وهلّم لننظر في فقه حديث الثقلين...
وفي هذا الباب أيضاً... نرجع إلى كبار علماء القوم المحقّقين، أصحاب الكتب المعتمدة
المرجوع إليها في فهم السّنة النبويّة الكريمة، والأحاديث الواردة عن رسول الله
صلّى الله عليه وآله وسلّم...
فلنرجع إلى:
المنهاج في شرح صحيح مسلم، للنووي.
ونفع قوت المغتدي في شرح الترمذي، للشّاذلي.
والمرقاة في شرح المشكاة، للقاري.
ونسيم الرياض في شرح الشفاء، للخفاجي.
وفيض القدير في شرح الجامع الصغير، للمناوي.
وشرح المواهب اللدنية، للزرقاني.
وأمثال هذه الكتب من الشروح وكتب اللغة وغيرها...
وقبل الورود في البحث نشير إلى أنّ تكرار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حديث
الثقلين، وفي الأيام الأخيرة من عمره الشريف، فيه دلالة على أنّه وصيّة منه لأمّته،
وهذا ما جاء في كلام غير واحدٍ من علماء القوم، بل ذكر بعضهم الحديث بلفظ
الوصيّة... فقد قال في لسان العرب: «وفي حديث النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم:
أوصيكم بكتاب الله وعترتي ».
وقال ابن حجر المكي: «وقد جاءت الوصية الصّريحة بهم في عدّة أحاديث، منها حديث: إني
تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلّوا بعدي الثقلين
( 134
)
أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي،
ولنْ يتفرقا حتر يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما. قال الترمذي: حسن
غريب. وأخرجه آخرون. ولم يصب ابن الجوزي في إيراده في العلل المتناهية، كيف! وفي
صحيح مسلم وغيره... » (1).
وقال الحافظ السخاوي في ( استجلاب ارتقاء الغرف ) (2): «قد جاءت الوصية
الصريحة بأهل البيت في غيرها من الاحاديث، فعن سليمان بن مهران الأعمش... » الى آخر
عبارته وقد تقدمت.
وقال الحافظ السمهودي في ( جواهر العقدين ) (3): «الذكر الرابع: في حثّه
صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم الأمة على التمسّك بعده بكتاب ربهم، وأهل بيت
نبيّهم، وأن يخلفوه فيهما بخير، وسؤاله من يرد عليه الحوض عنهما، وسؤال ربه عزّوجل
الأمة كيف خلفوا نبيّهم فيهما، ووصيّته بأهل بيته، وأنّ الله تعالى أوصاه بهم...».
إذا عرفت هذا فلننظر في ألفاظ الحديث على ضوء كلمات علماء القوم:
* قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم «إني تارك فيكم الثقلين ».
وفي رواية الحافظ الدارقطني بدل «تارك » لفظ «مخلّف »...
هكذا في رواية مسلم وكثيرين.
و «الثقلان » مثنى «ثقل » بفتحتين، كما في ( القاموس ) وغيره، قال في القاموس:
«والثقل ـ محركة ـ: متاع المسافر وحشمه، وكلّ شيء نفيس مصون،
____________
(1)الصواعق المحرقة: 90.
(2) كتاب لا يزال مخطوطاً وعندنا منه نسخة مصورة.
(3) كتاب لا يزال مخطوطاً وعندنا منه نسخة مصوّرة.
( 135
)
ومنه الحديث: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » (1).
أو مثنى «ثِقل » بكسر الثاء وسكون القاف، كما قال جماعة آخرون من أهل الحديث
واللغة، قال في لسان العرب: «التهذيب (2): وروي عن النبي صلّى الله عليه
[ وآله ] وسلّم أنه قال في آخر عمره: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي.
فجعلهما كتاب الله عزّوجل وعترته. وقد تقدم ذكر العترة. وقال ثعلب (3):
سمّيا ثقلين لأن الأخذ بهما ثقيل والعمل بهما ثقيل. قال: وأصل الثقل أن العرب تقول
لكلّ شيء نفيس خطير مصون: ثقل. فسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما...
» (4).
وقال الحافظ الزرندي المدني: «سمّاهما ثقلين، لأنّ الأخذ بهما والعمل بهما
والمحافظة على رعايتهما ثقيل... » (5.
وقال ابن الأثير: «فيه (6): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي.
سمّاهما ثقلين لأنّ الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل. ويقال لكلّ شيء خطير نفيس: ثقل.
فسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما » (7).
وقال النووي: «قوله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم: وأنا تارك فيكم ثقلين. فذكر
كتاب الله وأهل بيته. قال العلماء: سمّيا ثقلين لعضمهما وكبير شأنهما. وقيل: لثقل
العمل بهما » (8).
____________
(1) القاموس المحيط: ثقل.
(2) تهذيب اللغة للامام أبي منصور الأزهري المتوفى سنة: 370.
(3) أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب المتوفى سنة 291.
(4) لسان العرب: ثقل.
(5) نظم درر السمطين 231 ـ 232.
(6) أي: في الحديث.
(7) النهاية في غريب الحديث «ثقل ».
(8) المنهاج في شرح صحيح مسلم 15|180.
( 136
)
* «أوّلهما »:
فقد ترك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئين سمّاهما ـ فيما أخرجه مسلم ـ بـ
«ثقلين » أحدهما: كتاب الله... فما هو الثاني؟ إنه ليس إلاّ «أهل بيته » فلذا قال
النووي بشرح صحيح مسلم: «فذكر كتاب الله وأهل بيته »... وهو أيّ معنىً أراد من
تسمية «الكتاب » بـ «الثقل » فنفس المعنى هو المراد من تسميته «العترة أهل البيت »
بـ «الثقل »، ولا ريب في أنّه إنّما ترك «الكتاب » في الأمة لكي تتمسّك به وتعمل به
وتتبّعه وتطبّق ما جاء به، فكذلك الأمر بالنسبة الى «العترة أهل البيت ».
إذن، «فالكتاب والعترة » هما الخليفتان من بعده، اللذان يملآن الفراغ الحاصل من
فَقده. * ومن هنا فقد جاء الحديث في غير واحدٍ من الروايات بلفظ «إني تارك فيكم
خليفتين » ومن الذين أخرجوه كذلك:
أحمد بن حنبل، عن زيد بن ثابت. وقد تقدم.
وابن أبي عاصم الشيباني المتوفي سنة 287 (1) في ( كتاب السنّة )
(2) عن زيد بن ثابت، وفيه تسمية «الكتاب والعترة » بـ «الثقلين » و
«الخليفتين » معاً، وهذا مما يؤكّد ما قلناه. واعلم أنه قد أخرج حديث الثقلين عن
عليّ، وعبد الله بن عمر، وزيد ابن أرقم، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس... بعشرة
أسانيد (3).
وأبو القاسم الطّبراني، وعنه الحافظ أبو بكر الهيثمي قال: «عن رسول الله
____________
(1) قال الذهبي في العبر 2|79: «كان إماماً، فقهياً، ظاهرياً، صالحاً، ورعاً، كبير
القدر، صاحب مناقب ».
(2) نشر وتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني الذي ذكره «الدكتور » بكلّ احترام وأثنى
عليه.
(3) انظر كتاب السنة: 628 ـ 631.
( 137
)
صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم: إني تركت فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما
لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض. رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات » (1).
وجلال الدين السّيوطي عن أحمد والطبراني وصحّحه.
قال شارحه المنّاوي: «إني تارك فيكم بعد وفاتي خليفتين. زاد في رواية: أحدهما أكبر
من الآخر. وفي روايةٍ بدل خليفتين: ثقلين سمّاهما به لعظم شأنهما. كتاب الله
القرآن، حبل أي هو حبل ممدود ما بين السماء والأرض. قيل: أراد به عهده، وقيل: السبب
الموصل الى رضاه. وعترتي. بمثنّاة فوقية. أهل بيتي. تفصيل بعد إجمال بدلاً أو
بياناً، وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً... »
(2).
فالخليفتان من بعده صلى الله عليه وآله وسلم هما: القرآن وأصحاب الكساء الذين أذهب
الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً...
* «أُذكّركم الله في أهل بيتي »:
ولمّا كان القرآن كلام الله، وكان أصحاب الكساء معصومين مطهّرين بنصّ الكتاب ـ وهم
المراد من «عترتي اهل بيتي » ـ كان من الواجب الأخذ بهما واتّباعهما، والايتمار
بأوامرهما والانتهاء بنواهيهما، والتمسّك بها في جميع الأمور الدينية والدنيويّة...
ولهذا جاء لفظ «الأخذ » والأمر به في رواية غير واحدٍ:
كالترمذي في صحيحه.
وابن أبي شيبة في مصنفه.
____________
(1) مجمع الزوائد 9|163.
(2) فيض القدير 3|14.
( 138
)
وأحمد في مسنده.
وابن سعد في طبقاته.
والطبراني في معجمه الكبير.
وقد تقدمت رواياتهم...
قال القاري: «والمراد بالأخذ بهم التمسّك بمحبتهّم، ومحافظة حرمتهم، والعمل
بروايتهم، والاعتماد على مقالتهم » (1).
وقال شهاب الدين الخفاجي: «أي: تمسّكتم وعملتم واتبعّتموه » (2).
فاذن: «الأخذ » هو «الاتّباع ». * وقد جاء الحديث بلفظ «الاتّباع » عند غير واحد:
كالحاكم في مستدركه. وقد تقدم لفظه.
وكابن حجر المكي في صواعقه، في معنى قوله تعالى: (
وقفوهم إنهم مسئولون ). * وكما حثّ على اتّباع كتاب الله عزّوجل ورغّب في التمسّك به، كذلك حثَّ على
اتّباع العترة أصحاب الكساء والتمسّك بهم فقال ثلاثاً: «أذكّركم الله في أهل بيتي »
قال الزرقاني المالكي بشرح هذه الجملة:
«قال الحكيم الترمذيّ: حضٌّ على التمسّك بهم، لأنّ الأمر لهم معاينة، فهم أبعد عن
المحنة » (3).
وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي: «لقد كرّر هذه الكلمة للمبالغة والتوكيد، وهي إشارة
إلى وجوب أخذ السنّة منهم، كما أنّ الأولى إشارة الى الأخذ بما في
____________
(1) المرقاة في شرح المشكاة 5|600.
(2) نسيم الرياض ـ شرح شفاء القاضي عياض 3|410.
(3) شرح الواهب اللدنية 7|5.
( 139
)
الكتاب. فعلى جميع الذين آمنوا أنْ يكونوا مطيعين لأهل بيت النبي صلّى الله عليه [
وآله ] وسلّم » (1).
ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا أحسّ بدنّو أجله، أوصى أمّته بأهم الأمور
لديه، وهما الكتاب والعترة، وجعلهما الخليفة من بعده، وحثّ على التمسّك بهما
واتّباعهما، وحذّر من تركهما والتخلّف عنهما، خوفاً عليها من الضلالة والهلاك...
قال ابن حجر المكّي: «تنبيه: سمّى رسول الله صلّى الله عليه و[ آله ] وسلّم القرآن
وعترته ـ وهي بالمثنّاة الفوقية: الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين، لأنّ الثقل
كلّ شيء نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنّية والأسرار
والحكم العلية والأسرار الشرعية، ولذا حثّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم على
الاقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم » (2).
وإذا كان الكتاب والعترة بتلك المثابة التي أفادتها روايات صحيح مسلم ـ كما شرح
كبار علماء الحديث ـ فلا يبقى أيّ فرقٍ واختلاف بين مفاد حديث الثقلين في ( صحيح
مسلم ) ومفاده في ( مسند أحمد ) و ( الترمذي ) و ( الطبراني ) و ( الحاكم ) و (
الذّهبي ) وغيرهم...
غير أنّ في روايات هؤلاء زيادة توضيحيّة ليست موجودةً في روايات مسلم...
____________
(1) أشعة اللمعات في شرح المشكاة 4|677.
(2) الصواعق المحرقة: 90.
( 140
)
وإنْ شئت فقارن بين لفظ مسلم ففيه: «ألا أيّها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي
رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا
كتاب الله واستمسكوا به، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه. ثم قال: وأهل بيتي.
أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي ».
وبين لفظ أحمد: «إني أوشك أن أدعى فأجيب، واني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله
عزّوجل. وعترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي. وإن
اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروني بم تخلفوني
فيهما ».
وبين لفظ الترمذي: «إني تارك فيكم ما انْ تمسّكتم به لن تضلّوا أحدهما أعظم من
الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى
يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ».
فهل من فرق؟
أمّا «لن تضلّوا بعدي ».
فبيان لنتيجة التمسّك بالثقلين، وهذا أمر حتمي يفهمه كلّ أحدٍ، فإنّ من تمسّك
بالقرآن والعترة لن يضل، ومن ترك اتّباعهما ضل...
وأمّا «انّهما لنْ يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ».
فبيان لما يستلزمه كونهما معاً جنباً إلى جنبٍ في جميع الأزمنة، اذ لو أمكن مفارقة
العترة الكتابَ في يومٍ من الأيام لما سمّاهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم
بـ «الثقلين ».
( 141
)
وأمّا «فانظروا كيف تخلفوني فيهما».
فتأكيد للوصيّة بهما.
وممّا يؤكد ما ذكرناه من عدم الاختلاف بين هذه الروايات في المدلول والمفاد: ذكر
غير واحدٍ من أعلام الحفاظ إياها في سياقٍ واحدٍ وتحت عنوانٍ واحدٍ... ونحن نكتفي
بكلامٍ واحدٍ منهم:
قال الحافظ محبّ الدين الطبري (1) في كتابه ( دخائر العقبى في مناقب ذوي
االقربى ) ما هذا نصّه:
«باب في فضل أهل البيت، والحثّ على التمسّك بهم وبكتاب الله عزّوجل، والخلف فيهما
بخير:
عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال قال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم:
إني تارك فيكم الثقلين ما إنْ تمستكم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر:
كتاب الله عزّوجل، حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتر
يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب.
وعنه قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم خطيباً، فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما انا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي عزّوجل
فأجيبه، وإني تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فتمسّكوا
____________
(1) من كبار حفّاظ القوم وشيخ الحرم المكي في عصره، توجد ترجمته في: تذكرة الحفاظ
4|1474، النجوم الزاهرة 8|74، البداية والنهاية 13|30، طبقات الشافعية للسبكي 5|8،
الوافي بالوفيات 7|135، طبقات الحفاظ: 510 وغيرها من معاجم التراجم. توفي سنة 694.
( 142
)
بكتاب الله عزّوجل وخذوا به ـ وحثّ فيه ورغّب فيه ثم قال ـ وأهل بيتي. أذّكركم الله
في أهل بيتي ـ ثلاث مرات ـ. فقيل لزيد: من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال:
بلى إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليه الصّدقة بعده. قال: ومن هم؟
قال: هم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس. قال: أكلّ هؤلاء حرم عليهم الصدقة؟
قال: نعم. أخرجه مسلم. وعند احمد معناه من حديث أبي سعيد ولفظه:
انه صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قال: إني أوشك أنْ أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم
الثقلين كتاب الله وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض، وعترتي أهل
بيتي. وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا
فيما تحلفوني فيهما.
وعن عبد العزيز بسنده الى النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلّم قال: أنا وأهل بيتي
شجرة في الجنة، وأعضانها في الدنيا، فمن تمسّك بنا اتخذ إلى ربّه سبيلاً. أخرجه أبو
سعد في شرف النبوة » (1).
____________
(1) ذخائر العقبي: 16.
إنّه قد تبيّن مما ذكرنا أنّ الذي قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في
خطبته ـ يوم خطب بماءٍ يدعى خماً بين مكّة والمدينة ـ هو حديث التمسّك بالكتاب
والعترة... وقد نصَّ على هذا غير واحدٍ من الحفّاظ أيضاً، ولنكتفِ بكلام الحافظ ابن
كثير الدمشقي حيث قال:
«قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قال في خطبته بغدير
خم: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ
الحوض » (1).
إنّه جاء في بعض ألفاظ خطبة الغدير حديث التمسّك بالكتاب والعترة وحديث «من كنت
مولاه فعلي مولاه » معاً... ومن الرواة:
محمد بن جرير الطبري.
وابن أبي عاصم.
والمحاملي.
رواه عنهم علي المتقي الهندي، ونصَّ على أن المحاملي (2) صححه، وقد
____________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6|199.
(2) أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل الضبّي البغدادي ـ المتوفى سنة 330 ـ تجد ترجمته
في: تاريخ بغداد
=
( 144
)
تقدّم نصّه.
ورواه الحاكم النيسابوري بثلاثة طرقٍ عن أبي عوانة عن الاعمش عن حبيب ابن أبي ثابت
عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم... » ثم قال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه بطوله ».
وقد وافقه الحافظ الذهبي على تصحيحه على شرطهما في ( تلخيصه ).
فكان هذا الحديث عن زيد بن أرقم شارحاً لما أخرجه مسلم عنه من خبر خطبته صلّى الله
عليه وآله وسلّم بغديرخم...
وقد تقدّم نص الحديث في الكتاب.
ورواه النسائي في سننه، وعنه الحافظ ابن كثير ثم قال: «قال شيخنا أبو عبدالله
الذهبي: وهذا حديث صحيح » وهذا نصّه بتمامه:
«وقد روى النسائي في سننه عن محمد بن المثنى عن يحيى بن حماد عن أبي معاوية عن
الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع رسول من
حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحاتٍ فقممن ثم قال: كأني قد دعيت فأجبت، إني قد
تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما
لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، ثم قال: الله مولاي وانا ولي كلّ مؤمن، ثم أخذ بيد
علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فقلت لزيد:
سمعته من رسول الله؟ فقال: ما كان في الدوحات أحد الاّ رآه بعينيه وسمعه بأذنيه.
تفرّد به النسائي من هذا الوجه.
____________
=
8|19، الكامل في التاريخ 8|139، العبر 2|222، تذكرة الحفاظ 3|824، طبقات الحفاظ:
343 وغيرها.
( 145
)
قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي: وهذا حديث صحيح » (1).
ومن ذلك يفهم المراد من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «وعترتي أهل بيتي » وهذا
ما نصَّ عليه علماء القوم أيضاً:
قال ابن حجر المكي: «وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة الى عدم انقطاع
متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة...
ثم أحق من يتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ لما
قدّمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته. ولذلك خصّه صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم
بما مرّ يوم غدير خم » (2).
ومنه يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من العترة الطاّهرة في كلّ زمانٍ الى يوم
القيامة... وهذا أيضاً ممّا نصَّ عليه غير واحد:
قال ابن حجر المكي: «وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع
مستأهل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا
أماناً لأهل الأرض كما سيأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: في كلّ خلف من أمتي عدول من
أهل بيتي » (3).
وقال الحافظ الشريف السمهودي في تنبيهات حديث الثقلين:
«ثالثها: إن ذلك يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت
____________
(1) تاريخ ابن كثير = البداية والنهاية 5|206.
(2) الصواعق المحرقة: 90.
(3) الصواعق المحرقة: 90.
( 146
)
والعترة الطاهرة في كلّ زمانٍ وجدوا فيه إلى قيام الساعة، حتى يتوجّه الحث المذكور
إلى التمسّك به، كما أن الكتاب العزيز كذلك ـ ولهذا كانوا ـ كما سيأتي ـ أماناً
لأهل الأرض فاذا ذهبوا ذهب أهل الأرض » (1).
وكذا قال المنّاوي بشرح الجامع الصغير 3|15.
والزرقاني المالكي بشرح المواهب اللدنية 7|8.
ونقلا كلام الشريف السمهودي الحافظ المذكور...
واذ قد عرفت «فقه حديث الثقلين » على ضوء كلمات علماء أهل السنّة المحققين، بعد
الوقوف على كثيرٍ من أسانيده وألفاظه... تتمكّن بكلّ سهولةٍ أن تعرف الذين جعلهم
الله ورسوله قائمين مقام الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من بعده، في إدارة شئون
المسلمين وتدبير أمورهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة، وتزكيتهم وإرشادهم... الى غير
ذلك من وظائف النبوّة...
وإنّ القيام بذلك لا يليق الاّ لمن كان طاهراً مطهّراً من جميع أنواع الرّجس، وقد
عرفت أنّ المراد من «عترتي أهل بيتي » هم: «أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم
الرّجس وطهّرهم تطهيراً ».
وإلاّ لمن كان أعلم الناس بالكتاب وأعرفهم بحقائق الدين... ولا ريب في أن «أهل بيته
» كذلك، ومن هنا فقد ورد التصريح بذلك في بعض ألفاظ حديث الثقلين، كاللفظ المتقدّم
نقله عن الحافظ الطّبراني في ( المعجم الكبير ) المشتمل على قوله صلّى الله عليه
وآله وسلّم: «فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم
فإنهم أعلم منكم » (2).
____________
(1) جواهر العقدين. مخطوط. وعندنا منه نسخة مصوّرة.
(2) أنظر الحديث في الكتاب.
( 147
)
وقال الشريف الحافظ السمهودي: «الذين وقع الحثّ على التمسّك بهم من أهل البيت
النبوي والعترة الطاهرة هم العلماء بكتاب الله عزّوجل، إذ لا يحث صلّى الله عليه [
وآله ] وسلّم على التمسّك بغيرهم، وهم الذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق حتى
يردا الحوض، ولهذا قال: لا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا
تعلّموهم فإنهم أعلم منكم » (1).
وقال الشيخ القاري في شرح المشكاة: «وأقول: الأظهر هو أنّ أهل البيت غالباً يكونون
أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم، المطلّعون على سيرته،
الواقفون على طريقته، العارفون بحكمه وحكمته، وبهذا يصلح أن يكونوا عدلاً لكتاب
الله سبحانه، كما قال: ( ويعلّمهم الكتاب والحكمة
) (2).
ولقد نصَّ نظام الدين النيسابوري في ( تفسيره ) على ضوء حديث الثقلين على كون
«عترته » صلّى الله عليه وآله وسلّم «ورثته، يقومون مقامه » وهذه عبارته بتفسير
قوله تعالى: ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله
وفيكم رسوله
) قال:
«وكيف تكفرون، استفهام بطريق الإنكار والتعجّب. والمعنى: من أين يتطرّق إليكم الكفر
والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم
غضّةً في كلّ واقعة، وبين أظهركم رسول الله يبيّن لكم كلّ شبهة ويزيح عنكم كلّ
علّة...
أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر.
وأمّا النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فإنه وانْ كان مضى إلى رحمة الله في
الظاهر، ولكنّ نور سرّه باقٍ بين المؤمنين، فكأنه باق، على أنّ عترته صلّى الله
عليه
____________
(1) جواهر العقدين ـ مخطوط.
(2) المرقاة في شرح المشكاة 5|600.
( 148
)
[ وآله ] وسلّم ورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً، ولهذا قال: إني تارك فيكم
الثقلين... » (1).
***
____________
(1) غرائب القرآن ورغائب الفرقان 1|347.