عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 146 - 151
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الأمة، وإن اختلفوا في أنه هل يجبان عقلا أو سمعا: فقال الجمهور من المتكلمين والفقهاء وغيرهم أنهما يجبان سمعا وأنه ليس في العقل ما يدل على وجوبه وإنما علمناه بدليل الإجماع من الأمة وبآي من القرآن وكثير من الأخبار المتواترة، وهو الصحيح.
وقيل: طريق وجوبهما هو العقل. والذي يدل على الأول أنه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل على وجوبهما وقد سبرنا أدلة العقل فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما، ولا يمكن ادعاء العلم الضروري في ذلك لوجود الخلاف.
وأما ما يقع على وجه المدافعة فإنه يعلم وجوبه عقلا، [لما علمنا بالعقل وجوب دفع المضار عن النفس، وذلك لا خلاف فيه، وإنما الخلاف فيما عداه. وكل وجه يدعى في وجوبه عقلا] قد بينا فساده في شرح الجمل، وفيما ذكرناه كفاية.
ويقوى في نفسي أنهما يجبان عقلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما فيه من اللطف، ولا يكفي فيه العلم باستحقاق الثواب والعقاب، لأنا متى قلنا ذلك لزمنا أن تكون الإمامة ليست واجبة، بأن يقال: يكفي في العلم باستحقاق الثواب والعقاب وما زاد عليه في حكم الندب وليس بواجب فالأليق بذلك أنه واجب.
واختلفوا في كيفية وجوبه: فقال الأكثر أنهما من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقال قوم هما من فروض الأعيان. وهو الأقوى عندي، لعموم آي القرآن والأخبار، كقوله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وقوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وقوله في لقمان {أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر} في حكاية عن لقمان حين أوصى ابنه. والأخبار أكثر من أن تحصى ويطول بذكرها الكتاب.
والمعروف على ضربين: واجب، وندب. فالأمر بالواجب واجب و المندوب مندوب، لأن الأمر لا يزيد على المأمور به نفسه. والمنكر لا ينقسم بل كله قبيح فالنهي عنه كله واجب.
والنهي عن المنكر له شروط ستة: أحدها أن يعلمه منكرا، وثانيها أن يكون هناك أمارة الاستمرار عليه، وثالثها أن يظن أن إنكاره مؤثر أو يجوزه، ورابعها ألا يخاف على نفسه، وخامسها ألا يخاف على ماله، وسادسها ألا يكون فيه مفسدة. [وإن اقتصرت على أربع شروط كان كافيا، لأنك إذا قلت لا يكون فيه مفسدة] دخل فيه الخوف على النفس والمال لأن ذلك مفسدة.
وإنما اعتبرنا العلم بكونه منكرا لأنه إن لم يعلمه منكرا جوز أن يكون غير منكر، فيكون إنكاره قبيحا، فجرى مجرى الخبر في أنه لا يحسن إلا مع العلم بالمخبر، ومتى لم يعلم المخبر جوز أن يكون خبره كذبا، فلا يحسن منه الإخبار بذلك، وكذلك إنكار المنكر.
واعتبرنا الشرط الثاني لأن العرض بإنكار المنكر أن لا يقع في المستقبل فلا يجوز أن يتناول الماضي الذي وقع، لأن ذلك لا يصح ارتفاعه بعد وقوعه وإنما يصح أن يمنع مما لم يقع، فلا بد من أمارة على استمراره على فعل المنكر يغلب على ظنه معها وقوعه وإقدامه عليه، فيحصل الانكار للمنع من وقوعه.
وإمارات الاستمرار معروفة بالعادة، ولا يجوز الانكار لتجويز وقوعه بلا أمارة، لأن ذلك يؤدي إلى تجويز الانكار على كل قادر، والمعلوم خلافه.
واعتبرنا الشرط الثالث من تجويز تأثير إنكاره لأن المنكر له ثلاثة أحوال: حال يكون ظنه فيها بأن إنكاره يؤثر فإنه يجب عليه إنكاره بلا خلاف والثاني يغلب على ظنه أنه لا يؤثر إنكاره، والثالث يتساوى ظنه في وقوعه وارتفاعه.
فعند هذين قال قوم يرتفع وجوبه، وقال قوم لا يسقط وجوبه. وهو الذي اختاره المرتضى رحمه الله، وهو الأقوى، لأن عموم الآيات والأخبار الدالة على وجوبه لم يخصه بحال دون حال.
فأما إذا خاف على نفسه أو ماله أو كان فيه مفسدة له أو لغيره فهو قبيح، لأن المفسدة قبيحة. وفي الناس من قال: مع الخوف على النفس إنما يسقط الوجوب ولا يخرج عن الحسن إذا كان فيه إعزازا للدين. وهذا غير صحيح، لما قلناه من أنه مفسدة.
والخوف على المال يسقط أيضا الوجوب والحسن، لما قلناه من كونه مفسدة، وفي الناس من قال هو مندوب إليه، وقد بينا فساده.
وجملته أنه متى غلب على ظنه أن إنكاره يؤدي إلى وقوع قبيح لولاه لم يقع فإنه يقبح لا لأنه مفسدة، سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا، من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير، فإن الكل مفسدة.
ولا يلزم على ذلك سقوط فرض الصلاة والصوم عند الخوف على المال كما يسقط عند الخوف على النفس، لأن الله تعالى لو علم أن في العبادات الشرعية مفسدة في بعض الأحوال لأسقطها عنا، ولما علمنا وجوبها على كل حال علمنا أن المفسدة لا تحصل في فعلها على حال.
ولا يلزم مثل ذلك في إنكار المنكر، لأنه لا خلاف أن وجوبه مشروط بأن لا يكون فيه مفسدة، وليس كذلك العبادات الشرعية، لأن الأمة مجتمعة على وجوبها من غير شرط.
وأما المفسدة فإنما اعتبرت لأن كونه مفسدة وجه قبح، فلا يجوز أن يثبت معه وجوب ولا حسن بلا خلاف.
والغرض بإنكار المنكر أن لا يقع، فإذا أثر القول والوعظ في ارتفاعه اقتصر عليه، وإن لم يؤثر [جاز أن يغلظ في القول ويشدد، فإن أثر اقتصر عليه، وإن لم يؤثر] وجب أن يمنع منه ويدفع عنه وإن أدى ذلك إلى إيلام المنكر عليه والاضرار به وإتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر أن لا يقع من فاعله ولا يقصد إيقاع الضرر به.
ويجري ذلك مجرى دفع الضرر عن النفس في أنه يحسن وإن أدى إلى الاضرار بغيره. غير أن الظاهر من مذهب شيوخنا الإمامية أن هذا الضرب من الانكار لا يكون إلا للأئمة أو لمن يأذن له الإمام فيه، وكان المرتضى رضي الله عنه يخالف في ذلك ويجوز فعل ذلك بغير إذنه، قال: لأن ما يفعل بإذنهم يكون مقصودا، وهذا يخالف ذلك لأنه غير مقصود، وإنما القصد المدافعة والممانعة فإن وقع ضرر فهو غير مقصود.
ويمكن أن ينصر الأول بأن يقال: إذا كان طريق حسن المدافعة بالألم السمع فينبغي أن يدفعه على الوجه الذي قرره الشرع، وهو أن يقصد المدافعة دون نفس إيقاع الألم والقصد إلى إيقاع الألم بإذن الشرع فيه، فلا يجئ منه ما قاله.
ومن قال إن إنكار المنكر غير متعين، قال: يتعين في بعض الأحوال، لأن المقصود أن لا يقع هذا المنكر، فإذا تساوى الكل في حكم هذا الانكار فلا يكون الوجوب عاما لهم، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
هذا إذا كان التمكن عاما في الجميع، فإن تعين الانكار في جماعة أو في شخص تعين عليه الوجوب. وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى هذا التفصيل غير أن من لا يتمكن سقط عنه الوجوب.