إيمانا.
وأيضا لو كانت كل طاعة إيمانا لم يكن أحد كامل الإيمان لا الأنبياء ولا غيرهم لأنهم يتركون كثيرا من النوافل بلا خلاف، وعندهم يتركون من الواجب أيضا ما يكون صغيرا.
وأيضا قال الله تعالى {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقال {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء} وقال {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات} [وذلك يدل على أنه يكون مؤمنا وأن يعمل الصالحات] من أفعال الجوارح. والمعتمد ما قدمناه، وما يتعلق به المخالف قد بيناه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.
وأما الكفر فقد قلنا أنه عند المرجئة من أفعال القلوب، وهو جحد ما أوجب الله تعالى معرفته مما عليه دليل قاطع كالتوحيد والعدل والنبوة وغير ذلك، وأما في اللغة فهو الستر أو الجحود، وفي الشرع عبارة عما يستحق به العقاب الدائم الكثير، ويلحق بفاعله أحكام شرعية كمنع التوارث والتناكح.
والعلم بكون المعصية كفرا طريقه السمع لا مجال للعقل فيه، لأن مقادير العقاب لا تعلم عقلا، وقد أجمعت الأمة على أن الاخلال بمعرفة الله تعالى و توحيده وعدله وجحد نبوة رسله كفر، لا يخالف فيه إلا أصحاب المعارف الذين بينا فساد قولهم.
ولا فرق بين أن يكون شاكا في هذه الأشياء أو يكون معتقدا لما يقدح في حصولها، لأن الاخلال بالواجب يعم الكل.
فعلى هذا المجبرة والمشبهة كفار، وكذلك من قال بالصفات القديمة، لأن اعتقادهم الفاسد في هذه الأشياء ينافي الاعتقاد الصحيح من المعرفة بالله تعالى وعدله وحكمته.
وأما الفسق فهو في اللغة عبارة عن خروج الشيء إلى غيره، ولذلك يقولون (فسقت الرطبة) إذا خرجت عن قشرها، وسميت الفارة فويسقة من ذلك لخروجها من نقبها، إلا أن بالعرف صار متخصصا بالخروج من حسن إلى قبح.
وأما في عرف الشرع فهو عندنا عبارة عن كل معصية سواء كانت صغيرة أو كبيرة، ولأن معاصي الله تعالى كلها كبائر وإنما نسميها صغائر بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، وهي كبيرة بالإضافة إلى ما هو أصغر منها.
وشبهة المعتزلة في أن المؤمن لا يسمى به المصدق وإن قالوا كان ينبغي أن لا يسمى بعد إيمانه بزمان أنه مؤمن كما لا يسمى بأنه ضارب لما تقدم من الضرب لأن الأسماء المشتقة إنما تطلق في حال وقوع على ما اشتقت منه. باطلة، لأنا نقول أن الاعتقاد بالقلب الذي هو الإيمان يتجدد حالا فحالا، لئلا يبقى فيما خرجنا عن طريقة الاشتقاق.
وقولهم: إنه لو كان كذلك لوجب أن لا يسمى من هو في مهلة النظر بأنه مؤمن، لأنه ما صدق بالله ولا بصفاته. فاسد، لأن من هو في مهلة النظر قد صدق بجميع ما تجب عليه في تلك الحال فلذلك يسمى مؤمنا.
ومتى قالوا: يلزم من كل من صدق ما قلتموه يسمى مؤمنا وإن لم يترك شيئا من القبائح إلا ارتكبه ولا شيئا من الواجبات إلا تركه، وهذا شنيع من المقال.
قلنا: ذلك يقوله المرجئة، غير أن الذي نختاره أن يعتقد ذلك لئلا يوهم فيقول هو مؤمن بتصديقه بجميع ما وجب عليه فاسق بتركه ما يجب عليه من أفعال الجوارح فيعتد له الأمرين لئلا يوهم ارتفاع أحدهما إذا أطلقنا الآخر. وما يتعلقون به من الظواهر تكلمنا عليه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا. وقول من قال من الزيدية أنه كافر نعمة. باطل، لأنه معترف بنعمة الله تعالى معتقد لها، فكيف يكون جاحدا.
وأما قول الحسن أنه منافق. باطل، لأن المنافق هو من أظهر خلاف ما في باطنه، ومن كان مظهرا للمعصية التي يستحق بها العقاب لا يكون منافقا.
وقول الخوارج واحتجاجهم على أن من يرتكب الكبيرة كافر بقوله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} مبني على القول بالعموم والذي بينا فساده. [ولنا أن نخص ذلك بما تقدم من الأدلة الموثقة].
وقوله {فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى} يفيد نارا مخصوصة، ولذلك خص بها الذي كذب وتولى وهم المرتدون، فأما من كان كافرا ابتداءا فلا يدخل فيها. وقوله {وجوه يومئذ مسفرة} إلى قوله {وجوه يومئذ عليها غبرة} لا يمنع أن يكون هناك قسم ثالث وإن لم يكن منطوقا به ويكون عليها سمة أخرى.
وقوله {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} لا يمنع من أن يكون وجوه أخر لا سوداء خالصة ولا بيضاء خالصة. على أن هذه الآية مخصوصة بالمرتدين، لقوله {أكفرتم بعد إيمانكم}.
وقوله {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} لا يمتنع من إحاطتها بالفساق كما لا يمتنع من إحاطتها بالزبانية وخزنة النيران. وقوله {وهل نجازي إلا الكفور} لو حمل على عمومه لوجب الاثبات المؤمن بحال على ذلك مخصوص بعقاب الاستيصال في دار الدنيا، وذلك مختص بالكفار بدلالة أول الآية وسياقها إلى آخرها. واستقصاء القول في ذلك مذكور حيث أشرنا إليه وفي مسألة الوعيد للمرتضى رحمه الله.