عقائد الشيعة الإمامية / الرد على الشبهات

الحُسَيْنُ عليه السلام

سِمـاتُهُ و سِيْرَتُهُ

ترجمة شارحة اعتماداً على ما أورده المحدّثُ المورّخ الشاميّ ابنُ عساكر في كتابه الكبير «تاريخ دمشق»

تأليف
السيّد محمّد رضا الحسيني
الجلالي
محرّم الحرام 1415هـ


ــ[2]ــ

 

الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى الأئمّة الأطهار من آله الأخيار، وعلى الأبرار من أصحابهم والتابعين لهم بإحسان.


ــ[3]ــ

 

مُلاحَظاتٌ

* الأحاديث الواردة في هذا الكتاب ، كلّها مأخوذةٌ من رواية الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، جزء ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ، من النسخة التي طبعهاالشيخ محمد باقرالمحمودي ، في بيروت الطبعة الاُولى سنة 1398 هـ .

وقد وضعتُ أرقام أحاديث النسخة، في بداية كلّ رواية نقلتها، بين معقوفين.

* ثمّ قابلتُ نصوص الروايات بما أورده العلاّمة ابن منظور الأنصاري في مختصر تاريخ دمشق، من الجزء السابع من النسخة التي حقّقها أحمد راتب حمروش ومحمّد ناجي العمر ونشرتها دار الفكر بدمشق سنة 1405.

وأرجَعْتُ إلى مواضع الأحاديث في الهامش.

* ورتّبتُ الكتاب على فقرات مرقّمة حسب العناوين المتعدّدة.

* ونظّمتُ الفهارس حسب أرقام الفقرات التى أثبتهافى الكناب

* والحرف (ص) في أي موضع يعني: (الصفحة) برقمها.


ــ[4]ــ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

على سيرتي في المناسبات والأحداث، وأنا ألتزمُ بقراءة ما يخصّها، لأتعرّف على مجرياتها ومداخلاتها، رغبةً في العلم، وأملاً في أنْ اُؤدّي حقّ ما أقوم به من خدمات دينيّة وتراثيّة أعتزُّ بها...

بدأتُ في أوّل يوم من شهر محرّم الحرام سنة 1415 بقراءة الجزء الخاصّ بترجمة الإمام السبط الشهيد سيّدنا أبي عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، من كتاب «تاريخ دمشق» تأليف الحافظ المؤرّخ الدمشقي ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله (499 ـ 571).

وهو كتاب حافلٌ بالروايات التي أسندها ابن عساكر، المعروف بسعة العلم، والتضلّع في الفنّ، بما يجعله جديراً بكلّ عناية واهتمام.

وقد ناهزتْ أحاديثُ هذه الترجمة، حسب ترقيم محقّق الكتاب «400» حديثاً، ترتبط بالإمام الحسين عليه السلام وشؤون حياته: سمات، وسيرة، قبل كربلاء، وفيها، وبعدها.

والكتاب ـ مثله مثل سائر المؤلّفات القديمة ـ يعتمد اُسلوب الإسناد، فيُكثر من الأسانيد ويعدّدها ويكرّرها، الأمر الذي له أهمّيته وضرورته في مجال النقد والتقييم للتراث، إلاّ أنّه يجعله شاقّاً على غير العلماء والمتخصّصين، أن يراجعوه ويستفيدوا منه، لاستثقالهم لمثل هذا الاُسلوب التراثي، فلا يُقدمون على اقتناء مثله، ولا يستسيغون مطالعته والاستفادة منه، فعزّ عليَّ أنْ يبقى هذا الكتاب وما فيه من ثروة حديثيّة وعلميّة بعيداً عن متناول أكثر محبّي المعرفة....

فقمتُ باستخلاص الأحاديث من ذلك الكتاب العظيم، وعمدتُ إلى تنظيمها بشكل يستذوقه عامّة القُرّاء.


ــ[5]ــ

ولمزيد التيسير، والرغبة في متابعتها، وضعت كلّ حديث في إطار معيّن، يحدّد الأبعاد المنظورة ـ وحتى غير المنظورة ـ لمؤدّاه، ممّا يتوقّف عليه فهمُ النصّ: لغوياً، وتاريخياً، وعقائدياً، ومنهجياً، كي لا يبقى النصُّ جامداً، ولا مبهَماً، في صورة بُعده عن القرائن الحالية أو المقالية، المتوافرة في بيئات صدوره، وربّما في بيئات اُخرى لها الصلة الوثيقة بالنصّ ومدلوله، ممّا يفرض ذكر القرائن، وضرورتها لتوضيح النصّ وفهمه.

أمّا غير «تاريخ ابن عساكر» فقد التزمتُ بعدم النقل منه، إلاّ بعض الشؤون التي اعتمدتُ فيها أساساً على كتاباتي السابقة، وخصوصاً ما احتوى منها على قضايا «حسينيّة».

ورغم أنّ عملي هذا متواضعٌ، فإنّ أملي بالله واسعٌ: أَنْ يتقبّلَهُ بقبول حَسَن، فأحظى أنْ يؤهّلني لشفاعة الحسين عليه السلام يوم الورود، وأنْ يثبّتَ لي قدمَ صدق عنده، مع الحسين، وأصحاب الحسين، الذين بذلوا مُهَجَهم دون الحسين عليه السلام.

 

حرّر في محرّم الحرام سنة 1415

وكتب

السيد محمّد رضا الحسيني

الجلالـــي


ــ[6]ــ

مَنْ هو ابن عساكر؟

قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء»:

الإمام، العلاّمة، الحافظ الكبير، المجوّد، محدّث الشام، ثقة الدين، أبو القاسم الدمشقي، الشافعي، صاحب «تاريخ دمشق».

ولد في المحرّم في أوّل الشهر، سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وارتحل إلى العراق في سنة عشرين، وحجّ سنة إحدى وعشرين، وارتحل إلى خراسان ـ على طريق أذربيجان ـ سنة تسع وعشرين وخمس مائة.

وهو: عليّ بن الحسن بن هبة الله بن عبدالله بن الحسين. وعددُ شيوخه الذين في «معجمه»: «1300» بالسماع، و«46» شيخاً أنشدوه، وعن «290» شيخاً بالإجازة، و«بضعاً وثمانين» امرأة، فالمجموع «1716» تقريباً !

وصنّف الكثير.

وكان فَهِماً، حافظاً، متقناً، ذكيّاً، بصيراً بهذا الشأن، لا يُلحقُ شاؤُه ولا يُشقّ غباره، ولا كان له نظيرٌ في زمانه.

تُوفيَ في رجب سنة «571» ليلة الاثنين، حادي عشر الشهر، وصلّى عليه القطب النيسابوري، وحضره السلطان، ودفن عند أبيه بمقبرة باب الصغير، بدمشق.

سير أعلام النبلاء، الجزء العشرون (ص554 ـ 571)

الترجمة (354) باختصار وتصرّف


ــ[7]ــ

1 ـ الهويّة الشخصيّة

اسمه :

الحُسَيْن :

عن عليّ عليه السلام:

[16] لمّا ولد الحسن سمّاه «حمزة». فلمّا وُلِدَ الحسين سمّاه بعمّه «جعفر».

قال عليّ: فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: «إنّي اُمرتُ أن اُغيّر اسم ابنَيَّ هذين».

فقلت: الله ورسوله أعلم.

فسمّاهما «حسناً» و «حسيناً»(1).

وإذا كان عليٌّ يُحاول أن يُخَلّد باسم ابنيه ذكر عمّه حمزة، وأخيه جعفر، وتفاؤلاً أن يخلفاهما في النضال والهمّة والمجد، فإنّ الوحي الذي لا ينطق الرسول إلاّ عنه، قد حكم لهما باسمين آخرين، وأمَرَ الوحيُ الرسول الكريم أن يُبلِّغَ هذا الحكم، فلم يجد من عليٍّ غير التسليم لأمر السماء.

والاسمان السماويّان هما:

«الحسن والحسين، اسمان من أسماء أهل الجنّة، لم يكونا في الجاهلية»(2).

ويؤكّد الرسولُ على هذه التسمية فيُعْلِنُ عن أسباب اختيارها، فيما رواه سلمان، قال:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/116).

(2) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام (ص17 رقم22).


ــ[8]ــ

[22] قال رسول الله: سمّى هارون ابنيه «شَبَراً» و «شُبَيْراً» وإنّي سَمَّيتُ ابنَيَّ الحسنَ والحُسَيْنَ بما سمّى به ابنيه: شَبَراً، وشُبَيْراً.

إنّ الرسولَ إذْ يعلّل تسمية الحسن والحسين، بما فعل هارون، يذكّر بما لاسم هارون من ربط بشأن أبي الحسن والحسين، وما جاء عن الرسول من حديث «المنزلة» حين أعلن فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: «عليٌّ منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي» الذي خرّجه بعض الحّفَاظ بـ «500» إسناد، وعدّ في المتواتر(1).

فإذا كان عليّ بمنزلة هارون في الخلافة، والوزارة، فليكن اسما ابنيه كاسمي ابني هارون، ليدلاّ على التنزيل منزلته في جميع الشؤون، بلا استثناء سوى النبوّة التي ختمت بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

كنيته:

أبو عبد الله :

اتّفق على ذلك المؤرّخون والمحدّثون، وما كنّي بغيرها(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) اُنظر الحديث بطرق ابن عساكر في تاريخ دمشق، ترجمة الإمام عليّ عليه السلام الأحاديث المرقّمة (336 ـ 456) المجلّد الأول (ص306 ـ 394) وما علّق عليه محقّقه المحمودي.

(2) لاحظ تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص22) ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/117).


ــ[9]ــ

ألقابه:

سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

كذا ذكره ابن عساكر(1) وجاء في المأثور عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تلقيب الإمام الحسين به، وكذلك باللقب التالي(2):

سيّد شباب أهل الجنّة:

وهذا اللقب مأخوذ من حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قال في الحسين وفي أخيه الحسن: «.. سيّدا شباب أهل الجنّة» وسيأتي في الفقرة(11).

ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

كذا ذكره ابن عساكر(3) وهو كذلك مأخوذ من حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال فيه وفي أخيه الحسن: «هما ريحانتاي من الدنيا» وسيأتي في الفقرة(11).

أبوه:

أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلّب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، القرشيّ، الهاشميّ، المطّلبيّ، الطالبيّ، عليه السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص5) ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (17/115)

(2) تاريخ أهل البيت عليهم السلام، فصل الألقاب (ص130).

(3) تاريخ دمشـق، ترجمة الإمام الحسين عليه السـلام (ص5) ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (ص7/115).


ــ[10]ــ

اُمّه:

الزهراء فاطمة بنت رسول الله محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

واُمّها: خديجة بنت خويلد بن أسَد بن عبد العزّي بن قصيّ(1).

أمّا الهالة التي تكتنف الحسين عليه السلام من طرفي اُمّه وأبيه، وما لتلك العائلة الكريمة من الشرف في النسب والحسب فلنقرأ عنها الحديث:

[173] عن ربيعة السعدي، قال: لمّا اختلف الناس في التفضيل، رحلتُ راحلتي، وأخذتُ زادي حتّى دخلتُ المدينة، فدخلتُ على حُذيفة بن اليمان، فقال لي: ممّن الرجلُ؟ قلتُ: من أهل العراق! فَقال: من أيّ العراق؟ قلتُ: رجل من أهل الكوفة.

قال: مرحباً بكم، يا أهل الكوفة.

قلتُ: اختلف الناسُ في التفضيل، فجئتُ لأسألك عن ذلك؟

فقال لي: على الخبير سَقَطْتَ، أما إنّي لا اُحدّثك إلاّ بما سمعتْهُ أُذنايَ ووعاهُ قلبي وأبصرتْه عيناي:

خرج علينا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كأنّي أنظر إليه كما أنظر إليك الساعة ـ حاملَ الحسين بن عليّ على عاتقه ـ كأني أنظر إلى كفّه الطيّبة واضِعَها على قدمه يُلصقها بصدره ـ فقال: يا أيُّها الناسُ، لأعرفنّ ما اختلفتم ـ يعني في الخيار ـ بعدي.

هذا الحسينُ بن عليّ: خير الناس جدّاً، وخير الناس جدّةً:

جدّه مُحمد رسول الله، سيّد النبيّين.

وجدّته خَديجة بنت خويلد، سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله ورسوله.

هذا الحسينُ بن عليّ: خير الناس أباً، وخير الناس أُمّاً:

أبوه: عليّ بن أبي طالب، أخو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووزيره، وابن عمّه، وسابق رجال العالمين إلى الإيمان بالله ورسوله.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص23).


ــ[11]ــ

وأُمّه فاطمة بنت محمّد، سيّدة نساء العالمين.

هذا الحسينُ بن عليّ: خيرُ الناس عمّاً، وخير الناس عمّةً:

عمّه جعفر بن أبي طالب، المزيَّن بالجناحين يطير بهما في الجنّة حيثُ يشاء.

وعمّته أُمّ هانئ بنت أبي طالب.

هذا الحسين بن عليّ: خير الناس خالاً، وخير الناس خالةً:

خاله القاسم بن محّمد رسول الله.

وخالته زينب بنت محّمد رسول الله.

ثمَّ وضعه عن عاتقه، فدرج بين يديه، وحَبا.

ثم قال: يا أيّها الناس: هذا الحسين بن عليّ: جدّه وجدّته في الجنّة، وأبوه وأُمّهُ في الجنّة، وعمّه وعمّتهُ في الجنّة، وخاله وخالته في الجنّة، وهو وأخوه في الجنّة. إنّه لم يُؤْتَ أحدٌ من ذرّيّة النبيّين ما أُوتي الحسين بن عليّ ما خلا يوسف بن يعقوب(1)

2 ـ تواريخ وأرقام

الولادة: عامها وشهرها ويومها:

أجمع المؤرّخون على ولادته في سنة أربع من الهجرة. ولكنّ محدّثو الشيعة وعلماؤهم أثبتوا ولادته سنة ( ثلاث ) من الهجرة.

ونقل ابن عساكر عنهم ولادته في شهر شعبان، لِليال منه أو لخمس ليال بالضبط، والمشهور في الثالث منه.

ولكنّ التحقيق يدلّنا على أنّ ولادته كانت في آخر ربيع الأوّل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/5 ـ 126).


ــ[12]ــ

لإجماع الرواة على ولادة الحسن أخيه في النصف من شهر رمضان(1).

وإجماع أهل البيت على ولادة الحسين بعده بـ «ستّة اشهر وعشرة أيّام»(2).

مكان الولادة: المدينة المنوّرة:

وبالضبط في بيت عليّ وفاطمة الزهراء، المجاور لدار الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والواقع في داخل المقصورة الشريفة، وسط المسجد النبويّ الشريف ثاني الحرمين الشريفين، من أفضل بقاع الأرض.

الشهادة: عامها وشهرها ويومها:

قال ابن عساكر: أجمع أكثر أهل التاريخ أنّه قتل في المحرم سنة إحدى وستّين، يوم عاشوراء يوم السبت(3) وقيل: الجمعة(4)

مكان الشهادة: نَهر كربلاء:

وبالضبط جنبَ الفُرات المارّ بمدينة كربلاء المقدّسة، والتي تسمّى نينوى، والغاضرية، والحائر، قريباً من الكوفة في أرض العراق.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام (ص10) الأحاديث (8 ـ 12) وانظر ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص295 رقم395) و (ص282 رقم364).

(2) اُنظر تاريخ أهل البيت عليهم السلام (ص76).

(3) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص282).

(4) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص288) ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/116 و156).


ــ[13]ــ

مدّة عمره:

ستّ وخمسون عاماً وتسعة أشهر وعشرة أيّام(1).

فكان مقامُه مع جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: سبع سنين إلاّ شهراً.

وأقامَ مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثين سنة إلاّ خمسة أشهر وأيّام.

ومع أخيه الحسن عليه السلام عشر سنين إلاّ ستّة أشهر وعشرين يوماً.

وإمامتهُ بعد أخيه عشر سنين وعشرة أشهر إلاّ عشرة أيّام(2).

خرج من المدينة، بعد ما جاء خبر موت معاوية في النصف من رجب سنة ستّين(3).

وخرج من مكّة متوجّهاً إلى العراق يوم الاثنين في عشر ذي الحجّة سنة ستّين(4).

وورد كربلاء في الثاني من المحرّم سنة واحد وستّين(5).

وكان قتله في العاشر من المحرّم يوم عاشوراء من تلك السنة(6).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال ابن عساكر: «وستّ وخمسون في سنّه أثبت» وقد رواه عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (رقم356) ومن المعلوم أنّ ذلك باهمال الأشهر والأيام الباقية، كما أنّ من قال بأنّ عمره «سبع وخمسون» استثنى الشهرين والعشرين يوماً.

(2) انظر: تاريخ أهل البيت عليهم السلام (ص76).

(3) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص199 ـ 200) ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/138).

(4) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص205).

(5) أنساب الأشراف للبلاذري (3/176).

(6) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص207).


ــ[14]ــ

3 ـ المظاهر الخلقية

كان الحسين عليه السلام يُشبَّهُ بجدّه الرسول في الخِلْقة واللونِ، ويقتسمُ الشَبَهَ به صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أخيه الحَسَن.

ولا غَرْوَ، فهما فِلقتان من ثمرة واحدة من الشجرة التي قالَ فيها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

[164] أنا الشجرة، وفاطمة أصلها ـ أو فرعها ـ وعليّ لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا ورقها، فالشجرة أصلها في جنّة عَدْن، والأَصل والفرع واللقاح والثمر والورق في الجنّة(1).

روى ذلك عبد الرحمن بن عوف قائلاً: ألا تسألوني قبل أن تشوبَ الأحاديثَ الأباطيلُ!

فالحسنُ أشبَهَ جدَّه ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبهه ما كان أسفل من ذلك من لدن قدميه إلى سرّته.

وكان الإمام عليّ عليه السلام يُعلنُ عن ذلك الشَبَه، ويقول:

[47] : من سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بين عنقه وثغره، فلينظر إلى الحسن.

ومن سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما بين عنقه إلى كعبه خَلقاً ولوناً، فلينظر إلى الحسين بن عليّ.

وقال في حديث آخر: [45] اقتسما شَبَهَهُ(2).

ليكون وجودهما ذكرى، وعبرةً:

استمراراً لوجود النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في العيون، مع ذكرياته في القلوب، وأثره في العقول.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/3 ـ 124).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/3 ـ 124).


ــ[15]ــ

وعبرةً للتاريخ، يتمثّل فيه للقاتلين حسيناً، والضاربين بالقضيب ثناياه، أنهم يقتلون الرسول ويضربون ثناياه.

ولقد أثار ذلك الشَبَهُ خادِمَ الرسول: أنسَ بن مالك لَمّا رأى قضيبَ ابن زياد يَعْلو ثنايا أبي عبد الله الحسين حين أُتي برأس الحسين، فجعلَ ينكتُ فيه بقضيب في يده، فقال أنس:

[48] أما إنّه كانَ أشبههما بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

4 ـ الخلق العظيم

حِجْرُ الزهراء فاطمة بنت الرسول ذي الخلق العظيم، هو خير مهد لتربية أولادها على ذلك الخلق، وأكرم به.

ولكن لمّا رأت الزهراء والدها الرسول محتضراً، وعلمتْ من نبئهِ بسرعة لحوقها به، هبّتْ لتستمدّ من الرسول لأولادها الصغار المزيدَ من ذلك.

واجتهدتْ أن تطلبَ من أبيها علانية ـ حتّى يتناقل حديثها الرواة ـ أن يُورِّث ابنيها:

[55 ـ 57] أتَتْ فاطمةُ بنت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بابنيها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في شكواه التي توفّي فيها ـ فقالت: يا رسول الله، هذانِ ابناكَ، تورّثهما شيئاً؟ ـ أو قالت: ـ ابناك وابناي، انحلهما.

قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: نعم.

أمّا الحسن: فقد نحلتُه هَيْبتي وسُؤددي.

وأمّا الحسين: فقد نحلتُه نَجدتي وجُودي.

قالتْ: رضيتُ، يا رسول الله(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: (7/118).


ــ[16]ــ

لقد ذكّرتْ الزهراءُ فاطمةٌ أباها الرسولَ بالإرث منه. فوافقها بقوله: «نعَم».

ولم يقل لها: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث».

فإنّ الزهراءَ الوارثة أوْلى بأنْ يُذكر لها عدم الإرث، لو كان، ومع أنّ ابنيها الحسنين لا يرثان من حيث الطبقة من جدّهما، مع وجود امّهما بنت النبي ـ فالنبي كذلك لم يعارض ابنته في طلبها، بل قال لها: «نعم».

لكن الذي يخلُد من إرث النبيّ هو الخلُق العظيم، دون حُطام الدنيا الزائل، وهو أشرف لهما، ولذلك رضيت الزهراءُ لابنيها من الرسول إذ نحلهما ـ أيضاً ـ أهمّ الصفات الضروريّة للقيادة الإلهيّة:

الحلم، والصبر على الشدائد، والهيبة، والسؤدد، والجلالة، للحسن الممتَحن في عصره بأنواع البلاء،فأعطاه ما يحتاجه الأئمّة الصابرون.

والشجاعة، والجرأة، والنجدة، والجود، للحسين الثائر في سبيل الله، لإعلاء كلمته، فأعطاه ما هو أمسّ للأئمة المجاهدين.

5 ـ الطهارة الإلهيّة

وإذا تقرّرَ في اللوح أن يكونَ الإمامُ الحُسَين عليه السلام من الأئمّة الّذين تجب طاعتهم، فإنّ الوحيَ الذي عاش الحسينُ في ظلّه، حيث كان بيتُ الرسالة مهبطَهُ، تنزلُ آياتُه على جدّه، وهو يحبُو في أفنانه، لابُدّ وأن يؤكّد ما تقرّر في اللوح.

وكذلك كان، فهذه أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة تقول:

[102] نزلت هذه الآية في بيتي: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)وفي البيت سبعة: جبريل، وميكائيل، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين.


ــ[17]ــ

قالت: وأنا على باب البيت، فقلت: يا رسول الله ألستُ من أهل البيت؟

قال: إنّك على خير، إنّك من أزواج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وما قال: «إنّك من أهل البيت!»(1).   وفي حديث آخر:

[105] إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان عند أُمّ سلمة، فجعَل الحسنَ من شقّ، والحسين من شقّ، وفاطمة في حجره، فقال: (رحمةُ اللهِ وبركاتُه عليكم أهلَ البيتِ إِنَّه حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

وكان موعدُ المباهلة، عندما أمر الله رسولَه بقوله: (فَقُلْ تَعَالَواْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ).

فإنّ الإمام عليّاً عليه السلام قال:

[162] خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين خرج لمباهلة النصارى ـ بي، وبفاطمة والحسن والحسين(2).

ثم قال النبي: هؤلاء أبناؤنا، يعني: الحسن والحسين، وأنفسنا، يعني: عليّاً. ونساؤنا، يعني فاطمة.

وإذا وقفوا مع النبيّ في هذا الموقف الخاصّ العظيم، فلابُدّ أن يتّسمَ الواقفون معه بما يتّسم به من الطهارة والقُدس والعظمة.

6 ـ القوة الغيبية

وُلِدَ الحسينُ، ونَما وعاشَ طفولته في مهبط الملائكة، حيث تخفق صعوداً ونزولاً على جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ترفده بالوحي، وأنباء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/120).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/123).


ــ[18]ــ

السماء، ومغيّبات الأرض.

وإذا حطّتْ طيور الوحي أو طارتْ، فإنّ زَغَبَ أجنحتها لابُدّ أنْ يتناثر في أروقة هذا المكان، وإنّ أهل البيت لابُدّ وأنْ يحتفظوا بهذا الزغب ليجدّدوا به ذكريات الرسول والنبوّة.

والرسـول نفسه قد خَصَّ الحسـن والحسيـن بتعويذين جُمع فيهمـا زغب جناح جبريل أمين الوحي، يحملانه معهما، ليكونا أظهر دليل على ارتباطهما بالسماء.

[172] عن عبدالله بن عمر: كان على الحسن والحسين تعويذان فيهما من زغب جناح جبرئيل(1).

وإذا كان في التعويذ دعمٌ معنويّ، فإنّ لجبريل موقفاً آخر مع الحسين خاصّة، إذ كان يدعمُه مادّياً ويبثّ فيه القوّة والشجاعة، ففي الحديث:

[156] أنّ الحسنَ والحسينَ كانا يصطرعان فاطّلع عليّ على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يقول : ويهاً الحسنَ.

فقال عليّ: يا رسول الله، على الحسين؟!

فقال: إنّ جبرئيل يقول: ويهاً الحسين(2).

إنّه من أجمل المناظر أن يلعب الصغار ببراءة الطفولة، ولكن الأجمل من ذلك أن يكون بمشهد النبيّ الأعظم من جانب، وجبرئيل مَلَك السماء من جانب آخر. وإذا كان جبرئيل ينفثُ في الحسين روح القوّة والشدّة والتشجيع، فإنّ ذلك بلا ريب بأمر من السماء إذ أنّ الملائكة الكرام (يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).

ولجبرئيل شأن آخر مع الحسين، أعظم، عندما كان المنبئ عن قتله وشهادته، والمُراسِل الأوّل بأنباء السماء عن شهيد كربلاء، بل أتى النبيَّ من أرضها بتربة حمراء، إلى آخر الحديث الذي سنذكره في الفقرة (28).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/125).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/122).


ــ[19]ــ

وكان أمير المؤمنين عليه السلام يعرف ما تميّز به الحسين عليه السلام من القوّة الغيبيّة التي نفثها فيه جبرئيل، فكان يشّبهه بنفسه في الشجاعةوالإقدام ويقول:

[184] وأشبه أهلي بي: الحُسينُ(1).

وكان إذا تحدّث عن الحرب يقول:

[185] وأمّا أنا وحُسين، فنحن منكم وأنتم منّا(2).

وهو البطل المقدام الذي لا تنكر ضرباته، ولا تفلّ عزماته.

والإمام الحسن عليه السلام يُعلن عن شدّة الحسين وصلابته حين قال له:

[187] أي أخ، والله، لوددتُ أنّ لي بعض شدّة قلبك(3).

7 ـ شؤون أُخرى

1 ـ بين الحسن والحسين:

جاء في النصوص عن أهل البيت عليهم السلام أنّه:

[13 و14] كان بين الحسن والحسين: طهر، وحمل(4).

وأقلّ الطهر عشرة أيّام، وكان الحمل ستّة أشهر، وهو أقلّ ما يُمكن منه، وقد صرّح أهلُ البيت بأنّه «لم يولد لها إلاّ الحسين وعيسى»(5).

فالذي كان بين ولادتي الحسن والحسين من التفاوت هو «ستّة أشهر وعشرة أيام» وهو ما جاء التصريحُ به في المأثور من تاريخ أهل البيت عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2) و (3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/128).

(4) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/116).

(5) تاريخ أهل البيت عليهم السلام (ص74).


ــ[20]ــ

2 ـ عند الولادة:

جاء في الحديث عن بشر بن غالب قال:

[9] كنتُ مع أبي هريرة فرأى الحسين بن عليّ، فقال: يا أبا عبد الله، لقد رأيتك على يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد خضبتهما دماً، حين أُتي بك، حين وُلِدتَ، فسرّرك، ولفّك في خرقة، ولقد تفل في فيك، وتكلّم بكلام ما أدري ما هو؟

ولقد فعلَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كل ذلك خصّيصاً بالحسين عليه السلام وهو أمر لا يخفى على الحسين أنّ جده فعله، فلابُدّ أنّ أخصّ أهله به قد أخبره، ولكن ماذا في إخبار أبي هريرة به من فائدة؟!

هل يريد أن يُثبت اتّصاله بالنبيّ وحضوره معه منذ السنة الرابعة من الهجرة؟!

أو يريد أن يزعم أنّه كان من خاصّة النبيّ فكان قريباً منه إلى هذا الحدّ؟! لكن: ما هو الجواب عن الأخبار الكثيرة المصرّحة بتأخّر إسلام أبي هريرة، ولحوقه بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد مولد الحسين عليه السلام، وبالضبط في السنة السابعة من الهجرة المباركة؟

3 ـ الرضاع:

لابُدّ أنّ الحسين ارتضع بلبان المعرفة والحكمة من ثدي الزهراء أُمّه، وقد ورد في الحديث أنّ الرسول نفسه زقّه بلسانه، وبإبهامه يمصّ منهما ما يُنبت اللحم.!

لكن جاء في الحديث أنّ زوجة العبّاس عمّ النبيّ، كانت مرضعة له، وهي أُم الفضل بنت الحارث:

[8] إنّها رأتْ ـ فيما يرى النائمُ ـ أنّ عضواً من أعضاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، في بيتها.


ــ[21]ــ

قالت: فقصصتُها على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: «خيراً رأيتِ، تلدُ فاطمةٌ غلاماً فترضعيه بلبن قُثَم».

فولدتْ فاطمةٌ غلاماً، فسمّاه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حُسيناً، ودفعه إلى أُمّ الفضل، وكانت ترضعه بلبن قُثَم(1).

فقُثَم بن العبّاس كان رضيعَ الحسين عليه السلام.

وله رضيع آخر جاء اسمه في مقتل الحسين عليه السلام وهو عبد الله بن يَقْطُر، كان رسوله عليه السلام إلى الكوفة، قتله عبيد الله بن زياد، قبل وقعة كربلاء(2).

4 ـ الغنّة الحُسينية:

جاء في الحديث:

[264] عن سفيان، عن شهاب بن حراش، عن رجل من قومه، قال: كنت في الجيش الذي بعثهم عبيد الله ابن زياد إلى حسين بن عليّ ـ وكانوا أربعة آلاف يريدون الديلم، فصرفهم عبيد الله بن زياد إلى حُسين ابن عليّ ـ فلقيتُ حُسيناً، فرأيته أسود الرأس واللحية، فقلتُ له: السلام عليك يا أبا عبد الله.

فقال: وعليك السلام ـ وكانت فيه غُنّة ـ فقال: لقد بانت منكم فينا سلة منذ الليلة ـ يعني: سُرِقَ ـ.

قال شهاب: فحدّثتُ به زيد بن عليّ فأعجبه: «وكانت فيه غُنّة».

قال سفيان: وهي في الحُسينيّينَ.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ تاريخ دمشق، الحديث [231] و [232] ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/116).

(2) لاحظ تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام (ص152) رقم (25).


ــ[22]ــ

5 ـ كان يصبغ بالوسمة:

جاء في الحديث:

[54] عن عمر بن عطاء، قال: رأيتُ الحُسين بن عليّ يصبغ بالوسمة، أمّا هو فكان ابن ستّين، وكان رأسه ولحيته شديدَي السواد.

6 ـ تواضع وكرم:

جاء في الحديث:

[196] عن أبي بكر ابن حزم: مرّ الحسين بمساكين يأكلون في الصُفّة، فقالوا: «الغداءَ».

فنزل، وقال: إن الله لا يحبُّ المتكبّرين، فتغدّى، ثم قال لهم: قد أجبتُكم، فأجيبوني. قالوا: نعم.

فمضى بهم إلى منزله، فقال للرباب: أخرجي ما كنتِ تدّخرينَ(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/129).


ــ[23]ــ

 

 

الباب الثاني:

سيرة الحسين عليه السلام قبل كربلاء.

 

أولاً: في حماية الرسُول صلّى الله عليه وآله وسلّم

ثانياً: بعد غياب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

ثالثاً: في مقام الإمامة


ــ[24]ــ

8 ـ رواية الحديث الشريف

وُلِدَ الحسينُ عليه السلام، وجدّه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم منهَمكٌ في بثّ الرسالة الإسلامية، والدولة آخذة بالأوج والرفعة، والرسولُ القائدُ لا ينفكّ يدبّر أُمورها، ويرعى مصالحها، ويُعالج شؤونها، ويخطّط لها.

فالحسين السبط، الذي يدور في فلك جدّه الرسول، ويجلس في حجره، ويصعد على ظهره، ويرتقي عاتقه وكاهله، لابُدّ وأن يمتلئ بكلّ وجوده من كلام الرسول وحديثه، فهو يسمع كلّ ما يقول، ويرى كلّ ما يفعل، وقد عاشر جدّه سبعاً من السنين، تكفيه لأنْ يعيَ منه الكثير من الأُمور التي تعدّ في اصطلاح العلماء «حديثاً» لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، و«سُنّة» له.

وقد ابتدأ ابن عساكر برواية بعض الأحاديث التي سمعها من جدّه، وأوَّل حديث ذكره هو:

[1] قال عليه السلام: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة وإن قدم عهدها، فيُحدِث لها استرجاعاً، إلاّ أحدَثَ الله له عند ذلك، وأعطاهُ ثوابَ ما وعده عليها يوم أُصيبَ بها(1).

أَوَمن القَدَرِ أن يكون هذا أوّل حديث يُروى في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام؟! أوْ أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد أنْ يلقّنَ الحسين في أوّل دروسه له، درساً في الصبر على المُصيبة، التي تكون قطب رحى سيرته، ومقرونة باسمه مدى التاريخ؟!

إنّ في ذلك ـ حقّاً ـ لَعِبْرةً!

وحديث آخَر نقله ابن عساكر في ترجمة الإمام عليه السلام:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/115).


ــ[25]ــ

[2] قال: إنّ أبي حدّثني ـ يرفع الحديث إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنّه قال: «المغبون: لا محمود، ولا مأجور»(1).

وهذا درس نبويّ عظيمٌ: فإنّ عمل الإنسان لدنياه يستتبع الحمدَ، وعمله لآخرته يستتبع الأجر، والأعمال بالنيّات.

أمّا أنْ يُحتالَ عليه ويُغبَنَ، فيؤخذَ منه ما لانيّة له في إعطائه، فهذا هو المغبون الذي لا يُحمد على فعله إن لم يُعاتَبْ، ولا يؤجرَ على شيء لم يقصد به وجه الله والخير، بل هو أداةٌ لتجرُّئ الغابنين واستهتارهم، كما يؤدّي إلى الاستهزاء بالقِيَم واستحماق الناس.

ففي الحديث دعوة إلى التنبُّهِ والحذر واليقظة، حتّى في الأُمور البسيطة الفردية، فكيف بالأُمور المصيريّة التي ترتبط بحياة الاُمّة؟!

إنّ في ذلك ـ أيضاً ـ عِبْرةً، لقّنها الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم لحفيده الحسين عليه السلام!

9 ـ بيعة الرسول

الّذين لم يبلغوا الحُلُمَ لم يُكلَّفوا في الدين الإسلامي بما يشقُّ عليهم، ولم يُعامَلوا إلاّ بما يلائم طفولتهم من الآداب.

فأمرٌ مثل «البيعة» التي تعني الالتزام بما يَقع عليه عقدها، لا يصدُر إلاّ من الكبار، لأنّها تقتضي الوعيَ الكاملَ، ومعرفة المسؤولية، والشعور بها، وتحمّل ما تستتبعه من أُمور، وكلّ ذلك ليس للصغار قبل البلوغ فيه شأن.

إلاّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ميّز بعض من كان في عمر الصغار من أهل البيت عليهم السلام بقبول «البيعة» منهم.

وهذا يستلزم أنْ يكون عملهم بمستوى عمل الكبار، وإلاّ لنافى الحكمة


ــ[26]ــ

التي انطوى فعل الرسول عليها بأتمّ شكل وبلا ريب! فالمسلمون يربأون بالنبيّ وحكمته، أن يقوم بأمر لغو.

وجاء الحديث عن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام:

[194] أنّه قال: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بايع الحسن والحسين، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن جعفر، وهم صغارٌ لم يبلغوا.

قال: ولم يبايع صغيراً إلاّ منِّا(1).

وتدلُّ هذه البيعة على أنّ قلّة الأعوام في أولاد هذا البيت الطاهر، ليستْ مانعةً عن بُلوغهم سنّ الرشد المؤهِّل للأعمال الكبيرة المفروضة على الكبار، مادام فعل الرسول المعصوم يدعمُ ذلك، ومادام تصرّفهم يكشف عن أهليّتهم! ومادام الغيبُ، والمعجز الإلهيّ يُبَيّن ذلك.

فليس صِغَر عمر عيسى عليه السلام مانِعاً من نبوّته مادام المعجِز يرفده في المهد يكلّم الناس صبيّاً، وليس الصِغرَ في عمر الحسين مانِعاً من أن يُبايعه جدّه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

10 ـ الرسولُ يفعلُ

وَجَدَ الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم سبطَه الحسينَ، يلعبُ مع غلمان في الطريق، فأسرعَ الجدُّ أمامَ القوم، وبسطَ يديه ليحتضنَه، فطفق الحسينُ يمرُّ هاهنا مرّةً، وهاهنا مرّةً، يُداعب جدّه، يفرّ منه دلالاً، كما يفعلُ الأطفال، فجعلَ الرسولُ العظيم يُضاحكُهُ حتّى أخذه.

ذكر هذا في الحديث، وأضاف الراوي له، قال:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/129).


ــ[27]ــ

[112 و115] فوضع الرسول إحدى يديه تحت قفاه، والأُخرى تحت ذقنه، فوضع فاه على فيه، فقبّله، وقال:

«حُسينٌ منّي، وأنا من حُسين، أحَبَّ الله من أحبَّ حُسيناً، حُسينٌ سِبْط من الأسباط»(1).

إنّ الرسول، وهو يحمل كرامة الرسالة، وثقل النبوّة، وعظمة الأخلاق، وهيبة القيادة، يُلاعب الطفلَ على الطريق. فلابُدّ أن يكون لهذا الطفل شأنٌ كريمٌ، وثقيلٌ، وعظيمٌ، ومهيبٌ، مناسبٌ لشأن الرسول نفسه، ويُعلن عن سبب ذلك فيقول: «حُسَينٌ منّي وأنا من حُسَين» ليؤكّد على هذا الشأن، وأنّهما ـ : الحسين والرسول ـ وِفقان كما سنراه في الفقرة التالية (11).

ومنظر آخر:

حيث الرسول الذي هو أشرف الخلق وأقدسهم، فهو الوسيط بين الأرض وبين السماء، فهو أعلى القِمَم البشريّة التي يمكن الاتّصال بالسماء مباشرة، بالاتّصال بها.

ومَنْ له أنْ يرقى هذا المُرتقى العالي، الرهيب؟

لا أحدَ، غيرُ الحسنِ، وأخيه الحسينِ، فإنّهما كانا يستغلاّن سجود النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا صلَّى، فيثبانِ على ظهره، فإذا استعظم الأصحاب ذلك، وأرادوا منعهما، أشار النبي إليهم «أنْ دعوهما».

ثم لا يرفع الرسول رأسه من سجوده حتّى يقضيا وطرهما، فينزلان برغبتهما.

وفي نصّ الحديث:

[116 و142 و143] فلمّا أن قضى الرسول الصلاةَ، وضعهما في حجرهِ، فقال:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/120).


ــ[28]ــ

«مَنْ أحبّني، فليحبَّ هذين»

إنّ عملهما مع لطافته لا يستندُ إلى طفولة تفقد الوعي والقصد، لأنّهما أجَلُّ من أن لا يُميّزا بينَ حالة الصلاة وغيرها، وموقف الرسول العظيم تجاههما لا يستند إلى عاطفة بشريّة فهو في أعظم الحالات قرباً من الله.

فهما يصعدان على هذه القمّة الشمّاء، وهو في حالة العروج إلى السماء، فإنّ الصلاة معراج المؤمن، والرسول سيّد المؤمنين.

فأيّ تعبير يمكن أنْ يستوفي وصف هذه العظمة، وهذا العُلوّ؟؟! وهذا الشموخ؟ الذي لا يُشك في تقرير الرسول له، وعدم معارضته إيّاه! بل إظهاره الرضا والسرور به.

وهل حَظِيَ أحَدٌ بعدَهما بهذه الحظوة الرفيعة؟!

كلاّ، لا أحد.

أمّا قبلهما، فنعم:

أبوهما عليٌّ، الذي هو خيرٌ منهما، قد رَقِيَ ـ بأمْر من الرسول ـ ظهرَه الشريف، يومَ فتح مكّة، فصعدَ على سطح الكعبة وكسّر الأصنام.

وفي ذلك المقام قال الإمام عليه السلام: «خُيِّلَ إليَّ لو شِئْتُ نِلْتُ اُفُقَ السماء»(1).

إنّ الشرف في الرُقيّ على ظهر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو المثال المجسَّد للقُدس والعُلوّ ـ لا يزيد على شرف الصاعد، إذا كان مثل عليّ والحسن والحسين، ممّن هو نفس النبيّ أو فلذة منه.

وقد عبّر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن هذه الحقيقة في حديثه مع عمر، لمّا قال:

[148] رأيتُ الحسنَ والحسين على عاتقي النبيّ صلّى الله عليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك على الصحيحين (2/366).


ــ[29]ــ

وآلهوسلّم، فقلتُ: نِعْم الفرسُ تحتكُما! فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ونِعْمَ الفارسان هُما(1).

إنّه نَفْثٌ لروح الفروسيّة، وتعبير عن أصالة الشرف، بلا حدود!

11 ـ الرسول يقول

ولاحظنا أنّ الرسول ـ بعد أن يفعل ـ يقول:

«حسين منّي وأنا من حسين»

فأمّا أنّ الحسينَ من الرسول، فأمرٌ واضحٌ واقعٌ، فهو سبطه: ابن بنته، وَلَدَتْه الزهراءُ وحيدةُ الرسول، من زوجها عليّ ابن عمّ الرسول.

ومع وضوح هذه المعلومة، فلماذا يُعلنها الرسول، وماذا يريد أن يُعلن بها؟

هل هذا تأكيد منه صلّى الله عليه وآله وسلّم على أنّ عليّاً والد الحسين هو «نفسُ الرسول» تلك الحقيقة التي أعلنتها آية المباهلة، كما سبق في الفقرة (5)؟

أو أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد أن يُمَهّد بهذه الجملة «حُسَينٌ منّي» لما يليها من قوله: «وأنا من حُسين»؟ تلك الجملة المثيرة للتساؤل: كيف يكون الرسول من الحسين؟!.

والجواب: أنّ الرسول، لم يَعُدْ بعدَ الرسالة ـ شخصاً، بل أصبحَ مثالاً، وَرمْزاً، وأُنموذجاً، تتمثّل فيه الرسالةُ بكلّ أبعادها وأمجادها، فحياتُه هي رسالتُه، ورسالتُه هي حياته.

ومن الواضح أنّ أيّ والد إنّما يسعى في الحياة ليكون له ولد، كي يخلفَه، ويحافظ عَلى وجوده ليكون استمراراً له.

فهو يدافع عنه حتّى الموت ويحرصُ على سلامته وراحته، لأنّه يعتبره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/122).


ــ[30]ــ

وجوداً آخر لنفسه!

إذا كانت هذه رابطةُ الوالد والولد في الحياة المادّية، فإنّ الحسين عليه السلام قد سعى من أجل إحياء الرسالة المحمديّة بأكبر من ذلك، وأعطاها أكثر ممّا يُعطي والدٌ ولَده، بل قدّم الحسينُ في سبيل الحفاظ على الرسالة كلّ ما يملك من غال، حتّى فلذات أكباده: أولاده الصغار والكبار، وروّى جذورها بدمه ودمائهم.

فقد قدّم الحسين عليه السلام للرسالة أكثر ممّا يقدّم الوالدُ لولده، فهيَ إذن أعزّ من ولده، فلا غروَ أن تكون هي «مِنهُ».

وقد ثبتَ للجميع ـ بعد كربلاء ـ أنّ الرسالة التي كانت محمّدية الوجود، إنّما صارت حُسينيّة البقاء.

فالرسالة المحمّديّة التي مثّلتْ وجودَ الرسول، كانت في العصر الذي كادتْ الأيدي الأُمويّة الأثيمة أن تقضيَ على وجودها، قد عادتْ «من الحسين» ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «.... وأنا من حسين».

ولم تقف تصريحاتُ الرسول في الحسين عند هذا الحدّ، بل هناك نصوص أُخر تكشف أبعاداً عميقةً في العلاقة بين الحسين وجدّه، وتبتني على أُسس ثابتة للاهتمام البالغ من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بسبطيه الحسن والحسين.

فممّا قال فيهما:

[58 ـ 60]: الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا(1).

حتّى كنّى أباهما عليّاً: «أبا الريحانتين» وقال له:

[159 ـ 160] سلام عليك، أبا الريحانتين اُؤصيك بريحانتَيَّ من الدنيا، فعن قليل ينهدّ ركناك، والله خليفتي عليك(2).

فلمّا قبض النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال عليّ عليه السلام: هذا أحد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/118).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/123).


ــ[31]ــ

الركنين.

فلمّا ماتت فاطمة عليها السلام، قال عليه السلام: هذا الركن الآخر.

فبقى الحسنان نعم السلوة لعليّ بعد أخيه الرسول وبعد الزهراء فاطمة البتول، يَسْتَرُّ عليه السلام بالنظر إليهما، ويتمتّع بشبههما بالرسول، ويشمّهما، كما كانا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ريحانتيْهِ، ويقول لفاطمة:

[124] «ادعي لي بابنيّ» فيشمُّهما ويضمُّهما(1).

والحديث المشهور عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم:

[62 ـ 82] «الحسنُ والحسينُ سيّدا شباب أهل الجنّة»(2).

الذي رواه من الصحابة: أبوهما عليّ عليه السلام، والحسينُ نفسُه، وابنُ عبّاس، وعمرُ بن الخطّاب، وابنُ عمر، وابنُ مسعود، ومالكُ بن الحويرث، وحُذَيْفةُ بن اليمان، وأبو سعيد الخُدْري، وأنسُ بن مالك.

ونجد في بعض ألفاظ الحديث تكملة هامّة حيث قال الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم:

[69 و71] «... وأبوهما خيرٌ منهما»(3).

وإذا كانت الجنّةُ هي مأوى أهل الخير، وقد حتمها الله للحسنين، وخصّهما بالسيادة فيها، فما أعظم شأن من هُوَ خير منهما، وهو أبوهما عليّ عليه السلام.

لكن إذا كان الحديث عن الحسنَيْن، فما لأبيهما يُذكر هاهُنا؟!

إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المتّصل بالوحي، والعالِم من خلاله بما سيُحدثه أعداء الإسلام، في فترات مظلمة من تاريخه، من تشويه لسمعة الإمام عليّ عليه السلام، مع ما له من شرف نَسَبه، وصهره من رسول الله، وأُبوّته للحسن والحسين!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/120).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/119).

(3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/119).


ــ[32]ــ

فإنّهم لم يتمكّنوا من تمرير مؤامراتهم على الناس، إلاّ بالفصل بين السبطين الحسنين فيُفضّلونهما، وبين عليّ فيضلّلونه!

لكنّ الرسولَ، يوم أعلنَ عن مصير الحسنين، ومأواهما في الجنّة، وسيادتهما فيها، أضاف جملة: «وأبوهما خيرٌ منهما» مؤكّداً على أنّ الّذين ينتمون إلى دين الإسلام، ويقدّسون الرسولَ وحديثَه وسُنّته، ويحاولون أن يحترموا آل الرسول، وسبطيه، لكونهما سيّدي شباب أهل الجنّة، ولأنهما من قُربى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، مُتجاوزينَ «عليّاً» تبعاً لِما أملَتْ عليهم سياسةُ الطغاة البُغاة من تعاليم...

إنّ هؤلاء على غير هَدْي الرسول، إذْ مهما يكنْ للحسن والحسين من مؤهّلات اكتسبا بها سيادة الجنّة، أوضحُها انتماؤهما إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهما سبطاه من ابنته الزهراء فاطمة; فأبوهمـا عليّ اكتسبَه بأنّه ابن عمّه نسباً، وربيبه طفلاً، ونفسه نصّاً، وصهره سبباً، وهو زوج الزهراء فاطمة، وهو خيرٌ منهما لفضله في السبق والجهاد، وكلّ الذاتيّات التي منه أخذاها، والتي جعلته أخاً وخليفة للنبيّ، وكفؤاً للزهراء، وأباً للحسنين، وإماماً للمسلمين.

ومع وضوح هذا التصريح النبويّ الشريف، فإنّ التَعتيم المضلّل الذي كثّفه بنو أُميّة، فملأوا به أجواءَ البيئات الإسلامية مَنَعَ من انصياع الأُمّة لفضل عليّ عليه السلام، فهاهم يفضّلون الحُسَينَ وأُمَّهُ، ويُحاولون غمط فضل عليّ، وفصله عنهما! ففي الحديث، قال مولىً لحُذيفةَ:

[202] كانَ الحسينُ آخذاً بذراعي في أيّام الموسم، ورجلٌ خلفَنا يقول: «الّلهمّ اغفر له ولأُمّه» فأطال ذلك.

فتركَ الحسينُ عليه السلام ذراعي، وأقبل عليه، فقال: «قد آذيتنا منذ اليوم!

تستغفرُ لي، ولأُمّي، وتترك أبي!

وأبي خيرٌ منّي، ومن أُمّي»


ــ[33]ــ

12 ـ الحسين والبكاء

روى ابن عساكر بسنده قال:

[170] خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من بيت عائشة فمرّ ببيت فاطمة، فسمع حُسيناً يبكي، فقال:

«ألم تعلمي أنّ بُكاءه يؤذيني»(1)

[219] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لنسائه: «لا تُبكوا هذا الصبيّ» ـ يعني حسيناً ـ(2).

ولماذا يؤذيه بكاءُ هذا الطفل بالخصوص؟! وكلّ طفل لابُدّ أن يبكي، وإذا كان إنسانٌ رقيقَ العاطفة، فلابُدّ أن يتأذّى من بكاء كلّ طفل، أيّ طفل كان، فلماذا يذكر النبيّ العطوف، الحسينَ خاصّة؟ لكنّ القضية التي جاءت في الحديث لا تتحدّث عن هذه العاطفة، وإنّما تشير إلى معنىً آخر.

فبكاء الحُسين، يؤذي النبيّ لأنّه يذكّره بحزن عظيم سوف يلقاهُ هذا الطفل، تبكي له العيون المؤمنة وتحزن له القلوب المستودعة حبّه.

وإذا كان الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم يتأذّى من صوت بكاء هذا الطفل وهو في بيت أبويه، فكيف به إذا وقف عليه يوم عاشوراء في صحراء كربلاء وقد كظّه الظمأ، يطلب جرعة من الماء؟!!

وإذا كانت دمعةُ الحسين تعزّ على رسول الله أن تجريَ على خده! فكيف بدمه الطاهر حين يُراقَ على الأرض؟!

إنّ أمثال هذا الحديث رموزٌ تُشير إلى الغيب، وإلى معان أبعدَ من مجرّد العاطفة وأرقّ.

والأذى الذي يذكره النبيّ، أعمقَ من مجرّد الوجع وأدقّ.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/125).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/134).


ــ[34]ــ

وللبكاء في سيرة الحسين منذ ولادته بل وقبلها، وحتّى شهادته بل وبعدها، مكانة متميّزة.

فقد بكتْهُ الأنبياء كلّهم حتّى جدّه الرسول قبل أن يولد الحسين. وبكاه أهل البيت بما فيهم جدّه الرسول يوم الولادة. وبكاه أهلُه وأصحابهُ يوم مقتله، وبكى هو أيضاً على مصابه، وبعد مقتله بكاهُ كلّ من سَمِعَ بنبأ شهادته: أُمّهات المؤمنين، والصحابةُ المؤمنون.

وبكاهُ الأئمّة المعصومون، ومن تبعهم، مدى القرون! حتى جاء في رواية عن الحسين عليه السلام نفسه أنّه قال: «أنا قتيلُ العَبْرة، ما ذكرني مؤمنٌ إلاّ وبكى». وعبّر عنه بعض الأئمّة بـ «عَبْرة كلّ مؤمن».

ولقد تحدّثتُ عن مجموع النصوص الواردة في «البكاء على مصيبة الحسين» في بعض «الحسينيّات» التي ألّفتها(1).

13 ـ الحُبُّ والبُغْض

أنْ يُحبّ الإنسانُ أولاده ونَسْلَه، فهذا أمرٌ طبيعيٌّ جدّاً، أمّا أنْ يربطَ حُبّهم بحبّه، فهذا أمر آخر، فليس حبّهم ملازماً لحبّه، وليس لازماً أو واجباً ـ في كلّ الأحوال ـ أن يحبَّهم كلّ مَنْ أحبّ جدّهم.

لكنّ الرسولَ فرضَ الربْطَ بين الحبَّيْنِ، حبَّ أولاده، وعترته، وحبّه هو صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان يُشير إلى الحسن والحسين، ويقول:

[116] مَنْ أحبَّني فليُحبّ هذينِ.

إنّ عاطفة «الحُبّ» بين الرسول والأُمّة، ليس هو العشق فحسبْ، بل هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ: ذكرى عاشوراء وتأمّلاتها التراثية فقهياً وأدبياً ـ مخطوط ـ وجهاد الإمام السجّاد عليه السلام (ص212 ـ 224).


ــ[35]ــ

أيضاً حُبّ العَقيدة والتقديس والإجلال والسيادة، لِما تمتّع به الرسولُ من ذاتيّات جمالية وكمالية، وأُبوّة، وشرف، وكرامة، وجلال، وعطف وحنان، وصفات متميّزة.

وإذا كان الحسنان، قد استوفيا هذه الخصالَ، وبلغا إلى هذه المقامات حَسَباً ونَسَباً، فمن البديهيّ أنّ مُحِبّ الرسول، سيحبّهما، بنفس المستوى، لِما يجد فيهما ممّا يجد في جدّهما الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ولأجل هذا المعنى بالذات، نجد الرسولَ يعكسُ تلك الملازمة، فيقول: في نصوص أُخرى: «من أحبّهما فقد أحبّني» فيجعل حُبَّهُ متفرِّعاً من حبّهما، بعد أن جعل في النصّ الأول حبّهما متفرّعاً من حبّهِ.

فإذا كان سببُ «الحُبّ» ومنشأُه واحداً، فلا فرق بين الجملتين: «مَنْ أحَبّني فليُحِبَّ هذيْنِ» و «مَنْ أحَبَّهما فقد أحبّني»

والنصوص التي أكّد فيها الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم على حُبّ «آل محمّد» ومنهم الحسين عليه السلام، كثيرة جدّاً، روى منها ابن عساكر قسماً كبيراً(1).

ويتراءى هذا السؤالُ:

لماذا كلّ هذه التصريحات، مع كلّ ذلك التأكيد؟! وإنّ المؤمنين بالرسالة والرسول، لابُدّ وأنّهم يُكرمون «آل الرسول» ويودّونهم، ويحبّونهم حبّ العقيدة والإيمان!

وعلى أقلّ التقادير، مشياً على أعراف من قبيل «لأجْل عَيْن ألْفُ عَيْن تُكْرَمُ» و «المَرْءُ يُحفظ في وُلدهِ» تلك الأعراف التي كانت سائدةً بين أجهْل البشر في ذلك العصر، فكيف بالّذين ملأتهم تعاليم الإسلام وَعْياً؟!

هذا، مع الغضّ عمّا كان لأهل البيت النبويّ، من الكرامة والشرف والمكانة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظها في الصفحات (79 ـ 100) من تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.


ــ[36]ــ

العلميّة والعمليّة، ممّا لا يخفى على أحد من المسلمين.

فإذا نظرنا إلى آثارهم ومآثرهم، فهل نجد أحداً أحقّ بالحبّ والتكريم منهم؟! وأَوْلى بالتفضيل والتقديم؟!

فلماذا كلّ ذلك التأكيد من جدّهم الرسول على حُبّهم وربط ذلك بحبّه هو؟!

إنّ هذا السؤال تسهل الإجابة عليه، إذا لاحظنا أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أضاف على نصوص الملازمة الثانية: «من أحبّهما فقد أحبّني» قوله:

[118 ـ 123] «... ومن أبغضهما فقد أبغضني»(1).

عجباً، فكيف يُفترضُ وجود من يُبغض الحسن والحسين؟!

ولماذا يُريدُ أحدٌ ممّن ينتمي إلى دين الإسلام، أن يُبغض الحسنَ أو الحسين؟!

وهذه الأسئلة أصعب من السؤال السابق، قطعاً، إذ يلاحَظ فيها: أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد فرضَ وجود من يُبغض الحسنين، ورَبَطَ بين بُغضهما، وبُغضه هو!

ثمّ هناك ملاحظة في مسألة البُغض، وهي أنّ الملازمة فيه، من طرف واحد، وقد كان في الحبّ من الطرفين!

فلم يَرِد في البغض: «من أبغضني فقد أبغضهما»!

وقد يكون السببُ في الملاحظة الثانية: أنّ فرض بُغض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، في المجتمع الإسلاميّ، أمرٌ لا يمكن تصورّه ولا افتراضُه، إذ هو يساوي الكفر بالرسالة ذاتها، وبالمرسِل والمرسَل أيضاً.

لكن «بُغْض آل الرسول» فهو على فظاعته، قد تحقّق على أرض الواقع، فقد كان في أُمّة الرسول بالذات! مَن أبغضَ الحسنين، ولعنَهما على منابر الإسلام، بل وُجِدَ في الأُمّة مَنْ شهر السيفَ في وجهيهما، وقاتلهما.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/120).


ــ[37]ــ

وهل قُتِلَ الحسينُ عليه السلام على يدِ اُناس من غير أُمّة جدّه الرسول محمّد؟! ولماذا؟

إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أعلنَ بالنّص المذكور ـ الذي هو من دلائل النبوّة ـ أنّ «بُغضه» وإنْ لم يفترضه المسلم مُباشرة، ولا يتمكّن المنافق والكافر من إظهاره علانيةً، إلاّ أنّه يتحقّق من خلال بُغْض الحسن والحسين، لأنّ «مَنْ أبغضهما فقد أبغض النبيّ» لِما في بغضها من انتهاك المُثُل التي يحتذيانها، ونبذ المكارم التي يحتويانها، ورفض الشرائع التي يتّبعانها! وهي نفس المُثُل، والمكارم، والشرائع، التي عند الرسول نفسه صلّى الله عليه وآله وسلّم فبغضهما ليس إلاّ بغضاً له صلّى الله عليه وآله وسلّم ولرسالته.

ولقد رَتَّبَ النتائج الوخيمة على بُغضهما في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: [131] من أحبّهما أحببتُه، ومن أحببتُه أحبَّه الله، ومن أحبَّه الله أدخلهُ جنّات النعيم.

ومن أبغضهما، أو بغى عليهما، أبغضتُه، ومَنْ أبغضتُه أبغضَه الله، ومن أبغضَه الله أدخله نار جهنّم، وله عذابٌ مقيم(1).

لكنّ الذين أسلموا رَغْماً، ولم يتشرّبوا بروح الإسلام، وظلّتْ نعراتُ الجاهلية عالقةً بأذهانهم، ومترسّبةً في قلوبهم، جعلوا كلّ الذي وردَ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من النصوص في حقّ أهل بيته الكرام، وارداً بدافع العاطفة البشريّة، نابعاً عن هواه في أبناء ابنته!! مُعْرضين عن قدسيّة كلام الرسول الذي حاطه بها الله، فجعل كلامه وحياً، وحديثه سُنّةً وتشريعاً، وطاعته فرضاً، ومخالفته كفراً ونفاقاً، وجعل ما ينطق بعيداً عن الهوى، بل هو وحيٌ يُوحى.

فأعرضوا عن هذه النصوص الآمرة بحبّ الحسنين، والناهية والمتوعّدة على بغضهما، بأشدّ ما يكون! ونبذوها وراءهم ظِهْرِيّاً، فَعَدَوْا على آل الرسول

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/121).


ــ[38]ــ

ظلماً، وعَسْفاً، وتشريداً، وسبّاً، ولعناً، وقتلاً.

وخَلَفَ من بعد ذلك السَلَفَ، خَلْفٌ أضاعوا الحقّ، وأعرضوا عن أوامر النبيّ ونواهيه، واتّبعوا آثار سَلَف وجدوه على أُمّة، وهم على آثارهم يُهرعُون.

فبعد أنْ ضيّع السَلَفُ على «آل محمد» فرصة الخلافة عن النبيّ، وتوليّ حكم الأُمّة، وقهروهم على الانعزال عن مواقع الإدارة، وغصبوا منهم أريكة الإمامة، وفرّغُوا أيديهم عن كلّ إمكانات العمل لصالح الأُمّة، وأودعوا المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة الإسلاميّة بأيدي العابثين من بني أُميّة والعبّاس!

وبعد أنْ أضاعَ الخَلَفُ على «آل محمد» فُرَصَ إرشاد الأُمّة وهدايتها تشريعيّاً، فلم يفسحوا لفقههم أن يُنشَر بين الأُمّة، ومنعوهم من بيان الأحكام الإلهيّة، وحرفوا وِجْهة الناس عنهم، إلى غرباء دخلاء على هذا الدين واُصوله، وسننه ومصادر معرفته وفكره.

فأصبحتْ الأُمّةُ لا تعرف أنّ لآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم فقهاً يتّصِل ـ بأوضح السُبُل وأصحّ الطرق ـ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مُباشرةً، ويستقي أحكامه من الكتاب والسُنّة، من دون الاتّكال على الرأي والظنّ، بل بالاعتماد على اُصول علميّة يقينيّة.

وأمست الأُمّةُ لا تعرفُ أنّ علوم آل محمد، محفوظة في كنوز من التُراث الضخم الفخم، يتداوله أتباعهم حتّى اليوم.

ولكنْ لمّا كُتبتْ السُنّة الشريفة وجُمعت ودُوّنت، وبرزت للناس المجموعة الكبيرة من أحاديث الرسول الداعية إلى «حُبّ آل محمد» وقفَ الخلفُ على حقيقة مُرّة، وهي: كيف كان موقف السَلَف من «آل محمد»؟! وأين موقع «آل محمد» في الإسلام حكماً وإدارةً، وفقهاً وتشريعاً؟!

فأين الحبُّ الذي أمر به الرسولُ، لأهل بيته؟!

وكيف لا نجد في التاريخ من آل محمد إلاّ من هو مقتول بالسيف، أو بالسمّ،


ــ[39]ــ

أو معذّب في قعر السجون وظُلَمِ المطامير، أو مُشَرَّد مطارَدٌ، أو مُهانٌ مبعد؟!

فكيفَ يكونُ البُغضُ، الذي نهى عنه الرسول لأهل بيته، إن لم يكن هكذا؟!

فلّما وقفَ الجيلُ المتأخّر على هذه الحقيقة المرّة، وخوفاً من انكشاف الحقائق، ولفظاعة أمر البغض المعلن، ولكي لا تحرقهم ناره المتوعّد بها، لجأوا إلى تحريف وتزوير، انطلى على أجيال متعاقبة من أُمّة الإسلام.

وهو ادّعاء «حُبّ آل الرسول» مجرّد اسم الحُبّ، الفارغ من كلّ ما يؤدي إلى إعطاء حقّ لهم في الحكم والإدارة، أو الفقه والتشريع.

وقد صنّفوا على ذلك الأحاديث وجمعوا المؤلّفات، مُحاولين إظهار أنّهم المحبّون لآل محمّد، مُتناسين، ومتغافلين: أنّ «الحبّ» الذي يؤكّد عليه الرسولُ لنفسه ولآله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليس هو لفظ «الحبّ» ولا «الحبّ العشقيّ» الفارغ من كلّ معاني الولاء العمليّ، والاقتداء والاتّباع والتأسّي، ورفض المخالفة، ونبذ المخالفين.

فلو أظهر أحدٌ الحبَّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يعمل بشريعته وخالف الأحكام التي جاء بها، ولم يتعبّد بولايته وقيادته وسيادته، ولم يلتزم بنبوّته ورسالته! لم يكن «مُحبّاً» له صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فكيف يكون محبّاً لآل محمّد عليهم السلام مَنْ لم يُتابعهم في فقههم، ولم يأخذ الشريعة منهم، ولم يقرّ بإمامتهم، ولم يعترف بولايتهم، ولم يُسند إليهم شيئاً من أُمور دينه ولا دنياه؟!

أنّها إحدى الكُبَر.

فضلاً عمّن واجَهَ آل محمّد بالقتْل واللعن والتشريد، فهل يحقّ لمثلهم أنْ يدّعوا حبّ الرسول؟! واتّباعه؟! وهو الذي يقول: «ومن أبغضهم أبغضني» فكيف بمن قتلهم ولعنهم على المنابر؟! وسبى نساءهم وأولادهم في البلاد؟!

وإنّ من التغابي أنْ يرتديَ في عصرنا الحاضر بعضُ السلفييّن، تلك العباءة


ــ[40]ــ

المتهرّئة، عباءة التحريف للحقائق، فيُنادي «علّمو أولادكم حُبّ الرسول وآل الرسول» ويطبع كتاباً بهذا الإسم!

مُتجاهلاً معنى حُبّ الحسين ـ مثلاً ـ وقد مضى على استشهاده أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً! وكيف يكون «الحبّ» للأموات؟!

أليس بتعظيم ذكرهم، ونشر مآثرهم، والاستنان بسنتهم، واتّباع طريقتهم، والتمجيد بمواقفهم، ونبذ معارضتهم، ورفض معانديهم، ولعن قاتليهم وظالميهم؟!

فكيف يدّعي حُبَّ الحسين، مَنْ يمنع أن يُجرى في مجلس ذكر الحسين، والتألّم لمصابه، وذكر فَضائله، والإعلان عن تأييد مواقفه، وإحياء ذكراه سنويّاً بإقامة المحافل والمجالس؟!

أو من يُحرّم ذكر قاتله بسوء، وذكر ظالميه بحقائقهم؟!

أو من يُحاول أن يبّرر قتله، ويُوجّهَ ما جرى عليه، بل يعظّم قاتله ويمجّده، ويصفه بإمرة المؤمنين؟!

ويَقْسو على محبّيه، وذاكريه، والباكين عليه؟!

ومع ذلك يدّعي «حُبّه» ويدعو إليه!!

إنّ التلاعُب بكلمة «الحُبّ» إلى هذا المدى ليس إلاّ تشويهاً لقاموسَ اللغة العربيّة، ومؤدّى ألفاظها، وتجاوزٌ على أعراف الأُمّة العربيّة، وهذا تحميقٌ للقرّاء، واستهزاءٌ بالثقافة والفكر والحديث النبوي.

إنّها سُخرية لا تُغتفر!


ــ[41]ــ

14 ـ السلم والحرب

إذا أفاض الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذكر فضائل أهل البيت: عليّ وفاطمة والحسن والحسين، عليهم السلام، فهو العارفُ بها وبهم، والمعلّم الذي يُريد أنْ يُعرّف أُمّته بهؤلاء الّذين سيخلفُونه من بعده هُداةً لا تضلُّ الأُمّة ما تمسّكت بهم.

وقد صرّح الرسول بذلك، عندما ذكرهم بأسمائهم، وقال:

[158] ألا، قد بيّنتُ لكم الأسماء، أنْ تضلّوا(1).

ولقد أعلن الرسولُ عن فضلهم في كلّ مشهد وموقف، وبلّغ كلّ ما يلزمُ من التمجيد بهم، وإيجاب مودّتهم وحبّهم، والنهي عن بغضهم وإيذائهم، فأبلغَ ما هو مشهور مستفيض، من دون نكير.

أمّا أن يُعلنَ الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أنّه: «سلم لمن سالموا، وحربٌ لمن حاربوا» فهذا أمرٌ عظيم الغرابة!

فهل هم في معركة؟!

أو يتوقّع الرسولُ أن تُشَنَّ حربٌ ضدّ أهله؟! فيُعلن موقفه منها!

وهاهم أهله يعيشون في كنفه، وفي ظلّ تجليله واحترامه، ويغمرهم بفيض تفضيلاته، وإيعازه للأُمّة بتقديسهم وتكريمهم!

فمن الغريب حقّاً أنْ يجمع عليّاً وفاطمة، والحسنَ والحسين، ويقول لهم:

[135] أنا سلمٌ لمن سالمتُم، وحربٌ لمن حاربتم.

وفي مرضه الذي قُبض فيه:

[134] حَنا عليهم وقال: «أنا حَرْبٌ لمن حاربكم، وسِلْمٌ لمن سالمكم».

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/123).


ــ[42]ــ

ووجه الغرابة: أنّ الإنسان يكادُ يقطع بأنّه لم يَدُرْ في خَلَدِ أيّ واحد ممّن عاصر الرسول وآمن به، أو صحبه فترة وسمعَه يؤكّد ويكرّر الإشادة بفضل أهل البيت وتكريمهم وتفضيلهم وتقديمهم، حتّى آخر لحظة من حياته في مرض موته!

لم يَدُرْ في خَلَد واحد من الصحابة المؤمنين بالرسالة المحمّدية أنْ يشنّ حرباً على آل الرسول، أو يضرمَ ناراً على بابهم! أو يشهر سيفاً في وجه أحدهم؟! أو يحرق خباءهم وفيه النساء والأطفال؟

فلذلك لم يُوجّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خطاباً بهذا المضمون إلى الأُمّة، لأنّهم كانوا يذعرون، لو قال لهم: سالموا أهل بيتي، ولا تُحاربوهم!

لكنّها الحقيقة التي يعلمها الرسولُ من وحي الغيب، ولابُدّ أن يقولها لآله حتّى يكونوا مستعدّين لها نفسّياً، ولا ينالهم منها مفاجأةٌ، ولا يُسْقَط في أيديهم. فلذلك وجّه الخطاب إليهم بذلك خاصّة، في كلّ النصوص، وكأنّه دعمٌ معنوي منه، لمواقفهم، وحثّ لهم على المضيّ في السبيل التي يختارونها، وهكذا كان:

فما ان أغمض النبيُّ عينيْه، حتّى بدت البغضاء ضد أهل البيت:

فكانت لهم مع ابنته الزهراء فاطمة مواقفُ أشدّ ضراوةً من حروب الميادين، لأنّها حدّدتْ أُصول المعارضة، ومعالمها، وكشفتْ عن أهدافها.

وقد جاءت صريحةً في خطاباتها الجريئة التي أعلنتها في مسجد رسول الله فطالبت أبا بكر بحقوق آل محمّد من بعده: من مقام زوجها في الخلافة، ونحلة أبيها في فدك، وإرثها منه كما كتبه الله وشرّعه في القرآن.

فقامتْ عليها السلام تُحاكمه في مسجد رسول الله، أمام الأُمّة، معلنةً لمطالبها بمنطق الأدلّة المحكمة، من القرآن الكريم، والسُنّة الشريفة، وبالوجدان والضمير، ومُنادية بلسان أبيها الرسول وذاكرة وصاياه بحقّها.

فقوبلت بالنكران والخذلان.


ــ[43]ــ

فصرّحتْ وهي تُشهد الله، بأنّها لهم قالية، وعليهم داعية غاضبة تذكّرهم بحديث أبيها ـ المتمثّل على الأذهان ـ القائل: «فاطمةٌ بَضْعَةٌ مِنّي، فَمَنْ أغْضَبَهَا أغْضَبَني»(1) ذلك الحديث الذي لم يملك أحد تجاهه غير القبول والتسليم والإذعان.

وتموت فاطمة عليها السلام شهيدة آلامها وغُصّتها.

ثمّ حروبٌ أُثيرت ضدّ عليّ عليه السلام:

في وقعة الجمل، حيث اصطفّت مع عائشة فئة ناكثة بيعتها له تُحارب الإمام إلى صفّ الزبير وطلحة، يطالبون بدم ليس لهم.

وفي صفّين، حيث تصدّت الفئة الباغية لحقٍّ قد ثبت للإمام عليّ عليه السلام وأقرَّ به الصحابةُ أنصاراً ومهاجرين، وفضلاء الناس التابعين، وإلى صفّه كبير المهاجرين والأنصار «عمّارُ» الذي بشّره الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالجنّة، وقال له: «تقتلك الفئة الباغية» فقتلته فئةُ معاوية.

وفي النهروان، حيثُ واجهه «القُرآنيّون» الّذين لم يتجاوز القرآن تراقيهم، الّذين مرقوا من الدين كما تمرق الرمية من السهم، فكانوا هم الفئة المارقة.

وفي كلّ المواقف والمشاهد، وقفَ الحسنان إلى جنب أبيهما أمير المؤمنين عليه السلام.

وحُوربَ الحسنُ عليه السلام عسكرياً، ونفسيّاً، حتّى قضى.

وحُوربَ الحسينُ عليه السلام، حتّى سُفك دمه يوم عاشوراء.

إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أعلن موقفه من كلّ هذه الحروب في حديثه لهم: «أنا حربٌ لمن حاربكم».

فإنّما حُوربَ أهل البيت، لأنّهم التزموا بهدى الرسول.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري (5/36) باب مناقب فاطمة عليها السلام و (5/26) باب مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.


ــ[44]ــ

وقد أدّى كلّ منهم ما لديه من إمكانات، في سبيل الرسالة المحمّدية، حتّى كانتْ أرواحهم ثمناً للحفاظ على وجودها، كي لا تخمد جذوتها، ولا تنطمس معالمها.

15 ـ وديعةُ الرسول

ولم يدّخر الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم وُسْعاً في إبلاغ أُمّته ما لأهل بيته من كرامة وفضل وحُرمة، منذُ بداية البعثة الشريفة، من خلال وحي الآيات الكريمة، وما صَدَرَ منه صلّى الله عليه وآله وسلّم من قول، وفعل، وعلى طول الأعوام التي قضاها في المدينة المنوّرة بين أصحابه وزوجاته في المسجد، وفي الدار، وخارجهما على الطريق، وفي كلّ محفل ومشهد.

لقد وَعَدَ على حبّهم، وتوعَّدَ على بُغضهم وحربهم، وأبلغَ، وأنذرَ، ورغّبَ وحذّر، بما لا مزيدَ عليه.

ولمّا احتُضِر، ودَنَتْ وفاتُه، اتّخذ قراراً حاسِماً نهائياً، في مشهد رائع، يخلد على الأذهان، فلنصغ للحديث من رواية أنس بن مالك خادم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:

[167] جاءت فاطمة، ومعها الحسن والحسين، إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، في المرض الذي قبض فيه. فانكبّتْ عليه فاطمة، وألصقتْ صدرها بصدره، وجعلت تبكي، فقال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَهْ، يا فاطمة» ونهاها عن البكاء.

فانطلقت إلى البيت، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو يستعبر الدموع ـ: «اللّهمّ أهل بيتي، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن» ثلاث


ــ[45]ــ

مرّات(1).

فالمشهدُ رهيبٌ!

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مسجّىً، ستفقده الأُمّة بعد أيّام، وتفقد معه «الرحمة للعالمين».

وأمّا أهل البيت عليهم السلام، فسيفقدون ـ مع ذلك ـ الأبَ، والجدَّ، والأخَ، تفقد الزهراء أباها، ويفقد الحسنان جدّهما، ويفقد عليٌّ أخاه!

وانكبابُ فاطمة على أبيها، يعني منتهى القُرْبِ، إذ لا يفصلُ بينهما شي، والصدرُ محلّ القلب، والقلبُ مخزنُ الحبّ، فالتصاق الصدرين بين الأب والبنت، في مرض الموت، يُنبئ عن منظر رهيب ملي بالحزن والعاطفة، بما لا يمكن وصفه.

وليس هناك ما يعبّر عن أحزان فاطمة عليها السلام، إلاّ العَبْرة تجريها، والرسول الذي يؤذيه ما يؤذي ابنته فاطمة، لا يستطيع أن يشاهدَها تبكي، فينهاها.

لكنّه هو الآخر، لا يقلّ حزنهُ على مفارقة ابنته الوحيدة، وسائر أهل بيته، الذي أعلمه الغيبُ بما سيجري عليهم من بعد، فلم يملك إلاّ استعبار الدموع.

على ماذا يبكي رسول الله؟!

إنّ كلامه الذي قاله يكشف عن سبب هذا البكاء في مثل هذه الحالة، والميّت إنّما يوصي بأعزّ ما عنده، وفي أواخر لحظات حياته، إنّما يفكّر في أهمّ ما يهتمّ به، فيوصي به، والرسول يُشهد الله على ما يقولُ، فيقول: «... اللّهمّ، أهل بيتي...».

ويجعلهم «وديعةً» يستودعُها «كلَّ مؤمن» برسالته، وحفظ الوديعة من واجبات المؤمنين (الَّذِينَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) ويؤكّد على ذلك، فيقوله ثلاث مرّات.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/124).


ــ[46]ــ

ولا يُظنّ ـ بعد هذا المشهد، وهذا التصريح ـ أنّ هناك طريقة أوغلَ في التأكيد على حفظ هذه الوديعة، ممّا عمله الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن لنقرأ «السيرة الحسينيّة» لِنجدَ ما فعلته الأُمّة بوديعة الرسول هذه!

وفي خصوص الحسين جاء حديث «الوديعة» في رواية زيد بن أرقم قال:

[322] أما ـ والله ـ لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «اللّهمّ إنّي استودعكه وصالح المؤمنين»

وقد ذكر ابن أرقم هذا الحديث في مشهد آخر، حيث كان منادماً لابن زياد، فجي برأس الحسين، فأخذ ينكث فيه بقضيبه، فتذكّر ابن أرقم هذا الحديث، كما تذكّر أنّه واجب عليه أن يقوله في ذلك المشهد الرهيب الآخر، وراح يتساءل: «فكيف حفظكم لوديعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم».

مع أنّ زيد بن أرقم نفسه هو ممّن يُوَجَّه إليه هذا السؤال؟

وسنقرأ الإجابة في الفصل (31) ضمن «المواقف المتأخّرة»؟


ــ[47]ــ

 

 

الباب الثاني: سيرة الحسين عليه السلام قبل كربلاء

ثانياً: بعد غياب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

16 ـ ضَياعٌ بعدَ الرسول

17 ـ موقف من عمر

18 ـ مع أبيه في المشاهد

19 ـ في وداع أخيه


ــ[48]ــ

16 ـ ضياع بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

ولئن ذهبَ قولُهم: «المرء يُحْفَظُ في ولده» مثلاً سائراً فإن لذلك أصلاً قرآنياً أدّب الله به عباده المؤمنين، على لسان عبده الصالح الخضر، حيث أقام الجدار الذي كان للغلامين اليتيمين في المدينة، معلّلاً بأنّه (كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً)سورة الكهف، الآية81.

فلصلاح أبيهما استحقّ الغلامانِ تلك الخدمة من الخضر. لكنّ كثيراً ممن ينتسب إلى أُمّة النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لم يُكرموا آلَ محمّد، من أجل الرسول، ولم تُمهل الأُمّة أهلَ البيت، أكثر من أن يُغمِضَ الرسولُ عينيه، ولمّا يقْبر جسده الشريف، عَدَوْا على آله، فغصَبُوا حقّهم في خلافته، ثم انهالوا عليهم بالهتك والضرب، حتّى أقدموا على إضرام النار في دار الزهراء ابنته، وأسقطوا جنينها، وأغضبوها، حتّى قضت الأيّام القلائل بعد أبيها معصّبةَ الرأس، مكسورة الضلع، يُغشى عليها ساعة بعد ساعة، وماتت بعد شهور فقط من وفاة أبيها، وهي لهم قالية!

وما كان نصيب الغلامين، السبطين، الحسن والحسين، من الأمّة بأفضل من ذلك!

بل تكوّنتْ ـ على أثر ذلك التصرّف المشين ـ فرقة سياسيّة تستهدف آل النبيّ بالعداء والبغضاء، فدبّرت المؤامرة التي اغتالت عليّاً في محرابه، وطعنت الحسن في فسطاطه، وقتلت الحسين في وضح النهار يوم عاشوراء في كربلائه، كما يذبح الكَبْش جهاراً، أمام أعين الناس، من دون نكير!

ولم يكن هذان الغلامان بأهونَ من غلامي الخضر، إذ لم يكن أبوهما أصلح من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قطعاً.

ولقد جابه الحسينُ عليه السلام بهذه الحقيقة واحداً من كبار زعماء


ــ[49]ــ

المعادين لآل محمّد، والمعروف بنافع بن الأزرق، في الحديث الآتي:

[203] قال له الحسين: إنّي سائلك عن مسألة: (وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَينِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ)[الكهف، الآية (81)].

يابن الأزرق: مَنْ حُفِظَ في الغلامين؟!

قال ابن الأزرق: أبوهما!

قال الحسين: فأبوهما خير، أم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟...(1).

إنّها الحقيقة الدامغة، لكن هل تنفع مَنْ أُشربت قلوبهم بالنفاق، وغطّى عيونهم الجهل، والحقد، والكراهية للحقّ؟!

لقد كان من نتائج هذا الضياع أنّه لم يمضِ على وفاة الرسول خمسون عاماً، حتّى عَدَتْ أُمَّتُه على «وديعته» و «ريحانته» الحسين، وقتلته بأبشع صورة!

وهل يُتصوّرُ ضياعٌ أبعد من هذا؟!

وكان من نتائج ذلك الضياع المفضوح، أنّ التاريخَ المشوّه، وأهله العملاء(2)تغافلوا عن وجود أهل البيت، طيلة الأعوام التي تلتْ وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، حتّى خلافة الإمام عليّ عليه السلام، فهذا الحسينُ، لم نجدْ له ذكراً مسجّلاً على صفحات التاريخ طيلة العهد البكري، ولا العُمَريّ، ولا العُثماني، سوى فلتات تحتوي على كثير من أسباب ذلك التغافل!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/130 ـ 131).

(2) وهناك فلتات من المؤرّخين الّذين تصدّوا لتسجيل بعض الحقائق، مثل ابن إسحاق صاحب السيرة، وعمر بن شبّة صاحب الكتب الكثيرة، لكن تراثهم هجر واندثر، ولم تبق منه إلاّ نتف، فيها الدلالات الواضحة على ما نقول.


ــ[50]ــ

17 ـ موقف من عُمر!

ومن تلك الفلتات، حديثٌ تضمّن موقفاً للحسين من عمر: لمّا جَلَسَ على منبر الخلافة والحسينُ دون العاشرة من عمره. وبفرض وجوده في بيت أبيه الإمام عليّ عليه السلام، وقد امتلأ بكلّ ما يراهُ وليدُ البيت، أو يسمعهُ من حديث وأحداث، مهما كان خفيّاً أو كانت صغيرة، ولا يُفارق ذهنه، بل قد يقرأ الصبيُّ ممّا حوله أكثر ممّا يقرأه الكبير من الكلمات المرتسمة على الوجوه، ويسمعُ من النبرات أوضح المداليل التي لا تعبّر عنها أفصح الكلمات.

كيف، والحسينُ هو الذي أهّله جدّهُ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لقبول «البيعة» منه، وأهّلته أُمّه الزهراء للشهادة على أنّ «فدكاً» نحلتها من أبيها، عندما طلب أبو بكر منها الشهود!

ويكفي الحسينَ أنْ يعرفَ من خُطبة أُمّه الزهراء في مسجد رسول الله، ومن انزواء أبيه في البيت، طيلة أيّام الزهراء، أنّ حقّاً عظيماً قد غُصب منهم.

مضافاً إلى أنّه يجدُ بيتهم الملتصقَ ببيت الرسول، ولا يفصله عنه سوى الحائط، أمّا بابه فقد فتحهُ الله على المسجد ذاته، لمّا أحلّ لأهله من المسجد مالم يحلّ لأحد، بعد أن كان «بيت فاطمة في جوف المسجد» [182][158].

إنّ الحسينَ يجد هذا البيتَ العظيم: كئيباً، مهجوراً، خِلْواً من الزحام، ومن بعض الاحترام الذي كان يَفيض به، أيام جده الرسول قطب رحى الإسلام، وأبوه عليّ يدور في فلكه.

ويجدُ الحسينُ أنّ القومَ يأتمرونَ في مَراح ناء، حيث الوجوه الجدُد، قد احتلّوا كلّ شيّ: الأمر، والنهي، والمحراب، والمنبر!

وقد أبرزَ ما تكدّس على قلبه، لمّا حضر يوماً إلى المسجد، ورأى عمر على منبر الإسلام، فلنسمع الموقف من حديثه:


ــ[51]ــ

[178 ـ 180] قال عليه السلام: أتيتُ على عمر بن الخطّاب، وهو على المنبر، فصعدتُ إليه، فقلتُ له: انزلْ عن منبر أبي، واذهبْ إلى منبر أبيك!

فقال عمر: لم يكنْ لأبي منبر.

وأخذني، وأجلسني معه، فجعلتُ أُقلّب حصىً بيدي، فلمّا نزل انطلق بي إلى منزله، فقال لي: مَنْ علّمك؟

قلتُ: ما علّمنيه أحدٌ.

(قال: منبر أبيك والله، منبر أبيك والله، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلاّ أنتم)(1).

قال: يا بُنيَّ، لو جعلت تأتينا، وتغشانا(2).

والحديث إلى هُنا فيه أكثر من مدلول:

فصعودُ الحسين إلى عمر ـ وهو خليفة ـ على المنبر، مُلْفتٌ للأنظار، ومُذكِّر بعهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حين كان سبطاه الحسنان يتسلّقان هذه الأعواد، ويزيد الرسول في رفعهما على عاتقه، أو في حجره!

أمّا بالنسبة إلى الخليفة فلعلّها المرّة الأُولى والأخيرة في ذلك التاريخ، أن يصعد طفل إليه، فضلاً عن أن يقول له تلك المقالة، إذ لم يسجّل التاريخ مثيلاً لكل ذلك.

وقوله لعمر: «انزل عن منبر أبي»

فليس النزول، يعني ـ في المنظار السياسيّ ـ مدلوله اللغوي الظاهر، وإنّما هو الانسحاب عن الخلافة التي تَشَطّر هو وصاحبه ضرعيها، في السقيفة، فقدّمها إليه هناك، حتّى يرخّصها له اليوم.

و «منبر أبي» فيها الدلالة الواضحة، إذا أُريد بها الحقيقة الظاهرة، فأبوه عليّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ما بين القوسين من مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور.

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/127).


ــ[52]ــ

عليه السلام هو صاحب المنبر، لاعتقاد الحسين بخلافة أبيه بلا ريب.

وإن أُريد بها الحقيقة الأُخرى ـ الماضية ـ فأبوه هو النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلماذا انتقل المنبرُ الذي أسّسهُ وبنى بُنيانَه، إلى غير أهله؟!!

وقوله: «اذهَبْ إلى منبر أبيك» فيه الدلالة الفاضحة، فالحسينُ وكلّ الحاضرين يعلمون أنّ «الخطّاب» أبا عمر، لم يكن له منبر، بل ولا خَشَبةٌ يصعدُ عليها!

أمّا عمر فقد أحْرجه الموقفُ واضطرّه ـ وهو على المنبر ـ أن يعترفَ: «إنّه لم يكن للخطّاب منبرٌ»!

والنتيجة المستلهَمة من هذا الاعتراف، أنّ المنبر له أهلٌ يملكونهُ، وأهلهُ أحقّ بالصعود عليه، وتولّي أُموره، فما الذي ادّى إلى تجاوزهم واستيلاء غيرهم عليه، واستحواذه على اُموره دونهم؟

ولكنّ عمر، اصطحب الطفلَ، ليجريَ معه عملية «التحقيق» لسوء ظنّه، بأنّ وراء الطفل مؤامرةً دَبَّرتْ هذا الموقفَ، واستغلّتْ طفولة الحسين، فذهب به إلى منزله، وقال له: «مَنْ علَّمك؟».

مع أنّ الحسين لا يحتاج إلى مَنْ يُعلّمه مثل تلك الحقيقة المكشوفة، وهو يعيش في بيت يعرّفه كلّ الحقائق.

وإذا انطلت الأُمور على العامّة من الناس، فهناكَ الكثير ممّن يأبى أن يتقنّع بقناع الجهل والعناد والعصبيّة المقيتة، أو ينكر النهار المضي!

وبقيّة الحديث مثيرة أيضاً:

فالحسين الذي صارحَ بالحقيقة، وقام يؤدّي دوره في إعلانها للناس، أخذ عمر يُطايبهُ، فيدعوه إليه بقوله: «يا بُني، لو جعلت تأتينا فتغشانا»

فيأتيه الحسينُ يوماً، وقد خلا بمعاوية ـ أميره على الشام ـ في جلسة خاصّة، ويُمنع الجميعُ من اقتحام الجلسة المغلقة، حتّى ابن عمر.


ــ[53]ــ

فيأتي الحسينُ، ويرجعُ، فيطالبُه عمر، وهُنا يعرّفه الحسينُ بأنّه أتاه فوجده خالياً بمعاوية.

لكنّ عمر يُطلق تصريحاً آخر، صارفاً لأنظار العامة، فيقول للحسين:

«أنت أحقّ بالإذن من ابن عمر

وإنّما أنبَتَ ما ترى في رؤوسنا الله، ثمّ أنتم» ووضع يده على رأسه.

وهكذا ينتهي هذا الحديث الذي يدلّ على نباهة الحسين منذ الطفولة، وأدائه دوره الهامّ بشجاعة هي من شأن أهل البيت، وجرأة ورثها ـ فيما ورث ـ من جدّه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ولكنّ عمر، كان أحْذَقَ من أن تؤثّر فيه أمثال هذه المواقف، فكان يُطّوقُ المواقف بالتصريحات، والتصرّفات، فبين الحين والآخر يُطلق: «لولا عليٌّ لهلك عمر» ولمّا دوّن الديوان، وفرض العطاء:

[182] ألحق الحسن والحسين بفريضة أبيهما مع أهل بَدْر لقرابتهما برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ففرض لكلّ واحد منهما خمسة آلاف(1).

وهل يبقى أثر لما يُنتقدُ به أحد إذا كان في هذا المستوى من القول والعمل.

لكنّ الذين اعتقدوا بخلافة عمر، واستنّوا بسُنتّه، وجعلوا منها تشريعاً في عرض الكتاب والسُنّة النبوية، لم يُراعوا في «الحسين» حتى ما راعاه عمر!

18 ـ مع أبيه في المشاهد

كانت حروب الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، ومشاهده، محكَّ أهل الولاء، ومجمع أهل الصفاء، من الصفوة النُجباء، من أصحاب الرسول صلّى الله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/127).


ــ[54]ــ

عليه وآله وسلّم، والتابعين لهم بإحسان.

فمن أدرك الفتح لحِق به، وكان في ركبه، يُقارع الّذين خرجوا على إمام زمانهم من:

الّذين نكثوا بيعتهم له في المدينة، ونابذوه الحرب في البصرة...، تقودهم أُمّهم على الجَمل.

والذين بغَوا عليه في صِفّين، يقودهم مُعاوية إلى الهاوية، هو وفئته الباغية.

والّذين مرقوا من الدين، ساحِبين ذُيول الهوان في النهروان.

إنّ عليّاً عليه السلام كان محور الحقّ في عصره، يدورُ معه حيثما دار، بنصّ النبيّ المختار، وبقوله: «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار» أو «لم يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).

وصحابة النبيّ من المهاجرين والأنصار، يتفانون في الذبّ عن الإمام ونصرته، ويتهافتون بين يديه مُضحّين بأرواحهم دونه، بعد أنْ وجدوا في شخصهِ ـ متمثلة ـ كلُّ دلائل النبوّة، ومتحقّقة عنده كلّ أخبار الرسالة.

وعمّار ـ الفاروق بين الحقّ والباطل في الفتنة ـ يأتمر بأوامره.

والنجمان المتألِّقان، السِبطان الأكرمان، سيّدا شباب أهل الجنّة في ركاب أبيهما، ويسيران في ظِلّ رايته.

وكلّ أُولئك يفتخرون أنَّهم وُفِّقوا للكون مع الإمام الذي يمثّل الحق، كما كان لأصحاب النبي الفخر بصحبته صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وقد رووا في تسمية الاُمراء يوم الجمل:

[212] وعلى الميسرة الحسين بن عليّ.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد باللفظ الثاني عن أُمّ سلمة رضي الله عنها، في تاريخ دمشق، لابن عساكر ترجمة الإمام علي عليه السلام (3/151) رقم 1172، ونقله الخطيب في تاريخ بغداد (14/321) رقم 7643، وورد في ترجمة سعد من تاريخ دمشق (20/157) باللفظ الأوّل عنها، ونقله في مجمع الزوائد (7/236).


ــ[55]ــ

وذكر المحلّي في تعبئة أمير المؤمنين عليه السلام لعسكره في صفّين:

على خيل ميمنته الحسن والحسين، وعلى رجّالتها عبد الله بن جعفر، ومسلم بن عقيل وعلى الميسرة محمد بن الحنفيّة ومحمد بن أبي بكر، وعلى رجالتها هاشم بن عتبة.

وعلى جناح القلب عبد الله بن العبّاس وعلى رجالتها الأشتر، والأشعث.

وعلى الكمين: عمّار بن ياسر(1).

19 ـ في وداع أخيه الحسن عليه السلام

ووقف الحسين ينعى صنوه، وشقيقه في كلّ الحياة، وفي الفضائل، وفي المشاكل، وإن سبقه في الولادة ستّة اشهر وعشرة أيام، فقد سبقه في الشهادة عشر سنين.

وفي الكلمة التي ألقاها الحسين على قبر أخيه كثير من المعاني الجامعة، على لسان هذا الصنو الموتور بأخيه، قال عليه السلام:

«رحمك الله، أبا محمد،

إنْ كنتَ لتناصر الحقّ عند مظانّه، وتؤثر الله عند مداحضِ الباطل وفي مواطن التقيّة بحُسْن الرويّة.

وتستشفُّ جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتقبض عنها(2) يداً طاهرة.

وتردعُ ما ردة(3) أعدائك بأيسر المؤونة عليك.

وأنتَ ابن سلالة النبوّة، ورضيع لُبان الحكمة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق الوردّية (ص40).

(2) في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: وتفيض عليها.

(3) في المختصر: بادرة.


ــ[56]ــ

وإلى رَوْح وريحان، وجنّةِ نعيم.

أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عليه»(1).

حقّاً، يعزُّ على أبي عبد الله الحسين، أن يفقد عضده، في أحلك الظروف حيث شوكة بني اُميّة في تقوٍّ، وأحوال الأُمّة في تردٍّ، وقد كانَ الإمام الحسن عليه السلام صامداً في مواجهة المعاناة التي تحمّلها، فتجرّع غصص الصلح مع معاوية، ذلك الذي ألجأه إليه وَهْنُ الجبهة الداخلية، وشراسة الأعداء الخارجيّين، وتسلّل الخَونة من أمراء جيشه، وفساد خُلق الأُمّة وانعدام الخَلاق إلى حدّ التكالب على الدنيا وحبّ الحياة، والهروب من الموت.

إن كان الإمام الحسنُ عليه السلام يُواجه هذه المصاعب، فإنّه لم يكن وحيداً، بل كان الحسين إلى جانبه يعضُده، لكن الحسينَ عليه السلام حين ينعى أخاه سوف يبقى لما سيتحمّله من أعباء المسؤوليّات، وحيداً، بلا عضُد.

ولكنّه الواجب الإلهي يفرض على الإمام أن يقف أمام كلّ التحديات التي تهدّد كيان الإسلام، مهما كانت خطيرة وصعبة، ولو على حساب وجود شخص الإمام الذي هو أعزّ مَنْ في الوجود، وهذا هو الدرس الذي تلقّنه من جدّه الرسول طفلاً، ومن أبيه شابّاً، ومن أخيه كهلاً.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام (ص233) رقم(369) ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/46).


ــ[57]ــ

 

 

الباب الثاني: سيرة الحسين عليه السلام قبل كربلاء

ثالثاً: في مقام الإمام

 

20 ـ مقوّمات الإمامة

21 ـ البركة والإعجاز

22 ـ «الحجّ» في سيرة الحسين.

23 ـ مع الشعر والشعراء.

24 ـ رعاية المجتمع الإسلاميّ.

25 ـ مواقف قبل كربلاء.


ــ[58]ــ

20 ـ مقوِّمات الإمامة

إنّ الإمامة في الحضارة الإسلامية هي ولاية أُمور المسلمين المرتبطة بدينهم، وبدنياهم.

والإمام هو الوالي، المدبّر لتلك الأُمور حسب المصالح المتوفّرة في زمنه، وبالأدوات والأساليب الممكنة له كمّاً وكيفاً.

ولابُدّ أن يتّصف الإمامُ بالأهليّة التامّة لمثل تلك الولاية، التي يرتبط بها مصيرُ الأُمّة كلّها، والإسلام نفسه، كما أنّ إرادته هي التي تحدد مسير الدولة ودوائرها وسياستها.

ومن أجل خُطورة المنصب، وعظمة ما يترتّب عليه ويرتبط به من أُمور مصيريّة، فإنّ العلم بتوفّر تلك الأهليّة، التي تكوّنها مقوّمات خلقيّة، ونفسية وقابليّات، ونيات، وأهداف، لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ من خلال المعرفة التامة، والتداخل الوثيق في الماضي والحاضر، وحتى المستقبل المستور، وذلك ليسَ متصوّراً حصوله إلاّ لله العالم بكل الأُمور.

ومن هُنا، فإنّ عنصر «النَصّ» والتعيين الإلهيّ من خلاله لشخص الإمام المالك لأهليّة الإمامة، شرط أساسيّ، وضروريّ، لإثبات الإمامة لأَي إمام.

ثمّ المواصفات الأُخرى:

فالعلم بالدين، بجميع معارفه وشؤونه، وبشكل كامل وتامّ، من أبده الأُمور اللازم وجودها في الإمام الذي يتولّى أمر الدولة الإسلامية، ومن الواضح: أنّ ذلك لا يحصل إلاّ بالاتّصال الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية الثرّة الغنية، والبعيدة عن الشوب والتحريف، ليكون الإمام أعلم الناس، ومرجعاً لهم في أُمور الدين، ومعارفه.

والفضل، وأدواته: من الشرف، والتقى، ومكارم الأخلاق، فلابُدّ أن يكون


ــ[59]ــ

الإمام مقدَّماً على أُمّته فيها، حتّى يكون «القدوة» لهم.

والقيادة، بأن يكون بمستوى رفيع من الحكمة والتدبير، والجرأة في الإقدام على الصالح للدين وللمسلمين، والمتكفّل لعزته ودوامه.

وفي الفترة من سنة (50) إلى سنة (60) انحصرت هذه الخلال، واجتمعت في شخص الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، بالإجماع وبلا منازع.

أمّا النصّ:

فقد روى أهل الإسلام كافّة أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في الحسن والحسين صلوات الله عليهما: «ابناي هذان إمامان، قاما أو قعدا» الحديث الذي أجمع عليه أهل القبلة، وتلقته الأُمّة بالقبول، وبلغ حدّ التواتر(1).

مضافاً إلى الأدلّة الخاصّة الدالّة على إمامة الحسين عليه السلام بعد أخيه الحسن، وما دلّ على أنّ الأئمّة اثنا عشر، أوّلهم عليّ أمير المؤمنين، والآخرون من ذرّيّته. ممّا طفحت به كتب الإمامة.

وأمّا العلم:

فمن أوْلى باستيعابه من الحسين الذي تربّى في حجر الرسول وهو مدينة العلم، ونشأ ونما في مدرسة الزهراء البتول، ولازم عليّاً أباه باب مدينة العلم، وصحب أخاه الحسن الإمام بإجماع أُولي العلم؟!

فلابُدّ أنّه قد امتلأ من علم الدين من هذه العيون الضافية.

وقد أجمع أهل الولاء على تقدّمه على مَنْ عاصره في ذلك، والتزموا بإمامته لذلك، أمّا الآخرون فقد اضطرّهم هذا الواقع إلى الاعتراف:

فهذا ابن عمر ـ لمّا يُحاسب على تصّرفه، ويقاس عمله إلى عمل الحسنين عليهما السلام المتّزن والملي بالحكمة ـ مع أنّهما أصغر سنّاً منه ـ أجاب ابن عمر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه الشيخ المفيد في النكت في مقدمات الأُصول، الفقرة (82) وقد خرجناه في هامشه ونقلنا ما قاله علماء الإسلام حول تواتره.


ــ[60]ــ

بقوله:

[176 ـ 177] ابنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنّهما كانا يُغَرّان بالعلم غَرَّاً

أي يُزَقّانِه، كما يَزُقّ الطائر فرخه، وهذا يُعطي أنّهما كانا منذ الصِغَر يَبُثُّ فيهما الجَدُّ، والأبُ، والأُمُّ، العلمَ. فَهَلْ يكون أحدٌ أعلمَ منهما في عصرهما؟!

وروى عكرمة، حديثاً فيه الاعتراف بعلم الحسين عليه السلام، إليك نصّه بطوله:

[203] روى عكرمة: بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق، فقال له: يابن عبّاس، تفتي الناسَ في النملة والقَمْلة، صِفْ لي إلهك الذي تعبد!

فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لقوله، وكان الحسينُ بن عليّ جالساً ناحيةً، فقال: إليّ يابن الأزرق!

قال [ابن الأزرق]: لستُ إياك أسألُ!

قال ابن عبّاس: يابن الأزرق، إنّه من أهل بيت النبوّة، وهم ورثة العلم.

فأقبل نافع نحو الحسين، فقال له الحسين: يا نافع، إنّ من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس، سائلاً، ناكباً عن المنهاج، طاعناً بالاعوجاج، ضالاًّ عن السبيل، قائلاً غير الجميل.

يابن الأزرق، أصِفُ إلهي بما وصف به نَفْسَه، وأُعرّفه بما عرّف به نفسه، لا يُدرَك بالحواسّ، ولا يُقاس بالناس، قريب غير ملتصق، وبعيد غير منتقص، يُوحَّد ولا يبعّض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إلهَ إلاّ هو الكبير المتعال.

فبكى ابنُ الأزرق، وقال: يا حسين، ما أحسنَ كلامك.

قال له الحسين: بلغني أنّك تشهد على أبي وعلى أخي بالكفر، وعليَّ؟!


ــ[61]ــ

قال ابن الأزرق: أما والله، يا حسين، لئن كان ذلك، لقد كنتم منارَ الإسلام، ونجومَ الأحكام...(1).

فشهادة ابن عبّاس الحقّة، بأنّ الحسين عليه السلام «من أهل بيت النبوّة، وهم ورثة العلم» ليست الأُولى منه، لكن رواية عكرمة ـ وهو من الخوارج ـ لها دليل على خضوع الأعداء لعلم أهل البيت.

أمّا إعراض ابن الأزرق عن مسائلة الحسين، وتوجّهه إلى ابن عبّاس، فهذا يكشف جانباً من مظلوميّة أهل البيت، وصَدّ الناس عن معادن العلم وورثته وخزنته!

أمّا الحسين عليه السلام فهو لا يترك الأمر سُدىً، بينما السؤال على رؤوس الأشهاد عن أعظم قضيّة جاء من أجلها الإسلام، وهيَ «التوحيد» فهو ينبري للجواب.

أمّا ابن الأزرق، فحيث يجد الحقّ من معدنه، لا يملك إلاّ الإقرار والخضوع والقبول.

ولمّا يستغل الإمام الحسين عليه السلام الموقف ليحرق جذور العُدوان، ويقطع أوداجَ الظلم، ويبدّد نتائج المهاترات السياسية طيلة الأعوام السوداء، ممّا تكدّس في عقول علماء الأُمّة ـ مثل ابن الأزرق ـ وصار فكرة ورأياً وقولاً، على فظاعته، وشناعته، وسوئه، وهو تكفيره أهل البيت عليهم السلام بدلاً من تقديسهم! ـ ولمّا يُبهتُ الحسينُ ابن الأزرق، ويواجهه بهذا الكلام الثقيل، لا يملك ابن الأزرق إلاّ الاعتراف، والتراجع عن أشدّ المواقف للخوارج التزاماً وتصلباً واعتقاداً.

ويصرّح ابن الأزرق معترفاً بأنّ أهل البيت «منار الإسلام ونجوم الأحكام».

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/130).


ــ[62]ــ

وابن هند :

ذلك العدو اللدود لمحمّد وآل محمّد، ولما جاءوا به من معالم دين الإسلام ومكارم الأخلاق، والذي استنفد كلّ سهام مكره ودهائه في قمع هذا الدين، واجتثاث أُصوله وفروعه، وقتل ذويه وأنصاره، وإطفاء أنواره، وتهديم مناره، وتحريف شرائعه وإبطال أحكامه.

هذا المنافق الحسود الحقود، لم يجدْ بُدّاً من الاعتراف بعلم الحُسين والإشادة بمنزلته.

فقد أخذ الحسين عليه السلام العلوم في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث فتح عينه، وتعلّم ألف باء الحياة والإسلام معاً، ومعلّمه الأمين هو جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

واليوم، حين آلتْ إلى الإمام الحسين عليه السلام مهمّة تعليم الأُمّة وإرشادها، اتّخذ نفس المسجد مدرسةً.

وابن هند ـ ذلك الضلّيل ـ الذي لم يهدأ لحظةً يجدّ في تحريف مسيرة الإسلام، ويطمس تعاليمه السامية، لا يمكنه أن يتغافل عن وجود تلك المدرسة، لأنّه باسمها يتسنّم العرش، ولا يمكنه أن يغضّ الطرف عن وجود معلّم مثل أبي عبدالله الحسين، الذي هو الامتداد الحقيقيّ لجدّه الرسول مؤسّس المدرسة، فقال معاوية لرجل من قريش:

[189] إذا دخلتَ مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرأيت حلقةً فيها قومٌ كأنَّ على رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد الله، مؤتزراً على أنصاف ساقيه، ليس فيها من الهُزّيلى شي.

والهزّيلى فعلُ المشعوذ الذي يسحر أعين الناس، لكن ليس في مجلس درس الحسين عليه السلام إلاّ حقائق المعرفة، وعيون الحكمة، والعلم الموروث، ومعارف الكتاب، وأحكام السُنّة.


ــ[63]ــ

وأمّا الفضل:

فلا يرتاب مسلم بأنّ «آل محمّد» أشرف بني هاشم، وأنّ بني هاشم أشرف قريش، وأنّ قريشاً أشرف العرب، وآل محمّد، أعرق بني هاشم نسباً، وأطهرهم رحماً، وأكرمهم حَسَباً، وأوْفاهم ذِمَماً، وأحمدهم فعلاً، وأنزههم ثوباً، وأتقاهم عملاً، وأرفعهم همماً.

وقد أقرّ لهم العدوّ والصديق بالشرف والفضل والكرم والمجد(1).

فهذا عمرو بن العاص ـ الداهية النكراء الذي حارب آل محمّد جهاراً عن علم وعمد، وبكلّ صلافة وحقد، زاعماً أنّه يستغلّ الظروف المؤاتية لصالح دُنياه القصيرة ـ يعلن عن بعض الحقيقة، عندما يستظلّ بالكعبة، التي كان يعبد أصنامها من قبل، فجاء جدّ الحسين ليشرّفه وقومه بعبادة الله، ويطهرّ الكعبة من رجس الأصنام والأزلام.

وبالرغم من أنّ ابن النابغة، نبغ في محاربة كلّ القيم التي جاء بها الإسلام، وعارض كلّ الذين وقفوا مدافعين عن تلك القيم، وكانت لهم فضيلة التشرّف بها، وجدّ بكلّ دهاء ومكر وحيلة يملكها، فنفث في الأُمّة روح الجاهلية ليعيد مجدها، ونابذ عليّاً والحسن والحسين عليهم السلام بكلّ الطرق، ووقف في وجه العدالة سنين طوالاً.

لكنّه اليوم، يجد الكعبة وبناءَها الرفيع الشامخ، تَزْخَرُ بالعظمة الإسلاميّة، طاهرة من أوثان الجاهلية وأرجاسها، فلا يجد بُدّاً من الاعتراف، وبينما هو كذلك إذ رأى الحسين ابن ذلك الرسول، فلم يملك أيضاً إلاّ الإعتراف، فقال:

[190] هذا أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء، اليومَ!

ومعاوية، أخوه الضلّيل، يخنع لهذه الحقيقة، يوم دخل الحسن والحسين عليه، فأمر لهما بمأتي ألف درهم، وقال متبجّحاً: خذاها وأنا ابن هند، ما أعطاها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/125).


ــ[64]ــ

أحدٌ قبلي، ولا يُعطيها أحدٌ بعدي!

وكأنَّ معاوية استغلّ سياسة الإمام الحسن عليه السلام المبتنية على عدم مجابهته بالأجوبة، حتّى وصف بأنّه كان «سكّيتاً» ولكن الحسين، وهو يسير على خطّ إمامه الحسن عليه السلام ولا يخرج عن طوع إرادته ـ يعطي الموقف حقّه، ويدمغ معاوية بالحقيقة الصارخة، ويقول:

[5] والله، ما أعطى أحدٌ قبلك، ولا أحد بعدك لرجلين أشرفَ ولا أفضلَ منّا(1).

فأُفْحِمَ معاوية، ولم يَحْرِ جواباً.

وأمّا الآخرون:

فالمؤمنون يتشرّفون بآل محمد، كابن عبّاس حبر الأُمّة، وتلميذ أمير المؤمنين عليه السلام، فهو قرين الحسنين في التربية في هذا البيت الطاهر، بيت الرسالة، والإمامة، رفيع العماد، وبالرغم من تقدّمه في السنّ على الحسنين، فهو لمعرفته بفضلهما، وجلالتهما، وشرفهما على قومهما، لا يقصّر في إظهار ما يعرف، وإبراز ما يجب القيام به تجاههما من الحرمة والكرامة، فيما قال الراوي:

[188] رأيتُ ابن عبّاس، آخذاً بركاب الحسن والحسين. فقيل له: أتأخذ بركابهما وأنتَ أسَنُّ منهما؟!

فقال: إنّ هذين ابنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أوَليس من سعادتي أن آخذ بركابيهما؟(2)

بلى، إنّها من نعم الله الكبرى، ومن السعادة العظمى، أن يتشرّف الإنسان بخدمة أشرف الخلق وأفضلهم، وخاصة في تلك الظروف السياسية الحرجة وأنْ يُقدّم بذلك خدمة للأُمّة فيعرّفها بفضل أهل البيت عليهم السلام.

وحتّى أبو هريرة:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/115).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور(7/128).


ــ[65]ــ

الذي التقى بالنبي في أواخر سنّي حياته صلّى الله عليه وآله وسلّم «فأسلم في السنة السابعة للهجرة» ملازماً الصُفّة الشريفة بباب المسجد على شبع بطنه فلابدّ أنّه كان يرى الحسين يروح ويغدو، بين بيت أُمّه الزهراء وجدّه الرسول، ويصحب جدّه في رواحه إلى المحراب، وعلى ظهر المنبر، وغدوّه منهما.

هذا الذي ادّعى ملازمة الرسول أكثر من أصحابه الّذين شغلهم الصفقُ بالأسواق، وانفضّوا إلى التجارات، فكان لذلك أكثرهم حديثاً ـ بزعمه ـ على الإطلاق، حتّى اتّخذ لنفسه موقعاً رفيعاً في نفوس من صدّقه من الناس، على الرغم ممّن كذّبه من كبار الصحابة وزوجات النبي، كعليّ عليه السلام، وعمر، وعائشة(1).

فهو إذن ـ حسب زعمه ـ يعلم من الحسين عليه السلام وفضائله أكثر ممّا يعرفه غيره، لكنّه يبيت من أمر إعلانها وروايتها على خَطَرين:

فكيف يظهرها، في دولة بني أُميّة ـ وهو يرتع في مراعيهم، ويطمع في برّهم ويقصع من مضيرتهم؟

وكيف يتغافل عنها، وله دعاو طويلة عريضة في سماع الحديث الكثير عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والاتّصال به باستمرار؟!

وإذا اضطرّ إلى إبراز شي فهو يعتمد على الإجمال.

إقرأ معي هذه الصورة من مواقف أبي هريرة:

[191]... أعْيَى الحسينُ فقعدَ في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفُضُ الترابَ عَن قدميه بطرف ثوبه!

فقال الحسين: يا أبا هريرة، وأنتَ تفْعَل هذا؟!

قال أبو هريرة: دعني، فوالله، لو يعلم الناسُ منك ما أعلم، لحملوك على رقابهم(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر تدوين السُنّة الشريفة (ص7 ـ 488) والمحدّث الفاصل (ص4 ـ 555).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/128).


ــ[66]ــ

لكن لماذا قصّر أبو هريرة في تعليم الناس بعض ما يعلم عن الحسين؟

فلو كان يعلمهم لم يكن الجهلُ يؤدّي بالناس إلى أن يحملوا رأس الحسين على رؤوس الرماح! ولا أن يطؤوا جسده بخيولهم، قبل أن يحملوه على رقابهم؟! أليسَ هذا غَدْراً بأُمّة الإسلام، وإماتة للسُنّة التي كان أبوهريرة ينوءبدعوى حملها؟!

وأمّا القيادة:

فقد اتّفقت كلمةُ مؤرّخي الإسلام فكريّاً وسياسيّاً، انّ الإمام الحسين عليه السلام قد أدّى دوراً عظيماً في فترة إمامته، وأنّه بمواقفه كان المانع الوحيد عن انهيار الإسلام وقواعده، على أيدي بني أُميّة وعمّالهم، وأنّه بقيادته الحكيمة للإسلام في تلك الفترة، وبتضحيته العظيمة في كربلاء، كان الصدّ الأساسي من العودة إلى الجاهلية الأُولى.

فالحسين عليه السلام قد أحيا الإسلام بمواقفه قبل كربلاء، وفي كربلاء، واستمرّت آثار حركته إلى الأبد، ولذلك تحقّق مصداق قول الرسول صلّى الله عليهوآلهوسلّم «حسينٌ منّي وأنا من حسين» كما شرحناه في الفقرة (11) السابقة.

أمّا عن صلابة الحسين عليه السلام، وإقدامه في نصرة الحقّ خارج إطار كربلاء فقد مرّ بنا موقفه من عمر في الفصل (17) وسنقف على مواقفه من معاوية في الفصل (25).

وأمّا حديث كربلاء وبطولاتها، وأشجانها فقد عقدنا له الباب الثالث التالي، بفصوله المروّعة.

21 ـ البركة والإعجاز

من معجزات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المذكورة في سيرته، أنّه تفل في بئر قد جفّت، فكثر ماؤها وعذب وأمهى، وأمرى، وهذا المعجز من بركة نبيّ


ــ[67]ــ

الرحمة للعالمين قليل من كثير، وغيضٌ من فيض.

والحسين عليه السلام ابنُ ذلك النبيّ، وبضعةٌ منه، وعصارة من وجوده، والسائر على دربه، والساعي في إحياء رسالته، فهو يمثّل في عصره جدّه الرسول جسدّياً، ويمثل رسالته هدياً، فلا غروَ أن يكون له مثل ما كان لجدّه من الإعجاز، وهو سائر في طريقه إلى الشهادة والتضحية من أجل الإسلام، ليفعل ما لم يفعله أحَدٌ من قبله.

والإمامة ـ عندنا نحن الشيعة الإمامية ـ تشترك مع النبّوة في كلّ شي إلاّ أنّ النبوّة تختصّ بالوحي المباشر، وبالشريعة المستقلّة، أمّا النصّ، والأهداف، والوسائل، والغايات، فهما لا يفترقان في شي من ذلك.

بل الإمامة امتدادٌ أرضيٌ للرسالة السماويّة، فلا غروَ أن يَمُدّ الله الإمامَ بما يمدُّ النبيّ من القُدرة على الخوارق التي لا يستطيعها البشر.

أليس الهدف من الإعجاز إقناع الناس بالحقّ الذي جاء به الأنبياء؟! فإذا كان ما يدعو إليه الأئمّة هو عين ما يدعو إليه الأنبياء، فأيّ بُعْد في دعم هؤلاء بما دعم به أولئك؟! من دون تقصير في حقّ اُولئك، ولا مغالاة في قدر هؤلاء!

ومهما كانَ، فإنّ الحسين عليه السلام لمّا خرج من المدينة يريد مكّة مرّ بابن مطيع، وهو يحفر بئره، وجرى بينهما حديث عن مسير الإمام، وجاء في نهايته:

[201] قال ابن مطيع: إنّ بئري هذه قد رشحتُها، وهذا اليوم أوان ما خرج إلينا في الدلو شي من الماء، فلو دعوتَ الله لنا فيها بالبركة.

قال عليه السلام: هات من مائها. فأُتي من مائها في الدلو، فشرِبَ منه، ثمّ تمضمض، ثمّ ردّه في البئر، فأعذَب، وأمْهى(1).

وهذا من الحسين عليه السلام أيضاً غيض، وهو معدن الكرم والفيْض. إلاّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/130) وأُمْرِيَ، هكذا مضبوطاً، بدل (وأمهى).


ــ[68]ــ

أنّ حديث الماء، والحسين في طريقه إلى كربلاء، فيه عِبْرة، تستدرّ العَبْرة:

فهل هي إشارات غيبيّة إلى أنّ الحسين سيواجه المنع من الماء، وسيُقتل «عَطشاً» وهو منبع البركة، من فيض فمه يعذب الماء وينفجر ينبوعُه؟!

فهل كان ذلك يخطر على بال؟!

لكنّ ذكر العطش والبحث عن الماء، له شأن آخر في حديث كربلاء!

22 ـ «الحجّ» في سيرة الحسين عليه السلام

للحجّ في تراث أهل البيت عليهم السلام شأنٌ عظيم، وموقع متميّز بين عبادات الإسلام، فهم يبالغون في التأكيد على أنّ الكعبة هي محور الدين، ومدار الإسلام، ونقطة المركز له، وقطب رحاه، على المسلمين غاية تعظيمه والوفادة إليه.

ومن الواضح أنّ من الفوائد المنظورة للحجّ، والتي صرّحت بها الآيات الكريمة، وأصبحت لذلك أفئدة المؤمنين تهوي إليه هو دلالته الواضحة على خلوص النيّة، والتركيز على وحدة الصفّ الإسلامي، وتوحيد الأهداف الإسلامية، التي تركّزت عند الكعبة، وتمحورت حولها.

وأهل البيت عليهم السلام كانوا في هذا التكريم العظيم جادّين أقوالاً وأفعالاً، فالنصوص الواردة لذلك مستفيضة بل متواترة، وقد أقدموا على ذلك عملياً بأساليب شتّى:

منها الإكثار من أداء الحجّ، وقد جاء في سيرة الحسين عليه السلام:

[2 ـ 193] إنّه حجّ ماشيـاً «خمسـاً وعشرين» وإنّ نجائبه معه، تُقاد وراءه(1).

إنّها الغاية في تعظيم الحجّ، بالسعي إلى الكعبة على الأقدام، لا عن قلّة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/129).


ــ[69]ــ

راحلة، بل إمعاناً في تجليل المقصد والتأكيد على احترامه.

وهذا على الرغم من ازدحام سنيّ حياته بالأعمال، فلو عدّدنا سنّي إمامته العشر، وسنوات إمامة أخيه الحسن العشر كذلك، وسنوات إمامة أبيه الخمس، لاستغرقت «خمساً وعشرين» حجّة.

فهل حجّ الحسين عليه السلام في الفترة السابقة بعض السنوات؟

وأُسلوب آخر من تعظيم أهل البيت للكعبة والبيت والحرم: أنّهم لم يُقْدموا على أيّ تحرّك داخل الحرم المكّيّ، وكذلك الحرم المدنىّ، رعاية لحرمتهما أن يُهدَر فيهما دم، وتهتك لهما حرمة على يد الحكّام والأُمراء الظالمين، وجيوشهم الفاسدة، المعتدية على حرمات الدين.

ومن أجل ذلك خرج الإمام عليّ عليه السلام من الحجاز، وكذلك الإمام الحسين عليه السلام، وكلّ العلويّين الّذين نهضوا ضدّ جبابرة عصورهم، وطواغيت بلادهم، خرجوا إلى خارج حدود الحرمين حفظاً لكرامتهما، ورعاية لحرمتهما(1).

وبهذا الصدد جاء في حديث سيرة الحسين عليه السلام أنّه خرج من مكّة معجّلاً، جاعلاً حجّه عمرةً مفردة، حتّى لا تُنتهك حرمةُ البيت العتيق بقتله، بعد أن دسَّ يزيدُ جلاوزته ليفتكوا بالإمام، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة!

وإذا كان الظالمون لا يلتزمون للكعبة والحرم بأيّة حرمة، ويستعدّون لقتل النفوس البريئة فيه، وهتك الأعراض في ساحته، وحتّى لهدمه وإحراقه، كما أحدثوه في تاريخهم الأسود مراراً، وصولاً إلى أغراضهم السياسية المشؤومة.

فإنّ بإمكان الحسين عليه السلام أن يسلبهم إمكانيّة تلك الدناءة، فلا يوفّر لهم فرصة ذلك الإجرام، ولا يجعل من نفسه ودمه موضعاً لهذا الإقدام الذي يريده المجرمون، فلا يحقّق بحضوره في الحرم، للمجرمين أغراضهم الخبيثة، بقتله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع جهاد الإمام السجّاد عليه السلام (ص77).


ــ[70]ــ

وهتك حرمة الحرم، وإن كان مظلوماً على كلّ حال.

وهذه هي الغاية في احترام الكعبة، وحفظ حرمة الحرم.

وقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بهذه الغاية لابن عبّاس، لمّا وقف أمام خروجه إلى العراق، فقال:

[243] لئن أُقتل بمكان كذا وكذا، أحَبُّ إليَّ من أنْ استحلَّ حرمتها.

[244] وفي نصّ آخر:... أحبُّ إليَّ من أن يُستحلّ بي ذلك(1).

والنصُّ الوارد في نقل الطبراني: «... أحبُّ إليَّ من أن يُستحلَّ بي حرم الله ورسوله»(2).

وهذه مأثرة اختصّ بها أهل البيت عليهم السلام لابُدّ أنْ يمجّدها المسلمون.

23 ـ مع الشعر والشعراء

الشعر يجري في وجدان الشعوب مجرى الدم، ومعه يجري ما يحتويه الشعر من معنىً ومضمون، وللشعراء في المجتمعات ـ وخاصة المجتمع العربي ـ وجود مؤثّر لا يمكن إنكاره.

واختلف الشعراء في أغراضهم وأهدافهم، باختلاف طبائعهم، وأُصولهم، وانتماءاتهم القبلية والطائفية، وأهدافهم وأطماعهم الدينيّة والدنيوية، وما إلى ذلك من وجهات نظر، وغايات، وآمال.

والمال الذي يسيل له لعابُ كثير من الناس، يُغري من الشعراء مَنْ امتهنوا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ: مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/142).

(2) لاحظ: تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص190 ـ 193 هامش (3).


ــ[71]ــ

الشعر، وحمّلوه مؤونة حياتهم المادّية، قبل أن يكون بنفسه غرضاً، يحدوهم إلى نيل مكانة اجتماعية في الأدب واللغة، أو خلود الذكر في الحضارة البشرية، أو علوّ الكعب والشرف بين الأقران والأهل والعشيرة، أو الخُلْد والثواب والأجر في الآخرة.

أمّا المال عند أهل الشرف والكرامة والإنسانية والعزّة النفسية، من أصحاب الأهداف السامية الكُبرى، فهو وسيلةٌ وليس هدفاً.

وكما أنّ الله تعالى ذكره استخدمَ المالَ لأغْراض العُبور على الجسور، والوصول بها إلى الأهداف الربّانيّة، فجعل للمؤلَّفة قلوبهم حقّاً في أموال الله!

فكذلك الحسين عليه السلام، اتّباعاً للقرآن، وتطبيقاً له فإنّه كان يستخدم المالَ لهدف معنويّ إلهيّ سام. فكان يُعطي شعراء عصره، ولمّا عوتبَ، قال:

[199]: إنّ خيرَ المال ما وقَى العِرْضَ(1).

و «العِرضُ» هُنا ليس هو «النامُوس» إذْ ليس بين المسلمين من يَخالُ أن يَنالَ من عِرض أهْل بَيْت الرسالة!

بل المراد به «العِرْض السياسيّ» الذي اسْتَهدفه من «آل محمّد» الأُمويّون، فكانوا يكيلون سَيْل التهم والافتراء ضدّ عليّ وآل محمّد، على حساب المدائح لمخالفيهم من آل عثمان ومروان وطواغيت آل أبي سفيان.

فكانت مبادرةُ الإمام الحسين عليه السلام قطعاً لأعذار المتسوّلين بشعرهم والمستغلّين لهذا المنبر الشعبيّ الفاعل، في سبيل جمع الحُطام الزائل، وعلى حساب تحكيم سلطة الظلمة الجائرين.

فكان عطاء الحسين عليه السلام يحدّ من اتجّاه الشعراء إلى أبواب الحكّام، ويقلّل من فرص استغلالهم من قبل الجائرين، كما يُوصِد أمام السفلة أبواب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/129).


ــ[72]ــ

التعرّض للشرفاء من معارضي السلطة وأنصارِها الطُغاة البغاة(1).

ويُمكن أنْ تُفسَّر ظاهرة رواية الشعر المنسوب إلى الأئمّة عليهم السلام، على اساس من هذا المنطلَق، فبالرغم من أنّ قول الشعر لا يليقُ بأُولئك العلماء، القادة، السادة، الّذين كانت لهم اهتمامات كبرى، ومع أنّ الشعر المنسوب أكثرهُ ضعيف اللفظ والوزن، ولا وقع له في مجال اللغة والأدب فضلاً عن أن يُقاس بكلماتهم النثريّة التي هي في قمّة البلاغة والفصاحة.

إلاّ أنّ من الممكن أن تصدُرَ ـ لو صحّت النسبة ـ من أجْل مل الفراغ في دنيا الشعر، والذي انهمك فيه الشعراء بأغراض أُخرى، وقلّت فيها النخوة الدينية عندهم، فلا يبعد أن يكون للأئمّة عليهم السلام شعرٌ يسدّ بعض هذا الفراغ، ويجذب قلوب الناس إلى المعاني والأغراض الصالحة التي تحتويه.

أو يكون بعضُ الموالين قد حاول ذلك، فأخذ من الأئمّة المعاني ونظمها بشكل سهل، ليتهيّأ لكلّ الناس حفظه وتداوله، فنسب إلى الأئمة باعتبار معانيه.

ومن الشعر المنسوب إلى الإمام:

ومهما يكن، فإنّ ابن عساكر قد روى من الشعر المنسوب إلى الإمام الحسين عليه السلام، الشيّ الكثير، نختار منه ما يلي:

[205] خرجَ سائل يتخطّى أزقّة المدينة، حتّى أتى باب الحسين بن عليّ، فقرع الباب، وأنشأ يقول:

لم يَخَبِ اليَوم مَنْ رجاكَ ومَنْ حرّك من خلف بابك الحَلَقَهْ

فأنْتَ ذو الجودِ أنْتَ معدِنُه(2) أبوكَ قد كان قاتلَ الفَسَقَهْ

وكان الحسينُ بن علي واقفاً يُصلّي، فَخَفَّفَ من صلاته، وخرجَ إلى الأعرابىّ، فرأى عليه أثر ضُرّ وفاقة، فرجع ونادى بقَنْبر فأجابه:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر موقف الحسين عليه السلام من الفرزدق الشاعر هامش (ص207) من تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.

(2) في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: وأنت جود وأنت معدنه.


ــ[73]ــ

«لبّيك، يابنَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم»

قال: ما تبقّى معكَ من نفقتنا؟

قال: مائتا درهم، أمرتني بتفريقها في أهل بيتك.

قال: فهاتها، فقد أتى مَنْ هو أحقُّ بها منهم.

فأخذها، وخرج، فدفعها إلى الأعرابيّ، وأنشأ يقول:

خُذْهــا فإنّي إليـك معتـذِرٌ واعلم بأنّي عليك ذو شَفَقَهْ

لو كان في سيرنا الغداة عصاً(1) كانَتْ سمانا عليك مُنْدَفقهْ

لكنّ ريبَ الزمان ذو نَكَد والكفُّ منّا قليلة النَفَقهْ

فأخذها الأعرابي وولّى وهو يقول:

مُطَهـرونَ نقيّــاتٌ ثيــابُهم تجري الصلاةُ عليهم أينما ذُكروا

فأنتمُ أنتمُ الأعلونَ عندكمُ علم الكتاب وما جاءت به السورُ

من لم يكنْ علويّاً حين تنسبُه فماله في جميع الناس مُفتخرُ(2)

 

[208] وأنشدوا، له عليه السلام:

أغْنِ عن المخلوق بالخالقِ تغن عن الكاذب والصادقِ

واسترزق الرحمنَ من فضله فليس غير الله من رازقِ

مَنْ ظنَّ أنّ الناس يُغنونَه فليس بالرحمن بالواثقِ

أو ظنَّ أنَّ المال من كسبهِ زلّتْ به النعلان من حالقِ(3)

[209] وروى الأعمش، له عليه السلام:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: لو كان في سيرنا عصاً تمدّ إذن!

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/ 1 ـ 132).

(3) و (2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/132).


ــ[74]ــ

كلّما زِيْدَ صاحبُ المال مالا زِيْدَ في هَمّه وفي الاشتَغالِ

قد عرفناكِ يا منغصّة العيـ... شِ ويادارَ كلّ فان وبالِ

ليس يصفو لزاهد طلب الزهـ... دِ إذا كانَ مثقلاً بالعيالِ(1)

[210] وروي أنّ الحسين عليه السلام أتى المقابر بالبقيع فطاف بها، وقال:

ناديتُ سُكّان القبور فأُسْكتوا وأجابني عن صمتهم ندب الجثى

قالت أتدري ما صنعتُ بساكني مزّقتُ ألْحُمَهم وخرّقتُ الكِسا

وحشوْتُ أعينهم تراباً بعدما كانتْ تؤذى بالقليل من القذى

أمّا العظــام فإننّي فرّقتهــا حتّى تباينتِ المفاصل والشوى

قطّعتُ ذا من ذا ومن ها ذاك ذا فتركتُها رمماً يطول بها البِلى(2)

[211] وأنشدوا له عليه السلام:

لئــن كانت الدُنيــا تُعدُّ نفيسـةً فدارُ ثوابِ الله أعلى وأنْبلُ

وإن كانت الأبدان للموت أُنشِئتْ فقتل سبيل الله بالسيف أفضلُ

وإن كانتِ الأرزاق شيئاً مقدَّراً فقلّة سعي المرء في الكسب أجملُ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/132) باختلاف يسير.


ــ[75]ــ

وإن كانتِ الأموال للترك جُمِعَتْ فما بالُ متروك به المرءُ يبخلُ(1)

24 ـ رعاية المجتمع الإسلاميّ

إنّ من أهمّ واجبات الإمام هو رعاية المجتمع الإسلامي عن كَثَب، وملاحظة كلّ صغيرة وكبيرة في الحياة الاجتماعيّة، ورصدها، ومحاولة إصلاحها وإرشادها، ودفع المفاسد والأضرار، بالأساليب الصالحة، وبالإمكانات المتوافرة، دَعْماً للأُمّة الإسلاميّة، وحفظاً للمجتمع من الانهيار أو التصدّع.

وقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام حديث مهمّ يدلّ على عمق اهتمام الإمام بهذا الأمر الهامّ:

قال جُعيد الهمدانيّ: أتيتُ الحسين بن عليّ وعلى صَدْره سكينة ابنتهُ، فقال: يا أُخْتَ كلب، خذي ابنتك عنّي.

فساءلني، فقال: أخبرني عن شباب العرب؟

قلتُ: أصحاب جُلاهقات ومجالس!

قال عليه السلام: فأخبرني عن الموالي؟

قلتُ: آكل رِبا، أو حريص على الدنيا!

قال عليه السلام: (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) والله، إنّهما لَلصِّنفان اللذانِ كنّا نتحدّثُ أنّ الله تبارك وتعالى ينتصرُ بهما لدينه.

يا جُعيد همدان: الناس أربعة:

فمنهم من له خَلاقٌ، وليس له خُلُق.

ومنهم من له خُلقٌ، وليس له خَلاق.

ومنهم من ليس له خُلُق ولا خلاق، فذاك أشرّ الناس ومنهم من له

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/133).


ــ[76]ــ

خُلُق وخلاق، فذاك أفضل الناس(1).

وهذا الحديث يدلّ على مراقبة دقيقة، من الحسين عليه السلام، لمجتمع عصره:

فقوله: «كُنّا نتحدّث» يدلّ ـ بوضوح ـ على تداول الأمر، والتدبير الحكيم والمشورة المستمرة، من الإمام ومن كان معه، حول السُبل الكفيلة لنصرة الدين وإعزازه وتقوية جانبه، وتهيئة الكوادر الكفوءة لهذه الأغراض وإنجاحها.

والتركيز على «شباب العرب» بالذات، يعني الاعتماد على الجانب الكيفي في الكوادر العاملة، إذ بالشباب يتحقّق التحرّك السريع والجري، فهم عصب الحياة الفعّال، وعليهم تعقد الآمال، وهم يمثلّون القوّة الضاربة.

وأمّا «الموالي» فهم القاعدة العريضة، التي ترتفع أرقامها في أكثر المواجهات والحركات، وهم أصحاب العمل والمال، والّذين دخلوا هذا الدين عن قناعة بالحقّ، وحاجة إلى العدل.

ولكن سياسة التهجين، والتدجين، الأُموية، جرّت شباب العرب، إلى اللهو واللعب. وجرّت الموالي إلى الالتهاء بالأموال والتكاثر بها.

وهنا تأتي كلمة (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) في موقعها المناسب، لأنّها تُقالُ عند المصيبة، والمصيبة الحقيقية أن تموت روحُ القوّة والتضحية والنضال في هذين القطاعين المهمّين من الأُمّة.

وتقسيمه عليه السلام المجتمع إلى:

مَنْ له «خُلُق» وكرامة وشرف، يعتمد الأعراف الطيّبة، وتدفعه المروءة إلى التزام العدل والانصاف، ورفض الجور والفساد والامتهان، ويرغب في الحياة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام رقم [272] ص159، وقد رواه عن الإمام الحسن عليه السلام، لكنّ ابن سعد أخرجه عن الإمام الحسين عليه السلام، وكذلك المتّقي الهندي، كما في هامش الموضع المذكور، وجعيد يروي عن الإمامين، لكن ذكر سكينة يُعيّن كون الحديث للحسين عليه السلام.


ــ[77]ــ

الحرّة الكريمة في الدنيا.

وإلى من له «خَلاق» ودين وعمل صالح وضمير ووجدان وعقيدة ورجاء ثواب، يدفعه كلّ ذلك إلى نبذ الباطل، وبذل الجهد في سبيل إحقاق الحقّ.

فمن جمعَ الأمرين فهو أفضلُ الناس جميعاً، وهو ممّن تكون له حميّة، ويسعى في الدخول فيمن ينتصر الله به لدينه.

ومن تركهما معاً، فهو من أذلّ الناس وأحقرهم، وهل شرّ أشرّ من الذُلّ.

ومن التزمَ واحداً، فقد أخطأ طريق العمل الصالح، وهو في ذلّ ما ترك الآخر، وهل يُرجى الخير من ذليل؟! وإنْ كان محسناً أو صالحاً؟!

وموقف آخر:

قال بشر بن غالب الاسدي: قدم على الحسين بن علي اُناس من أنطاكية فسألهم: عن حال بلادهم؟ وعن سيرة أميرهم فيهم؟ فذكروا خيراً، إلاّ أنّهم شكوا البَرد(1).

فالإمام عليه السلام يستكشف الأوضاع السائدة في بلاد المسلمين، حتى أبعد نقطة شمالية، وهي أنطاكية! وهي رقابة تنبع من قيادة الإمام للاُمّة، فمع فراغ يده من السلطة القائمة، فهو لا يتخلّى عن موقعه، ويخطّط له.

25 ـ مواقف قبل كربلاء

التزم الحسينُ بمواقف أخيه مدّة إمامة الحسن عليه السلام، لأنّ الحسين من رعاياه، وتجب عليه طاعته والانقيادُ له، لما هو من الثابت أنّ الإمام إنّما يتصرف حسب المصالح اللازمة، وطبقاً للموازين الشرعيّة، التي تمليها عليه الظروف، وبالأدوات والإمكانات المتيسّرة له.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ بغداد (3/36).


ــ[78]ــ

وقد استغلّ معاويةُ حلم الإمام الحسن عليه السلام، ليتمادى في غيّه، ويزيدَ في تجاوزاته وتعدّياته، فخطّطَ لذلك خططاً جهنّميّة، تؤدّي نتائجها إلى هدم كيان الإسلام، وضرب قواعده، بدءاً بتحريف الحقائق ونشر البدع، ومنع الحديث النبوي وإبطال السُنّة، في بلاط الأُمراء والحكام، ثم محاولة نشر ذلك في ساحة البلاد الإسلامية الواسعة.

لكنّ الذي كان يمنعه وجود الأعداد الكبيرة من أنصار الحقّ، وأعوان الإمام عليّ عليه السلام الذين حافظ على وجودهم الإمام الحسن عليه السلام بمخطّطه العظيم ومواقفه الصائبة بالتزام الصلح المفروض، والشروط التي كانت هي قيوداً تُكبّل معاوية لو التزمها، وتُخزيه لو خرقها.

ولقد خالفَ معاوية كثيراً من بنود الصلح، فأخزى نفسه في مخالفة العهد الموقّع من قبله، وكان أخطر ما قام به هو الفتك بالصلحاء من الشيعة الّذين كانُوا يتصدّون لمُنْكره، وللبدع التي كان ينشرها، وللأحاديث المكذوبة التي كان يُذيعها على ألسنة وُلاته ووعّاظ بلاطه.

فلمّا ماتَ الحسنُ بن عليّ ـ والكلام من هُنا لسليم بن قيس الهلالي، المؤرّخ الذي عاش الأحداث وسجّلها بدقّة ـ:

ازداد البلاءُ والفتنةُ، فلم يَبْقَ لله وليٌّ إلاّ خائف على نفسه، أو مقتول، أو طريد، أو شريد(1).

وكانت الفترة التالية عصر إمامة الحُسين عليه السلام، وكانت مزاولات معاوية التعسّفية بلغت أوْجَ ما يتصوّر، وكادت مخطّطاته أن تُثمِر، وقد اتضّح لجميع الأُمّة ـ صالحها وطالحها ـ استهتار معاوية بالمواثيق التي التزم بها نفسه في وثيقة الصلح، والعهود التي قطعها على نفسه أمام الأُمّة، وتبين للجميع أنّ ما يزاوله إنّما هو الملك والسلطة، وليس هو الخلافة عن الله ورسوله، فقد انفتحت أمام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ كتاب سليم (ص 165) والاحتجاج للطبرسي (296).


ــ[79]ــ

الحسين عليه السلام آفاق جديدة وأُتيحت له ظروف مغايرة، ووجب عليه التصّدي لاستثمارات معاوية من خططه الجهنّميّة التي أعدها طوال السنين التي حكم فيها من (40) للهجرة، وحتّى أواخر أيام ملكه.

اجتماع « منى » العظيم :

قال سليم في تتمّة كلامه السابق: فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين، حَجّ الحسين بن عليّ عليه السلام وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس معه.

وقد جمع الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم: رجالَهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم، من حجّ منهم ومن لم يحجّ، ومن الأنصار ممّن يعرفونه وأهل بيته.

ثم لم يَدَعْ أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن أبنائهم والتابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنُسُك، إلاّ جمعهم.

فاجتمع عليه بـ «مِنَى» أكثر من ألف رجل(1).

ويمكن اعتبار اجتماع مِنى هذا العظيم، موقفاً سياسياً هامّاً، من وجهين:

1 ـ أنَّه تظاهرةٌ كبيرة، تجمع عَدَداً كبيراً من ذوي الشهرة، والوجهاء المعروفين بين الأُمّة، بحيث لا يمكن إغفال أثرها ولا منع الناس من التساؤلات حولها.

2 ـ أنّه أكبر «مَجْلِس» يضمُّ أصحابَ الرأي من رجالات الأُمّة، وشخصيّاتها ممّن له الحقّ في إبداء الرأي، وسنّ القانون، وهم النُخْبة المقدّمة من أهل الحلّ والعقد، ومن جميع القطّاعات الفاعلة في المجتمع الإسلامي وهم: العلويّون، والصحابة ـ المهاجرون والأنصار ـ والتابعون، ومن النساء، وطبقة الأبناء، وطبقة الموالي.

بحيث يمكن أن يعتبر ذلك «استفتاءاً شعبيّاً عامّاً» من خلال وجود ممثّلين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب سليم بن قيس (ص 165) والاحتجاج للطبرسي (ص296).


ــ[80]ــ

لكلّ طبقات الشعب المسلم.

وتبدو الحكمةوالحنكة في انتخاب الزمان، والمكان، لعقد ذلك المجمع العظيم:

فأرض «منى» المفتوحة الواسعة، وهي جزء من الحرم ـ تسع لمثل هذا الاجتماع العظيم في ساحة واحدة، وفي وسط كلّ الوافدين عليها، من الحجّاج المؤدّين للواجب، أو غيرهم القائمين بأعمال أُخرى، واجتماع رهيب، مثل ذلك، لا يخفى على كلّ الحاضرين في تلك الارض المفتوحة، وبذلك ينتشر الخبر، ولا يُحصَر بين الأبواب المغلقة أو جدران مكان خاص.

ولابدّ أنْ يكونَ الاجتماعُ في زمان الحضور في مِنى وهو يوم العيد الأكبر ـ يوم الأضحى ـ العاشر من ذي الحجّة، فما بعد، إذ على الجميع ـ الناسكين والعاملين معهم ـ الوجود على أرض مِنى، لأداء مناسكها أو تقديم الخدمات إلى الوافدين.

وفي انتخاب مثل هذا المكان، في مثل ذلك الزمان، مع نوعية الأشخاص المنتخبين للاشتراك في هذا الاجتماع، دلالات واضحة على التدبير والاهتمام البليغ الذي كان يوليه الإمام لهذا الموقف.

وأمّا محتوى الخطاب التاريخي الذي ألقاه الإمام الحسين عليه السلام فهو ما سنقرؤه معاً(1):

خطبة الإمام بمنى :

أمّا بعدُ، فإنَّ هذا الطّاغية قد فَعَلَ بنا وبشيعتِنا ما قد رأيتُم وعلِمتُم وشهِدتُم.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) اعتمدنا في نقل نصّ الخطاب على ما أثبته العلاّمة الشيخ محمد صادق نجمي، في تحقيقه القيّم الذي أصدره باسم «خطبه حسين بن علي عليه السلام در منى» باللغة الفارسية، وطبعته مؤسّسة القدس في مشهد سنة 1411 هـ ـ وقد ذكر أنّ مجموع الخطبة جاء على شكل مقاطع في كلّ من كتاب سليم، والاحتجاج للطبرسي، وتحف العقول لابن شعبة.


ــ[81]ــ

وإنّي أُريد أن أسألَكُم عن شيء، فإنْ صدقتُ فصدِّقوني، وإن كذبتُ فكذِّبوني.

اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي، ثمّ ارجعوا إلى أمصارِكُم وقبائِلِكُم، فَمَن أمِنْتُم من النّاسِ وَوَثِقْتُم بهِ فاِدعوهم إلى ما تعلمونَ من حقِّنا.

فإنّي أتخوَّفُ أن يُدرسَ هذا الأمرُ، ويذهبَ الحقُّ ويُغلَب (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ).

أنشدكم الله: أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حين آخى بين أصحابِهِ فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدّنيا والآخر؟

قالوا: اللّهمّ نعم،

قال: أنشدكم الله: هل تعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اشترى موضعَ مسجدِهِ ومنازِلِهِ فَاْبتناهُ ثُمّ اْبتنى فيه عشرةَ منازل، تسعة له، وجعل عاشرها في وسطِها لأبي، ثمّ سَدَّ كُلَّ باب إلى المسجد غيرَ بابِه، فتكلَّمَ في ذلك من تكلَّمَ، فقال: ما أنَا سددتُ أبوابَكُمْ وفتحتُ بابَهُ ولكنّ الله أمرني بسدِّ أبوابِكُم وفتحِ بابِه، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يُجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فوُلِدَ لرسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وله فيه أولادٌ

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حَرِصَ على كُوَّة قَدْرَ عينهِ يَدَعُها في منزلهِ إلى المسجد فأبى عليه، ثُمّ خطب فقال: إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً «طاهراً» لا يسكُنُهُ غيري وغير أخي وبنيه؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أَنْشُدُكم الله: أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نصبه


ــ[82]ــ

يوم غدير خمّ فنادى له بالولايةِ وقال: ليبلّغ الشّاهدُ الغائب؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أَنْشُدُكم الله: أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له في غزوة تبوك: «أنت منّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسى، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي»؟

قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أَنْشُدُكم الله: أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين دعا النّصارى من أهل نجرانَ إلى المباهلةِ لم يأتِ إلاّ بهِ وبصاحبَتِهِ وابنيهِ؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أَنْشُدُكم الله: أتعلمون أنَّهُ دفع إليه اللّواء يومَ خيبر ثمّ قال: لأدفعه إلى رجل يحبُّهُ الله ورسولُهُ ويُحِبُّ الله ورسولَهُ كرّارٌ غير فرّار، يفتحُها الله على يديه؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله بعثه ببراءَة وقال: لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجلٌ منّْي؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم تنزل به شدّةٌ قطُّ إلاّ قدّمَهُ لها ثقةً بهِ وأنّه لم يدْعُهُ باْسمِهِ قطُّ إلاّ يقول: يا أخي، واْدعُوا لي أخي؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمونَ أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بينَهُ وبينَ جعفر وزيد فقال: يا عليُّ أنتَ منّي وأنا منك، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنَّهُ كانت مِنْ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كلَّ يوم خلوةٌ وكُلَّ ليلة دخْلَةٌ، إذا سألَهُ أعطاهُ وإذا سكت ابتدأه؟


ــ[83]ــ

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمونَ أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فضّله على جعفر وحمزة حين قال: لفاطمة عليها السلام: زوّجْتُكِ خيرَ أهلِ بيتي، أقدمَهُمْ سِلْماً، وأعظَمَهُمْ حِلْماً، وأكثَرَهُم عِلْماً؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أنا سيّدُ وُلْدِ بني آدَمَ، وأخي عليّ سيّدُ العرَبِ، وفاطمةُ سيّدةُ نساءِ أهلِ الجنّةِ، والحسنُ والحسينُ ابناي سيّدا شبابِ أهلِ الجنةِ؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمونَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره بغسلِهِ وأخبَرهُ أنّ جبرئيلَ يُعينُهُ عَلَيْهِ؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمونَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في آخر خطبة خَطَبَها: إنّي تركتُ فيكُمُ الثَقَلَيْن كتابَ الله وأهلَ بيتي، فتمسَّكُوا بِهما لن تَضِلُّوا؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

ثمّ ناشَدَهُم أنّهم قد سمعوه يقول: «مَن زَعَم أنَّهُ يُحبُّني ويُبغِضُ عليّاً فقد كَذِبَ، ليسَ يُحبّني ويُبغضُ علّياً»، فقال له قائل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منهُ، من أحبَّهُ فقد أحبَّني، ومَن أحبَّني فقد أحبَّ الله، ومَن أبغضَهُ فقد أبغضَني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟

قالوا: الّلهمّ نعم، قد سمعنا...

اعتبروا أيُّها النَّاسُ بما وَعظَ الله به أولياءَهُ من سُوءِ ثَنائِهِ على الأحبار إذْ يقول: (لَوْلا ينهاهُمُ الرَّبَّانيّوُنَ وَالأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهُم الإثْمَ) وقال: (لُعِنَ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرَائيلَ ـ إلى قوله ـ لبئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون).


ــ[84]ــ

وإنَّما عابَ الله ذلك عليهم، لأنّهم كانوا يَرَوْنَ من الظَّلَمَةِ الّذين بين أظْهُرِهِم المُنكرَ والفَساد فلا ينهونهم عن ذلك رَغبةً فيما كانوا ينالونَ منهم، ورهبةً ممّا يحذرون، والله يقول: (فلا تَخْشواْ النَّاسَ وَاْخشَوْن) وقال: (المُؤْمِنُونَ واْلمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بَعْض يأمرونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ).

فبدأ الله بالأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكر فريضةً منه لعلمِه بأنَّها إذا أُدِّيَتْ وأُقيمت استقامتِ الفرائضُ كلُّها هَيِّنُها وصَعْبُها، وذلك أنّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَن المُنْكر دعاءٌ إلى الإسلام مع ردِّ المَظَالِم ومخالفةِ الظّالمِ وقسمةِ الفَيء والغنائمِ وأخذِ الصَّدَقاتِ من مواضِعِها ووضعِها في حقّها.

ثمّ أنتم أيّتُها العصابةُ عصابةٌ باْلعِلْمِ مشهورةٌ وبالخيرِ مذكورةٌ وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفُسِ النّاسِ مهابةٌ، يهابُكُمُ الشّريفُ وَيُكْرِمُكُمُ الضعيفُ وَيُؤْثُِركُم مَنْ لا فضلَ لكم عليه، ولا يدَ لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت مِنْ طُلابِها، وتمشُونَ في الطّريقِ بهيبة الملوك وكرامة الأكابرِ.

أليس كُلّ ذلك إنّما نِلتُموهُ بما يُرجى عندكُم من القيامِ بحقِّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّهِ تقصُرُونَ فاسْتَخْفَفْتُمْ بحقّ الأئمّة، فأمّا حقّ الضُّعَفاءِ فَضَيَّعْتُمْ، وأمّا حقّكم بزعْمِكُمْ فَطَلَبْتُم، فَلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطَرْتُم بِها للّذي خلَقَها، ولا عشيرةً عاديتموها في ذاتِ الله.

أنتُم تتمنّونَ على الله جَنَّتَهُ ومجاورةَ رُسُلِهِ وأماناً من عذابهِ!

لقد خشيتُ عليكم ـ أيُّها المُتَمَنّونَ على الله ـ أن تَحِلَّ بكُم نقمةٌ مِن نقماتِهِ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضّلتمْ بها، ومن يُعرَفُ بالله لا تُكْرِمُونَ، وأنتُم بالله في عباده تُكْرَمُونَ.

وقد تَرَوْنَ عهودَ الله منقوضَةً فلا تَفزَعُون، وأنتُم لبعضِ ذِمَمِ آبائِكُمْ تَفْزَعُون! وَذِمّةُ رسولِ الله مخفورةٌ، والعُميُ والبُكُم والزّمنى في المدائنِ مهملة! لا تَرحَمُونَ ولا في مَنزِلَتِكُم تعملون، ولا مَنْ عَمِلَ فيها تُعينون. وبالادّهانِ


ــ[85]ــ

والمُصَانَعَةِ عند الظَلَمَةِ تأمنون.

كُلّ ذلك ممّا أمركم الله بهِ من النّهي والتّناهي وأنتم عنه غافلونَ.

وأنتُم أعظم النّاس مصيبة لما غلبتم عليه من منازلِ العلماء لو كنتُم تشعرون، ذلك بأنّ مجاريَ الأُمورِ والأحكامِ عَلَى أيدي العُلَماء بالله الاُمناءِ عَلَى حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ، فأنتُم المَسْلُوبونَ تلك المنزلةِ وَما سُلِبْتُم ذلك إلاّ بتفرُّقِكُم عن الحقِّ واْختلافِكُم في السُنّة بعد البيّنة الواضحة، وَلَوْ صَبَرْتُم علَى الأذَى وتحمّلْتُم المؤونة في ذاتِ الله كانت أُمور الله عليكُم تَرِدُ وعنكم تصْدُرُ وَإِلَيْكُمْ تَرْجعُ، ولكنَّكُم مكّنتُم الظَّلَمَة مِنْ منزِلَتِكُمْ، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم، يَعملون بالشُّبُهاتِ، ويَسيرونَ في الشَّهَواتِ، سلّطهم على ذلك فرارُكُم مِنَ الموتِ وإعجابُكُم بالحياة التّي هي مفارقتُكُم، فأسلمتم الضُّعفاءَ في أيديهم; فمن بين مُستعبَد مقهور، وبين مستضعَف على معيشتِهِ مغلوب، يتقلّبون في المُلكِ بآرائِهم، ويستشعِرونَ الخِزْيَ بأهوائهم، اقتدءاً بالأشرار وجرأةً على الجّبارِ، في كُلّ بَلَد منهم على مِنْبَرِهِ خطيبٌ مُصْقعٌ.

فالأرضُ لهم شاغرةٌ، وأيديهم فيها مبسوطة، والنّاسُ لهم خَوَل، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضعفةِ شديد، مُطَاع لا يَعْرِفُ المُبْدِئ المعيدَ.

فيا عجباً! وما لي لا أعجبُ والأرض من غاشٍّ غَشُوم، ومتصدِّق ظلوم، وعامِل على المُؤمنينَ بهم غيرُ رحيم، فالله الحاكمُ فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

الّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تَنافُساً في سُلْطان، ولا اْلتِماساً من فضول الحطامِ، ولكن لنُرِيَ المعالِمَ من دينك، ونُظْهِرَ الإصلاحَ في بلادِك، ويأمنَ المظلُومونَ مِنْ عبادِك، ويُعْمَلَ بفرائِضِكَ وسُنَنِك وأحكامِك.

فإنَّكُم إن لا تَنْصُرونا وتنصفونا قويت الظّلمة عليكم، وعَمِلَوا في إطفاءِ


ــ[86]ــ

نُورِ نَبيِّكُم.

وحسبُنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنَبْنَا وإليه المصيرُ.

إنّ هذا الموقف يعتبر، أقوى معارضة علنية أقدم عليها الحسين عليه السلام في مواجهة معاوية وإجراءاته الخطرة التي دأب ـ طول حكمه ـ بعد استيلائه على أريكة الحكم في سنة (40) للهجرة على العمل بكلّ دهاء وتدبير، لتأسيس دولته المنحرفة عن سنن الهدى والصلاح والتقى، فحاول في الردّة عن الإسلام إلى إحياء الجاهلية الأُولى بما فيها من الظلم والعصبية والتجسيم لله، والقول بالجبر والإرجاء وما إلى ذلك من الأفكار التي تؤدّي إلى تحميق الناس وإخماد جذوة الحركة الثورية الإسلامية، والتوحيدية الإصلاحية.

فكانت حركة الحسين عليه السلام، وبهذا الأُسلوب المحكم الرصين، وفي الزمان والمكان المنتخبين بدقّة، أوّل معارضة معلنة ضّد كلّ الإجراءات تلك.

وإن كان الإمام الحسين عليه السلام لم يكفّ مدّة إمامته عن مواجهة معاوية بشكل خاصّ في القضايا الجزئيّة، وفي اللقاءات الخاصّة، لكنّ هذا الإجراء العظيم اعتبره رجال الدولة ثورة مُعْلنة، وتحرّكاً سياسياً خَطِراً على الدولة، ومؤدّياً إلى تبخير كلّ الجهود والآمال والطموحات التي عملوا من أجلها طوال عشرين سنة من حكمهم الفاسد.

معاوية بين فكي الأَسَد:

كان من مخطّطات معاوية مخالفة كلّ التراتيب الإدارية الإسلامية حتّى في شكل تعيين الخليفة خارجاً عن جميع الآراء حتى تلك التي عملها الخلفاء قبله، فَعَمَد إلى تجاوز سنن الّذين سبقوه كلّهم، فلا هو عمل كما فعل أبو بكر في العهد لعمر من بعده، ولا عمل مثل عمر في جعلها شُورى، ولا أرجع الأمر إلى أهل الحلّ والعقد يختارون لأنفسهم، بل عَمَدَ إلى تنصيب ابنه خليفة وأخَذ البيعة له قبل أن يموت، ليعلنها «مُلكاً عَضُوضاً» بعد أن كانت خلافة!


ــ[87]ــ

وكان هذا الإجراء من أخطر ما أقدم عليه معاوية في آخر سنيّ حياته، ولذلك كان للناس مواقف متفاوتة تجاه هذه البدعة، أمّا الحسين عليه السلام فقد استغلّ ذلك للإعلان عن مخالفة هذا الإجراء لبنود وثيقة الصلح الموقّعة من قبل معاوية «فلا خلاف بين العلماء أنّ الحسن إنّما سلّم الخلافة لمعاوية حياته لا غير»(1).

مع أنّ يزيدَ، كان معروفاً بين الأُمّة بفسقه، ولهوه، وعدم لياقته للأدنى من الخلافة، فَضلاً عنها.

ولم يُخفِ الحسين عليه السلام نشاطه، حتّى عرف منه ذلك، فجاءته الوفود يقولون له:

[254 ص 197] «قد علمنا رأيك ورأي أخيك».

فقال عليه السلام: «إنّي أرجو أن يُعطيَ الله أخي على نيّته في حُبّهِ الكفَّ، وأن يعطيني على نيّتي في حُبّي جهاد الظالمين»(2).

إنّ كلمة «الجهاد» تهزّ الحكومة الظالمة، التي تخيّلت أنّها قد قطعت شأفة أهل الحق، واجتثّت أُصول التحرّك الجهاديّ، بقتل كبار القوّاد، وطمس معالم الحقّ، وتشويه سمعة أهل البيت، وسلب الإمكانات المادّية منهم.

ولكن لمّا يَسْمع الحكّام كلمة «جهاد الظالمين» من الحسين عليه السلام السبط الوحيد الذي تشخص إليه أبْصار البقيّة الباقية من المسلمين، والقلائل الّذين بقوا من أولاد الشهداء والصحابة الصلحاء الّذين ضاقوا ذرعاً من تصرّفات معاوية وولاته الجائرين، فإنّ الأُمراء يتهيّبون الوضع، بلا ريب.

وخاصة مثل مروان بن الحكم ـ ابن طريد رسول الله ولعينه ـ الذي لم يجد فرصة للإمارة على مدينة الرسول، إلاّ حكم معاوية، وإلاّ فأين هو من مثل هذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ذكر ذلك أبو عمر ابن عبد البرّ في الاستيعاب، بهامش الإصابة (1/373).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/137).


ــ[88]ــ

المقام الذي لم يحلُم به؟!

فهاهو يجد في تحرّك الإمام الحسين عليه السلام أنّ أجراس الخطر تدقّ تحت آذانه، وهو العدوّ اللدود للحسين وأهل بيته، منذ القديم، يوم وقف في حرب الجَمَل يُشعل فتيل الحرب ضدّ الإمام عليّ عليه السلام، لكنّه فشل واندحر وأُسِرَ وذَلَّ، ومَنّ عليه الإمامُ فيمن مَنّ عليهم من أهل تلك الحرب.

وهو ـ وإن استفاد من حكم معاوية ـ إلاّ أنّه لا يكنّ لمعاوية ولا لآل أُميّة ودّاً، بعد أن أصبح ذيلاً لهم، ويراهم منتصرين في صفّين، بينما هو اندحر أمام عليّ وانكسر في وقعة الجمل.

والآن، يريد أن يضرب بسهم واحد هدفين، فكتب إلى معاوية:

[254 ص197] إنّي لستُ آمنُ أن يكونَ حُسينٌ مُرصِداً للفتنة، وأظنُّ يومكم من حسين طويلاً(1).

ولكنّ معاوية أذكى من مروان، فهو يعلم أنّ تحرّشه بالحسين لا يصلح لتحقيق مآربه، فكتب إلى الحسين في بعض ما بلغه عنه:

[ص198]: إنّي لأظنّ أنّ في رأسك نزوةً، فوددتُ أنّي أدركتها، فأغفرها لك(2).

وهكذا يُحاول معاوية، أن «يتحلّم» لكيْ يمتَصَّ من ثورة الإمام وحركته شيئاً مّا.

ويظهر من الكتاب الثاني، أنّه أحسَّ بخطورة حين كتب إلى الإمام بما يتهدّده، بما نصّه:

[254 ص198] (أمّا بعد، فقد انتهتْ إليَّ أُمور أرغبُ بك عنها، فإن كانت حقّاً لم أُقارّك عليها، ولعمري)(3)إنّ من أعطى الله صفقة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/137).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/137).

(3) ما بين القوسين من صدر كتاب معاوية نقلناه عن أنساب الأشراف للبلاذري (ترجمة معاوية) ولم يذكر ابن عساكر إلاّ ما بعده وكذلك كلّ ما بين الأقواس منقولة عن البلاذري، ولاحظ التعليقة التالية.


ــ[89]ــ

يمينه وعهده لجدير بالوفاء.

(وإن كانت باطلاً، فأنت أسعد الناس بذلك، وبحظّ نفسك تبدأ، وبعهد الله تفي، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة بك، فإنّي متى أُنكرك تنكرني، وإنّك) متى تكدني أكدك.

وقد اُنْبِئتُ أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوكَ إلى الشقاق، (فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة، وأن يرجعوا على يدك إلى الفتنة).

وأهل العراق من قد جرّبتَ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك (وقد جرّبتَ الناس وبلوتهم، وأبوك كان أفضل منك، وقد كان اجتمع عليه رأي الّذين يلوذون بك، ولا أظنّه يصلح لك منهم ما كان فسد عَليه).

فاتّقِ الله، واذكر الميثاق (وانظر لنفسك ودينك (ولا يستخفنّك الّذين لا يُوقنون)(1)).

رسالة الإمام إلى معاوية :

ولقد اغتنم الإمامُ جواب هذا الكتاب، فرصةً لتوجيه السهام المربكة على معاوية، لِتُنتزعَ ثقتُه بتدبيراته الخبيثة، وينغّصَ عليه استثمار جهوده الكبيرة التي زرعها طيلة سنوات حكمه، وليعرّفه أنّه رغم السكوت المرير طيلة تلك الفترة، فإنّ الإمامَ لَهُ ولمخططاته بالمرصاد، وأنّه مراقبٌ لأعماله وتصرّفاته الهوجاء! ومتربّصٌ للوثبة عليه حينما تسنح له الفرصة، وتؤاتيه الإمكانات، وإن لم تحنْ بعدُ.

ولقد كان جواب الإمام ـ على ذلك التهديد ـ صاعقةً على معاوية بحيث لم يُخْفِ تأثّره من ذلك فأصدر كلمةً قصيرة تنبئ عن كلّ مخاوفه، فقال:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لفقنا الكتاب من ما أورده ابن عساكر خارج الأقواس، وما ذكره البلاذري داخلها، وأنا أعتقد أن الكتاب نسخة واحدة وإنّما الاختصار من الرواة. ولاحظ مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/137).


ــ[90]ــ

[ص198] إنْ أثَرنا بأبي عبد الله إلاّ أسَداً(1).

ولقد تداول الرواةُ نبأ هذا الجواب وتناقلوه، واعترف كثير منهم بشدّة محتواه.

قال البلاذري: فكتب إليه الحسين كتاباً غَليظاً، يعدّد عليه فيه ما فعل...، ويقول له: إنّك قد فُتِنتَ بكيد الصالحين مذ خُلقتَ، فكدني ما بدا لك.

وكان آخر الكتاب: «والسلام على مَن اتّبع الهُدى»!

وكان معاوية ـ من شدّة تأثّره وارتباكه ـ يشكو ما كتب به الحسينُ إليه، إلى الناس(2).

لكنّ سَرَقة الحضارة، وخَوَنة التاريخ، حاولوا جهد إمكانهم أن يختصروا ما في هذا الكتاب، وأن لا يُوردوا إلاّ جزءاً منه.

فلذلك نجد رواية ابن عساكر تقتصر على قوله:

[ص198] فكتب إليه الحسين: أتاني كتابك، وإنّي بغير الذي بلغك عنّي جدير، والحسنات لا يهدي لها إلاّ الله، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً، وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك، وما أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الاُمّة(3).

وينقطع الحديث عند ابن عساكر، بينما الكتاب يحتوي على فقرات هامّة، لا تفي بالغرض منها هذه القطعة القصيرة.

ولوضع هذه القطعة في إطارها المناسب، رأينا إيراد الجواب كاملاً نقلاً عمّا أورده المؤرّخ القديم البلاذري في أنساب الأشراف(4) قال: فكتب إليه الحسين:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/137).

(2) أنساب الأشراف (3/153 ـ 154).

(3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/137).

(4) لقد نقل المحموديّ نصّ الجواب الكامل عن أنساب الأشراف في ترجمة معاوية، وذكر من مصادره مجموعة كبيرة من أُمّهات كتب التاريخ والحديث، منها: الأخبار الطوال، للدينوري (ص224) والإمامة والسياسة لابن قتيبة (ص131) ورجال الكشي (ترجمة عمرو بن الحمق) والاحتجاج للطبرسيّ (ص297) غير من روى قطعاً منه، فراجع هامش تاريخ دمشق (ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ص198) وهامش أنساب الأشراف (ترجمته عليه السلام 3/153) من تحقيقات العلاّمة المحمودي أدام الله بقاءه.


ــ[91]ــ

أمّا بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه «بلغك عنّي أُمور ترغب عنها، فإن كانت حقّاً لم تقارّني عليها».

ولن يهديَ إلى الحسنات ولا يسدّد لها إلاّ الله.

فأمّا ما نمي إليك، فإنّما رقّاه الملاّقون، المشّاؤون بالنمائم، المفرّقون بين الجمع.

وما أُريد حرباً لك، ولا خلافاً عليك، وأيمُ الله لقد تركت ذلك، وأنا أخاف الله في تركه، وما أظنّ الله راضياً منّي بترك محاكمتك إليه، ولا عاذري دون الاعتذار إليه فيك وفي أوليائك القاسطين الملحدين، حزب الظالمينوأولياء الشياطين.

ألستَ قاتل حجر بن عديٍّ وأصحابه المصلّين العابدين ـ الّذين ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم ـ ظلماً وعدواناً، بعد إعطائهم الأمان بالمواثيق والأيمان المغلَّظة؟!

أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أبلته العبادة فصفّرت لونه، وأنحلت جسمه [بعد أن آمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجلّ وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمته لنزلت إليك من شعف الجبال، ثمّ قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ، واستخفافاً بذلك العهد](1)؟!

أوَلست المدّعي زياداً بن سُميّة، المولود على فراش عُبيْد عبد ثقيف؟! وزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر» فتركت سُنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخالفتَ أمره متعمّداً، واتّبعت هواك مكذّباً، بغير هُدىً من الله. ثمّ سلّطته على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ما بين المعقوفتين، لم يرد في رواية البلاذري، وإنّما أخذناه من الاحتجاج للطبرسي.


ــ[92]ــ

العراقين، فقطع أيدي المسلمين، وسمل أعينهم، وصلبهم على جذوع النخل!

كأنّك لست من هذه الأُمّة، وكأنّها ليست منك؟! وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من ألحق بقوم نسباً ليس لهم، فهو ملعون».

أوَلستَ صاحب الحضرميّين الّذين كتب إليك ابنُ سُميّة أنّهم على دين عليّ، فكتبت إليه: «أُقتل مَن كان على دين عليّ ورأيه» فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك؟!

ودينُ عليٍّ دينُ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي كان يضرب عليه أباك، والذي انتحالُك إيّاه أجلسك مجلسك هذا ولولاهمو كان أفضل شرفك تجشُّم الرحلتين في طلب الخمور!

وقلتَ: «اُنظر لنفسك ودينك والأُمّة واتقّ شقّ عصا هذه الاُمّة، وأن ترد الناس إلى الفتنة».

[فلا أعرف فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الأُمّة](1) ولا أعلم نظراً لنفسي وديني أفضل من جهادك، فإنْ أفعله فهو قربة إلى ربّي، وإن أتركه فذنب أستغفر الله منه في كثير من تقصيري، وأسأل الله توفيقي لأرشد أُموري.

وقلت فيما تقول: «إن أُنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني».

[وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين منذ خُلقتَ؟! فكدني ما بدا لك](2) فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرَّ منه على نفسك، على أنّك تكيد فتوقظ عدوّك وتوبق نفسك، كفعلك بهؤلاء الّذين قتلتهم ومثّلتَ بهم، بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا، إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا بما به شرفتَ وعرفت، مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم مُتَّ قبل أن يفعلوه، أو ماتوا قبل أن يدركوه!؟ فأبشر يا معاوية بالقصاص، وأيقن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ما بين المعقوفتين لم يرد في البلاذري، وإنّما ورد في ابن عساكر، والاحتجاج.

(2) ما بين المعقوفتين لم يرد في البلاذري ـ في ترجمة معاوية ـ لكنّه ذكره في القطعة التي نقلها في ترجمة الحسين عليه السلام، وقد سبق أن نقلناها، فلاحظ.


ــ[93]ــ

بالحساب.

واعلم أنّ لله كتاباً لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وليس الله بناس لك أخذك بالظنّة، وقتلك أولياءَهُ على الشبهة والتهمة [ونفيك إيّاهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة](1)

وأخذك الناس بالبيعة لابنك: غلام سفيه يشرب الشراب ويلعب بالكلاب.

ولا أعلمك إلاّ قد خسرت نفسك، وأوبقتَ دينك، وأكلتَ أمانتك، وغششتَ رعيّتك [وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفتَ التقيّ الورع الحليم](2) وتبوّأت مقعدك من النار، فبعداً للقوم الظالمين.

والسلام على من اتّبعَ الهُدى(3).

إنّ موقف الإمام الحسين عليه السلام هذا الذي أبداه في جواب معاوية، أربك معاوية بحيث فوجئ به، وهو في أواخر أيّامه، وقد استنفد كلّ الجهود واستعدّ ليجني ثمارها، فإذا به يواجه «أسداً» من بني هاشم يثور في وجهه، ويحاسبه على جرائمه التي تكفي واحدةٌ منها لإدانته أمام الرأي العام، فكان يقول: «إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً».

إنّ الحسين عليه السلام باتّخاذه هذا الموقف من معاوية، وضع أمام إنجازاته حجرةً عرقلت سيرها، وأوقفت إنتاجها السريع، ممّا جعل معاوية يفكّر ويُخطّط من جديد، ولكن كبر السنّ لم يُساعده، والأجل لم يمهله، وإن كان قد فتح للحسين صفحة في وصاياه لابنه من بعده.

أمّا الإمام الحسين عليه السلام فقد بدأ بالعمل لحركة جهاديّة استتبعتْ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من الاحتجاج، ولم يذكره البلاذري.

(2) ما بين المعقوفتين عن الاحتجاج.

(3) هذا السلام لم يرد في النص الكامل الذي نقله البلاذري، وإنّما ذكره في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، قال: وكان في آخر الكتاب «والسلام...».


ــ[94]ــ

تحطيم كلّ منجزات معاوية، في حركة لم تطل سبعة أشهر بدأت من منتصف رجب سنة (60) ـ حين مات معاوية ـ وانتهت في يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة (61). فكان «حديث كربلاء» وما تضمّنه من مآس وأحزان، وما تبعه من إحياء للإسلام من جديد، حتّى أصبح «حسيني البقاء» بعد أن كان «محمّدي الوجود» وصدّق ما قال رسول الله صلّى الله عليهوآله وسلّم «حسينٌ منّي وأنا من حسين».


ــ[95]ــ

 

 

الباب الثالث: سيرة الحسين عليه السلام

26 ـ تباشير الحركة.

27 ـ عراقيل على المسير.

28 ـ من أنباء الغيب.

29 ـ أصحاب أوفياء.

30 ـ يومَ عاشوراء.


ــ[96]ــ

26 ـ تباشير الحركة

كانت المواقف الأخيرة التي وقفها الإمام الحسين عليه السلام في وجه معاوية تعتبر تباشير التحرّك المضادّ، ضدّ مخطّطات معاوية.

وبالرغم من أنّ الإمام لم يُطاوع أحداً ممّن دعاه إلى خلع معاوية، إذ كان امتداداً لمواثيق أخيه الإمام الحسن عليه السلام، ومن الموقّعين على كتاب الصلح مع معاوية، حتّى لو أنّ معاوية قد نقض العهد، وخالف بنود الصلح في أكثر من نقطة، إلاّ أنّه بدهائه ومكره كان قد لبَّس نفسه ثوباً من التزوير لا يسهل اختراقه، وكان يحتال على الناس بالتحلّم والتظاهر مستعيناً بالوضّاعين من رواة الحديث وبالدجّالين من أدعياء العلم والصحبة والزهد، ممّا أكسبه عند العامّة العمياء ما لا يُمكن المساس به بسهولة.

إلاّ أنّ الإمام الحسين عليه السلام استغلّ موضوع تنصيب معاوية يزيد مَلِكاً، وإلزامه الناس بالبيعة له، إذ كان هذا مخالفة صارخة لواحد من بنود الصلح، مع مخالفته للأعراف السائدة بين المسلمين، ممّا لا يجهله حتّى العامة، وهي كون الصيغة التي طرحها للخلافة من بعده، مبتدعةً لم يسبق لها مثيل.

ثم «يزيد» بالذات لم يكن موقعاً للأهليّة لمثل هذا المنصب الحسّاس، بل كان معروفاً بالشرب، واللعب، والفجور، بشكل مكشوف للعامة.

وكانت هذه المفارقات ممّا يُساعد الإمام الحسين عليه السلام على اتّخاذ موقف مبدئي، جعله هو المنطلق للتحرّك، كما تناقله الرواة، فقالوا:

[ص197] لمّا بايع معاوية بن ابي سُفيان الناسَ ليزيد ابن معاوية كان حسين بن عليّ بن أبي طالب ممّن لم يبايع له(1).

وبالرغم من وضوح أهداف الإمام لمعاوية، وحتّى لمروان والّذين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/136).


ــ[97]ــ

يحتوشونه، حتّى أنّهم أعلنوا عن تخوّفاتهم وظنونهم بأنّ الإمام يفكّر في حركة يسمّونها «نزوة» أو «مرصداً للفتنة» وما إلى ذلك، لكنّهم لم يُقْدموا على أمر ضدّهُ، ولعلّ معاوية كان يُحاول أن يقضي عليه بطريقته الخاصّة في الكيد والمكر، إلاّ أنّ سرعة الأحداث، ومجي الأجل لم تمهله لذلك.

فكانت مواجهة الحسين عليه السلام وصدّه من آخر وصايا معاوية لابنه يزيد، كما كانت هي من أُولى اهتمامات يزيد نفسه، ففي التاريخ:

[255 ص199] توفّي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستّين، وبايع الناس ليزيد، فكتب يزيد مع عبدالله بن عمرو بن أُويس العامري إلى الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان ـ وهو على المدينة ـ: أن ادع الناسَ فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكن أوّل من تبدأ به الحسين بن عليّ بن أبي طالب...(1).

فبعث الوليد بن عتبة من ساعته ـ نصف الليل! ـ إلى الحسين بن عليّ.

إنّ اهتمام يزيد، وتأكيده بأخذ البيعة أوّلاً من الحسين عليه السلام، واستعجال الوالي بالأمر بهذا الشكل، لم يكن إلاّ لأمر مبيّت، ومدبّر من قبل البلاط ورجاله. ولابُدّ أنّ الإمام كان قد قدّر الحسابات، فلّما طلب الوالي منه البيعة، رفضها وقال له: «نصبح فننظر ما يصنع الناس، ووثب فخرج» كما جاء في نفس الحديث السابق.

ويبدو أنّ الوليد الوالي لم يكن متفاعلاً بشدّة مع الأمر، أو أنّه لم يكن متوقّعاً لهكذا موقف من الإمام، لأنّه لما تشادّ مع الحسين في الكلام قال الوليد: «إن هجنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً».

ولكنّها هي الحقيقة التي وقف عليها معاوية في حياته، وأطلقها، وإن كان الوليد لم يعرفها إلاّ اليوم.

وتتمّة الحديث السابق:


ــ[98]ــ

[ص200] وخرجَ الحسين من ليلته إلى مكّة، وأصبحَ النّاس، وغدوا إلى البيعة ليزيد، وطُلِبَ الحسين فلم يوجد!(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/138).


ــ[99]ــ

 

وهكذا أفلت الحسين عليه السلام من والي المدينة، وفيها مروان بن الحكم العدوّ اللدود لآل محمد، والذي كان يحرّض الوالي على قتل الحسين عليه السلام في نفس تلك الليلة إن لم يُبَايع.

وخرج الحسين عليه السلام إلى مكّة، التي هي أبعد مكان من الأزمة هذه، والتي سوف يتقاطر عليها الحُجّاج لقُرب الموسم، فتكون قاعدةً أفْسح وأوسع للتحرّك الإعلاميّ في صالح الحركة.

27 ـ عراقيل على المسير

لا ريب أنّ تخلّص الحسين عليه السلام من مسألة البيعة، وخروجه بهذا الشكل المتخفي من المدينة، لم يُرض الدولة ولا أجهزتها، فلذلك تصدّوا للموقف بمحاولة اغتيال الحسين عليه السلام في مكّة، وفي زحام الموسم، وقد جـاء في بعض المصـادر «أنّ يزيد بثّ من يغتـاله ولو كان متعلّقـاً بأستـار الكعبة».

وعلى أبعد احتمال كان الحسين عليه السلام يُجَرُّ إلى المواجهة المسلّحة مع رجال الدولة في منطقة الحرم، ذلك الأمر الذي لا يريده الحسين عليه السلام، بل يربأ بنفسه أن يقع فيه، كما عرفناه في الفقرة(22).

فلذلك عزم على الخروج من مكّة.

[ص205] فخرج متوجّهاً إلى العراق، في أهل بيته، وستّين شيخاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الإثنين في عشر ذي الحجّة سنة ستّين.

ولابُدّ أنّ أجهزة الحكم كانت تلاحق الحسين وتراقب تحرّكاته، ويحاولون صدّه عن ما يريد، وبالخصوص توجّهه إلى منطقة الكوفة في العراق التي تعتبر


ــ[100]ــ

ـعند حكّام الشام ـ أرض المعارضة الشيعيّة العلوية، وإذا أفلت الحسين عليه السلام منهم، فلا بُدّ من وضع العراقيل في طريقه حتّى يتراجع، ولا يخرج إلى العراق.

ومن الملاحظ في طريق الحسين عليه السلام كثرة عدد «الناصحين» له عليه السلام بعدم الخروج إلى العراق، وتكاد كلمتهم تتّفق على السبب، وهو «أنَّ أهل العراق أهل غدر وخيانة، وأنّهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه».

ومن الغريب أن نجد في الناصحين: القريب والغريب، والشيخ والشابّ، والرجل والمرأة، ثم نجد الصحابي، والتابعي، والصديق، والعدوّ.

ومن جهة أُخرى: نجد إجابة الإمام الحسين عليه السلام لكلّ واحد تختلف عن إجابته للآخر، ولكنّ الحقيقة واحدة. وسكت عن إجابة البعض.

وأمّا تفصيل الأمر:

جاءه أبو سعيد الخُدْري، فقال:

[ص197] يا أبا عبد الله، إنّي لكم ناصح، وإنّي عليكم مشفق، وقد بلغني أنّه كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج، فإنّي سمعتُ أباك، يقول بالكوفة: «والله لقد مللتُهم وأبغضتُهم وملّوني وأبغضوني، وما بلوت منهم وفاءً ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب» والله ما لهم ثبات، ولا عزم أمر، ولا صبر على سيف!

ولم يذكروا جواب الإمام الحسين عليه السلام لأبي سعيد، الصحابي الكبير، ولعلّ الإمام تغافل عن جوابه، احتراماً لكبر سنّه، أو تعجّباً منه لعدم تعمقّه في الأُمور، وعدم تفكيره فيما أصاب الإسلام وما يهدّده من أخطار، بقدر ما كان يفكر في سلامة الحسين عليه السلام؟!

وقال عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة:

[ص201] أين تريد يابن فاطمة؟!


ــ[101]ــ

إنّي كاره لوجهك هذا، تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك، حتّى تركهم سخطة وملّة لهم.

أُذكّرك الله أن تغرّر بنفسك(1).

ولم يذكروا جواب الإمام هنا أيضا.

وقال أبو واقد الليثي:

[ص201] بلغني خروج حسين، فأدركته، بـ «مَلَل» فناشدته الله أن لا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنّما يقتل نفسه!

وقد ذكر جواب الحسين عليه السلام لهذا أنّه قال: «لا أرجع»(2).

وكتب إليه المِسْوَر بن مخرمة:

[ص202] إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق... إيّاك أن تبرحَ الحرمَ، فإنّهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتّى يوافوك، فتخرج في قوّة وعدة(3).

ويبدو أنّ المِسْوَر كان يعرف السبب الأساسيّ لتوجّه الحسين عليه السلام وخروجه، وهذا يدلّ على مزيد من الارتباط والتداخل مع قضيّة الحسين عليه السلام، لكنّه ـ لجهله بمقام إمامة الحسين ـ يتصدّى بهذه اللهجة لتحذيره، ولعدم وجود سوء نيّة عنده، يذكر خيانة أهل العراق، ويقترح على الحسين عليه السلام مخرجاً من التكليف، وهو أن يترك العراقيّين ليقدموا بأنفسهم إلى الخروج إلى الحسين عليه السلام، وهذه نصيحة مشفق، متفهّم لجوانب من الحقيقة، وإن خفي عليه لبّها وجوهرها.

ولذلك نجد إن الحسين عليه السلام كان ليّناً في جوابه:

فجزّاه خيراً، وقال: أستخير الله في ذلك(4).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/139).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/139).

(2) و(3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/140).


ــ[102]ــ

وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن، تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره
بالطاعة ولزوم الجماعة! وتخبره أنَّه إنّما يُساق الى مصرعه، وتخبره، وتقول:

[ص202] أشهدُ لحدّثتني عائشة أنّها سمعتْ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: يقتل حسين بأرض بابل(1).

إن تدخّل هذه المرأة في الأمر غريب، والنساء ـ الأكبر منها قدراً والأكثر منها معرفة وحديثاً ـ حاضرات، والأغرب أنّها «تأمر» الإمام «بالطاعة ولزوم الجماعة» وهذه اللغة، إنّما هي لغة الدولة ورجالها والمندفعين لها، ولا أستبعد أن يكون وراء تحريك هذه! وهي ربيبة عائشة والراوية لحديثها، أيد عميلة للدولة.

وقد كان جواب الإمام لها إلزامها بما رَوَتْ، فلما قَرأ كتابها قال:

«فلابُدّ لي ـ إذَنْ ـ من مَصْرعي»

ومضى عليه السلام.

وأتاه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال:

[ص202] إنّ الرحم تُصارّني(2) عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟!

قال عليه السلام: يا أبا بكر: ما أنت ممّن يُستغشَّ ولا يُتَّهم، فقل.

قال: قد رأيتَ ما صنع أهل العراق بأبيك وبأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَنْ قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحبّ إليه ممّن ينصر. فاذكّرك الله في نفسك(3).

إنّ أبا بكر، حسب النصّ عن الحسين ليس هو متّهماً ولا يتوقع منه الغش، كما يُتّهم غيره من «الناصحين»! ثم يبدو أنّه إنسان بعيد النظر حيث تنبّأ بأُمور، أصبحت حقيقةً، فيبدو أنّه كان مخلصاً في نصحه.

ولذلك كان جواب الإمام الحسين عليه السلام له، أن قال:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/140).

(2) في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: تظارُّني.


ــ[103]ــ

[ص202] جزاك الله ـ يابن عمّ ـ خيراً، فقد أجتهدت رأيك ومهما يقضِ الله من أمر يكنْ.

وكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كتاباً يحذّره أهل الكوفة، ويُناشده الله أن يشخص إليهم.

فكتب إليه الحسين عليه السلام:

[ص202] إنّي رأيتُ رؤيا، ورأيت فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمرني بأمر أنا ماض له، ولستُ بمخبر بها أحداً حتّى أُلاقي عملي(1).

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص:

[ص202 ـ 203] إنّي أسأل الله أن يُلهمك رُشدك، وأن يصرفك عمّا يُرديك، بلغني أنّك قد اعتزمت على الشخوصَ إلى العراق، فإنّي أُعيذك بالله من الشقاق.

فإنْ كنتَ خائفاً فأقبلْ إليّ، فلك عندي الأمانُ والبرّ والصلة.

وعمرو هذا من الأُمراء الأقوياء، في فلك الحكام، وذو عدّة وعَدَد، ويبدو من كتابه أنّه على ثقة من نفسه، وأنّه إنّما كتب الكتاب مستقلاًّ، وأمّا نيّته فلا يبعد أن يكون قد فكّر في التخلّص من الحسين عليه السلام وحركته بنحو سلميّ، لأنّه كان ممّن يرشَّح نفسه للحكم، أو هو محسوب على الحكم، ولا يحبّ أن يتورّط في مواجهة مع الحسين عليه السلام، ومع هذا فهو جاهل بكلّ الموازين والمصطلحات الإسلامية، فهو يحذّر الإمام من «الشقاق» ثمّ هو يُحاول أن يُطمع الحسين في الأمان والبرّ والصلة!

وقد كتب إليه الحسين عليه السلام جواباً مُناسباً هذا نصّه:

[ص203] إن كنتَ أردتَ بكتابكَ إليَّ برّي وصلتي، فجُزيتَ خيراً في الدنيا والآخرة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/141).


ــ[104]ــ

وإنّه لم يُشاقق مَنْ دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين.

وخير الأمانِ أمانُ الله، ولم يؤمِنِ الله من لم يَخَفْهُ في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجب لنا أمانَ الآخرة عنده(1).

ومن العِبَرِ أنّ عمراً ـ هذا ـ اغترّ بأمان خلفاء بني أُميّة فغدروا به، وقطّعوه بالسيوف، ولم ينفعه أهله وعشيرته، فخسر أمان الدنيا وأمان الآخرة!

ويبقى من الناصحين العبادلة: ابن عبّاس، وابن عمرو، وابن الزبير، وابن عمر:

أمّا ابن عبّاس: فلو صحّت الرواية فإنّ يزيد بن معاوية، دفعه على التحرّك في هذا المجال، وكتبَ إليه يخبره بخروج الحسين إلى مكّة، وقال له:

[203] وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكْفُفْه عن السعي في الفُرقة.

وتقول الرواية: إنّ ابن عبّاس أجاب يزيد، فكتب إليه: إنّي لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولستُ أدع النصيحة له في كلّ ما يجمع الله به الأُلفة وتُطفأ به النائرة.

وتقول الرواية: ودخل عبد الله بن العبّاس على الحسين، فكلّمه ليلاً طويلاً، وقال:

[ص204] أنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة، لا تأتِ العراقَ، وإن كنتَ لابُدّ فاعلاً، فأقم حتّى ينقضي الموسم وتلقى النّاسَ، وتعلم على ما يُصدرون؟ ثمّ ترى رأيك!

وتحدّد الرواية تاريخ هذا الحديث «في عشر ذي الحجّة سنة ستّين».

وتقول الرواية: فأبى الحسين إلاّ أن يمضي إلى العراق، وقال لابن عبّاس:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/141).


ــ[105]ــ

يابن العبّاس، إنّك شيخ قد كبُرتَ(1).

ثمّ خرج عبدالله من عند الإمام عليه السلام، وهو مغضب!

ولو صحّت الروايةُ، فإنّ إقدام ابن عبّاس على هذا العمل، وانبعاثه ببعث يزيد، وأُطروحته بتأخير الحركة، وسائر كلامه يدلّ على تناسي ابن عبّاس لمقام الحسين عليه السلام في العلم والإمامة، وعلى بُعده عن الأحداث.

فكان جواب الحسين عليه السلام بأنّه «شيخ قد كبر» تعبيراً هادئاً عن فقده للذاكرة، وقوّة الحدس، وما اتصّف به ابن عبّاس من الذكاء طول حياته الماضية، والتي كشفتْ عنها مواقفُه السامية.

مع انّ الإمام الحسين عليه السلام ذكر لابن عبّاس أمراً جعله يهدأ، وهو قوله له:

[ص204] لأن أُقتلَ بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ أن تستحلّ بي ـ يعني مكّة ـ.

فبَكى ابن عبّاس، وكان يقول:

فذاك الذي سلا بنفسي عنه(2).

وهذا ما يُبعد كل ما احتوته تلك الرواية، ولعل الرواة خلطوا بين ابن الزبير وابن عبّاس.

ولو كان يزيد تمكّن من تحريك شيخ بني هاشم في تنفيذ ما يُريد، فكيف لغيره من البُلهاء والمغفَّلين، أو البسطاء والمستأجرين!

وأمّا ابن عمرو ـ ابن العاص ـ فلم تُؤثر عنه كلمة في «الناصحين» إلاّ أنّه قال ـ لمّا سئل عن الحسين ومخرجه ـ:

[ص206] «أما إنّه لا يَحِيْكُ فيه السلاحُ»(3).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/142).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/142).

(3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/144).


ــ[106]ــ

ومعنى كلامه: أنّه لا يضرّه القتل مع سوابقه في الإسلام، لكنّ الفرزدقَ الشاعرَ استشعر من الكلام دلالةً أُخرى، ولعلّه عدّها تشجيعاً على الخروج وتأييداً له وحثّاً عليه، حتّى عدّ ذلك من ابن العاص نفاقاً وخبثاً!

وأمّا ابن الزبير; فقد حشرهُ بعض المؤرّخين في «الناصحين» وإنْ صحّت الرواية بذلك، فهو بلا ريب ممّن «يُستغشُّ» في نُصحه، لأنّه هو الذي شبّ على عداء أهل البيت النبويّ، ودفع أباه في أتون حرب الجمل، ووقف مع عائشة خالته في وجه العدالة، ولقد أبدى حقده وسريرة نفسه، لمّا استولى على الحكم في مكّة، فكان يترك الصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حسداً لآله.

وقد جمع آل أبي طالب في الشعب، مهدّداً بالإحراق عليهم، لمّا أبوا أن يبايعوه ويعترفوا بإمارته.

وقد كان يكيد للإمام زين العابدين في المدينة(1).

هذا الرجل لم يُحاول نصح الحسين عليه السلام بعدم الخروج خوفاً عليه من قتلة أبيه وأخيه، بل لا يذكر ذلك إلاّ شماتةً!

وقد أجابه الإمام الحسين عليه السلام ـ كما في الرواية ـ متُناسياً هذا الماضي الأسود، لكن مذكّراً إيّاه بمستقبل مشؤوم.

[248] فقال له: لأن أُقتلَ بمكان كذا وكذا أحبَّ إليَّ من أن تستحلّ بي ـ يعني مكّة ـ.

متنبئاً بتسبّبه في انتهاك حرمة البيت والحرم، عندما يعلن طغيانه في داخل مكّة ويستولي عليها، ممّا يفتح يد جيش الشام لانتهاك حرمتها، بل رميهم للكعبة وهدمها.

بينما الحسين عليه السلام قد خَرج من مكّة رعايةً لهذه الحرمة أن تهتك.

وهكذا كان أهل البيت يُحافظون على هذه الحرمة كما قرأناه في الفقرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ كتابنا جهاد الإمام السجاد عليه السلام (ص283).


ــ[107]ــ

(22).

لكن هُناك نُقولٌ وأحاديث كثيرة تؤكّد على أنّ ابن الزبير لم يكن إلاّ من المشجّعين للحسين عليه السلام على الخروج إلى العراق، صرّح بذلك سعيد بن
المسيّب
(1) واتّهمه بذلك بشدّة المِسْوَر بن مخرمة(2) وأمّا ابن عبّاس فقد واجه ابن الزبير بذلك، حين قال له:

[ص204] يابن الزبير، قد أتى ما أحببت، قرّت عينك، هذا أبو عبد الله يخرج، ويتركك والحجاز، وتمثّل:

يالــك من قُبَّــرة بمعمــرِ خلا لَك الجوّ فبيضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أنْ تنقّريْ(3).

وأمّا ابن عمر: ذلك المتظاهر بالورع المُظْلم، الذي لم يميّز به الحق ولم يبتعد عن الباطل، ويُحاول ـ بزعمه ـ الانعزال عن الفتنة، رغبةً في العفّة عن الدماء.

فإنّه كان أصغر من أن يجد الحل المناسب للخروج عمّا يدخل فيه، إن أحْسَنَ أن يدخُلَ في شيء!

فهو على أساس من نظرته الضعيفة والملتوية امتنعَ عن مبايعة الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام المجمع على إمامته، لكنّه يقصد الحجّاج ليُبايعه زاعماً أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «من باتَ وليس في عُنقه بيعةٌ،
ماتَ ميتةً جاهليّة»
(4) فمدّ الحجّاج إليه رجله يُبايعه بها، وحاجَجَهُ في امتناعه عن بيعة عليّ عليه السلام بأنّه لمَّا ترك بيعته أما كان يخافُ أن يموت في بعض تلك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في (ص201) من تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.

(2) كما في (ص202) من المصدر السابق، وكذلك الحديث (331) منه.

(3) بل اعتبر ابن عبّاس تعزية ابن الزبير له بمقتل الحسين عليه السلام شماتة كما في الحديث (330). مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/144).

(4) رواه مسلم في صحيحه (12/240).


ــ[108]ــ

الليالي؟!

فكان الحجّاجُ المُلحد، أبصَر في ذلك من ابن عمر المتزهّد!!

وهكذا يجرُّ الخذلانُ بعضَ الناس إلى العمى عن رؤية ما بين يديه، وهو يدّعي أنّه يرى الأُفقَ البعيدَ!

وبعد هذه المواقف الهزيلة، يأتي ابنُ عمر إلى الحسين عليه السلام ليحشر نفسه في «الناصحين» له بعدم الخُروج إلى العراق، زاعماً:

[245] إنّ أهل العراق قومٌ مناكير، وقد قتلوا أباك وضربوا أخاك، وفعلوا، وفعلوا.

ولمّا أبى الإمام ـ بما سيأتي نقله ـ قال ابن عمر:

[246] أستودعك الله من قتيل.

لكن كلّ ما ذكره ابن عمر، لم يكن ليخفى على الحسين نفسه، لأنّه عليه السلام كان أعرف بأهل الكوفة، وما فعلوه، حيث كان فعلهم بمنظر منه ومسمع، وبغياب ابن عمر عن ساحة الجهاد ذلك اليوم، فليس إلى تنبُّؤات ابن عمر حاجة؟!!

واذا كانت نظرة ابن عمر عدم التدخّل في السياسة، والانعزال عن الفتن، فلم يكن تدخُّله اليوم، ومحاولته منع الحسين من الخروج منبعثاً عن ذات نفسه، وإنّما أمثاله من البله يندفعون دائماً مع إرادات الظالمين، ولو من وراء الكواليس، أُولئك الّذين كان ابن عُمر يُغازلهم ويتقرّبُ إليهم مثل معاوية، ويزيد، والحجّاج!

وما أجابَ به الإمامُ الحسين عليه السلام هؤلاء الناصحين، قد اختلف حسب الأشخاص، وأهوائهم، وأغراضهم، ومواقعهم، وقناعاتهم، وقربهم، وبُعدهم، كما رأينا.

وأمّا الجواب الحاسم، والأساسيّ، فهو الذي ذكره الإمام في جواب الأمير الأُموي عمرو بن سعيد، فقال:


ــ[109]ــ

[ص203]... إنّه لم يُشاقق مَنْ دعا إلى الله، وعمل صالحاً، وقال: إنّني من المسلمين(1).

فإذا كان الحسينُ عليه السلام خارجاً لأداء واجب الدعوة إلى الله، فلا يكون خروجه لغواً، ولا يحقّ لأحد أن يُعاتبه عليه، لأنّهُ إنّما يؤدّي بإقدامه واجباً إلاهيّاً، وضعه اللهُ على الأنبياء وعلى الأئمّة، من قبل الحسين وبعده.

وإذا أحرز الإمام تحقّق شروط ذلك، وتمَّتْ عنده العدّة للخروج، من خلال العهود والمواثيق ومجموعة الرسائل والكتب التي وصلت إليه. فهو لا محالة خارج، ولا تقف أمامه العراقيل المنظورة له والواضحة، فضلاً عن تلك المحتملة والقائمة على الفرض والتخمين، مثل الغدر به وهلاكه، ذلك الذي عرضه
«
الناصحون»، فكيف لو كان المنظور هو الشهادة والقتل في سبيل الله، التي هيَ من أفضلِ النتائج المتوقّعة، والمترقّبة، والمطلوبة لمن يدخل هذا السبيل.

مع أنّها مقضيّة، ومأمور بها، وتحتاج إلى توفيق عظيم لنيلها، فهي إذن من صميم الأهداف التي يضَعها الإمام أمام وجهه، لا أنّها موانع لإقدامه!

وأمّا أهل العراق وسيرتهم، وأنّهم أهل النفاق والشقاق، وعادتهم الغدر والخيانة. فتلك أُمور لا تُعرقل خُطّة الإمام في قيامه بواجبه، وإنّما فيها الضرر المتصوّر على حياة الإمام وتمسُّ راحته، وليس هذا مهمّاً في قبال أمر القيادة الإسلامية، وأداء واجب الإمامة، حتّى يتركها من أجل ذلك، ولذلك لم يترك الإمام عليّ عليه السلام أهل الكوفة، بالرغم من استيائه منهم إلى حدّ الملل والسأم، لكن لا يجوزُ له ـ شرعاً ـ أن يترك موقع القيادة، وواجب الإمامة من أجل أخلاقهم المؤذية لشخصه.

وكذلك الواجب الذي أُلقي على عاتق الإمام الحسين عليه السلام بدعوة أهل العراق، وأهل الكوفة، بالخروج إليهم، والقيام بأمر قيادتهم، وهدايتهم إلى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/141).


ــ[110]ــ

الإسلام، لم يتأدَّ إلاّ بالخروج، ولم يسقط هذا الواجب بمجرّد احتمال العصيان غير المتحقّق في ظاهر الأمر!

فكيف يرفع اليد عنه؟ وما هو عذره عن الحجّة التي تمّت عليه بدعوتهم له؟ ولم يبدُ منهم نكثٌ وغدرٌ بعدُ؟

فلابُدّ أنْ يمضي الإمام في طريق آداء واجبه، حتى تكون له الحجّة عليهم إذا خانوا وغدروا، كما حدث في كربلاء، ولو على حساب وجوده الشريف.

وقد كان الإمام يُعلن، ويُصرّح، ويُشير ـ باستمرار ـ إلى «كتب القوم ورسائلهم» عندما يُسأل عن وَجْه مسيره. ليدلّ المعترضين على خروجه، إلى هذا الوجه الرصين المحكم، وهذا الواجب الإلهيّ المستقرّ على الإمام عليه السلام.

وهكذا أسكت الإمام اعتراض ابن عمر فقال له مكرّراً:

[246] «هذه كتبهم وبيعتهم»(1).

وكلّ مسلم يعلم أنّ الحّجة إذا تمّت على الإمام ـ بحضور الحاضر ووجود الناصر ـ فقد أخذ الله عليه أن يقومَ بالأمر عند انعدام العذر الظاهر، ولا تصدُّه احتمالاتُ الخِذلان، ولا يردعُه خَوفُ القتل عن ترك واجبه، أو التقصير في ما فُرض عليه.

بل لابُدّ من أن يسيرَ على ما ألزمه الله ظاهراً، من القيام بالأمر وطلب الصلاح والإصلاح في الأُمّة، حتّى تنقطع الحّجة، ولا يبقى لمعتذر عذر.

وهكذا كانَ يعملُ الأنبياء من قبل.

وهاهو الحسين عليه السلام، إمام عصره، وسيّد المسلمين في زمانه، يجد المخطّط الأُمويّ لعودة الناس إلى الجاهليّة يُطبَّق، والإسلام بكلّ شرائعه وشرائحه يُهدّد بالاندثار والإبادة، ويجد أمامه هذه الكثرة من كتب القوم، ودعواتهم، وبيعتهم، وإظهارهم للاستعداد، فأيُّ عذر له في تركهم؟! وعدم الاستجابة لهم؟!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/135).


ــ[111]ــ

وهل المحافظة على النفس، والرغبة في عدم إراقة الدماء، والخوف من القتل، أُمور تمنع من أداء الواجب، وتعرقل مسيرة المسؤولية الكبرى، وهي المحافظة على الإسلام وحرماته؟! وإتمام الحجّة على الأُمّة بعد دعواتها المتتالية!؟ واستنجادها المتتابع؟

ثمَّ هَلْ تُعْقَلُ المحافظة على النفس، بعد قطع تلك المراحل النضالية والتي كان أقل نتائجها المنظورة القتلُ، حيث إنّ يزيداً صمّم على الفتك بالإمام عليه السلام الذي كان يجده السدّ الوحيد أمام استثمار جهود أبيه في سبيل الملك الأُموي العَضوض فلابدّ من أن يزيحه عن هذا الطريق، ويتمنى الحكم الأُموي لو أن الحسين عليه السلام يقف هادئاً ولو للحظة واحدة حتى يركّز في استهدافه ويقتله! وحبّذا لو كان قتل الحسين بصورة اغتيال حتى يضيع دمه وتهدر قضيته!

وقد أعلن الحسين عليه السلام عن رغبتهم في ان يقتلوه هكذا، وانّهم مصممون على ذلك حتى لو وجدوه في جُحْر! واشار يزيد إلى جلاوزته أن يحاولوا قتل الحسين أينما وجدوه ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، فلماذا لا يُبادرهم الإمام عليه السلام إلى انتخاب أفضل زمان، وأفضل مكان، وأفضل شكل للقتل!

الزمان «يوم عاشوراء» المسجّل في عالم الغيب، والمثبت في الصحف الأُولى، وما تلاها «من أنباء الغيب» التي سنستعرضها.

وكذا المكان «كربلاء» الأرض التي ذكر اسمها على الألسن منذ عصر الأنبياء.

أما الشكل الذي اختاره للقتل، فهو النضال المستميت الذي ظلّ صداه مُدَويّاً في اُذن التأريخ، يقضّ مضاجع الظالمين والمزوّرين لكتبه.

إنّ الإمام وبمثل ما قام به من الإقدام، أثبت ذكره ومقتله على صفحات التاريخ، حتى لا تناله خيانات المنحرفين، وجحود المنكرين، وتزييف المزورين،


ــ[112]ــ

ويخلد في الخالدين(1).

وسيأتي حديث عن علم الإمام بمقتله من الغيب، وإقدامه على ذلك في الفقرة التالية: (28).

28 ـ من أنباء الغيب

للغيب والإيمان به، دور في حضارة الدين، والرسالات كلّها، وفي الاسلام كذلك، حتّى جعل من صفات الّذين يلتزمون بها انّهم (يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ)والرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جاء بأنباء الغيب التي أوحاها الله إليه.

وكلّ ما أخبر به منْ أنْباء المستقبل وحوادثه، فهو من الغيب الموحى إليه، إذ هو (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى) وكانت واقعة خروج الحسين إلى أرض العراق وقتله هُناك من دلائل النبوّة، وشواهد صدقها حقّاً(2).

وقد استفاضتْ بذلك الأخبار، وممّا نقله ابن عساكر:

[213] عن عليّ عليه السلام قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعيناه تفيضان! فقلت: يانبيّ الله، أغضبك أحدٌ؟ ما شأن عينيك تُفُيضان؟

قال: بل قام من عندي جبرئيل قبلُ، فحدّثني أنّ الحسين يقتل بشطّ الفرات(3).

وزار مَلَك القَطْر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فدخل الحسين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر مقال «علم الأئمة بالغيب» ص 58 ـ69.

(2) أورد كثير من هذه الأخبار البيهقي في «دلائل النبوّة» وكذلك أبو نعيم في «دلائل النبوّة» وهما مطبوعان متداولان.

(3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/133).


ــ[113]ــ

يتوثّب على رسول الله فقال الملك:

[217] أما إنّ أُمّتك ستقتله!

وقد روى هذه الأنباء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، وأُمّ سلمة أُمّ المؤمنين، وزينب أُمّ المؤمنين، وأُمّ الفضل مرضعة الحسين، وعائشة بنت أبي بكر، ومن الصحابة: أنس بن مالك، وأبو أُمامة، وفي حديثه:

[219] قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لنسائه: لا تُبكوا هذا الصبيّ ـ يعني حسيناً ـ.

فكان يوم أُمّ سلمة، فنزل جبرئيل، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال لأُمّ سلمة: لا تَدَعي أحداً يدخلْ علَيَّ.

فجاء الحسين،... أراد أن يدخل، فأخذته أُمّ سلمة فاحتضنته وجعلت تُناغيه وتسكّته، فلمّا اشتدّ في البكاء خلّت عنه، فدخل حتّى جلس في حجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فقال جبرئيل للنبيّ: إنّ أُمتّك ستقتل ابنك هذا!...

فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد احتضن حسيناً، كاسف البال مهموماً...

فخرج إلى أصحابه وهم جلوس فقال لهم: «إنّ أُمّتي يقتلون هذا» وفي القوم أبو بكر وعمر(1).

إنّ الذين بلغتهم هذه الانباء وآمنوا بها، غيبيّاً، ليَزداد إيمانهم عمقاً وثباتاً لمّا يجدون الحسين عليه السلام يُقتل فعلاً، وبذلك يكون الحسين عليه السلام ومقتله من شواهد النبوّة والرسالة ودلائلها الواضحة، وبهذا تتحقّق مصداقيّة قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «... وأنا من حُسين».

ونزول جبرئيل بالأنباء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرٌ مألوفٌ إذ هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/134).


ــ[114]ــ

مَلَك الوحي، وموصل الأنباء، أمّا نزول ملك القَطْر ـ المطر ـ وإخباره بذلك، فهو أمر يستوقف القاري؟

فهل في ذلك دلالة خفيّة على موضوع فقدان الماء في قضيّة كربلاء، و«العطش» الذي سيتصاعد مثل الدخان،، من أبْنِيَة الحسين، يوم عاشوراء!

ومن دلائل الإمامة:

فعليٌّ عليه السلام أمير المؤمنين، الوصيُّ الذي تلقّى من النبيّ أدوات الخلافة: عينيّها ومعنويّها، خفيّها وعلنيّها، علومها الشرعية وأسرارها المودعة الجفريّة، ما أسرّ كثيراً منها، وأعلن عن البعض.

فكان فيما أعلن عنه: الإخبار عن «مقتل الحسين»!

قال صاحب مطهرته:

[213] لمّا حَاذى عليه السلام «نينوى» وهو منطلق إلى «صفّين» نادى: صبراً! أبا عبد الله، صبراً! أبا عبد الله! بشطّ الفُرات!!

قلتُ: مَنْ ذا أبو عبد الله؟

قال عليّ عليه السلام: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعيناه تُفيضان... فقال: قام من عندي جبرئيل قبلُ، فحدّثني أن الحسين يُقتل بشطّ فرات...(1).

أمّا أين هي «نينوى»؟ وأيّ شاطئ من شواطئ الفرات، هو موضع قتل الحسين؟

فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قد هدى عليّاً عليه السلام إلى «علامة» ووضع عنده عيّنةً من تربة الموضع.

قال: هل لك أنْ اُشِمَّك من تُربته؟

فمدّ يده، فقبض قبضةً من تراب، فأعطانيها.

وعلامةٌ أُخرى، إنّ هذه التربةَ مفيضةُ الدمع، وقد جرّبها عليّ عليه السلام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/133).


ــ[115]ــ

لأوّل مرّة وقعت بيده، فقال:

فلم أملك عينيَّ أن فاضتا.

وبعد هذه الأعوام الطوال، والحُسين يقرب من الثلاثين من عمره، يقف عليٌّ عليه السلام على هذه الأرض، ليقف على تلكما العلامتين، ويُعلن عن الغيب المستودع، مرّتين، مرّة حين سار إلى صفّين، كما قرأنا في الحديث السابق، ومرّة أُخرى حينما رجع من صفّين، قال الراوي:

[238] أقبلنا مرجعنا من صفّين، فنزلنا كربلاء، فصلّى بها عليّ صلاة الفجر، بين شجرات ودوحات حَرْمَل، ثم أَخَذَ كفّاً من بَعْر الغِزْلان فشمه، ثم قال: أُوّهْ، أُوّهْ، يُقتلُ بهذا الغائط قومٌ يدخلون الجنّةَ بغير حساب..(1).

لقد شمّ عليٌّ تُربة هذه الأرض من يَد النبيّ، ويشمّها اليوم وهو على أرض كربلاء، يقدّسها، فيصلّي فيها.

ولئن كانت أنباءُ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من دلائل النبّوة، فإنّ حضور عليّ عليه السلام على هذه الأرض، وإعلانه عن أنباء الغيب التي أوحاها إليه الرسول، وحمّلها عليّاً، فهي من دلائل الإمامة.

وزاد عليّ عليه السلام أنْ حضر في كربلاء، وقدّس أرضها، وواسى ابنه الشهيد بنداء له: «صَبْراً أبا عبد الله» «صبراً أبا عبد الله».

وإذا كانت أنباء كربلاء، من الغيب الذي يُوحيه الله إلى الرسول، فلابُدّ أنّ شيئاً من تلك الأنباء قد جاء في صحف الأنبياء، مادامت الشريعة الإلهية واحدة، والحقائق الكونيّة بعينها متّحدة، والوقائع المتجدّدة محفوظة في لوح الغيب، والأهداف في الإعلان عنها بنفسها مُتكرّرة.

فماذا عن كربلاء في الصحف الأُولى!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/135).


ــ[116]ــ

إنّ رجالاً من أهل الأديان قد تناقلوا بعض تلك الأنباء:

[ص189] فهذا كعب الأحبار كان إذا مرَّ عليٌّ عليه السلام يقول: يخرج من وُلد هذا رجلٌ يُقتل في عصابة لا يجفُّ عرق خيولهم حتّى يردوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).

[ص189] وكان رأسُ الجــالوت ـ وهو من أولاد الأنبياء السابقين ـ يقول: كُنّا نسمع أنّه يقتل بكربلاء، ابن نبيٍّ، فكنتُ إذا دخلتُها ركضتُ فرسي حتّى أجوزَ عنها، فلمّا قُتل حُسَينٌ، جعلتُ أسير بعد ذلك على هيئَتي(2).

وإذا كانت الأنباء قد ذاعتْ وانتشرتْ، ورويتْ عن الصحف الأُولى، وعن النبيّ، وعن عليّ، فأجدر بالحسين أبي عبد الله، صاحب الأنباء ومحورها، وموضوع حديثها، أن يكون على علم بها.

ولقد أعلن عنها قبل كربلاء، وكان يحلف بالله على النتيجة التي يلقاها، ومن تلك الأنباء:

[267] قال الحسين عليه السلام: والله، ليَعْتَدُنَّ عليَّ كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت!

[268] وقال عليه السلام: والله، لا يَدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العَلَقةَ من جوفي!

[266] وقال من شافَهَ الحسين: رأيت ابْنِيةً مضروبة بفلاة من الأرض، فقلتُ: لمن هذه؟

قالوا: هذه لحسين.

فأتيتُه، فإذا شيخ يقرأ القرآن ـ والدموع تسيلُ على خدّيه ولحيته! ـ فقلت: بأبي أنت وأُمّي، يابن رسول الله، ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحدٌ؟

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/135).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/135).


ــ[117]ــ

فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليَّ، ولا أراهم إلاّ قاتلي.

وأوْلى بالحسين عليه السلام أن يعلم ما يجري في الغيب من خلال إخبار جدّه المرسَل، لأنّه من أعلام الإمامة التي زانها

وحديث كربلاء: أحزانُها وتربتُها:

واسم «كربلاء» نفسه، الذي لم يذكر في تراث العرب القديم، وإنّما جاء على لسان الغيب، وسمعه العرب لأوّل مرّة في حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيما رواه سعيد بن جهمان، قال:

[233] إنّ جبرئيل أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بتراب من تربة القرية التي يقتل فيها الحسين.

وقيل: اسمها «كربلاء».

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : كربٌ وبلاءٌ(1).

فلابُدّ أن يكون هذا الاسم موضوعاً على تلك القرية، لكن تداولها بدأ منذ هذا الحديث، وأمّا استيحاء «الكرب» و «البلاء» منه، فلم يؤثر إلاّ من هذا النصّ، بالرغم من إيحاء حروف الكلمة، ودلالتها التصوّرية التي لا يمكن إنكارها.

وعليّ عليه السلام أيضاً سأل عن هذا الإسم واستوحى منه نفس الوحي:

[278] قال الراوي: رجعنا مَعَ عليّ من صِفّين، فانتهينا إلى موضع، فقال: ما يُسَمّى هذا الموضع؟

قلنا: كربلاء.

قال: «كربٌ وبلاءٌ».

ثم قَعَدَ على رابِية وقال: يُقتل هاهنا قومٌ أفضل شهداء على ظهر الأرض، لا يكون شهداء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والحسينُ نفسُه، حين نزلَ كربلاء، تساءَلَ:

[275] ما اسمُ هذه الأرض؟

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور(7/134).


ــ[118]ــ

قالوا: كربلاء.

قال عليه السلام: كربٌ وبلاءٌ.

وبعد حديث الغيب كان إحضار عيّنة من «تُربة كربلاء» التي تكرّر الحديث عنها، دعماً من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكلّ ذلك الحديث بمصداق، ونموذج، من تُربتها، لتكون دليلاً عينياًمن دلائل النبوّة ومعجزاتها.

[213] ففي حديث عليّ: أنّ جبرئيل قال للنّبي: هل أُشمّك من تُربته؟

فمدّ يده فقبض قبضةً من تُراب، فأعطانيها.

وفي حديث أنس:

[217] فجاءه بسهلة، أو تُراب أحمر، فأخذته أُمّ سلمة فجعلتْه في ثوبها.

وفي حديث أبي أُمامة:

[219] فخرج على أصحابه وهم جلوس... قال: «هذه تُربته» فأراهم إيّاها(1).

ولأُمّ سلمة ـ أُمّ المؤمنين ـ شأن أكبر مع هذه التربة، فقد روت حديثه بشي من التفصيل:

[221 و222]:... فاستيقظ وفي يده تُربة حمراء وقال: أخبرني جبرئيل: أنّ ابني هذا الحسين يقتل بأرض العراق... فهذه تُربتها.

... أهل هذه المدرة يقتلونه!

بل زادها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شرفاً بأن استودعها تلك التربة، وكانت تحتفظ بها، فيما روته، قالت:

[223] كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيتي، فنزل جبرئيل فقال: يا محمّد، إنّ أُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/134).


ــ[119]ــ

وأومأ بيده إلى الحسين.

فبكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وضمّه إلى صدره، ثمّ قال:

«وديعةٌ عندكِ هذه التُربة» فشمّها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال: وَيْحَ كرب وبلاء.

وقال: يا أُمّ سلمة إذا تحوّلت هذه التُربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قُتل.

فجعلتْها أُمّ سلمة في قارورة، ثمّ جعلتْ تنظر إليها كلّ يوم وتقول: إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيمٌ!(1)

وهذه التفاصيل اختصّت بها أُمّ سلمة من بين زوجات النبيّ.

أما حديث التُربة فقد رواه غيرها من النساء أيضاً:

فعائشة قالت:

[228] فأشار له جبرئيل إلى «الطفّ» بالعراق، وأخذ تربة حمراء، فأراه إيّاها فقال: هذه تربة مصرعه.

وزينب بنت جحش روت:

[230] فأراني تربة حمراء.

وأُمّ الفضل ـ مرضعة الحسين ـ قالت:

[232] وأتاني بتربة من تربته حمراء.

والعجيب في أحاديثهنّ، كلّهن، وأحاديث مِن غيرهنّ، انها تحتوي على جامع مشترك هو «الحُمرة» لون الدم، إلاّ أنّ حديثها احتوى على تحوّل التربة إلى «دَم» في يوم عاشوراء.

فما هذه الأسرار التي تحتويها هذه الأخبار؟

وما سرّ هذه التُربة التي:

تُفيضُ دمعة الناظر إليها!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/134).


ــ[120]ــ

وتتحوّلُ إلى دم!

ولها رائحةٌ خاصّة!

وكان طيبها دليلاً عليها لمن يهواها:

[346] فلمّا أُجريَ الماءُ على قبر الحسين ـ في عصر المتوكّل العبّاسي ـ نضب بعد أربعين يوماً، وامّحى أثر القبر، فجاء أعرابيٌ من بني أسد، فجعل يأخذ قبضةً ويشّمها، حتّى وقع على قبر الحسين وبكاه، وقال: بأبي وأُمّي ما كان أطيبَك، وأطيب تربتك ميّتاً، ثمّ بكى وأنشأ يقول:

أرادُوا ليُخفوا قبره عن وليّه(1) فطِيبُ ترابِ القبر دلَّ على القبرِ(2)

وتُوحي الكرب، والدمّ، والقتل، والبلاء!

وهل يمكن الاطّلاع على تلك الأسرار إلاّ من خلال أنباء الغيب التي تُوحيها السماءُ على سيّد الانبياء؟

وإنّ من أعظم دلائل النبوّة والإمامة، تحقُّقُ تلك التنبُّؤات كلّها.

ولاتزال «تُربةُ كربلاء» ذاتها، تتحوّلُ يوم عاشوراء إلى دَم قان.

ولايزال الموالون للحسين يعرفونها من رائحتها.

ولازال تراب كربلاء، يُقدَّس، ويتقربُ إلى الله بالسجود عليه لطهارته وشرفه عند الله، ويُتبرّك به ويُستشفى به، لأن دم الحسين اُريق عليه، في سبيل الله.

ولازالتْ أرضُ كربلاء توحي المآسيَ والكربَ والبلاء، وتجري عليها المصائبُ والآلامُ، وتجري فيها أنهارُ الدماء!

لأنّها كربٌ وبلاءٌ!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في المختصر: عن عدوّه، فليلاحظ.

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/155).


ــ[121]ــ

29 ـ أصْحابٌ أوفياء

صمّم الإمام الحُسينُ عليه السلام على الخروج إلى العراق، ولم تُثنِه العراقيلُ التي كانت على طول طريقه، ولم تثبّطه الاحتمالاتُ، بل ولا ما كان واضحاً في المنظور السياسي ذلك اليوم من شدّة بطش الحكومة الأُمويّة وعدم ارعوائها من فعل كلّ مخالفة، حتّى إبادته! وغدر أهل الكوفة وتقاعسهم عن نصرته!

بل سار يَسوقه الواجب الإلهيّ المفروض عليه، لكونه إماماً للأُمّة، يجب عليه القيام تلبية ندائها، لإتمام الحجّة الظاهرة.

والمصير الغيبيّ الذي كان يعلمه هو، يعلمه كلّ من سمع جدّه النبيّ يتحدّث عن كربلاء، أو شاهده، وشاهدَ أباه عليّاً، يشمّان تربتها ويتناولانها، ويتعاطيانها، ويستودعانها! كان هذا المصير يقود الإمام الحسين عليه السلام.

وأمّا من كان مع الحسين، في مسيره:

فقد كان عليه السلام يصطحبُ معه «جَيْشاً» يُشيرُ إليه، ويستعرضه، كلّما سُئِلَ عنه؟ ألا وهي أكداس الرسائل وكتب الدعوة الموجّهة إليه من الكوفة، ممّن كان يعبّر عن رأي عامّة الناس، من الرؤساء والأعيان.

إنّه عليه السلام كان يعدّ تلك الأعداد من الكتب والرسائل «جيشاً» يستحثّه المسير، ويُصاحِبُه، وكانَ كلّما عرضه على المتسائلين والمتشائمين، بل الناصحين، أُفْحِمُوا، ولم يَحْرُوا جواباً!

وليس الاستنادُ إلى هذا الكمّ الهائل من عهود الناس ـ وفيهم أصحاب الزعامة، والكلمة المسموعة ـ بأهونَ من الاعتماد على أمثالهم من الأشخاص المجنّدين الحاضرين معه، لو كانوا.

فإنّ احتمالات الخَيانة والتخاذل في الأشخاص، مثلها في أصحاب الرسائل


ــ[122]ــ

والعهود، إنْ لم تكن أقوى وأسرع!

وغريبٌ أمرُ أُولئك الّذين ينظرُون إلى الموقف من زاوية المظاهر الحاضِرة، ويحذفون من حساباتهم الأُمور غير المنظورة، ويُريدون أن يُحاسِبوا حركة الإمام وخروجه، على أساس أنّه إمام عالم بالمصير، بل: لابُدّ أن يعرف كلّ شي من خلال الغيب! فكيف يُقدم على ما أقدم وهو عالم بكلّ ما يصير؟!

والغرابةُ من: أنّ الإمام الحسين عليه السلام لو عَمِلَ طبقاً لما يعلمه من الغيب، لعابَ عليه كلّ مَنْ يسمع بالأخبار ويقرأ التاريخ، أنّه ترك دعوة الأمّةـ المتظاهرة بالولاء له، من خلال آلاف الكتب والعهود والواصلة إليه بواسطة أُمناء القوم ورؤسائهمـ استناداً إلى احتمالات الخيانة والتخاذل، التي لم تظهر بوادرها إلاّ بالتخمين، حسب ماضي هذه الجماعة وأخلاقهم. واعتماداً على الغيب الذي لم يؤمن به كثير من الناس في عصره ومن بعده، ولم يسلّمه له غير مجموعة من شيعته.

فلو أطاع الإمام الحسين عليه السلام اُولئك الناصحين له بعدم الخروج، لكان مطيعاً لمن لم تجب عليه طاعتهم، وتاركاً لنجدة من تجب عليه نجدتهم.

كما أنّ طاعة أُولئك القلة من الناصحين لم تكن بأجدر من طاعة الآلاف من عامّة الشعب، الّذين قدّموا له الدعوة، وبإلحاح، وقدموا له الطاعة والولاء.

وقبل هذا، وبعده: فإنّ الواجب الإلهيّ، يحدوه، ويرسم له الخطط، للقيام بأمر الأُمّة، فإذا تمّت الحجّة بوجود الناصر، فهذا هو الدافع الاوّل والأساسيّ للإمام على الإقدام، دون الإحجام على أساس الاحتمالات السياسية والتوقّعات الظاهرية، وإنّما استند إليها في كلماته وتصريحاته لإبلاغ الحجّة، وإفحام الخصوم، وتوضيح المحّجة لكلّ جاهل ومظلوم(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وقد فصّلنا الحديث عن علم الأئمة بالغيب والإعتراض على إقدامهم بأنّه إلقاء إلى التهلكة، في مقال مفصّل طبع في «تراثنا» عدد 37.


ــ[123]ــ

وأمّا ظاهرياً:

فقد كان في «قلّة من الناس» وهذا يوجب القلق، في الوجه الذي سار فيه الإمام:

[262 و265] قال زُهَيْر بن شدّاد الأسديّ ـ من أهل الثعلبيّة التي مرّ بها الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشهادة ـ: أي ابن بنت رسول الله، إنّي أراك في قلّة من الناس، إنّي أخاف عليك!

فأشار بسوط في يده ـ هكذا ـ فضرب حقيبةً وراءَه، فقال: «إنّ هذه مملوءةٌ كتباً»، «هذه كتب وجوه أهل المصر»!

وقد كان أصحاب الحسين عليه السلام من القلّة بحيث قد عدّهم التاريخ كمّاً، عدّاً بأسمائهم، وقبائلهم، وأعيانهم.

فكان معه من بني هاشم عدّة معروفة، كما في الحديث:

[ص204] بعث الحسين إلى المدينة، فقدم عليه مَنْ خفّ معه، من بني عبد المطلّب، وهم تسعة عشر رجلاً، ونساء وصبيان من إخوانه، وبناته ونسائهم(1).

ويقول الحديث الآخر عن الذين استشهدوا معه عليه السلام من الهاشميّين

[284] قُتل مع الحسين ستّة عشر رجلاً من أهل بيته(2).

والحسين عليه السلام هو السابع عشر والّذين خرجوا من المعركة أحياء هم اثنان فقط، أحدهما: عليّ زين العابدين، والآخر: الحسن المثنّى، اللذان ارتُثّا(3) في المعركة، واُخذا مَعَ الأسْرى!

وأمّا العدد الإجماليّ لمجموع الّذين «حضروا» مع الإمام في كربلاء فقد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/143).

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/148).

(3) ارثُتّ: أي قاتل، وجرح في المعركة، فاُخرج منها وبه رَمَقٌ.


ــ[124]ــ

جاء في الحديث:

[ص205] فخرج متوجّهاً إلى العراق في أهل بيته، وستّين شيخاً من أهل الكوفة(1).

وجاء في بعض المصادر المتخصّصة ذكر من «حَضَر مع الحسين في كربلاء» وعددهم يتجاوز المائة بقليل.

أمّا الّذين «قتلوا» معه، فقد أُحصوا بدقّة، وسجّلتْ أسماؤهم في كتب النسب(2)، والمشهور أنّ مجموع من «قُتل معه» هم «72» شهيداً(3).

وأمّا نوعية أنصار الحسين، كيْفاً:

فقد مثّلوا كلّ شرائح المجتمع البارزة، ذلك اليوم، بالإضافة إلى عِيْنة الأُمّة أهل البيت.

ففيهم من صحابة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنس بن الحارث بن نبيه الأسدي، الكوفي.

وهو الذي روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قوله:

[283]: إنّ ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل بأرض يقالُ لها: «كربلاء» فمن شهد ذلك منكم فلينصره!

قالوا: فخرج أنَسُ بن الحارث إلى كربلاء، وقتل بها مع الحسين.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/143).

(2) من ذلك كتاب «تسمية من قُتِل مع الحسين عليه السلام من أهله وأولاده وشيعته» للراوي الفضيل بن الزبير بن درهم الأسدي الرسّان الكوفي، من أصحاب الباقر عليه السلام. وقد حقّقتُه ونشرته في مجلّة «تراثنا» الفصليّة التي تصدر في قم، (العدد الثاني) (1406).

      وقد حاولتُ إعادة النظر فيه، والاستدراك عليه، والتقديم له بشكل موسّع وأسأل الله التوفيق لنشره ثانيةً.

      وهناك كتب متخصّصة لذكر «أنصار» الإمام الحسين الّذين كانوا معه في كربلاء، من أشهرها «إبصار العين في أنصار الحسين» للشيخ محمد السماوي.

(3) أُسد الغابة، لابن الأثير (2/22).


ــ[125]ــ

لكنّ حديث النبي وإخباره عن مقتل ابنه في كربلاء، لم ينحصر سماعه لهذا الصحابي العظيم.

فأين كان سائر الصحابة الّذين عاصروا معركة كربلاء؟!

ولماذا لم يحضروا، ولم ينصروا؟!

إنّ وجود العدّة القليلة من الصحابة الكرام في معركة كربلاء كافية لتمثيل جيل الصحابة الّذين كانت لهم عند الناس حرمة وكرامة بصحبة رسول الله، وقد تمّت بوجودهم الحجّة، إذ يمثّلون الاستمرار العينيّ لوجود سُنّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحديثه وأمره، في جانب الحسين عليه السلام.

وكان مع الحسين من أصحاب الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام: عمّار ابن ابي سلامة بن عبد الله الهمداني، الدالاني، وغيره، ممّن شاهدوا علّياً وهو يُواسي الحسين في هذه الأرض بنداءاته المدوّية في فَضائه: «صبراً أبا عبد الله».

وكانوا يمثّلون بحضورهم وجود عليّ عليه السلام وصرخاته وتشجيعاته للحسين وأصحابه.

وقد اشترك في معركة كربلاء إلى جانب الحسين عليه السلام أُناس كانوا قبل قليل من أعدائه، كالحرّ بن يزيد الرياحي.

وكان فيهم ممّن يكنّ أبلغ الحقد والعداء للإمام، ومن المحكّمة الخوارج، فانحازوا إلى الإمام لمّا سمعوا منه الحقّ، وشاهدوا ما عليه من المظلومية، وما كان عليه أعداؤه من الباطل والقساوة والتجاوز.

وحتّى كان في جيش الحسين عليه السلام، ذي العدد الضئيل، جنود مجهولون، لم تحرّكهم إلاّ أنْباء كربلاء، التي بلغتْهم، فبلغتْ إلى عقولهم، وبلغتْ بهم قمم الشهادة، فالخلود.

[269] قال العربان بن الهيثم: كان أبي يَتَبديَ(1) فينزل قريباً من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أي يخرج إلى البادية.


ــ[126]ــ

الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنّا لا نبدو إلاّ وجدنا رجلاً من بني أسَد هناك، فقال له أبي: أراك ملازماً هذا المكان؟

قال: بلغني أن حُسَيْناً يُقتل هاهنا، فأنا أخرج إلى هذا المكان، لعلّي أُصادفه فأُقْتَلَ معه!

قال الراوي: فلّما قُتِلَ الحسين، قال أبي: انطلقوا ننظر: هل الأسدي فيمن قُتِلَ؟

فأتينا المعركة، وطوّفنا، فإذا الأسدي مقتول!(1)

ولئن خان الجيشُ الكوفيّ بعهوده، واستهتر برسائله وكتبه ووعوده، لكن أصحاب الحسين عليه السلام ـ على قلّة العدد ـ ضربوا أروع الأمثلة في الوفاء، والفداء، وكانوا أكبر من جيش الكوفة في الشجاعة والبطولة والإقدام، وقد مجّد الإمام الحسين عليه السلام بموقفهم العظيم في كلماته وخطبه في «يوم عاشوراء».

أمّا هُمْ، فكانوا يقفون ذلك الموقف عن بصائر نافذة، وعن خبرة، وعلم اليقين بالمصير، ولقد أصبحَ إيثارهم بأرواحهم لسيّدهم الإمام الحسين عليه
السلام عينَ اليقين، للتاريخ، ومضرب الأمثال للأجيال.

ومثال واحد ذكره ابن عساكر عن محمّد بن بشير الحضرميّ الذي لزم الحسين وكان معه في كربلاء:

[200] إذ جاءه نبأُ ابنه أنّه اُسِرَ بثغر الريّ، فقال: عند الله أحتسبُه ونفسي، ما كنتُ أُحبُّ أن يُؤسَرَ، ولا أنْ أبقى بعده.

فسمع الحسينُ كلامه، فقال له: «رحمك الله، وأنت في حلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابْنِك!»

قال: أكَلَتْني السباعُ حَيّاً إنْ فارقتُكَ!

فقال له الحسين: فأعْطِ ابنك هذه الأثواب البُرود، يستعِنْ بها في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/145).


ــ[127]ــ

فداء أخيه.

فأعطاه خمسة أثواب، قيمتها ألف دينار(1).

إنّ الكلمة لتقصُر عن التعبير في وصف موقف هؤلاء، كما أنّ الذهن ليعجز عن تصوير ما في قلوبهم من الودّ والإخلاص لإمامهم.

إلاّ بتكرار عباراتهم نفسها!

وبهذه النفوس الكبيرة، والعقول البالغة الرشيدة، والقلوب المليئة بالولاء، والمفعمة بالإخلاص، وعلم اليقين بالموقف والمصير، وبالشجاعة والجرأة والبطولة النادرة والثبات على الطريق، دخل الحسين عليه السلام معركته الفاصِلة في كربلاء.

30 ـ يَوْمَ عاشوراء

[ص207] ولمّا خرج الحسين، وبلغ يزيد خروجه كتب إلى عبيد الله بن زياد عامله على العراق يأمره بمحاربته وحمله إليه إن ظفر به فوجّه اللعين عبيد الله الجيش إلى الحسين عليه السلام مع عمر بن سعد.

وعدل الحسين إلى كربلاء، فلقيه عمر هناك، فاقتتلوا، فقُتل الحسين رضوان الله عليه ورحمته وبركاته، ولعنة الله على قاتليه.

وكان قتله في العاشر من المحرّم سنة إحدى وستّين، يوم عاشوراء(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/129 ـ 130). ولقد تحدثنا عن المواقف الأُخرى للشهداء، تلك المليئة بالوفاء والإيثار في مقال بعنوان «شهداء حقّاً» نشر في مجلة «ذكريات المعصومين، الكربلائية» سنة1385 عدد محرم.

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/145).


ــ[128]ــ

وهو يومٌ عظيم في تاريخ المسلمين، وهو على آل الرسول أليم.

أمّا عظمتهُ، فهي من أجل اقترانه بالحسين عليه السلام، ذلك الإمام العظيم
الذي مثّل الرسول في شخصه، لكونه سبطه الوحيد ذلك اليوم، ولكونه كبير أهل بيته، وخامس أهل الكساء المطهَّرين من عترته، والذي مثّل الرسالة في علمها وسموّها وخلودها.

فكانتْ معركة عاشوراء معركة الإيمان الذي مثله الحسين عليه السلام، والكفر الذي حاربه، ومعركة الحقّ الذي تجسّد في الحسين عليه السلام، والباطل الذي قاومه، ويعني ذلك أنّه قد تكرّرت في هذا اليوم معارك الأنبياء ومشاهد الصالحين، عَبْرَ التاريخ، وبخاصّة مغازي النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في بدر وأُحُد والأحزاب وغيرها، ومشاهد عليّ عليه السلام في الجمل وصفّين والنهروان.

فكلّ الانبياء والأئمّة والأولياء والصالحين، والشهداء والمجاهدين، يشتركون بأهدافهم وآمالهم وبدمائهم، وتشخَص أعيُنهم على نتائج المعركة في عاشوراء.

وكلّ جهود الكفر والنفاق والفجور والفسق والرذيلة والخيانة، والجهل والغرور والإلحاد، تركّزت في جيش بني أُميّة، تُحاول أن تنتقم لكلّ تاريخها الأسود، من هذه الكوكبة التي تدور حول « الحسين عليه السلام» يريدون ليُطفئوا نور الله بسيوفهم وأسنّة رماحهم!

وأمّا ألَم عاشوراء، الذي أقرح جفونَ أهل البيت، وأسبل دموعَهم، وأورثهم حُزْناً، فهو من التوحُّش الذي أبداه الأعداء مع تلك الأبدان الطاهرة! ومن الظلم الذي جرى على ممثّل الرسول والرسالة، في وَضَح النهار المضيئ، وأمام أعين الأُمّة المدّعية للإسلام، من دون نكير، بل استهلّوا فرحاً بالتهليل والتكبير!

وما أفظع الظلم والقهر والألم بأنْ يُعتدى على ابن بنت رسول الله صلّى الله


ــ[129]ــ

عليه وآله وسلّم، وعلى يد أُمّته، من المسلمين كما يتظاهرون، ومن العرب كما يزعمون، وبأمر من الخلفاء والولاة كما يدّعون!

إنّها الردّةُ الحقيقيّةُ، لا عن الإسلام فحسب، بل عن كلّ دين مزعوم، وعن كلّ معنىً والتزام إنساني، أو قومي، أو وطني، أو انتماء طائفي، أو تبعية، أو أي معنىً آخر معقول.

بل ليس ما جرى في يوم عاشوراء قابلاً للتفسير إلاّ على أساس الجاهليّة، والعمى، والغَباء، والغرور، والغطرسة، والحماقة، وحُبّ سفك الدم الطاهر، وروح الاعتداء والانتقام، والرذالة، والخسّة، والعناد للحقّ الظاهر، وركوب الرأس، والعنجهية، وخُسران الدنيا والآخرة.

فحقّاً كانت معركةُ عاشوراء، معركة الفضيلة كلّها ضدّ الرَذيلة كلّها.

لكن لم ينته الظلم على آل محمّد بانتهاء عاشوراء، بل امتدّ مدى التاريخ الظالم، على يد حكّامه، وعلى يد كُتّابه، وعلى يد الأشرار الّذين ناصبوا آل محمد العداءَ والبغضَ والكراهيةَ، وورثوا كلّ ذلك من أسلافهم، الّذين صنعوا مأساة عاشوراء.

أليس من الظلم البيّن والخيانة المفضوحة أن يُفْصَلَ «يوم عاشوراء» ومجرياته التاريخية، عن تاريخ الإمام الحسين عليه السلام؟!

هذا الذي وقع ـ فعلاً ـ في كتاب «تاريخ دمشق» لابن عساكر!

ونحنُ نربأ بابن عساكر نفسه، ذلك المؤرّخ الشهير، أن يكون قد أغفلَ ذكر
أحداث كربلاء ويوم عاشوراء بالذات، عن تاريخه الكبير، إذ لا يخفى عليه أنّ تاريخ الحسين عليه السلام إنّما يتركّز في عاشوراء، ويعلم أنّ مثل ذلك العمل سيؤدّي إلى أنْ يُنتقدَ بلا ريب من قبل المؤرّخين، والفضلاء، والنبلاء.

لكنّ يداً آثمة امتدّتْ إلى هذا الكتاب العظيم، لتفرّغه من ذكر أحداث «يوم عاشوراء» إذْ ليس في ذكر تلك الأحداث، إلاّ ما يَكشف عن مدى الألم والظلم


ــ[130]ــ

والاعتداء الذي جرى على أهل البيت، ممّا لا يمكن إنكارهُ ولا دفعُه ولا توجيهُه ولا تفسيرهُ إلاّ على أساس ما قُلنا!

وتلك اليد الآثمة الخائنة للعلم والتراث تريد أن تبرّئ ساحة بني أُميّة، أسلافها، من الجرائم المرتكبة يومذاك، تلك الجرائم السوداء البشعة، التي لم يغسل عارَها مرورُ الأيّام ولا ينمحي بحذف هذه الأحاديث من هذه النسخة أو تلك.

ولئن امتدّت يدُ الخيانة إلى تاريخ ابن عساكر، فحذفتْ منه حوادث يوم عاشوراء، فإنّ مؤرّخي الإسلام، ومؤلّفي المسلمين، قد أفعموا كتب التاريخ بذكر تلك الحوادث، وجاء ذكر ذلك في العديد من الكتب التاريخية واُلّف لذلك، خاصةً، ما يسمّى بكتب «المقاتل».

ولعلّ نسخةً من أصل تاريخ ابن عساكر توجدُ هناك أو هنا، فيعرفها مطّلعٌ، أو يطّلع عليها منصِفٌ، فيُخرجها إلى النور، فيَبْهَتُ الخائنون الّذين ظلموا الإسلام، وظلموا آل محمد، وظلموا التاريخ، وظلموا التراث، وظلموا المسلمين بالتعتيم عليهم، وكتمان ما جرى على أرض الواقع عنهم.

كما فعلوا مثل هذا الحذف والتحريف في كثير من كتب التراث والحديث والدين، فأبادوها بالدفن والإماثة بالماء، والإحراق(1).

ولكن الحقائق، وإنْ خالوها تخفى على الناس، فإنّها لابُدّ وأن تُعْلَم مهما طال الزمن(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إقرأ عن ذلك: «تدوين السنة الشريفة» للمؤلّف.

(2) مثل الطبقات الكبرى، لابن سعد كاتب الواقدي، فإنّه ذكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام مقتله، وما جرى عليه يوم عاشوراء بتفصيل واف، ولابدّ أنّ ابن عساكر قد أورده في تاريخه، لأنه لا يغفل ما رواه ابن سعد في الطبقات، فكيف يتجاوز هذا المقتل؟

         إلاّ أنّ ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من كتاب «الطبقات» لابن سعد، هي الاُخرى حاول إغفالها الطابعون للطبقات، فلم يوردوها في المطبوع ـ لا الطبعة الاُورپية ولا البيروتية؟!

         لكن الله ادّخر منها نسخةً في مكتبة أحمد الثالث في استانبول ـ وهي النسخة الأصل التي اعتمدها طابع النسخة الاُورپية ـ وحقّقها أخيراً سماحة السيد الطباطبائي في نشرة تراثنا الصادرة من مؤسسة آل البيت ـ قم في العدد (10) ونشر مستقلاً أيضاً.

         كما أورد محقق كتاب ابن عسـاكر سماحة الشيخ المحمـودي كلّ ما يرتبط بالمقتـل منه في هامش مطبوعته من تاريخ ابن عسـاكر، ليتلافى النقص في ترجمة الإمام عليه السلام منه، فجزاه الله خيراً.


ــ[131]ــ

ونحن ـ لمّا التزمنا في كتابنا هذا بإيراد ما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام فقط ـ لا نحاول أنْ نخرجَ عن هذا الالتزام، فلا نَستعرض حوادث السيرة، اكتفاء بما جاء في المقاتل القديمة والحديثة من ذكرها، وأملاً في أنْ نوفّق لعرضها في كتاب مستقلّ بعون الله.

ولكنَّا نورد في ما يلي ما رواه ابن عساكر من خطب الإمام في يوم عاشوراء، وفيها من العِبَر ما هو كفاية للمعتبرين.

إتمام الحُجّة:

وإذا كان الحسين عليه السلام يمثّل الرُسُل والرسالات الألهية، فلابُدّ أن ينحوَ منحاهم في تبليغها، فلقد كانوا يقضون أكثر أوقاتهم في إبلاغها، وإتمام الحجّة على أقوامهم، قبل أن ينزلوا معهم إلى المعارك الحاسمة.

وهكذا فعل الحسين عليه السلام.

فإذا كان في المحلّلين التاريخيين مَنْ يزعم: «أنّ شعب الكوفة الذي حارب الحسين، لم يكن يعرفه، ولا يعرف عن أهدافه شيئاً»!

فإنّ ذلك ليس إلاّ تحريفاً للحقائق من وجه آخر، فكيف يدّعى على أُمّة أنّها لم تعرف سبط نبيّها بعد «خمسين سنة» فقط من وفاته؟! فعليها العفاءُ من أُمَّة!   وبالخصوص، أهل الكوفة الّذين عاش الحسين عليه السلام بينهم طوال خمس سنين، مدّة وجود أمير المؤمنين علي عليه السلام في الكوفة (36 ـ 40هـ )


ــ[132]ــ

فما أغباهم من أُمّة لو نسوا ابن إمامهم؟! بعد (عشرين) سنة فقط؟!

إنّه عذرٌ أقبح من الجرم، بمّرات!

ومع هذا، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام قطع أوتار هذا العُذْر، فوقفَ كما وقفَ الأنبياء، والدعاة إلى الله، ناصحاً، ومعرّفاً بنفسه، ومتمّاً للحّجة عليهم.

قال الرواة: لمّا نزلَ عمر بن سعد بحسين، وأيقنَ أنّهم قاتلوه، قامَ الحسين عليه السلام في أصحابه خطيباً، فحمدَ الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

[271] قد نزل بنا ما ترونَ من الأمر، وإنّ الدنيا قد تغيّرتْ وتنكّرتْ وأدبر معروفها، واستمْرَتْ حتّى لم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، إلاّ خسيس عيش(1)كالمرعى الوبيل.

ألا ترونَ الحقَّ لا يُعمل به، والباطلَ لا يُتناهى عنه؟!

ليرغبَ المؤمنُ في لقاء الله.

وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادةً، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَماً(2).

ففي أقصر عبارة، وأوفاها في الدلالة، جمع الإمام بين الإشارة إلى الماضي والتعريف بالحاضر.

وذكر الحق وتركه، والباطل والإلتزام به.

وذكّر بلقاء الله منتهى أمل المؤمنين ورغّبهم فيه.

وذكر السعادة، وجعل «الحياة مع الظالمين» ضدّها!

وأهمّ ما في الخطبة التذكير بالتغيّر الحاصل في الدنيا، وإدبار المعروف؟!

ألا يكفي السامع أن يتنبهَ إلى الفرق بين «دُنيا» يوم عاشوراء، عن الدنيا قبلها، وما هو «التغيّر» الحاصل فيها؟! كي يعتبر؟!

وأظنّ أنّ كلّ مفردة من المفردات التي أوردها الإمام في خطبته تكفي لأن يعيَ السامعون، ويبلغوا الرشد! إن لم تكن على القلوب أقفالُها!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: حشيش عَلَس.

(2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/146).


ــ[133]ــ

وفي غداة يوم عاشوراء، خطب الإمامُ أصحابه:

[272] فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: عبادَ الله، اتّقوا الله، وكونوا من الدنيا على حَذَر، فإنّ الدنيا لو بقيت لأحد، أو بقي عليها أحدٌ، كانت الأنبياءُ أحقَّ بالبقاء، وأولى بالرضا، وأرضى بالقضاء.

غير أنّ الله تعالى خلق الدنيا للبلاء، وخلق أهلها للفناء، فجديدها بال، ونعيمها مضمحلّ وسرورها مكفهرٌّ.

والمنزلُ بُلْغةٌ، والدار قلعة.

(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبابِ).

فيذكر الدنيا، وحذّر منها، وذكر الأنبياء، ليدلّ على حضورهم في الأهداف معه.

ويذكر البلاء والفناء والبلى واضمحلال نعيمها واكفهرار سرورها! لعلّ كلماته تبلغ مسامعَ أهل الكوفة فتندكّ بها، فيرعوون عمّا هم عليه مقدمون!

ولّما لم يجدْ منهم أُذناً صاغية، وكان صباح «عاشوراء» توجّه بهذا الدعاء:

[270] لمّا صبّحت الخيلُ الحسينَ بن عليّ، رفع يديه فقال:

اللّهُمَّ، أنت ثقتي في كلّ كَرْب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنتَ لي في كلّ أمر نَزَلَ بي ثقةٌ وعُدّةٌ، فكمْ من هَمّ يضعفُ فيه الفؤادُ، وتقلّ فيه الحيلةُ، ويخذل فيه الصديقُ، ويشمتُ فيه العدوُّ، فأنزلتُه بك وشكوتُه إليك رغبةً فيه إليك عمّن سواك، ففرّجْتَهُ، وكشَفْتَهُ، وكفيتَنيه. فأنت وليُّ كلّ نعمة، وصاحبُ كلِّ حسنة، ومنتهى كلِّ غاية(1).

وفي هذا الدعاء توجيه للسامعين إلى الله، وإيحاء بالثقة والرجاء والأمل والفرج والكشف والكفاية.

وتحديد للعدوّ والصديق، وتذكير بالنعمة والحسنة والغاية، التي هي لقاء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/146).


ــ[134]ــ

الله.

أمّا إذا لم ينفع التذكيرُ، ولم ينجع النصحُ، لقوم غفلوا عن الله، وهم عُميٌ صُمٌ بُكمٌ، لا يفقهون حديثاً، ولا يعون شيئاً.

فإنّ الإمام عليه السلام لمّا وَجَدَ نفسه مُحاطاً بالأعداء، ووجدهم مصمّمين على تنفيذ الجريمة العُظمى لا يرعوون، كاشفهم بكلّ الظواهر والبواطن، وأوضح لهم الواضحات، لئلاّ يبقى عذرٌ لمعتذر، قال الرواة:

[273] لما استكفَّ الناس بالحسين، ركب فرسه، ثمّ
استنصتَ الناسَ فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: تبّاً لكم، أيّتُها الجماعة، وترحاً.

أحين استصرختمونا وَلِهينَ، فأصرخناكم موجِفينَ، شحذتُم علينا سيفاً كان في أيماننا، وحششتُم علينا ناراً قدحناها على عدوّكم وعدوّنا، فأصبحتُم إلْباً على أوليائكم، ويَداً عليهم لأعدائكم؟

بغير عدل رأيتموه بثُّوه فيكم، ولا أمَل أصبح لكم فيهم.

ومن غير حَدَث كان منّا، ولا رأي يُفَيّل فينا.

فهلاّ ـ لكم الويلاتُ ـ إذ كرهتمونا تركتمونا، والسيف مشيمٌ، والجأش طامنٌ، والرأي لم يستخفّ.

ولكن استصرعتم إلينا طيرة الدنيا، وتداعيتم إلينا كتداعي الفراش.

قيحاً وحكةً وهلوعاً وذلّةً لطواغيت الأُمّة، وشذّاذ الأحزاب، ونَبَذة الكتاب، وعُصبَة الآثام، وبقيّة الشيطان، ومحرّفي الكلام، ومطفي السنن، وملحقي العهر بالنسب، وأسف المؤمنين، ومزاح المستهترين، الّذين جعلوا القُرآن عضين (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ
).

فهؤلاء تعضدون؟! وعنّا تتخاذلون؟!

أجَلْ ـ والله ـ الخذلُ فيكم معروف، وشجت عليه عروقكم،


ــ[135]ــ

واستأزرت عليه أُصولكم وفروعكم.

فكنتم أخبث ثمرة شجرة للناظر، وأكلة للغاصب!

ألا فلعنة الله على الناكثين (وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً).

ألا، وإنّ البَغيَّ قد ركز بين السِلّةِ والذلّة، وهيهات منّا الذلّة،(1) أبى الله ذلك ورسولهُ والمؤمنون، وحجورٌ طابتْ، وبطونٌ طهرتْ، وأُنوفٌ حميّةٌ، ونفوسٌ أبيّةٌ، تُؤْثِر مصارعَ الكرام على ظآر اللئام.

ألا، وإنّي زاحِفٌ بهذه الأُسْرة، على قِلّة العدد، وكثرة العدوّ، وخذلة الناصر!

فإنْ نَهْزِمْ فهزّامون قِدْماً وإن نُهْزَم فغير مُهَزَّمينا

وما إنْ طِبُّنا جُبْنٌ ولكنْ منايانا وطعمة آخرينا

ألا، ثمّ لا تلبثون إلاّ ريثما يُركبُ فرسٌ، حتّى تدار
بكم دورَ الرحا، ويُفلق بكم فلقَ المحور، عهداً عهده النبي إلى أبي.

(فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ، ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ).

[سورة يونس: 71]

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَا مِن دَابَّة إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِراط مُسْتَقِيم).

فإنْ كان في سامعي هذه الخطبة مَنْ عنده مثقال ذرّة من خير، اكتسَبه بعرف أو تعلّمه من درس أو دين، أو كان له ضمير ووجدان، أو من يرجع إلى عقل ونظر لنفسه، لكانت له مُرشدةً!

إذ أنّ الإمام عليه السلام قد استعمل كلّ ذلك:

فحرّك الأعراف القائمة على الوفاء بالعهد، والإحسان بالمثل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وفي نسخة : « الدنيّة » بدل « الذلّة ».


ــ[136]ــ

وبصّرهم بالبؤس الذي غمرهم، فهم في غمرته ساهون، فلا عدلَ ولا أملَ في الحكم الذي تحت نيره يرزحون، وهم لا يشعرون!

وقرأ لهم الشعر الحماسيّ الذي تمثّل به أبطال العرب، وسارت به الأمثال!

وأوضح لهم مفاسد الموقف من خلال عروض البغيّ ابن البغيّة، كي تتحرّك عندهم خيوط الوجدان، ويتبصّروا مواقع أقدامهم، وأهدافهم! لَعلّهم يهتدون.

كما عرّفهم ـ بأقوى نصٍّ ـ بنفسه وأصله وفصله، والجماعة الّذين معه، الّذين
عبّر عنهم بـ «
هذه الأُسرة» تعبيراً عن اندماجهم وتكتّلهم ووحدتهم، في المسير والمصير، وأنّهم ليسوا مّمن يتوقّع نزولهم على رغبة الأعداء، هيهات!

وذكر في خُطبته الأنبيَاء، والنبيّ، وأباه.

وقرأ لهم الآيات مستشهداً بها.

ألم يكن الجمع قد سمعوا آيات القرآن؟! وهم الآن يسمعون الإمام يتلوها عليهم؟!

فإن لم يقرأوا القرآن فكيف يدّعون الإسلام؟!

وإن قرأوه، فهل حجّة أتمّ عليهم من آياته؟!

ومن أعظم المواقف إثارة، وأتمّ الخطب حجّة، ما نقله الرواة، قالوا:

[274 ـ 275] إنّ الحسين بن عليّ لمّا أرهقه السلاحُ، قال: ألا تقبلون منّي ما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقبل من المشركين؟

قالوا: وما كان رسول الله يقبل من المشركين؟

قال: إذا جنحَ أحدُهم، قبِلَ منه!

قالوا: لا.

قال: فدعوني أرجع!


ــ[137]ــ

قالوا: لا.

قال: فدعوني آتي التُركَ، فأُقاتلهم حتّى أموت(1).

وبدلاً أن يتعاطفوا مع هذا العرض، تمادوا في الغيّ..

فأخذ له رجلٌ السلاحَ، وقال له: أبشر بالنار!

فقال الحسين عليه السلام: بل ـ إن شاء الله ـ برحمة ربّي عزّ وجلّ، وشفاعة نبيّي صلّى الله عليهوآله وسلّم.

إنّها منتهى الضراوة والوحشية من جيش الكوفة، ولكنّها منتهى الغاية في إتمام الحجّة عليهم من الإمام الحسين عليه السلام.

لقد كشف الإمامُ بعرض هذه الأُمور، عن مدى قساوة هؤلاء، كما كشف عن جهلهم بسُنّة الرسول، التي يدّعون الانتماء إليها والدفاع عنها.

وحين رفضوا الخيارات التي عرضها بكلمة النفي «لا» فإنّ الخيار الثالث ـ مهما كانت صيغته ـ فإنّه لم يقابَلْ إلاّ بالسلاح!(2).

وهذا لا يصدر ممن له وجدان، وضمير، وإنسانية، فضلاً عن الّذين يدّعون الانتساب إلى الإسلام دين الرحمة والسلام والحقّ والعدل!

إنّ عروض الحسين عليه السلام هذه تكشف بجلاء عن مدى بُعْدِ الأُمّة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/146)، تحتوي الروايتان اللتان رواهما ابن عساكر على «طلب الإمام المسير إلى يزيد» لكن الروايات الصحيحة، خالية من ذلك، بل روى عن عقبة بن سمعان قوله: «صاحبت الحسين من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى كربلاء، ولم أُفارقه في حال من الحالات، فما سمعت منه أن يقول: «دعوني آتي يزيد» لاحظ تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص220 هامش) مع أنّه لو أُضيفت تلك إلى الخيارات لكانت أربعا! بينما المتن ينصّ على أنّها ثلاث!! ولاحظ الهامش الآتي.

(2) لقد اختلف الرواة في صيغة الخيار الثالث الذي عبّر عنه الإمام الحسين عليه السلام فقال الأكثرون انه عَرَضَ عليهم الرجوع إلى مدينة جدّه الرسول، فقوبل بالسلاح، ولكن الاُمويين افتأتوا صيغة اُخرى حاصلها انّه يذهب إلى يزيد فيضع يده في يده، أو يرى فيه رأيه! لكن مقابلتهم لهذا الخيار بالسلاح دليل على عدم صدق هذا الافتيات، إذ معنى ذلك التسليم والوقوع في أيديهم، فما لهم لا يقبلونه منه!؟ ولا يقابلونه إلاّ بالسلاح!؟


ــ[138]ــ

المسلمة، عن دين الإسلام، ولمّا يمضِ على وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، نصفُ قرن، خمسون عاماً فقط!!

وإنّ المسلمين لم يتعمقوا في فهم التعاليم القيّمة التي جاء بها الإسلام ولم يتخلّوا تماماً من روح الجاهلية الأُولى الكامنة في نفوسهم فلا زالوا يتحرّكون بها، ولازالت أعراف الجاهلية وعاداتها في حبّها لسفك الدماء، وهتك الأعراض، وخيانة الوعود، ونبذ العهود، وخفر الجوار، وهتك الذمار، تملأ نفوسهم، وتعشعش في عقولهم!

وأبان الإمام الحسين عليه السلام أنّ المسلمين ـ يومذاك ـ قد استولى عليهم الحكّام إلى حدّ الانقياد لهم في معصية الله، وإلى حدّ الذُلّ والخضوع والطاعة لمن بيده القوّة ـ حبّاً للحياة الدنيا ـ مهما كان الحاكم في شخصه، وفعله، وتصرّفه، وقوله، وفكره: شناعةً، وقباحةً، وفساداً، وجوراً، وخِسّةً، ووحشيّةً.

وفي كلّ هذا ردّ كاف عَلى الرأي القائل بأنّ للأُمّة «عِصْمةً» في تعيين مصير السياسة المهمّة، التي تتعلّق بدين الناس ودنياهم، وتبنى عليها الأعراض، والأموال، والنفوس!

فقد كشف الإمامُ الحسين عليه السلام بخطاباته، ومواقفه، وبشهادته: أنّ الأُمّة المسلمة، إذا كانت بعد مضيّ خمسين عاماً، لم تعِ، ولم تدرك ما عرض عليها من الحقائق الواضحة، وقد أوغلوا في الجهل إلى حدّ الإقدام على قتل سبط نبيّهم! وأسر بناته وأهله!

إذا بلغَ وَعْيُ الأُمّة بعد خمسين سنة من حكم الخلفاء باسم الإسلام إلى هذا الحدّ المتردّي، من الجهل والتدني والانحطاط والوحشيّة، الذي هو عين «اللاوعي» بالرغم من تكاثف الأعوام وتكرّر المفاهيم التي جاء بها الإسلام بقرآنه وسُنّته، وسيرة أصحابه، أمام مرأى الأُمّة ومسامعها!

فكيف بهذه الأُمّة، قبل خمسين عاماً، وفي السنة التي توفّي فيها نبيّهم صلّى


ــ[139]ــ

الله عليه وآله وسلّم حين يُدّعى أنّها أجمعتْ ـ لو تمّ ثمّ الإجماعُ! ـ على تنصيب خليفة لأنفسهم، يقوم مقام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ذلك المقام الجليل المقدّس والمهمّ؟!

فإذا كانت الأُمّة في عصر الحسين عليه السلام، لم تبلغ الرشد ـ في عامها الخمسين ـ أن تعي من أمر الخليفة والولاة، يزيد وابن زياد، ما يبعثها على رفضهما، والابتعاد عن خطّتهما، أو الانعزال والتبرّؤ من أعمالهما، بل بلغ بها الجهلُ والغيُّ أن أطاعتهما إلى حدّ الإقدام على قتل سيّد شباب أهل الجنّة، سبط النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؟!

فكيف تكون راشدةً في اختيار خليفة للرسول، فور وفاته قبل خمسين عاماً، وهي في حال الصِغَر؟!

إنّ إثبات هذه الحقيقة الدامغة، كان واحدة من نتائج ما قام به الإمام الحسين عليه السلام من إتمام الحجّة، يوم عاشوراء!

ومهما تكن آثار جهود الإمام في خُطبه، إلاّ أنّ الأرض لا تخلو من حجّة، وقد برز من بين تلك الجموع الكثيفة، الغارقة في جهلها، مَنْ وَعَى نداءات الحسين عليه السلام، وتحرّك وجدانه، وأحسّ ضميره.

فقد جاء في نهاية حديث عرض الإمام عليه السلام للخيارات الثلاث ومواجهة جيش الكوفة لها بالرفض والسلاح، أنّه:

[ص220] كان مع عمر قريب من ثلاثين رجلاً من أهل الكوفة فقالوا: يعرض عليكم ابنُ بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاث خصال، فلا تقبلون شيئاً منها؟!

فتحوّلوا مع الحسين، فقاتلوا.

إنّ هؤلاء أبلغ حجّة، على كلّ القوم، حيث دلّ حديثهم على أنّ كلام الحسين قد بلغ جيش الكوفة، لكن رانَ على قلوبهم حبُّ الدنيا، ونخوة الجاهلية، والعمى عن الحقّ، فهم لا يهتدون.


ــ[140]ــ

أيحقُّ ـ بعد هذا ـ كلّه لهذه الجماعة، أنْ تدّعي أنّها أُمّة محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّها آمنت بدينه الإسلام، وتريد أن تدخل الجنّة؟!

وقد أشار إلى هذه المفارقة بعضهم لمّا قال:

[323] لو كنتُ فيمن قَتَلَ الحسين، ثمّ أُدخلتُ الجنّة، لاستحييتُ أنْ أنظر إلى وَجْهِ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ولم يصرّح، لأنّ مثل هذا الفرض قد قيل في بيئة لم يستبعد فيها لقاتل الحسين عليه السلام أن يدخل الجنّة!

وهذا هو واحد من أوجه التردّي في الضلال، والتقهقر في الوعي، والتخلّف في الشعور، والبعد عن الإسلام!

فكيف يحتمل أن يدخلَ الجنّة قاتل الحسين ـ سيّد شبابها ـ؟! بينما (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا) كما يقول القرآن؟!

العُريان:

وقبل أن نغادر كربلاء، ونودِّعَ «يوم عاشورا» بآلامه وشجاه، لابُدّ أن نلقي نظرة وداع على تلك الجثث الطاهرة، المضرّجة بدمائها، في سبيل الإسلام ورسالته الكبرى.

فإذا بِنا نشاهد مشهداً فظيعاً، جسمَ الحسين، حبيبَ النبيّ، ملقىً، عارياً عن كلّ ما يورايه عن حرّ الشمس!

ولقد جاء في الحديث أنّ الحسين نفسه كان قد توقّع من لؤم القوم أن يجرّدوه من ثيابه:

[277] قال الحسين بن عليّ حين أحسَّ بالقتل: ابغوني ثوباً لا يُرْغَبُ فيه، أجعله تحتَ ثيابي! لا أُجَرَّد!

فأخذ ثوباً، فخرقه، فجعله تحت ثيابه!


ــ[141]ــ

فلمّا قُتِلَ، جُرِّدَ صلوات الله عليه ورضوانه(1).

واحسرتا، على هذه الأُمّة!

إلى أيّ حدّ وصلت إليه من اللؤم، والرذالة، والخبث، والنذالة، وهم يدّعون الانتماء إلى أفضل دين عرفته البشرية بتعاليمه الإنسانية القيّمة!!

أربعة آلاف في بداية القتال، بلغوا اثنتي عشر ألفاً على بعض الأقوال، وثلاثين ألفاً على أوسط الأقوال، وأكثر على أقوال أُخر، جنود الدولة الإسلامية، ليس فيهم مَنْ يعرف من الإسلام أوّليات واجباته الأخلاقية، حقّاً، إنّ من المستنكَر أن يدّعي أحدهم الإسلام!

وقد ذُهلوا عن هذه الدعوى، لمّا واجهتهم أُخت الحسين، بمثل هذا السؤال: «أما فيكم مسلم؟!» فلم يُجبْها أحدٌ منهم!

وكيف يجرؤ على ادّعاء الإسلام مَنْ يُقدِمُ على هذا الإجرام، الذي تأبى نفوس أحقر الناس وأفقرهم عن ارتكابه: تجريد ابن بنت رسول الله من ثوب ممزّق، ملطّخ بالدم!

ولماذا؟!

إنّه أمر يقزّز الشعور، ويجرح العاطفة، ويستدرّ العَبْرة.

لكنّهم فعلوا كلّ ذلك، وهم يزعمون أنّهم مسلمون! عَرَبٌ!!

أمّا الحسين عليه السلام فقد فَنَّدَ بمواقفه وتضحياته مزاعمهم، كما صرّح في خطاباته بانتفائهم عن كلّ ما ينتمون إليه حين صاح بهم:

ويْحَكُم، يا شيعة آل أبي سفيان!

إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، إن كنتم عَرَباً! كما تزعمُون!(2)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/147).

(2) رواه أصحاب المقاتل، انظر: الإيقاد: ص129 ومقتل الحسين عليه السلام للمقرّم: ص275.


ــ[142]ــ

فقد نفى أن يكون لهم «دين» يعتقدون بأحكامه، ولا مسلمين يخافون المعاد الذي يخافُه كلّ ملّيٍّ معتقد، فيمتنع من ارتكاب الأصغر من تلك الجرائم النكراء البشعة!

ونفى أن يكونوا «عرباً» لأن للعُروبة عند أهلها قوانين وسُنناً وآداب وموازين، أقلّها الشعور بالتحرّر والإباء والحميّة والمروءة والتأنُّف من ارتكاب المآثم الدنيئة والاعتداءات الحقيرة.

أمّا هؤلاء «المسلمونَ!» و «العَرَبُ!» فهم الممسوخُون، المغمُورون في الرذيلة إلى حدّ الغباء، والعمى، لبعدهم عن الحقّ، وانضوائهم تحت لواء الباطل.

وظلّت كربلاء، ويوم عاشوراء، وصمة عار على جَبينِ التاريخ الإسلاميّ وعلى جبين أهل القرن الأوّل، لا يمحوها الدهر، ولا يغسلها الزمن.


ــ[143]ــ

 

الباب الرابع: أحداث بعد كربلاء

31 ـ مواقف متأخّرة.

32 ـ أحزان الأحلام.

33 ـ رثاء الطبيعة.

34 ـ الأسى والرثاء.

35 ـ الانتقام للدماء.


ــ[144]ــ

31 ـ مواقف متأخّرة

ودائماً، وفي كلّ حوادث التاريخ، يبقى بعضُ الناس في المؤخّرة، لأنّهم يحتاطون، فيقفون بعيداً عن الأحداث، لئلاّ يُصيبهم شررٌ أو أثارة من سوء.

لكن ليس مصير المتأخّرين دائماً النجاة والسلامة، وإنْ بقوا بعيدين عن الإصابات، فهم ليسوا بمنجاة من الحسابات، حسابات التأريخ والضمير والواقع.

وهكذا كان شأن الّذين تخلّفوا عن اللحوق بالحسين عليه السلام سواء في مسيره إلى أرض كربلاء، أو في سيرته على أهداف كربلاء، وخاصّةً أُولئك الّذين كانت تمدّ إليهم الأعناق، باعتبارهم حاملين للنصوص الفاصلة لكلّ نزاع، التي هي وصايا النبيّ وسُنّته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم صحابته وحاملو آرائه.

ولكن هؤلاء الّذين لم يلحقوا الفتح بتخلفّهم عن وجهة الحسين عليه السلام في المسير والسيرة، وجدوا أنفسهم ـ بعد الحسين عليه السلام ـ بين مخالب القتلة، وزهوهم بعد المذبحة التي ارتكبوها بحقّ الثائرين!

ومهما فرضنا لهؤلاء المتخلّفين من البساطة، وأنّهم لم يكونوا يتصوّرون أن الدولة الإسلاميّة تُقدِمَ على قتل جمع من خيرة رجال المسلمين، وفي
مجموعتهم كوكبة من آل محمد، وعلى رأسهم الحسين ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! وأنّهم فوجئوا بذلك، فأُسقط في أيديهم!

لكنَّ بُعْدَهم عن مجريات الأحداث، إلى الحدّ الذي يؤدّي بهم إلى هذه السذاجة، وتخلّفهم عن ركب الدفاع عن حياض الإسلام، والالتحاق بالوحيد المتبقّى من سلالة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هو في نفسه يشكّل نقطة محاسبة عسيرة.

وكفاهم ذُلاًّ ومهانة، أنْ يحضروا مجلس الحكّام القتلة ليُشاهدوا بأعينهم ما يجري على رأس الحسين ـ ذلك الرأس الذي رأته أعينهم ذاتها على صدر


ــ[145]ــ

الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلى عاتقه وفي حجره! ـ لكن في حالة أُخرى، وبالضبط كما يروونها هم:

فهذا أنس بن مالك :

[319] قال: لمّا قُتل الحسين جي برأسه إلى عبيدالله ابن زياد، فجعل ينكث بقضيب على ثناياه، وقال: إن كان لحسن الثغر!

فقلتُ: أما والله لأسوأنّك، لقد رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقبّل موضع قضيبك من فيه(1).

وهل كان أنس ـ وهو خادم النبيّ ـ جريئاً حتّى يتمكّن من مواجهة ابن زياد بهذا؟!

ولماذا لم يُحاول أن يُسيئ إلى ابن زياد، قبل أن يضرب ثنايا الحسين؟!، بل قبل أن يقتل الحسين عليه السلام؟!

ألم يكن عبيد الله مجرماً، ومستحقّاً للإساءة قبل هذا؟!

ثمّ ماذا يفعل أنس في مجلس عبيد الله، في مثل هذا الوقت؟!

وهل رأى أنس رسول الله يفعل ذلك ـ فقط ـ بسبطه الحسين؟! دون غيره من أفعال فعلها بالحسين، وأقوال قالها في الحسين، والتي عرفنا بعضاً منها في فصلي (10 و11).

هذا وهو خادم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ملازم له على باب داره؟!

ثم ـ أخيراً ـ لماذا لم يُحاول أن يُبرز هذا الذي رآه يفعله الرسول بسبطه الحسين، قبل هذا المجلس؟! حتى لا يصل الأمر إلى هذه الحال؟!

وهذا زيد بن أرقم:

[321] قال: كنت عند عبيد الله بن زياد لعنه الله، إذ أُتي برأس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/151).


ــ[146]ــ

الحسين بن عليّ، فوضع في طست بين يديْه، فأخذ قضيباً، فجعل يفتر به عن شفتيه، وعن أسنانه!

فلم أرَ ثغراً ـ قطّ ـ كان أحسن منه، كأنّه الدرّ، فلم أتمالك أن رفعتُ صوتي بالبكاء.

فقال: ما يُبكيك، أيّها الشيخ؟!

قلت: يُبكيني ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يمصّ موضع هذا القضيب ويلثمه، ويقول: الّلهمّ إنّي أُحبُّه فأحبَّه(1).

وفي نصٍّ آخر، أن ابن زياد قال لزيد: «إنّك شيخ قد خرفتَ وذهب عقلك!»

والذي يستوقف الناظر: ماذا كان يفعل هذا الصحابي الشيخ في مجلس عبيدالله؟ داخل القصر؟ في مثل هذه الأيّام؟!

هل كان يجهل أنّ النّاسَ في الكوفة قد ذهبوا لقتال الحسين عليه السلام؟!

فهو إذاً قد خرف حقّاً!

ثمّ أين كان حماسُهُ هذا، قبل أن يؤتى برأس الحسين عليه السلام؟!

ولماذا لم يرو قبل هذا ما رواه بعد هذا المجلس، لمّا:

[322] خرج زيد بن أرقم من عنده ـ يعني ابن زياد ـ يوْمئذ وهو يقول: أما والله، لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقول: الّلهمّ إنّي استودعكه وصالح المؤمنين.

فكيف حفظكم لوديعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(2).

لكن، كيف كان حفظُك أنت يا صحابي لوديعة رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلّم؟! وقد أسلمتَه وحدَه، في كربلاء، يُذْبَح هو وأهل بيته، وشيعته؟! وأنت تنادم ابن زياد؟!

ولكن هذه المواقف المتأخّرة، هل تَسُدُّ شيئاً ممّا أُصيب به الإسلام من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/152).


ــ[147]ــ

الثلمات؟! أو تردّ على الأُمّة ما فقدوه من الرجالات؟!

ولو وقفوا هذه المواقف قبل قتل الحسين عليه السلام، لكانت أشرفَ لهم، وأنفع للأُمّة.

ولو ساروا بعد ذلك بسيرة الحسين عليه السلام، لكان أعذرَ لهم، وأخلد لذكرهم!

أمّا لو ضيّع الصحابة وديعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم «السلف» المخاطبون بحفظها مباشرة! فما هو عتابه على البُعداء التابعين لهم في دينهم وعقيدتهم، وهم «الخلف» الّذين يستنّنون بسُنّتهم!

32 ـ أحزان الأحلام

ومهما كانت الأحلام وواقعها، فإنّ الحُزْن بألم عاشوراء، لم يقف على عالم اليقظة، بل لقد تحدّثت الأخبار عن أحزان عالم الرؤيا:

[324 ـ 325] قال ابن عبّاس: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يرى النائم بنصف النهار أغبر، أشعث، وبيده قارورة فيها دم.

فقلت: بأبي أنت وأُمّي، يا رسول الله، ما هذا؟!

قال: هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل منذ اليوم ألتقطه.

فأُحصي ذلك اليوم، فوجدوه قتل يومئذ.

وأُمّ سلمة، زوجة الرسول، المتّقية، المحبّة لأهل بيته، الحنون على الحسين، والتي لها ذكر مكرّر في سيرة الحسين عليه السلام، قد أفزعها المنام كذلك هي الأُخرى:

[327] عن سلمى قالت: دخلت على أُمّ سلمة، وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟


ــ[148]ــ

قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في المنام، وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: مالك يا رسول الله، مالك؟!

قال: شهدتُ قتل الحسين، آنفاً(1).

33 ـ رثاء الطبيعة

ومن الأحداث بعد مذبحة كربلاء، أنّ الطبيعة شاركت في إعلان الحزن، بأساليب غريبة لم تؤثر عند عامة الحوادث.

فمنها بكاء السماء دماً:

[287] قال ابن سيرين: لم تبك السماء على أحد بعد يحيى بن زكريّا، إلاّ على الحسين بن عليّ(2).

[295] قالت نصرة الأزدية: لمّا أن قتل الحسين بن عليّ مطرت السماء دماً فأصبحت وكلّ شي لنا ملآن دماً.

[291] وقالت امرأة: كُنّا زماناً بعد مقتل الحسين، وإن الشمس تطلع محمرّة على الحيطان والجدران بالغداة والعشيّ.

قالت: كانوا لا يرفعون حجراً إلاّ وجدوا تحته دماً(3).

ومنها ظلمة السماء:

[288] قال خليفة: لمّا قتل الحسين اسودّت السماء وظهرت الكواكب نهاراً، حتّى رأيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر(4).

[293] قال عيسى بن الحارث الكندي: لمّا قتل الحسين مكثنا سبعة أيّام إذا صلّينا العصر، نظرنا إلى الشمس على أطراف الحيطان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر ابن منظور (7/152).

(1) و (2) و (3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/149).


ــ[149]ــ

كأنّها الملاحف المعصفرة، ونظرنا إلى الكواكب يضرب بعضها بعضاً(1).

[296] قال أبو قبيل: لمّا قتل الحسين بن عليّ كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننّا أنّها هي(2).

[301] قالت أُمّ حبّان: يوم قتل الحسين اظلمّت علينا ثلاثاً، ولم يمسّ أحدٌ من زعفرانهم شيئاً فجعله على وجهه إلاّ احترق، ولم يقلب حجرٌ ببيت المقدس إلاّ أصبح تحته دمٌ عبيط(3).

وقد اعترف ببعض هذه الأحداث حكّام بني أُمّية:

[302] قال معمر: أوّل ما عرف الزهريّ تكلّم في مجلس الوليد بن عبد الملك، فقال الوليد: أيّكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قُتلَ الحسين ابن عليّ؟

فقال الزهري: بلغني أنّه لم يقلب حجر إلاّ وجد تحته دم عبيط.

34 ـ الأسى والرثاء

لم يبق أحدٌ لم يدخل عليه الحزنُ والألمُ بقتل الحسين عليه السلام، فالإمام لم يكن شخصاً، بل كان شاخِصاً، إليه تشخص أعين الأُمّة كي يُنجدها من المأزق الذي حاصرها وحاصر دينها ودنياها.

ولئن تقاعس الناسُ عن إدراك ما يجب عليهم أن يفعلوه في تلك الظروف العصيبة، ولم يتمكّنوا من الإقدام على الفداء والتضحية، إلاّ أنّ الإمام الحسين عليه السلام بتضحيته وإقدامه فجّر في نفوسهم كوامنها، فلم يحبسوا عن الإمام نصرهم بالعواطف، بعد أن فاتهم نصره بالنفوس، وإن كان بعد أن خسروا وجوده الشريف، وما يحمله من معارف ومعاني ومكارم!

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2) و (3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/149).


ــ[150]ــ

فكانت المراثي، التي تعتبر ـ في مثل ذلك الظرف الرهيب ـ استمراراً لثورة الحسين، واحداً من نتائجها لمّا انطلقت الألسنُ عن صمتها.

وأوّل من أعلن الرثاء أُمّ سلمة، زوجة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، التي ساهمتْ في نشر أخبار سيرة الحسين عليه السلام بكثرة، فقد كانتْ تستطلعُ أخبار الحسين، فقالتْ لجارية لها:

[89] أُخرجي فخبّريني، فرجعت الجارية، فقالت: قتل الحسين!

فشهقتْ شهقةً غشي عليها، ثمّ أفاقت، فاسترجعتْ، قالت: قتلوه!؟ قتلهم الله، قتلوه!؟ أذلّهم الله، قتلوه!؟ أخزاهم الله.

[329] قالت: قد فعلوها؟!

«ملأ الله بيوتهم ـ أو قبورهم ـ ناراً»

ووقعت مغشيّاً عليها!(1)

وكان ابن عبّاس يتوقّع خبر الحسين بن عليّ إلى أن أتاه آت، فسارّه بشي، فأظهر الاسترجاع، قال الراوي:

[330] فقلنا: ما حدث يا أبا العبّاس؟!

قال: مصيبةٌ عظيمةٌ عند الله نحتسبها!(2)

وحتّى الجنّ قد أسهموا في هذا الحُزن العظيم، مع المؤمنين، ومع الطبيعة، فقد جاءت الأخبار بما يلي:

[335] قالت أُمّ سلمة: سمعت الجنّ تنوح على الحسين يوم قتل، وهنّ يقلن:

أيّها القاتلون ظلماً حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيلِ

كلّ أهل السماء يدعو عليكم من نبيّ ومرسَل وقتيلِ

قد لُعنتم على لسان ابن داود وموسى وصاحب الإنجيلِ(3)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/153).

(3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/154).


ــ[151]ــ

[336] وجنيّة تنوح:

ألا يا عين فاحتفلي بجهدِ ومن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا إلى متجبّر في ملك عبدِ(1)

[337] قال ابو جناب الكلبيّ: أتيتُ كربلاء، فقلت لرجل من أشراف العرب بها: بلغني أنّكم تسمعون نوح الجنّ؟

قال: ما تلقى حرّاً، ولا عبداً، إلاّ أخبرك أنّه سمع ذاك.

قلت: أخبرني ما سمعتَ أنتَ؟

قال: سمعتهم يقولون:

مسحَ الرسول جبينه فله بريق في الخدودِ

أبواه من عَلْيا قريـ ش جدّه خير الجدودِ(2)

[338] كان الجصّاصون إذا خرجوا في السحر سمعوا نوح الجنّ على الحسين ينشدون ذلك الشعر.

[339] ولمّا قتل الحسين بن عليّ سُمع مناد ينادي ليلاً، يُسمع صوتُه ولم يُر شخصُه:

عقرتْ ثمودٌ ناقة فاستؤصلوا وجرت سوانِحُهم بغير الأسعدِ

فبنو رسول الله أعظم حرمة وأجلّ من أُمّ الفصيل المقصدِ

عجباً لهم ولما أتوا لم يُمسخوا والله يملي للطغاة الجُحَّدِ(3)

وأمّا الإنس: فقد فجرّت واقعة كربلاء قرائح الشعراء، أصحاب الولاء لأهل البيت، وقد ملأت مراثيهم دواوين الأشعار وكتب الأخبار، وعرف كثير من شعراء العربية برثائهم للحسين عليه السلام فقط.

وفي طليعة أهل الرثاء: خالد بن عَفران: من أفاضل التابعين كان بدمشق، وحدّثوا: أنّ رأس الحسين بن عليّ عليه السلام، لمّا صلب بالشام، أخفى خالد ابن عَفران شخصه عن أصحابه، وطلبوه شهراً حتّى وجدوه، فسألوه عن عزلته؟

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/154).

(3) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/155).


ــ[152]ــ

فقال: أما ترون ما نزل بنا؟!

ثمّ أنشد يقول:

جاؤوا برأسك يابن بنت محمد متزمّـــلاً بدمــائه تزميـــلا

وكأنّما بك يابن بنت محمّد قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولم يترقّبوا في قتلك التنزيل والتأويلا

ويكبّرون بأن قُتلتَ وإنّما قتلوا بك التكبير والتهليلا(1)

[400] ومنهم ـ وقيل: إنّه أوّل من رثى الإمام عليه السلام ـ سليمان بن قَتّة، قال:

وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم أذلّ رقاباً من قريش فذلَّتِ

فإنْ تبتغوه عائذ البيت تفضحوا(2) كعاد تعمّتْ عن هداها فضلّتِ

مررتُ على أبيات آل محمّد فلم أرها أمثالها حيث حلّت

وكانوا لنا غُنماً فعادوا رزيّةً لقد عظمت تلك الرزايا وجلّتِ

فلا يُبعد الله الديار وأهلها(3) لقد عظمتْ منهم برغمي تخلّتِ

إذا افتقرتْ قيسٌ جبرنا فقيرها وتقتُلنا قيسٌ إذا النعلُ زلّتِ

وعند غنيٍّ قطرة من دمائنا سنجزيهم يوماً بها حيث حلّتِ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/392). في ترجمة خالد بن عَفران.

(2) البيت في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: (فإن تبتغوه عائذ البيت تصيحوا).

(3) الشطر الثاني من البيت السابق، وهذا الشطر كلاهما من مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور.


ــ[153]ــ

ألم تر أنّ الأرض أضحتْ مريضةً لفقد حسين والبلاد اقشعرّتِ(1)

[401] وأنشدوا لبعض الشعراء في مرثية الحسين بن عليّ:

لقد هدَّ جسمي رزء آل محمد وتلك الرزايا والخطوب عظامُ

وأبكتْ جفوني بالفرات مصارعٌ لآل النبيّ المصطفى وعظامُ

عظامٌ بأكناف الفرات زكيةٌ لهنَّ علينا حرمة وذمامُ

فكم حُرّةٌ مسبيّةٌ فاطميَّةٌ وكم من كريم قد علاه حسامُ

لآل رسول الله صلّتْ عليهم ملائكةٌ بيضُ الوجوه كرامُ

أفاطمُ أشجاني بَنُوكِ ذَوُو العُلا وشِبتُ وإنّي صادقٌ لَغُلامُ

وأصبحتُ لا ألتذُّ طيبَ معيشة كأَنَّ عَلَيَّ الطّيباتِ حرامُ

ولا الباردُ العذبُ الفراتُ أُسيغهُ ولا ظلَّ يهنيني الغَداةَ طعامُ

يقولون لي صبراً جميلاً وسلوةً ومالي إلى الصبر الجميل مرامُ

فكيف اصطباري بعد آل محمّد وفي القلب منهم لوعة وسقامُ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/158).


ــ[154]ــ

35 ـ الانتقام للدماء

ولئن كانت فتنةُ الله لعباده الصالحين ـ من الأنبياء والأئمّة والأولياء ـ شديدة الوطأة عليهم، ولكنّها كانتْ وَعْداً وعهداً ربّانياً، اتّخذوه، وصَدَقُوهُ، فصبروا على الأذى في جنب الله، وصابروا، ورابطوا على مواقع الحقّ، ولم يتراجعوا، ولم يهنوا، ولم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، وجاهَدُوا بكلّ قُوّة وصلابة وإصرار، حتّى فازوا برضا الله عنهم، كما رضوا عنه، وحازوا خلود الذكر في الدنيا، وجنّات عدن في الآخرة.

وصَدَقهم الله وعدَهُ، بالانتقام من المُجْرِمين، وليعلموا أنّ وعد الله حقّ، وأنّ الله منجز وعدِه رُسُلَهُ، إلى أن يرثَ ويرثوا الارض، ويستخلفهم عليها، وعْداً عليه حقّاً في كلّ الكتب السماوية: التوراة والإنجيل والزبور، والقرآن.

وقبل هذا الأمر المعلن في النصوص المقدّسة، والذي لا يستيقنه الّذين لا يؤمنون، فهم لا يؤمنون بالغيب، وإن كان أمر الانتقام من قتلة الصالحين والمصلحين، هو مكشوف للعيان واضح لكلّ ذي عينين إذا أتعب جفنيه ففتحهما على ما حوله:

ألَيْس خلوّ المجتمع من الصلحاء المخلصين للأُمّة والوطن، يعني فراغ الساحة للعابثين، والانتهازيّين، والنفعيّين؟!

أليس قتل الجماعة المؤمنة، ذات المستويات الرفيعة في الشرف والكرامة، بين الأُمّة، يؤدّي إلى تجرّؤ القتلة والظلمة على ارتكاب الجرائم الأكثر، لأنّه يهون عليهم قتل الآخرين، بعد قتل الأشراف؟!

أليس سكوت الأُمّة على فظائع مروّعة، ومجازر رهيبة، مثل مذبحة كربلاء، بجرائمها وبشاعتها، يكشف عن عجز الأُمّة عن التصّدي للظالم، وخضوعها، بما يؤدّي إلى إقدامه على الإجرام الأوسع، كما فعل بنو أُميّة في وقعة الحرّة!


ــ[155]ــ

بل على الهتك الأعظم لحرمات الله، كما فعلوه في إحراق الكعبة وهدمها؟!

إنّ هذه النتائج الواقعة، كانت هي النتائج المنظورة والمرئيّة لكلّ أحد ممّن يحمل قبساً من نور الوعيْ والعقل والفكر، أو يجد عليها هدىً، ولم يكن بحاجة إلاّ إلى الْتفاتة صغيرة!

وقد أخبر الإمامُ الحسين عليه السلام عن بعض هذه النتائج قبل أن يرد كربلاء، وبعد أن وردها:

[268] قال: والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي! فإذا فعلوا، سلّط الله عليهم من يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمَة!

[266] وقال: لا أراهم إلاّ قاتليّ، فإذا فعلوا ذلك لم يَدَعُوْا لله حرمة إلاّ انتهكوها، فيسلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذل من فرم الأَمَة!

ولقد كان القتلُ للأنبياء والأئمّة عادةً، وكرامتهم من الله الشهادة، وإنّما بَرز الّذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم، ليثبتوا أنّهم أوفياء لوعد ربّهم، ولدينهم، وأهدافهم. فكذلك كان الانتقام للدماء الزاكية سُنّةً إلهيةً جاريةً.

وقد ذكّر الله تعالى نبيَّه بذلك، كما في الحديث:

[286] أوحى الله تعالى إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنّي قد قتلت بيحيى بن زكريّا سبعين ألفاً، وأنا قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً(1).

وأمّا آحاد الحُثالات التي تكدّست في كربلاء، وارتكبتْ جريمة عاشوراء، فهم أحقر من أن يُذكروا، ويذكر ما جرى عليهم، فكفاهم ذلاًّ، وخزياً، وعاراً، وشناراً، ما أقدموا عليه من قتل ابن بنت رسول الله، والكوكبة الأخيار من آله، والهالة المشعّة من الصالحين حوله.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7/149).


ــ[156]ــ

مع أنّ التاريخ لم يغفل ما جرى على كلّ واحد منهم من الانتقام الإلهيّ في هذه الدنيا، على يَدِ الأخيار من أنصار الحقّ الّذين «اختارهم» الله لهذه المهمة العظيمة لتكون عبرة لمن اعتبر، ولمن يعتبر على طول التاريخ، من الظَلمة، ليعلموا أنّ الله لهم بالمرصاد، وليأتينّهم موعدهم ولو بعد حين.


ــ[157]ــ

الخاتمة

هذا هو الإمام الحسين، أبو عبد الله عليه السلام:

في سماته.

وفي سيرته، قبل كربلاء.

وعلى أرضها يوم عاشوراء.

وأمّا بعد كربلاء، فهو الزمن القصير ـ الطويل ـ على طول أربعة عشر قرناً، فالإمام الحسين عليه السلام بقي يذكر وتدوّي صرخاتهُ ولم تنقطع نداءاته، ولا أحزانه، ولا ظروف حركته.

وهو التأريخ، يجدّد وجوده، ويُعيد نفسه، ويكرّر أنفاسه! وتصدُق مقولة «كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء».

ولئن خَلَت العصور من عَيْن الحسين عليه السلام، فإنّ روحه وأهدافه، تتبلور في أبنائه، وشيعته، والسائرين على دربه، وسيرته، وطريقته، يملأون الأرض بنماذج من شعاره، ويحملون لواءَ الحقّ يذبّون عنه، وينشرونه على خطوط الطول والعرض، لتفيئ الكرة الأرضيّة إلى حكم الله، وينعم البشر بآلاء الله، ويتحقق وعدُ الله في كتابه الكريم حيث يقول:

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

(وآخر دعواهم أن الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ).

حمل مكتبة الإمام الحسين الألكترونية