موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع

 

 

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

 

المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع

 

 

الشيخ الأنصاري.فرائد الأصول

الإجماع المنقول

-  فرائد الأصول - الشيخ مرتضى الأنصاري ج 1   ص 179:([1])

        ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل: الإجماع المنقول بخبر الواحد، عند كثير ممن يقول باعتبار الخبر بالخصوص([2])، نظرا إلى أنه من أفراده، فيشمله أدلته.

        والمقصود من ذكره هنا -مقدما على بيان الحال في الأخبار- هو التعرض للملازمة بين حجية الخبر وحجيته، فنقول: إن ظاهر أكثر القائلين باعتباره بالخصوص: أن الدليل عليه هو الدليل على حجية خبر العادل، فهو عندهم كخبر صحيح عالي السند، لأن مدعي الإجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الإمام عليه السلام بلا واسطة. ويدخل الإجماع ما يدخل الخبر من الأقسام، ويلحقه ما يلحقه من الأحكام.

        والذي يقوى في النظر: هو عدم الملازمة بين حجية الخبر وحجية [صفحة 180] الإجماع المنقول، وتوضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين:

        الأول: أن الأدلة الخاصة التي أقاموها على حجية خبر العادل لا تدل إلا على حجية الإخبار عن حس، لأن العمدة من تلك الأدلة هو الاتفاق الحاصل من عمل القدماء وأصحاب الأئمة عليهم السلام، ومعلوم عدم شموله([3]) إلا للرواية المصطلحة.

        وكذلك الأخبار الواردة في العمل بالروايات. اللهم إلا أن يدعى: أن المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم، ولا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ الإمام عليه السلام، ولذا يجوز النقل بالمعنى، فإذا كان المناط كشف الروايات عن صدور معناها عن الإمام عليه السلام ولو بلفظ آخر، والمفروض أن حكاية الإجماع -أيضا- حكاية حكم صادر عن المعصوم عليه السلام بهذه العبارة التي هي معقد الإجماع أو بعبارة أخرى، وجب العمل به.

        لكن هذا المناط لو ثبت دل على حجية الشهرة، بل فتوى الفقيه إذا كشف عن صدور الحكم بعبارة الفتوى أو بعبارة غيرها، كما عمل بفتاوى علي بن بابويه+، لتنزيل فتواه منزلة روايته، بل على حجية مطلق الظن بالحكم الصادر عن الإمام عليه السلام، وسيجيء توضيح الحال([4]) إن شاء الله تعالى.

وأما الآيات: فالعمدة فيها من حيث وضوح الدلالة هي آية النبأ([5]) [الصفحة 181] وهي إنما تدل على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق، والظاهر منها -بقرينة التفصيل بين العادل حين الإخبار والفاسق، وبقرينة تعليل اختصاص التبين بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم احتمالا مساويا، لأن الفاسق لا رادع له عن الكذب- هو: عدم الاعتناء باحتمال تعمد كذبه، لا وجوب البناء على إصابته وعدم خطئه في حدسه، لأن الفسق والعدالة حين الإخبار لا يصلحان مناطين([6]) لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه، وكذا احتمال الوقوع في الندم من جهة الخطأ في الحدس أمر مشترك بين العادل والفاسق، فلا يصلح لتعليل الفرق به.

        فعلمنا من ذلك: أن المقصود من الآية إرادة نفي احتمال تعمد الكذب عن العادل حين الإخبار دون الفاسق، لأن هذا هو الذي يصلح لإناطته بالفسق والعدالة حين الإخبار.

        ومنه تبين: عدم دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسية إذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل.

        فإن قلت: إن مجرد دلالة الآية على ما ذكر لا يوجب قبول([7]) الخبر، لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر وإن لم يتعمد الكذب، فيجب التبين في خبر العادل أيضا، لاحتمال خطئه وسهوه، وهو خلاف الآية المفصلة بين العادل والفاسق، غاية الأمر وجوبه في خبر الفاسق من وجهين وفي العادل من جهة واحدة.

[الصفحة 182]

        قلت: إذا ثبت بالآية عدم جواز الاعتناء باحتمال تعمد كذبه، ينفى احتمال خطئه وغفلته واشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحس، وهذا أصل عليه إطباق العقلاء والعلماء في جميع الموارد.

        نعم، لو كان المخبر ممن يكثر عليه الخطأ والاشتباه لم يعبأ بخبره، لعدم جريان أصالة عدم الخطأ والاشتباه، ولذا يعتبرون في الراوي والشاهد([8]) الضبط، وإن كان ربما يتوهم الجاهل ثبوت ذلك من الإجماع، إلا أن المنصف يشهد: أن([9]) اعتبار هذا في جميع موارده ليس لدليل خارجي مخصص لعموم آية النبأ ونحوها مما دل على وجوب قبول قول العادل، بل لما ذكرنا: من أن المراد بوجوب قبول قول العادل رفع التهمة عنه من جهة احتمال تعمده الكذب، لا تصويبه وعدم تخطئته أو غفلته([10]).

        ويؤيد ما ذكرنا: أنه لم يستدل أحد من العلماء على حجية فتوى الفقيه على العامي بآية النبأ، مع استدلالهم عليها بآيتي النفر والسؤال([11]).

        والظاهر: أن ما ذكرنا -من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلة قبول قول العادل على وجوب تصويبه في الاعتقاد- هو الوجه فيما [الصفحة 183] ذهب إليه المعظم([12])، بل أطبقوا عليه كما في الرياض([13]): من عدم([14]) اعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحس، وإن علله في الرياض بما لا يخلو عن نظر: من أن الشهادة من الشهود وهو الحضور، فالحس مأخوذ في مفهومها.

        والحاصل: أنه لا ينبغي الإشكال في أن الإخبار عن حدس واجتهاد ونظر ليس حجة إلا على من وجب عليه تقليد المخبر في الأحكام الشرعية، وأن الآية ليست عامة لكل خبر ودعوى([15]) خرج ما خرج.

        فإن قلت: فعلى هذا إذا أخبر الفاسق بخبر يعلم بعدم تعمده للكذب فيه، تقبل شهادته فيه، لأن احتمال تعمده للكذب منتف بالفرض، واحتمال غفلته وخطئه منفي بالأصل المجمع عليه، مع أن شهادته مردودة إجماعا.

        قلت: ليس المراد مما ذكرنا عدم قابلية العدالة والفسق لإناطة([16]) الحكم بهما وجودا وعدما تعبدا، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما، بل [الصفحة 184] المراد أن الآية المذكورة لا تدل إلا على مانعية الفسق من حيث قيام احتمال تعمد الكذب معه، فيكون مفهومها عدم المانع في العادل من هذه الجهة، فلا يدل على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفي خطئه بأصالة عدم الخطأ المختصة بالأخبار الحسية، فالآية([17]) لا تدل أيضا على اشتراط العدالة ومانعية الفسق في صورة العلم بعدم تعمد([18]) الكذب، بل لا بد له من دليل آخر، فتأمل([19]).

        الأمر الثاني: أن الإجماع في مصطلح الخاصة، بل العامة -الذين هم الأصل له وهو الأصل لهم- هو([20]): اتفاق جميع العلماء في عصر، كما ينادي بذلك تعريفات كثير من([21]) الفريقين([22]).

        قال في التهذيب: الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد من امة محمد صلى الله عليه وآله([23]).

        وقال صاحب غاية البادي([24]) -شارح المبادئ، الذي هو أحد علمائنا [الصفحة 185] المعاصرين للعلامة+: الإجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليهم السلام هو: اتفاق امة محمد صلى الله عليه وآله على وجه يشتمل على قول المعصوم([25])، انتهى.

        وقال في المعالم: الإجماع في الاصطلاح: اتفاق خاص، وهو اتفاق من يعتبر قوله من الأمة([26])، انتهى.

        وكذا غيرها من العبارات المصرحة بذلك([27]) في تعريف الإجماع وغيره من المقامات، كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف بانقراض عصره([28]).

        ثم إنه لما كان وجه حجية الإجماع عند الإمامية اشتماله على قول الإمام عليه السلام، كانت الحجية دائرة مدار وجوده عليه السلام في كل جماعة هو أحدهم، ولذا قال السيد المرتضى: إذا كان علة كون الإجماع حجة كون الإمام فيهم، فكل جماعة -كثرت أو قلت- كان قول الإمام في أقوالها، فإجماعها حجة، وأن خلاف الواحد والاثنين إذا كان الإمام أحدهما -قطعا أو تجويزا- يقتضي عدم الاعتداد بقول الباقين وإن كثروا، وأن الإجماع بعد الخلاف [الصفحة 186] كالمبتدأ في الحجية([29])، انتهى.

        وقال المحقق في المعتبر -بعد إناطة حجية الإجماع بدخول قول الإمام عليه السلام-: إنه لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجة، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة([30])، انتهى.

        وقال العلامة رحمه الله -بعد قوله: إن الإجماع عندنا حجة لاشتماله على قول المعصوم-: وكل جماعة قلت أو كثرت كان قول الإمام عليه السلام في جملة أقوالها فإجماعها حجة لأجله، لا لأجل الإجماع([31])، انتهى.

        هذا، ولكن لا يلزم من كونه حجة تسميته إجماعا في الاصطلاح، كما أنه ليس كل خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح. وأما ما اشتهر بينهم: من أنه لا يقدح خروج معلوم النسب واحدا أو أكثر، فالمراد أنه لا يقدح في حجية اتفاق الباقي، لا في تسميته إجماعا، كما علم من فرض المحقق رحمه الله الإمام عليه السلام في اثنين. نعم، ظاهر كلمات جماعة([32]) يوهم تسميته إجماعا([33])، حيث تراهم يدعون الإجماع في مسألة ثم يعتذرون عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب.

[الصفحة 187]

        لكن التأمل الصادق يشهد بأن الغرض الاعتذار عن قدح المخالف في الحجية، لا في التسمية.

        نعم، يمكن أن يقال: إنهم قد تسامحوا في إطلاق الإجماع على اتفاق الجماعة التي علم دخول الإمام عليه السلام فيها، لوجود مناط الحجية فيه، وكون وجود المخالف غير مؤثر شيئا. وقد شاع هذا التسامح بحيث كاد أن([34]) ينقلب اصطلاح الخاصة عما وافق اصطلاح العامة إلى ما يعم اتفاق طائفة من الإمامية، كما يعرف من أدنى تتبع لموارد الاستدلال.

        بل إطلاق لفظ (الإجماع) بقول مطلق على إجماع الإمامية فقط -مع أنهم بعض الأمة لا كلهم- ليس إلا لأجل المسامحة، من جهة أن وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجية.

        وعلى أي تقدير: فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام عليه السلام في أقوال المجمعين بحيث يكون دلالته عليه بالتضمن، فيكون الإخبار عن الإجماع إخبارا عن قول الإمام عليه السلام، وهذا هو الذي يدل عليه كلام المفيد([35]) والمرتضى([36]) وابن زهرة([37]) والمحقق([38]) والعلامة([39]) [الصفحة 188] والشهيدين([40]) ومن تأخر عنهم([41]).

        وأما اتفاق من عدا الإمام عليه السلام بحيث يكشف عن صدور الحكم عن الإمام عليه السلام بقاعدة اللطف كما عن الشيخ رحمه الله([42])، أو التقرير كما عن بعض المتأخرين([43])، أو بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الوسع في فهم الحكم الصادر عن الإمام عليه السلام، فهذا ليس إجماعا اصطلاحيا، إلا أن ينضم قول الإمام عليه السلام -المكشوف عنه باتفاق هؤلاء- إلى أقوالهم([44]) فيسمى المجموع إجماعا، بناء على ما تقدم([45]): من المسامحة في تسمية اتفاق جماعة مشتمل على قول الإمام عليه السلام إجماعا وإن خرج عنه الكثير أو الأكثر.

        فالدليل في الحقيقة هو اتفاق من عدا الإمام عليه السلام، والمدلول الحكم الصادر عنه عليه السلام، نظير كلام الإمام عليه السلام ومعناه.

        فالنكتة في التعبير عن الدليل بالإجماع -مع توقفه على ملاحظة انضمام مذهب الإمام عليه السلام الذي هو المدلول إلى الكاشف عنه، وتسمية المجموع دليلا-: هو التحفظ على ما جرت عليه([46]) سيرة أهل الفن، من [الصفحة 189] إرجاع كل دليل إلى أحد الأدلة المعروفة بين الفريقين، أعني الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ففي إطلاق الإجماع على هذا مسامحة في مسامحة.

        وحاصل المسامحتين: إطلاق الإجماع على اتفاق طائفة يستحيل بحكم العادة خطأهم وعدم وصولهم إلى حكم الإمام عليه السلام.

        والاطلاع على تعريفات الفريقين واستدلالات الخاصة وأكثر العامة على حجية الإجماع، يوجب القطع بخروج هذا الإطلاق عن المصطلح وبنائه على المسامحة، لتنزيل وجود من خرج عن هذا الاتفاق منزلة عدمه، كما قد عرفت من السيد والفاضلين قدست أسرارهم([47]): من أن كل جماعة -قلت أو كثرت- علم دخول قول الإمام عليه السلام فيهم، فإجماعها حجة.

        ويكفيك في هذا: ما سيجيء([48]) من المحقق الثاني في تعليق الشرائع: من دعوى الإجماع على أن خروج الواحد من علماء العصر قادح في انعقاد الإجماع. مضافا إلى ما عرفت([49]): من إطباق الفريقين على تعريف الإجماع باتفاق الكل. ثم إن المسامحة من الجهة الأولى أو الثانية في إطلاق لفظ (الإجماع) على هذا من دون قرينة لا ضير فيها، لأن العبرة في الاستدلال بحصول العلم من الدليل للمستدل([50]).

[الصفحة 190]

        نعم، لو كان نقل الإجماع المصطلح حجة عند الكل([51]) كان إخفاء القرينة في الكلام الذي هو المرجع للغير تدليسا، أما لو لم يكن نقل الإجماع حجة، أو كان نقل مطلق الدليل القطعي حجة، لم يلزم تدليس أصلا.

        ويظهر من ذلك: ما في كلام صاحب المعالم رحمه الله، حيث إنه بعدما([52]) ذكر أن حجية الإجماع إنما هي لاشتماله على قول المعصوم، واستنهض بكلام المحقق الذي تقدم([53])، واستجوده، قال: والعجب من غفلة جمع من الأصحاب عن هذا الأصل وتساهلهم في دعوى الإجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهية، حتى جعلوه عبارة عن اتفاق جماعة من الأصحاب، فعدلوا به عن معناه الذي جرى عليه الاصطلاح من دون نصب قرينة جلية، ولا دليل لهم على الحجية يعتد به([54])، انتهى.

        وقد عرفت([55]): أن مساهلتهم وتسامحهم في محله، بعد ما كان مناط حجية الإجماع الاصطلاحي موجودا في اتفاق جماعة من الأصحاب. وعدم تعبيرهم عن هذا الاتفاق بغير لفظ (الإجماع)، لما عرفت([56]) من التحفظ على عناوين الأدلة المعروفة بين الفريقين.

[الصفحة 191]

        إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: إن الحاكي للاتفاق قد ينقل الإجماع بقول مطلق، أو مضافا إلى المسلمين، أو الشيعة، أو أهل الحق، أو غير ذلك مما يمكن أن يراد به دخول الإمام عليه السلام في المجمعين. وقد ينقله مضافا إلى من عدا الإمام عليه السلام، كقوله: أجمع علماؤنا أو أصحابنا أو فقهاؤنا أو فقهاء أهل البيت عليهم السلام، فإن ظاهر ذلك من عدا الإمام عليه السلام، وإن كان إرادة العموم محتملة بمقتضى المعنى اللغوي، لكنه مرجوح.

        فإن أضاف الإجماع إلى من عدا الإمام عليه السلام فلا إشكال في عدم حجية نقله، لأنه لم ينقل حجة، وإن فرض حصول العلم للناقل بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام من جهة هذا الاتفاق، إلا أنه إنما نقل سبب العلم، ولم ينقل المعلوم وهو قول الإمام عليه السلام حتى يدخل في نقل الحجة وحكاية السنة بخبر الواحد. نعم، لو فرض أن السبب المنقول مما يستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه السلام أو وجود دليل ظني معتبر حتى بالنسبة إلينا، أمكن إثبات ذلك السبب المحسوس بخبر العادل، والانتقال منه إلى لازمه، لكن سيجيء بيان الإشكال في تحقق ذلك([57]).

        وفي حكم الإجماع المضاف إلى من عدا الإمام عليه السلام: الإجماع المطلق المذكور في مقابل الخلاف، كما يقال: خرء الحيوان الغير المأكول غير الطير نجس إجماعا، وإنما اختلفوا في خرء الطير، أو يقال: إن محل [الصفحة 192] الخلاف هو كذا، وأما كذا فحكمه كذا إجماعا، فإن معناه في مثل هذا كونه قولا واحدا.

        وأضعف مما ذكر: نقل عدم الخلاف، وأنه ظاهر الأصحاب، أو قضية المذهب، وشبه ذلك.

        وإن أطلق الإجماع أو أضافه على وجه يظهر منه إرادة المعنى المصطلح المتقدم([58]) -ولو مسامحة، لتنزيل وجود المخالف منزلة العدم، لعدم قدحه في الحجية- فظاهر الحكاية كونها حكاية للسنة، أعني حكم الإمام عليه السلام، لما عرفت([59]): من أن الإجماع الاصطلاحي متضمن لقول الإمام عليه السلام فيدخل في الخبر والحديث، إلا أن مستند علم الحاكي بقول الإمام عليه السلام أحد أمور: أحدها: الحس، كما إذا سمع الحكم من الإمام عليه السلام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم فيحصل له العلم بقول الإمام عليه السلام. وهذا في غاية القلة، بل نعلم جزما أنه لم يتفق لأحد من هؤلاء الحاكين للإجماع، كالشيخين والسيدين وغيرهما، ولذا صرح الشيخ في العدة -في مقام الرد على السيد حيث أنكر الإجماع من باب وجوب اللطف-: بأنه لولا قاعدة اللطف لم يمكن التوصل إلى معرفة موافقة الإمام للمجمعين([60]).

        الثاني: قاعدة اللطف، على ما ذكره الشيخ في العدة([61]) وحكي [الصفحة 193] القول به عن غيره من المتقدمين([62]).

        ولا يخفى أن الاستناد إليه غير صحيح على ما ذكر في محله([63])، فإذا علم استناد الحاكي إليه فلا وجه للاعتماد على حكايته، والمفروض أن إجماعات الشيخ كلها مستندة إلى هذه القاعدة، لما عرفت من كلامه المتقدم من العدة، وستعرف منها ومن غيرها من كتبه([64]).

        فدعوى مشاركته للسيد قدس سره في استكشاف قول الإمام عليه السلام من تتبع أقوال الأمة واختصاصه بطريق آخر مبني على قاعدة (وجوب([65]) اللطف)، غير ثابتة وإن ادعاها بعض([66])، فإنه قدس سره قال في العدة -في حكم ما إذا اختلفت الإمامية على قولين يكون أحد القولين قول الإمام عليه السلام على وجه لا يعرف بنفسه، والباقون كلهم على خلافه-: إنه متى اتفق ذلك، فإن كان على القول الذي انفرد به الإمام عليه السلام دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها، لم يجب عليه الظهور ولا الدلالة على ذلك، لأن الموجود من الدليل كاف في إزاحة التكليف، ومتى لم يكن عليه دليل وجب عليه الظهور، أو إظهار من يبين الحق في تلك المسألة -إلى أن قال-: [الصفحة 194] وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي أخيرا: أنه يجوز أن يكون الحق عند الإمام عليه السلام والأقوال الأخر كلها باطلة، ولا يجب عليه الظهور، لأنا إذا كنا نحن السبب في استتاره، فكل ما يفوتنا من الانتفاع به وبما([67]) معه من الأحكام يكون([68]) قد فاتنا من قبل أنفسنا، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدى إلينا الحق الذي كان عنده.

        قال: وهذا عندي غير صحيح، لأنه يؤدي إلى أن لا يصح الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا، لأنا لا نعلم دخول الإمام عليه السلام فيها إلا بالاعتبار الذي بيناه، ومتى جوزنا انفراده بالقول وأنه لا يجب ظهوره، منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع([69])، انتهى كلامه.

        وذكر في موضع آخر من العدة: أن هذه الطريقة -يعني طريقة السيد المتقدمة- غير مرضية عندي، لأنها تؤدي إلى أن لا يستدل بإجماع الطائفة أصلا، لجواز أن يكون قول الإمام عليه السلام مخالفا لها ومع ذلك لا يجب عليه إظهار ما عنده([70])، انتهى.

        وأصرح من ذلك في انحصار طريق الإجماع عند الشيخ فيما ذكره من قاعدة اللطف: ما حكي عن بعض([71]) أنه حكاه عن كتاب التمهيد للشيخ: [الصفحة 195] أن سيدنا المرتضى قدس سره كان يذكر كثيرا: أنه لا يمتنع أن يكون هنا أمور كثيرة غير واصلة إلينا علمها مودع عند الإمام عليه السلام وإن كتمها الناقلون، ولا يلزم مع ذلك سقوط التكليف عن الخلق... إلى أن قال: وقد اعترضنا على هذا في كتاب العدة في أصول الفقه، وقلنا: هذا الجواب صحيح لولا ما نستدل في أكثر الأحكام على صحته بإجماع الفرقة، فمتى جوزنا أن يكون قول الإمام عليه السلام خلافا لقولهم ولا يجب ظهوره، جاز لقائل أن يقول: ما أنكرتم أن يكون قول الإمام عليه السلام خارجا عن قول من تظاهر بالإمامة ومع هذا لا يجب عليه الظهور، لأنهم أتوا من قبل أنفسهم، فلا يمكننا الاحتجاج بإجماعهم أصلا([72])، انتهى.

        فإن صريح هذا الكلام أن القادح في طريقة السيد منحصر في استلزامها رفع التمسك بالإجماع، ولا قادح فيها سوى ذلك، ولذا صرح في كتاب الغيبة بأنها قوية تقتضيها الأصول([73])، فلو كان لمعرفة الإجماع وجواز الاستدلال به طريق آخر غير قاعدة وجوب إظهار الحق عليه، لم يبق ما يقدح في طريقة السيد، لاعتراف الشيخ بصحتها لولا كونها مانعة عن الاستدلال بالإجماع.

[الصفحة 196]

        ثم إن الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كل من اشترط في تحقق الإجماع عدم مخالفة أحد من علماء العصر، كفخر الدين والشهيد والمحقق الثاني. قال في الإيضاح في مسألة ما يدخل في المبيع: إن من عادة المجتهد أنه إذا تغير اجتهاده إلى التردد أو الحكم بخلاف ما اختاره أولا، لم يبطل ذكر الحكم الأول، بل يذكر ما أداه إليه اجتهاده ثانيا في موضع آخر، لبيان عدم انعقاد إجماع أهل عصر الاجتهاد الأول على خلافه، وعدم انعقاد إجماع أهل العصر الثاني على كل واحد منهما، وأنه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطل للأول، بل معارض لدليله مساو له([74])، انتهى.

        وقد أكثر في الإيضاح من عدم الاعتبار بالخلاف، لانقراض عصر المخالف([75])، وظاهره الانطباق على هذه الطريقة، كما لا يخفى. وقال في الذكرى: ظاهر العلماء المنع عن العمل بقول الميت، محتجين بأنه لا قول للميت، ولهذا ينعقد الإجماع على خلافه ميتا([76]).

        واستدل المحقق الثاني في حاشية الشرائع على أنه لا قول للميت: بالإجماع على أن خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع، اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد وصار قوله غير منظور إليه، ولا يعتد به([77])، انتهى.

[الصفحة 197]

        وحكي عن بعض: أنه حكى عن المحقق الداماد، أنه قدس سره قال في بعض كلام له في تفسير (النعمة الباطنة)([78]): إن من فوائد الإمام عجل الله فرجه أن يكون مستندا لحجية إجماع أهل الحل والعقد من العلماء على حكم من الأحكام -إجماعا بسيطا في أحكامهم الإجماعية، وحجية إجماعهم المركب في أحكامهم الخلافية- فإنه عجل الله فرجه لا ينفرد بقول، بل من الرحمة الواجبة في الحكمة الإلهية أن يكون في المجتهدين المختلفين في المسألة المختلف فيها من علماء العصر من يوافق رأيه رأي إمام عصره وصاحب أمره، ويطابق قوله قوله وإن لم يكن ممن نعلمه بعينه ونعرفه بخصوصه([79])، انتهى.

        وكأنه لأجل مراعاة هذه الطريقة التجأ الشهيد في الذكرى([80]) إلى توجيه الإجماعات التي ادعاها جماعة في المسائل الخلافية مع وجود المخالف فيها: بإرادة غير المعنى الاصطلاحي من الوجوه التي حكاها عنه في المعالم([81])، ولو جامع الإجماع وجود الخلاف -ولو من معلوم النسب- لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة، مع بعدها أو أكثرها.

        الثالث من طرق انكشاف قول الإمام عليه السلام لمدعي الإجماع: الحدس، وهذا على وجهين: أحدهما: أن يحصل له ذلك من طريق لو علمنا به ما خطأناه في [الصفحة 198] استكشافه، وهذا على وجهين:

        أحدهما: أن يحصل([82]) الحدس الضروري من مبادئ محسوسة بحيث يكون الخطأ فيه من قبيل الخطأ في الحس، فيكون بحيث لو حصل لنا تلك الأخبار لحصل([83]) لنا العلم كما حصل له.

        ثانيهما: أن يحصل الحدس له من إخبار جماعة اتفق له العلم بعدم اجتماعهم على الخطأ، لكن ليس إخبارهم ملزوما عادة للمطابقة لقول الإمام عليه السلام بحيث لو حصل لنا علمنا بالمطابقة أيضا.

        الثاني: أن يحصل ذلك من مقدمات نظرية واجتهادات كثيرة الخطأ، بل علمنا بخطأ بعضها في موارد كثيرة من نقلة الإجماع، علمنا ذلك منهم بتصريحاتهم في موارد، واستظهرنا ذلك منهم في موارد أخر، وسيجيء جملة منها([84]).

        إذا عرفت أن مستند خبر المخبر بالإجماع المتضمن للإخبار من الإمام عليه السلام لا يخلو من الأمور الثلاثة المتقدمة، وهي: السماع عن الإمام عليه السلام مع عدم معرفته بعينه، واستكشاف قوله من قاعدة (اللطف)، وحصول العلم من (الحدس)، وظهر لك أن الأول هنا غير متحقق عادة لأحد من علمائنا المدعين للإجماع، وأن الثاني ليس طريقا للعلم، فلا يسمع دعوى من استند إليه، فلم يبق مما يصلح أن يكون المستند [الصفحة 199] في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها: إلا (الحدس)([85]).

        وعرفت أن الحدس قد يستند إلى مبادئ محسوسة ملزومة عادة لمطابقة قول الإمام عليه السلام، نظير العلم الحاصل من الحواس الظاهرة، ونظير الحدس الحاصل لمن أخبر بالعدالة والشجاعة لمشاهدته آثارهما المحسوسة الموجبة للانتقال إليهما بحكم العادة، أو إلى مبادئ محسوسة موجبة لعلم المدعي بمطابقة قول الإمام عليه السلام من دون ملازمة عادية، وقد يستند إلى اجتهادات وأنظار. وحيث لا دليل على قبول خبر العادل المستند إلى القسم الأخير من الحدس، بل ولا المستند إلى الوجه الثاني، ولم يكن هناك ما يعلم به كون الإخبار مستندا إلى القسم الأول من الحدس، وجب التوقف في العمل بنقل الإجماع، كسائر الأخبار المعلوم استنادها إلى الحدس المردد بين الوجوه المذكورة.

        فإن قلت: ظاهر لفظ (الإجماع) اتفاق الكل، فإذا أخبر الشخص بالإجماع فقد أخبر باتفاق الكل، ومن المعلوم أن حصول العلم بالحكم من اتفاق الكل كالضروري، فحدس المخبر مستند إلى مباد محسوسة ملزومة لمطابقة قول الإمام عليه السلام عادة، فإما أن يجعل الحجة نفس ما استفاده من الاتفاق نظير الإخبار بالعدالة، وإما أن يجعل الحجة إخباره بنفس الاتفاق المستلزم عادة لقول الإمام عليه السلام، ويكون نفس المخبر به حينئذ محسوسا، نظير إخبار الشخص بأمور تستلزم العدالة [الصفحة 200] أو([86]) الشجاعة عادة.

        وقد أشار إلى الوجهين بعض السادة الأجلة([87]) في شرحه على الوافية، فإنه قدس سره لما اعترض على نفسه: بأن المعتبر من الأخبار ما استند إلى إحدى الحواس، والمخبر بالإجماع إنما رجع إلى بذل الجهد، ومجرد الشك في دخول مثل ذلك في الخبر يقتضي منعه، أجاب عن ذلك: بأن المخبر هنا -أيضا- يرجع إلى السمع فيما يخبر عن العلماء وإن جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر، كوجوب اللطف وغيره. ثم أورد: بأن المدار في حجية الإجماع على مقالة المعصوم عليه السلام، فالإخبار إنما هو بها، ولا يرجع إلى سمع. فأجاب عن ذلك:

        أولا: بأن مدار الحجية وإن كان ذلك، لكن استلزام اتفاق كلمة العلماء لمقالة المعصوم عليه السلام معلوم لكل أحد لا يحتاج فيه إلى النقل، وإنما الغرض من النقل ثبوت الاتفاق، فبعد اعتبار خبر الناقل -لوثاقته ورجوعه في حكاية الاتفاق إلى الحس- كان الاتفاق معلوما، ومتى ثبت ذلك كشف عن مقالة المعصوم، للملازمة المعلومة.

        وثانيا: أن الرجوع في حكاية الإجماع إلى نقل مقالة المعصوم عليه السلام لرجوع الناقل في ذلك إلى الحس، باعتبار أن الاتفاق من آثارها، ولا كلام في اعتبار مثل ذلك، كما في الإخبار بالإيمان والفسق [الصفحة 201] والشجاعة والكرم وغيرها من الملكات، وإنما لا يرجع إلى الأخبار في العقليات المحضة، فإنه لا يعول عليها وإن جاء بها ألف من الثقات حتى يدرك مثل ما أدركوا.

        ثم أورد على ذلك: بأنه يلزم من ذلك الرجوع إلى المجتهد، لأنه وإن لم يرجع إلى الحس في نفس الأحكام إلا أنه رجع في لوازمها وآثارها إليه، وهي أدلتها السمعية، فيكون رواية، فلم لا يقبل إذا جاء به الثقة.

        وأجاب: بأنه إنما يكفي الرجوع إلى الحس في الآثار إذا كانت الآثار مستلزمة له عادة، وبالجملة إذا أفادت اليقين، كما في آثار الملكات وآثار مقالة الرئيس وهي مقالة رعيته، وهذا بخلاف ما يستنهضه المجتهد من الدليل على الحكم. ثم قال: على أن التحقيق في الجواب عن السؤال الأول هو الوجه الأول، وعليه فلا أثر لهذا السؤال([88])، انتهى.

        قلت: إن الظاهر من الإجماع اتفاق أهل عصر واحد، لا جميع الأعصار كما يظهر من تعاريفهم وسائر كلماتهم، ومن المعلوم أن إجماع أهل عصر واحد -مع قطع النظر عن موافقة أهالي الأعصار المتقدمة ومخالفتهم- لا يوجب عن طريق الحدس العلم الضروري بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام، ولذا قد يتخلف، لاحتمال مخالفة من تقدم عليهم أو أكثرهم. نعم يفيد العلم من باب وجوب اللطف الذي لا نقول بجريانه في المقام، كما قرر في محله([89]).

[الصفحة 202]

        مع أن علماء العصر إذا كثروا -كما في الأعصار السابقة- يتعذر أو يتعسر الاطلاع عليهم حسا بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر، إلا إذا كان العلماء في عصر قليلين يمكن الإحاطة برأيهم في المسألة فيدعى الإجماع، إلا أن مثل هذا الأمر المحسوس لا يستلزم عادة لموافقة المعصوم عليه السلام. فالمحسوس المستلزم عادة لقول الإمام عليه السلام مستحيل التحقق للناقل، والممكن المتحقق له غير مستلزم عادة.

        وكيف كان: فإذا ادعى الناقل الإجماع خصوصا إذا كان ظاهره اتفاق جميع علماء الأعصار أو أكثرهم إلا من شذ -كما هو الغالب في إجماعات مثل الفاضلين والشهيدين- انحصر محمله في وجوه: أحدها: أن يراد به اتفاق المعروفين بالفتوى، دون كل قابل للفتوى من أهل عصره أو مطلقا.

الثاني: أن يريد إجماع الكل، ويستفيد ذلك من اتفاق المعروفين من أهل عصره. وهذه الاستفادة ليست ضرورية وإن كانت قد تحصل، لأن اتفاق أهل عصره -فضلا عن المعروفين منهم- لا يستلزم عادة اتفاق غيرهم ومن قبلهم، خصوصا بعد ملاحظة التخلف في كثير من الموارد لا يسع هذه الرسالة لذكر معشارها. ولو فرض حصوله للمخبر كان من باب الحدس الحاصل عما لا يوجب العلم عادة. نعم هي([90]) أمارة ظنية على ذلك، لأن الغالب في الاتفاقيات عند أهل عصر كونه من الاتفاقيات

[الصفحة 203] عند من تقدمهم. وقد يحصل العلم بضميمة أمارات أخر، لكن الكلام في كون الاتفاق مستندا إلى الحس أو إلى حدس لازم عادة للحس.

        والحق بذلك: ما إذا علم اتفاق الكل من اتفاق جماعة لحسن ظنه بهم، كما ذكره([91]) في أوائل المعتبر، حيث قال: “ومن المقلدة من لو طالبته بدليل المسألة ادعى الإجماع، لوجوده في كتب الثلاثة قدست أسرارهم، وهو جهل إن لم يكن تجاهلا”([92]).

        فإن في توصيف المدعي بكونه مقلدا مع أنا نعلم أنه لا يدعي الإجماع إلا عن علم، إشارة إلى استناده في دعواه إلى حسن الظن بهم وأن جزمه في غير محله([93])، فافهم.

        الثالث: أن يستفيد اتفاق الكل على الفتوى من اتفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل، أو بعموم دليل عند عدم وجدان المخصص، أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض، أو اتفاقهم على مسألة أصولية -نقلية أو عقلية- يستلزم القول بها الحكم([94]) في المسألة المفروضة، وغير ذلك من الأمور المتفق عليها التي يلزم باعتقاد المدعي من القول بها -مع فرض عدم المعارض- القول بالحكم المعين في المسألة. ومن المعلوم: أن نسبة هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك [الصفحة 204] لم تنشأ([95]) إلا من مقدمتين أثبتهما المدعي باجتهاده: إحداهما: كون ذلك الأمر المتفق عليه مقتضيا ودليلا للحكم لولا المانع.

        والثانية: انتفاء المانع والمعارض. ومن المعلوم أن الاستناد إلى الخبر المستند إلى ذلك غير جائز عند أحد من العاملين بخبر الواحد.

        ثم إن الظاهر أن الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو متقاربي العصر([96])، ورجوع المدعي عن الفتوى التي ادعى الإجماع فيها، ودعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدم على المدعي، وفي مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدعي بل في زمانه بل في ما قبله، كل ذلك مبني على الاستناد في نسبة القول إلى العلماء على هذا الوجه.

        ولا بأس بذكر بعض موارد([97]) صرح المدعي بنفسه أو غيره في مقام توجيه كلامه فيها بذلك. فمن ذلك: ما وجه المحقق به دعوى المرتضى([98]) والمفيد([99]) -أن من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات- قال: [الصفحة 205] وأما قول السائل: كيف أضاف المفيد والسيد ذلك إلى مذهبنا ولا نص فيه؟ فالجواب: أما علم الهدى، فإنه ذكر في الخلاف: أنه إنما أضاف ذلك إلى مذهبنا، لأن من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات، ثم قال: وأما المفيد، فإنه ادعى في مسائل الخلاف: أن ذلك مروي عن الأئمة عليهم السلام([100])، انتهى. فظهر من ذلك: أن نسبة السيد قدس سره الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الأصل.

        ومن ذلك: ما عن الشيخ في الخلاف، حيث إنه ذكر فيما إذا بان فسق الشاهدين بما يوجب القتل، بعد القتل: بأنه([101]) يسقط القود وتكون الدية من بيت المال. قال: دليلنا إجماع الفرقة، فإنهم رووا: أن ما أخطأت القضاة ففي بيت مال المسلمين([102])، انتهى.

        فعلل انعقاد الإجماع بوجود الرواية عند الأصحاب. وقال بعد ذلك، فيما إذا تعددت الشهود في من أعتقه المريض وعين كل غير ما عينه الآخر ولم يف الثلث بالجميع: إنه يخرج السابق([103]) بالقرعة، قال: [الصفحة 206] دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، فإنهم أجمعوا على أن كل أمر مجهول فيه القرعة([104])، انتهى.

        ومن الثاني([105]): ما عن المفيد في فصوله، حيث إنه سئل عن الدليل على أن المطلقة ثلاثا في مجلس واحد يقع منها واحدة؟ فقال: الدلالة على ذلك من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وإجماع المسلمين، ثم استدل من الكتاب بظاهر قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ}([106])، ثم بين وجه الدلالة، ومن السنة قوله صلى الله عليه وآله: “كل ما لم يكن على أمرنا هذا فهو رد”([107])، وقال: “ما وافق الكتاب فخذوه، وما لم يوافقه فاطرحوه”([108])، وقد بينا أن المرة لا تكون مرتين أبدا وأن الواحدة لا تكون ثلاثا، فأوجب السنة إبطال طلاق الثلاث.

        وأما إجماع الأمة، فهم مطبقون على أن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل، وقد تقدم وصف خلاف الطلاق بالكتاب والسنة، فحصل الإجماع على إبطاله([109])، انتهى.

[الصفحة 207]

        وحكي عن الحلي في السرائر الاستدلال بمثل هذا([110]).

        ومن ذلك: الإجماع الذي ادعاه الحلي على المضايقة في قضاء الفوائت -في رسالته المسماة بخلاصة الاستدلال- حيث قال: أطبقت عليه الإمامية خلفا عن سلف وعصرا بعد عصر وأجمعت على العمل به، ولا يعتد بخلاف نفر يسير من الخراسانيين، فإن ابني بابويه، والأشعريين كسعد بن عبد الله -صاحب كتاب الرحمة- وسعد ابن سعد ومحمد بن علي بن محبوب -صاحب كتاب نوادر الحكمة([111])-، والقميين أجمع كعلي بن إبراهيم بن هاشم ومحمد بن الحسن بن الوليد، عاملون بأخبار المضايقة، لأنهم ذكروا أنه لا يحل رد الخبر الموثوق برواته، وحفظتهم([112]) الصدوق ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه، وخريت هذه الصناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسي مودع أخبار المضايقة في كتبه، مفت بها، والمخالف إذا علم باسمه ونسبه لم يضر خلافه([113])، انتهى.

[الصفحة 208]

        ولا يخفى: أن إخباره بإجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبني على الحدس والاجتهاد من وجوه: أحدها: دلالة ذكر الخبر على عمل الذاكر به. وهذا وإن كان غالبيا إلا أنه لا يوجب القطع، لمشاهدة التخلف كثيرا.

        الثاني: تمامية دلالة تلك الأخبار عند أولئك على الوجوب، إذ لعلهم فهموا منها بالقرائن الخارجية تأكد الاستحباب.

        الثالث: كون رواة تلك الروايات موثوقا بهم عند أولئك، لأن وثوق الحلي بالرواة لا يدل على وثوق أولئك. مع أن الحلي لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا ثقات، والمفتي إذا استند فتواه إلى خبر واحد، لا يوجب اجتماع أمثاله القطع بالواقع، خصوصا لمن يخطئ العمل بأخبار الآحاد.

        وبالجملة: فكيف يمكن أن يقال: إن مثل هذا الإجماع إخبار عن قول الإمام عليه السلام، فيدخل في الخبر الواحد؟ مع أنه في الحقيقة اعتماد على اجتهادات الحلي مع وضوح فساد بعضها، فإن كثيرا ممن ذكر أخبار المضايقة قد ذكر أخبار المواسعة أيضا([114])، وأن المفتي إذا علم استناده إلى مدرك لا يصلح للركون([115]) إليه -من جهة الدلالة أو المعارضة- لا يؤثر فتواه في الكشف عن قول الإمام عليه السلام. وأوضح حالا في عدم جواز الاعتماد: ما ادعاه الحلي من الإجماع [الصفحة 209] على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت ناشزة على الزوج([116])، ورده المحقق بأن أحدا من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك([117]).

        فإن الظاهر أن الحلي إنما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالة بإطلاقها على وجوب فطرة([118]) الزوجة على الزوج([119])، متخيلا أن الحكم معلق على الزوجة من حيث هي زوجة، ولم يتفطن لكون الحكم من حيث العيلولة، أو وجوب الإنفاق.

        فكيف يجوز الاعتماد في مثله على الإخبار بالاتفاق الكاشف عن قول الإمام عليه السلام، ويقال: إنها سنة محكية؟ وما أبعد ما بين ما استند إليه الحلي في هذا المقام وبين ما ذكره المحقق في بعض كلماته المحكية، حيث قال: إن الاتفاق على لفظ مطلق شامل لبعض أفراده الذي وقع فيه الكلام، لا يقتضي الإجماع على ذلك الفرد، لأن المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللفظ ما لم يكن معلوما من القصد، لأن الإجماع مأخوذ من قولهم: (أجمع على كذا) إذا عزم عليه، فلا يدخل في الإجماع على الحكم إلا من علم منه القصد إليه. كما أنا لا نعلم مذهب عشرة من الفقهاء الذين لم ينقل مذهبهم لدلالة عموم القرآن وإن كانوا قائلين به([120])، انتهى كلامه.

[الصفحة 210]

        وهو في غاية المتانة. لكنك عرفت([121]) ما وقع من جماعة من المسامحة في إطلاق لفظ (الإجماع)، وقد حكى في المعالم عن الشهيد: أنه أول كثيرا من الإجماعات -لأجل مشاهدة المخالف في مواردها- بإرادة الشهرة، أو بعدم الظفر بالمخالف حين دعوى الإجماع، أو بتأويل الخلاف على وجه لا ينافي الإجماع، أو بإرادة الإجماع على الرواية وتدوينها في كتب الحديث([122])، انتهى.

        وعن المحدث المجلسي قدس سره في كتاب الصلاة من البحار بعد ذكر معنى الإجماع ووجه حجيته عند الأصحاب: إنهم لما رجعوا إلى الفقه كأنهم نسوا ما ذكروه في الأصول -ثم أخذ في الطعن على إجماعاتهم- إلى أن قال: فيغلب على الظن أن مصطلحهم في الفروع غير ما جروا عليه في الأصول([123])، انتهى.

        والتحقيق: أنه لا حاجة إلى ارتكاب التأويل في لفظ (الإجماع) بما ذكره الشهيد، ولا إلى ما ذكره المحدث المذكور([124]) قدس سرهما، من تغاير مصطلحهم في الفروع والأصول، بل الحق: أن دعواهم للإجماع في الفروع مبني على استكشاف الآراء ورأي الإمام عليه السلام إما من حسن الظن بجماعة من السلف، أو من أمور تستلزم -باجتهادهم- إفتاء العلماء بذلك وصدور الحكم عن الإمام عليه السلام أيضا.

[الصفحة 211]

        وليس في هذا مخالفة لظاهر لفظ (الإجماع) حتى يحتاج إلى القرينة، ولا تدليس، لأن دعوى الإجماع ليست([125]) لأجل اعتماد الغير عليه وجعله دليلا يستريح إليه في المسألة. نعم، قد يوجب التدليس من جهة نسبة الفتوى إلى العلماء، الظاهرة في وجدانها في كلماتهم، لكنه يندفع بأدنى تتبع في الفقه، ليظهر أن مبنى ذلك على استنباط المذهب، لا على وجدانه مأثورا.

        والحاصل: أن المتتبع في الإجماعات المنقولة يحصل له القطع من تراكم أمارات كثيرة، باستناد دعوى الناقلين للإجماع -خصوصا إذا أرادوا به اتفاق علماء جميع الأعصار كما هو الغالب في إجماعات المتأخرين- إلى الحدس الحاصل من حسن الظن بجماعة ممن تقدم على الناقل، أو من الانتقال من الملزوم إلى لازمه([126])، مع ثبوت الملازمة باجتهاد الناقل واعتقاده.

        وعلى هذا ينزل الإجماعات المتخالفة من العلماء مع اتحاد العصر أو تقارب العصرين، وعدم المبالاة كثيرا بإجماع الغير والخروج عنه للدليل، وكذا دعوى الإجماع مع وجود المخالف، فإن ما ذكرنا في مبنى الإجماع من أصح المحامل لهذه الأمور المنافية لبناء دعوى الإجماع على تتبع الفتاوى في خصوص المسألة.

        وذكر المحقق السبزواري في الذخيرة، بعد بيان تعسر العلم بالإجماع: [الصفحة 212] أن مرادهم بالإجماعات المنقولة في كثير من المسائل بل في أكثرها، لا يكون محمولا على معناه الظاهر، بل إما يرجع إلى اجتهاد من الناقل مؤد -بحسب القرائن والأمارات التي اعتبرها- إلى أن المعصوم عليه السلام موافق في هذا الحكم، أو مرادهم الشهرة، أو اتفاق أصحاب الكتب المشهورة، أو غير ذلك من المعاني المحتملة. ثم قال بعد كلام له: والذي ظهر لي من تتبع كلام المتأخرين، أنهم كانوا ينظرون إلى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف، فإذا رأوا اتفاقهم على حكم قالوا: إنه إجماعي، ثم إذا اطلعوا على تصنيف آخر خالف مؤلفه الحكم المذكور، رجعوا عن الدعوى المذكورة، ويرشد إلى هذا كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها([127])، انتهى.

        وحاصل الكلام من أول ما ذكرنا إلى هنا: أن الناقل للإجماع إن احتمل في حقه تتبع فتاوى من ادعى اتفاقهم حتى الإمام الذي هو داخل في المجمعين، فلا إشكال في حجيته وفي إلحاقه بالخبر الواحد، إذ لا يشترط في حجيته معرفة الإمام عليه السلام تفصيلا حين السماع منه. لكن هذا الفرض مما يعلم بعدم وقوعه، وأن المدعي للإجماع لا يدعيه على هذا الوجه.

        وبعد هذا، فإن احتمل في حقه تتبع فتاوى جميع المجمعين، والمفروض أن الظاهر من كلامه هو([128]) اتفاق الكل المستلزم عادة لموافقة [الصفحة 213] قول الإمام عليه السلام، فالظاهر حجية خبره للمنقول إليه، سواء جعلنا المناط في حجيته تعلق خبره بنفس الكاشف، الذي هو من الأمور المحسوسة المستلزمة ضرورة لأمر حدسي وهو قول الإمام عليه السلام، أو جعلنا المناط تعلق خبره بالمنكشف وهو قول الإمام عليه السلام، لما عرفت([129]): من أن الخبر الحدسي المستند إلى إحساس ما هو ملزوم للمخبر به عادة، كالخبر الحسي في وجوب القبول.    وقد تقدم الوجهان في كلام السيد الكاظمي في شرح الوافية([130]).

        لكنك قد عرفت سابقا([131]): القطع بانتفاء هذا الاحتمال، خصوصا إذا أراد الناقل اتفاق علماء جميع الأعصار. نعم، لو فرضنا قلة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم، أمكن دعوى اتفاقهم عن حس، لكن هذا غير مستلزم عادة لموافقة قول الإمام عليه السلام. نعم، يكشف عن موافقته بناء على طريقة الشيخ المتقدمة([132]) التي لم تثبت عندنا وعند الأكثر([133]).

        ثم إذا علم عدم استناد دعوى اتفاق العلماء المتشتتين في الأقطار -الذي يكشف عادة عن موافقة الإمام عليه السلام- إلا إلى الحدس الناشئ عن أحد الأمور المتقدمة التي مرجعها إلى حسن الظن أو الملازمات [الصفحة 214] الاجتهادية، فلا عبرة بنقله، لأن الإخبار بقول الإمام عليه السلام حدسي غير مستند إلى حس ملزوم له عادة ليكون نظير الإخبار بالعدالة المستندة إلى الآثار الحسية، والإخبار بالاتفاق أيضا حدسي.

        نعم، يبقى هنا شيء، وهو: أن هذا المقدار من النسبة المحتمل استناد الناقل فيها إلى الحس يكون خبره حجة فيها، لأن ظاهر الحكاية محمول على الوجدان إلا إذا قام هناك صارف، والمعلوم من الصارف هو عدم استناد الناقل إلى الوجدان والحس في نسبة الفتوى إلى جميع من ادعى إجماعهم، وأما استناد نسبة الفتوى إلى جميع أرباب الكتب المصنفة في الفتاوى إلى الوجدان في كتبهم بعد التتبع، فأمر محتمل لا يمنعه عادة ولا عقل.

        وما تقدم من المحقق السبزواري([134]) -من ابتناء دعوى الإجماع على ملاحظة الكتب الموجودة عنده حال التأليف- فليس عليه شاهد، بل الشاهد على خلافه.

        وعلى تقديره، فهو ظن لا يقدح في العمل بظاهر النسبة، فإن نسبة الأمر الحسي إلى شخص ظاهر في إحساس الغير إياه من ذلك الشخص.

        وحينئذ: فنقل الإجماع غالبا -إلا ما شذ- حجة بالنسبة إلى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى. ولا يقدح في ذلك: أنا نجد الخلاف في كثير من موارد دعوى الإجماع، إذ من المحتمل إرادة الناقل ما عدا المخالف، فتتبع كتب من عداه ونسب الفتوى إليهم، بل لعله اطلع على رجوع من نجده مخالفا، [الصفحة 215] فلا حاجة إلى حمل كلامه على من عدا المخالف. وهذا المضمون المخبر به عن حس وإن لم يكن مستلزما بنفسه عادة لموافقة قول الإمام عليه السلام، إلا أنه قد يستلزمه([135]) بانضمام أمارات أخر يحصلها المتتبع، أو بانضمام أقوال المتأخرين دعوى الإجماع.

        مثلا: إذا ادعى الشيخ قدس سره الإجماع على اعتبار طهارة مسجد الجبهة، فلا أقل من احتمال أن يكون دعواه مستندة إلى وجدان الحكم في الكتب المعدة للفتوى -وإن كان بإيراد الروايات التي يفتي المؤلف بمضمونها- فيكون خبره المتضمن لإفتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم حجة في المسألة، فيكون كما لو وجدنا الفتاوى في كتبهم، بل سمعناها منهم، وفتواهم وإن لم تكن بنفسها مستلزمة عادة لموافقة الإمام عليه السلام، إلا أنا إذا ضممنا إليها فتوى من تأخر عن الشيخ من أهل الفتوى، وضم إلى ذلك أمارات أخر، فربما حصل من المجموع القطع بالحكم، لاستحالة تخلف هذه جميعها عن قول الإمام عليه السلام.

        وبعض هذا المجموع -وهو اتفاق أهل الفتاوى المأثورة عنهم- وإن لم يثبت لنا بالوجدان، إلا أن المخبر قد أخبر به عن حس، فيكون حجة كالمحسوس لنا.

        وكما أن مجموع ما يستلزم عادة لصدور([136]) الحكم عن الإمام عليه السلام -إذا أخبر به العادل عن حس- قبل منه وعمل بمقتضاه، فكذا إذا أخبر العادل ببعضه عن حس.

[الصفحة 216]

        وتوضيحه بالمثال الخارجي أن نقول: إن خبر مائة عادل أو ألف مخبر بشيء مع شدة احتياطهم في مقام الإخبار يستلزم عادة ثبوت المخبر به في الخارج، فإذا أخبرنا عادل بأنه قد أخبر ألف عادل بموت زيد وحضور دفنه، فيكون خبره بإخبار الجماعة بموت زيد حجة، فيثبت به لازمه العادي وهو موت زيد، وكذلك إذا أخبر العادل بإخبار بعض هؤلاء، وحصلنا إخبار الباقي بالسماع منهم. نعم، لو كانت الفتاوى المنقولة إجمالا بلفظ (الإجماع) على تقدير ثبوتها لنا بالوجدان، مما لا يكون بنفسها أو بضميمة أمارات أخر مستلزمة عادة للقطع بقول الإمام عليه السلام -وإن كانت قد تفيده- لم يكن معنى لحجية خبر الواحد في نقلها تعبدا، لأن معنى التعبد بخبر الواحد في شيء ترتيب لوازمه الثابتة له ولو بضميمة أمور أخر، فلو أخبر العادل بإخبار عشرين بموت زيد، وفرضنا أن إخبارهم قد يوجب العلم وقد لا يوجب، لم يكن خبره حجة بالنسبة إلى موت زيد، إذ لا يلزم من إخبار عشرين بموت زيد موته.

        وبالجملة: فمعنى حجية خبر العادل وجوب ترتيب ما يدل عليه المخبر به -مطابقة، أو تضمنا، أو التزاما عقليا أو عاديا أو شرعيا- دون ما يقارنه أحيانا. ثم إن ما ذكرنا لا يختص بنقل الإجماع، بل يجري في لفظ([137]) (الاتفاق) وشبهه، و([138])يجري في نقل الشهرة، ونقل الفتاوى عن [الصفحة 217] أربابها تفصيلا. ثم إنه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل وما حصله المنقول إليه بالوجدان من الأمارات والأقوال القطع بصدور الحكم الواقعي عن الإمام عليه السلام، لكن حصل منه القطع بوجود دليل ظني معتبر بحيث لو نقل إلينا لاعتقدناه تاما من جهة الدلالة وفقد المعارض، كان هذا المقدار -أيضا- كافيا في إثبات المسألة الفقهية، بل قد يكون نفس الفتاوى -التي نقلها الناقل للإجماع إجمالا- مستلزما لوجود دليل معتبر، فيستقل الإجماع المنقول بالحجية بعد إثبات حجية خبر العادل في المحسوسات.

        إلا إذا منعنا -كما تقدم سابقا([139])- عن استلزام اتفاق أرباب الفتاوى عادة لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تاما، وإن كان قد يحصل العلم بذلك من ذلك، إلا أن ذلك شيء قد يتفق، ولا يوجب ثبوت الملازمة العادية التي هي المناط في الانتقال من المخبر به إليه. ألا ترى: أن إخبار عشرة بشيء قد يوجب العلم به، لكن لا ملازمة عادية بينهما، بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الإخبار.

وبالجملة: يوجد في الخبر مرتبة تستلزم عادة لتحقق([140]) المخبر به، لكن ما يوجب العلم أحيانا قد لا يوجبه، وفي الحقيقة ليس هو بنفسه الموجب في مقام حصول العلم، وإلا لم يتخلف.

[الصفحة 218]

        ثم إنه قد نبه على ما ذكرنا -من فائدة نقل الإجماع- بعض المحققين في كلام طويل له، وما ذكرنا وإن كان محصل كلامه على ما نظرنا فيه، لكن الأولى نقل عبارته بعينها، فلعل الناظر يحصل منها غير ما حصلنا، فإنا قد مررنا على العبارة مرورا، ولا يبعد أن يكون قد اختفى علينا بعض ما له دخل في مطلبه. قال قدس سره في كشف القناع وفي رسالته التي صنفها في المواسعة والمضايقة، ما هذا لفظه: وليعلم أن المحقق في ذلك، هو: أن الإجماع الذي نقل بلفظه المستعمل في معناه المصطلح أو بسائر الألفاظ على كثرتها، إذا لم يكن مبتنيا على دخول المعصوم بعينه أو ما في حكمه في المجمعين، فهو إنما يكون حجة على غير الناقل باعتبار نقله السبب الكاشف عن قول المعصوم أو عن الدليل القاطع أو مطلق الدليل المعتد به وحصول الانكشاف للمنقول إليه والتمسك به بعد البناء على قبوله، لا باعتبار ما انكشف منه لناقله بحسب ادعائه. فهنا مقامان:

        الأول: حجيته بالاعتبار الأول، وهي مبتنية من جهتي الثبوت والإثبات على مقدمات:

        الأولى: دلالة اللفظ على السبب، وهذه لا بد من اعتبارها، وهي متحققة ظاهرا في الألفاظ المتداولة بينهم ما لم يصرف عنها صارف. وقد يشتبه الحال إذا كان النقل بلفظ (الإجماع) في مقام الاستدلال.

[الصفحة 219]

        لكن من المعلوم أن مبناه ومبنى غيره ليس على الكشف الذي يدعيه جهال الصوفية، ولا على الوجه الأخير الذي إن وجد في الأحكام ففي غاية الندرة، مع أنه على تقدير بناء الناقل عليه وثبوته واقعا كاف في الحجية، فإذا انتفى الأمران تعين سائر الأسباب المقررة، وأظهرها غالبا عند الإطلاق حصول الاطلاع -بطريق القطع أو الظن المعتد به- على اتفاق الكل في نفس الحكم، ولذا صرح جماعة منهم باتحاد معنى الإجماع عند الفريقين، وجعلوه مقابلا للشهرة، وربما بالغوا في أمرها بأنها كادت تكون إجماعا ونحو ذلك، وربما قالوا: إن كان هذا مذهب فلان فالمسألة إجماعية. وإذا لوحظت القرائن الخارجية من جهة العبارة والمسألة والنقلة، واختلف الحال في ذلك، فيؤخذ بما هو المتيقن أو الظاهر. وكيف كان: فحيث دل اللفظ ولو بمعونة القرائن على تحقق الاتفاق المعتبر كان معتبرا، وإلا فلا.

        الثانية: حجية نقل السبب المذكور وجواز التعويل عليه، وذلك لأنه ليس إلا كنقل فتاوى العلماء وأقوالهم وعباراتهم الدالة عليها لمقلديهم وغيرهم، ورواية ما عدا قول المعصوم ونحوه من سائر ما تضمنه الأخبار، كالأسئلة التي تعرف([141]) منها([142]) أجوبته، والأقوال والأفعال التي يعرف منها تقريره، ونحوها مما تعلق بها، وما نقل عن سائر الرواة المذكورين في الأسانيد وغيرها، وكنقل الشهرة واتفاق سائر [الصفحة 220] أولي الآراء والمذاهب وذوي الفتوى أو جماعة منهم، وغير ذلك. وقد جرت طريقة السلف والخلف من جميع الفرق على قبول أخبار الآحاد في كل ذلك مما كان النقل فيه على وجه الإجمال أو التفصيل، وما تعلق بالشرعيات أو غيرها، حتى أنهم كثيرا ما ينقلون شيئا مما ذكر معتمدين على نقل غيرهم من دون تصريح بالنقل عنه والاستناد إليه، لحصول الوثوق به وإن لم يصل إلى مرتبة العلم، فيلزم قبول خبر الواحد فيما نحن فيه أيضا، لاشتراك الجميع في كونها نقل قول غير معلوم من غير معصوم وحصول الوثوق بالناقل، كما هو المفروض.

        وليس شيء من ذلك من الأصول حتى يتوهم عدم الاكتفاء فيه بخبر الواحد، مع أن هذا الوهم فاسد من أصله، كما قرر في محله. ولا من الأمور المتجددة التي لم يعهد الاعتماد فيها على خبر الواحد في زمان النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والصحابة. ولا مما يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض، مع أن هذا لا يمنع من التعويل على نقل العارف به، لما ذكر. ويدل عليه مع ذلك: ما دل على حجية خبر الثقة العدل بقول مطلق. وما اقتضى كفاية الظن فيما لا غنى عن معرفته ولا طريق إليه غيره غالبا، إذ من المعلوم شدة الحاجة إلى معرفة أقوال علماء الفريقين وآراء سائر أرباب العلوم لمقاصد شتى لا محيص عنها، كمعرفة المجمع عليه والمشهور والشاذ من الأخبار والأقوال، والموافق للعامة أو أكثرهم والمخالف لهم، والثقة والأوثق والأورع والأفقه، وكمعرفة اللغات وشواهدها المنثورة والمنظومة، وقواعد العربية التي عليها يبتني استنباط [الصفحة 221] المطالب الشرعية، وفهم معاني الأقارير والوصايا وسائر العقود والإيقاعات المشتبهة، وغير ذلك مما لا يخفى على المتأمل.

        ولا طريق إلى ما اشتبه من جميع ذلك -غالبا- سوى النقل الغير الموجب للعلم، والرجوع إلى الكتب المصححة ظاهرا، وسائر الأمارات الظنية، فيلزم جواز العمل بها والتعويل عليها فيما ذكر.

        فيكون خبر الواحد الثقة حجة معتمدا عليها فيما نحن فيه، ولا سيما إذا كان الناقل من الأفاضل الأعلام والأجلاء الكرام كما هو الغالب، بل هو أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام، ولذا بني على المسامحة فيه من وجوه شتى بما لم يتسامح فيها، كما لا يخفى.

        الثالثة: حصول استكشاف الحجة المعتبرة من ذلك السبب.

        ووجهه: أن السبب المنقول بعد حجيته، كالمحصل في ما يستكشف منه والاعتماد عليه وقبوله وإن كان من الأدلة الظنية باعتبار ظنية أصله، ولذا كانت النتيجة في الشكل الأول تابعة -في الضرورية والنظرية والعلمية والظنية وغيرها- لأخس مقدمتيه مع بداهة إنتاجه.

        فينبغي حينئذ: أن يراعى حال الناقل حين نقله من جهة ضبطه، وتورعه في النقل، وبضاعته في العلم، ومبلغ نظره ووقوفه على الكتب والأقوال، واستقصائه لما تشتت منها، ووصوله إلى وقائعها، فإن أحوال العلماء مختلف فيها اختلافا فاحشا.

        وكذلك حال الكتب المنقول فيها الإجماع، فرب كتاب لغير متتبع موضوع على مزيد التتبع والتدقيق، ورب كتاب لمتتبع موضوع على المسامحة وقلة التحقيق.

ومثله الحال في آحاد المسائل، فإنها تختلف أيضا في ذلك.

[الصفحة 222]

        وكذا حال لفظه بحسب وضوح دلالته على السبب وخفائها، وحال ما يدل عليه من جهة متعلقه وزمان نقله، لاختلاف الحكم بذلك، كما هو ظاهر.

        ويراعى أيضا وقوع دعوى الإجماع في مقام ذكر الأقوال أو الاحتجاج، فإن بينهما تفاوتا من بعض الجهات، وربما كان الأول الأولى([143]) بالاعتماد بناء على اعتبار السبب كما لا يخفى.

        وإذا([144]) وقع التباس فيما يقتضيه ويتناوله كلام الناقل بعد ملاحظة ما ذكر، اخذ بما هو المتيقن أو الظاهر.

        ثم ليلحظ مع ذلك: ما يمكن معرفته من الأقوال على وجه العلم واليقين، إذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الإجمال دون المعلوم على التفصيل. مع أنه لو كان المنقول معلوما لما اكتفي به في الاستكشاف عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخل فيه، فكيف إذا لم يكن كذلك؟

ويلحظ أيضا: سائر ما له تعلق في الاستشكاف بحسب ما يعتمد عليه([145]) من تلك الأسباب -كما هو مقتضى الاجتهاد- سواء كان من الأمور المعلومة أو المظنونة، ومن الأقوال المتقدمة على النقل أو المتأخرة أو المقارنة.

        وربما يستغني المتتبع بما ذكر عن الرجوع إلى كلام ناقل الإجماع، [الصفحة 223] لاستظهاره عدم مزية([146]) عليه في التتبع والنظر، وربما كان الأمر بالعكس وأنه إن تفرد بشيء كان نادرا لا يعتد به.

فعليه أن يستفرغ وسعه ويتبع نظره وتتبعه، سواء تأخر عن الناقل أم عاصره، وسواء أدى فكره إلى الموافقة له أو المخالفة، كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلة وغيرها مما تعلق بالمسألة، فليس الإجماع إلا كأحدها. فالمقتضي للرجوع إلى النقل هو مظنة وصول الناقل إلى ما لم يصل هو إليه من جهة السبب، أو احتمال ذلك، فيعتمد عليه في هذا خاصة بحسب ما استظهر من حاله ونقله وزمانه، ويصلح كلامه مؤيدا فيما عداه مع الموافقة، لكشفه عن توافق النسخ وتقويته للنظر.

        فإذا لوحظ جميع ما ذكر، وعرف الموافق والمخالف إن وجد، فليفرض المظنون منه كالمعلوم، لثبوت حجيته بالدليل العلمي ولو بوسائط.

        ثم لينظر: فإن حصل من ذلك استكشاف معتبر كان حجة ظنية، حيث كان متوقفا على النقل الغير الموجب للعلم بالسبب أو كان المنكشف غير الدليل القاطع، وإلا فلا.

        وإذا تعدد ناقل الإجماع أو النقل، فإن توافق الجميع لوحظ كل([147]) ما علم على ما فصل واخذ بالحاصل، وإن تخالف لوحظ جميع ما ذكر واخذ فيما اختلف فيه النقل بالأرجح بحسب حال الناقل، وزمانه، [الصفحة 224] ووجود المعاضد وعدمه، وقلته وكثرته، ثم ليعمل بما هو المحصل، ويحكم على تقدير حجيته بأنه دليل واحد وإن توافق النقل وتعدد الناقل.

        وليس ما ذكرناه مختصا بنقل الإجماع المتضمن لنقل الأقوال إجمالا، بل يجري في نقلها تفصيلا أيضا، وكذا في نقل سائر الأشياء التي يبتني عليها معرفة الأحكام. والحكم فيما إذا وجد المنقول موافقا لما وجد أو مخالفا مشترك بين الجميع، كما هو ظاهر.

        وقد اتضح بما بيناه: وجه ما جرت عليه طريقة معظم الأصحاب: من عدم الاستدلال بالإجماع المنقول على وجه الاعتماد والاستقلال غالبا، ورده بعدم الثبوت أو بوجدان الخلاف ونحوهما، فإنه المتجه على ما قلنا، ولا سيما فيما شاع فيه النزاع والجدال، أو عرفت([148]) فيه الأقوال، أو كان من الفروع النادرة التي لا يستقيم فيها دعوى الإجماع، لقلة المتعرض([149]) لها إلا على بعض الوجوه التي لا يعتد بها، أو كان الناقل ممن لا يعتد بنقله، لمعاصرته، أو قصور باعه، أو غيرهما مما يأتي بيانه، فالاحتياج إليه مختص بقليل من المسائل بالنسبة إلى قليل من العلماء ونادر من النقلة الأفاضل([150])، انتهى كلامه، رفع مقامه.

        لكنك خبير: بأن هذه الفائدة للإجماع المنقول كالمعدومة، لأن القدر الثابت من الاتفاق بإخبار الناقل -المستند إلى حسه- ليس مما [الصفحة 225] يستلزم عادة موافقة الإمام عليه السلام، وإن كان هذا الاتفاق لو ثبت لنا أمكن أن يحصل العلم بصدور مضمونه، لكن ليس علة تامة لذلك، بل هو نظير إخبار عدد معين في كونه قد يوجب العلم بصدق خبرهم وقد لا يوجب. وليس أيضا مما يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتى بالنسبة إلينا، لأن استناد كل بعض منهم إلى ما لا نراه دليلا، ليس أمرا مخالفا للعادة.

        ألا ترى: أنه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة البئر، بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم الظفر بما يعارضها، وبعضهم قد ظفر بالمعارض ولم يعمل به، لقصور سنده، أو لكونه من الآحاد عنده، أو لقصور دلالته، أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها عليه([151]) بضرب من الترجيح، فإذا ترجح في نظر المجتهد المتأخر أخبار الطهارة فلا يضره اتفاق القدماء على النجاسة المستند إلى الأمور المختلفة المذكورة.

        وبالجملة: الإنصاف([152]) -بعد التأمل وترك المسامحة بإبراز المظنون بصورة القطع كما هو متعارف محصلي عصرنا- أن اتفاق من يمكن تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه السلام، كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكل من جهة أو من جهات شتى. فلم يبق في المقام إلا أن يحصل المجتهد أمارات أخر من أقوال [الصفحة 226] باقي العلماء وغيرها ليضيفها إلى ذلك، فيحصل من مجموع المحصل له والمنقول إليه -الذي فرض بحكم المحصل من حيث وجوب العمل به تعبدا([153])- القطع في مرحلة الظاهر باللازم، وهو قول الإمام عليه السلام أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليه السلام بهذا الحكم الظاهري المضمون لذلك الدليل، لكنه أيضا مبني على كون مجموع المنقول من الأقوال والمحصل من الأمارات ملزوما عاديا لقول الإمام عليه السلام أو وجود الدليل المعتبر، وإلا فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصل بأدلة حجية خبر الواحد، كما عرفت سابقا([154]).

        ومن ذلك ظهر: أن ما ذكره هذا البعض ليس تفصيلا في مسألة حجية الإجماع المنقول، ولا قولا بحجيته في الجملة من حيث إنه إجماع منقول، وإنما يرجع محصله إلى: أن الحاكي للإجماع([155]) يصدق فيما يخبره عن حس، فإن فرض كون ما يخبره عن حسه ملازما -بنفسه أو بضميمة أمارات أخر- لصدور الحكم الواقعي أو مدلول الدليل المعتبر عند الكل، كانت حكايته حجة، لعموم أدلة حجية الخبر في المحسوسات، وإلا فلا، وهذا يقول به كل من يقول بحجية الخبر([156]) في الجملة، وقد اعترف بجريانه في نقل الشهرة وفتاوى آحاد العلماء.

[الصفحة 227]

        ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول، وأن نقل التواتر في خبر لا يثبت حجيته ولو قلنا بحجية خبر الواحد، لأن التواتر صفة في الخبر تحصل بإخبار جماعة تفيد العلم للسامع، ويختلف عدده باختلاف خصوصيات المقامات، وليس كل تواتر ثبت لشخص مما يستلزم في نفس الأمر عادة تحقق المخبر به، فإذا أخبر بالتواتر فقد أخبر بإخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع، وقبول هذا الخبر لا يجدي شيئا، لأن المفروض أن تحقق مضمون المتواتر ليس من لوازم إخبار الجماعة الثابت بخبر العادل.

        نعم، لو أخبر بإخبار جماعة يستلزم عادة تحقق المخبر به، بأن يكون حصول العلم بالمخبر به لازم الحصول لإخبار الجماعة -كأن أخبر مثلا بإخبار ألف عادل أو أزيد بموت زيد وحضور جنازته- كان اللازم من قبول خبره الحكم بتحقق الملزوم وهو إخبار الجماعة، فيثبت اللازم وهو تحقق موت زيد.

        إلا أن لازم من يعتمد على الإجماع المنقول -وإن كان إخبار الناقل مستندا إلى حدس غير مستند إلى المبادئ المحسوسة المستلزمة للمخبر به- هو القول بحجية التواتر المنقول.

        لكن ليعلم: أن معنى قبول نقل التواتر مثل الإخبار بتواتر موت زيد مثلا، يتصور على وجهين:

        الأول: الحكم بثبوت الخبر المدعى تواتره أعني موت زيد، نظير حجية الإجماع المنقول بالنسبة إلى المسألة المدعى عليها الإجماع، وهذا هو الذي ذكرنا: أنه يشترط([157]) في قبول خبر الواحد فيه كون ما أخبر [الصفحة 228] به مستلزما عادة لوقوع متعلقه.

        الثاني: الحكم بثبوت تواتر الخبر المذكور ليترتب([158]) على ذلك الخبر آثار المتواتر وأحكامه الشرعية، كما إذا نذر أن يحفظ أو يكتب كل خبر متواتر. ثم أحكام التواتر، منها ما ثبت لما تواتر في الجملة ولو عند غير هذا الشخص، ومنها ما ثبت لما تواتر بالنسبة إلى هذا الشخص.

        ولا ينبغي الإشكال في أن مقتضى قبول نقل التواتر العمل به على الوجه الأول، وأول وجهي الثاني، كما لا ينبغي الإشكال في عدم ترتب آثار تواتر المخبر به عند نفس هذا الشخص.

        ومن هنا يعلم: أن الحكم بوجوب القراءة في الصلاة إن كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيا قرأه النبي صلى الله عليه وآله، فلا إشكال في جواز الاعتماد على إخبار الشهيد (رحمه الله) بتواتر القراءات الثلاث([159])، أعني قراءة أبي جعفر وأخويه([160])، لكن بالشرط المتقدم، وهو كون ما أخبر به الشهيد من التواتر ملزوما عادة لتحقق القرآنية. وكذا لا إشكال في الاعتماد من دون شرط إن كان الحكم منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة، فإنه قد ثبت تواتر تلك القراءات عند الشهيد بإخباره([161]).

[الصفحة 229]

        وإن كان الحكم معلقا على القرآن المتواتر عند القارئ أو مجتهده، فلا يجدي إخبار الشهيد بتواتر تلك القراءات.

        وإلى أحد الأولين نظر([162]) حكم المحقق والشهيد الثانيين([163]) بجواز القراءة بتلك القراءات، مستندا إلى أن الشهيد([164]) والعلامة([165]) قدس سرهما قد ادعيا تواترها وأن هذا لا يقصر عن نقل الإجماع.

        وإلى الثالث نظر صاحب المدارك([166]) وشيخه المقدس الأردبيلي([167]) قدس سرهما، حيث اعترضا على المحقق والشهيد: بأن هذا رجوع عن اشتراط التواتر في القراءة. ولا يخلو نظرهما عن نظر، فتدبر. والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.


 

([1]) النسخة المعتمدة:  مجمع الفكر الإسلامي- قم- الطبعة الأولى 1419، لجنة التحقيق تراث الشيخ الأعظم. هوامش هذا الكتاب نقلا عن المصدر.

([2]) منهم صاحب المعالم في المعالم: 180، وصاحب الفصول في الفصول: 258، والمحقق القمي في القوانين 1: 384.

([3]) كذا في (ت) و (ه)، وفي غيرهما: "شمولها".

([4]) أنظر الصفحة: 357 – 359.

([5]) الحجرات:6.

([6]) في (ر)، (ص)، (ظ)، (ل) و (م): "لا تصلح مناطا".

([7]) في (ر)، (ص)، (ظ) و (ل): "قبولية"، وفي (م): "مقبولية".

([8]) في (ر)، (ص) و (ه): "الشاهد والراوي".

([9]) كذا في (ظ)، (ل) و (م)، وفي غيرها: "بأن".

([10]) لم ترد "أو غفلته" في (م).

([11]) منهم المحقق في المعارج: 198، وصاحب الفصول في الفصول: 411، والمحقق القمي في القوانين 1: 325، والسيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 594.

([12]) كالمحقق في الشرائع 4: 132، والشهيد في الدروس 2: 134، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع 4: 310.

([13]) الرياض (الطبعة الحجرية) 2: 446.

([14]) في (م) بدل عبارة " والظاهر أن - إلى - من عدم اعتبار " العبارة التالية: " ولعل لما ذكرنا - من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلة قبول قول العادل، على وجوب تصويبه في الاعتقاد - ذهب المعظم، بل أطبقوا كما في الرياض على عدم اعتبار...".

([15]) في (ر): "بدعوى".

([16]) في (ظ) و (ل) بدل " لإناطة ": "لاشتراط".

([17]) في (ظ) و (ل) بدل "فالآية": "و".

([18]) في (ت)، (ر)، (ل) و (ص): "تعمده".

([19]) لم ترد في (ظ)، (ل) و (م): "فتأمل".

([20]) في (ت) و (ه) زيادة: "عبارة عن".

([21]) في (ت) و (ه) زيادة: "عبارة عن".

([22]) انظر المستصفى للغزالي 1: 173، والإحكام للآمدي 1: 254، وشرح مختصر الأصول 1: 122، وستأتي الإشارة إلى كلمات الخاصة.

([23]) تهذيب الوصول للعلامة الحلي: 65.

([24]) هو الشيخ محمد بن علي بن محمد الجرجاني الغروي، تلميذ العلامة الحلي. انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة 16: 10.

([25]) غاية البادي في شرح المبادي (مخطوط): الورقة 73، وفيه: "اتفاق جمع من امة محمد".

([26]) المعالم: 172.

([27]) انظر المعارج: 125، والوافية: 151.

([28]) انظر إيضاح الفوائد 3: 318، وحاشية الشرائع للمحقق الثاني (مخطوط): 99، والجواهر 2: 10.

([29]) الذريعة: 2: 630، 632 و 635.

([30]) المعتبر: 1:31.

([31]) نهاية الوصول (مخطوط):241.

([32]) مثل: الشهيد الثاني في المسالك 1: 389، وصاحب الرياض في الرياض 2: 346.

([33]) في (ر) زيادة: " اصطلاحا"، وفي (ص) زيادة: "في الاصطلاح".

([34]) لم ترد "أن" في (ه)، وشطب عليها في (ت).

([35]) أوائل المقالات (مصنفات الشيخ المفيد) 4: 121.

([36]) الذريعة: 2: 605.

([37]) الغنية (الجوامع الفقهية): 477.

([38]) المعتبر 1: 31، والمعارج: 132.

([39]) نهاية الوصول (مخطوط): 241، وتهذيب الوصول: 65 و 70.

([40]) الذكرى 1: 49، والقواعد والفوائد 1: 217، وتمهيد القواعد: 251.

([41]) منهم: صاحب المعالم في المعالم: 173، والفاضل التوني في الوافية: 151.

([42]) العدة 2: 631 و 637.

([43]) هو المحقق التستري في كشف القناع: 164.

([44]) في ( م ): "قولهم".

([45]) راجع الصفحة القادمة.

([46]) لم ترد "عليه" في غير (ت) و (ه).

([47]) راجع الصفحة 185 - 186.

([48]) انظر الصفحة 196.

([49]) راجع الصفحة 184.

([50]) لم ترد "للمستدل" في (ه).

([51]) في (ص) و(ه) زيادة: "أو الأكثر".

([52]) لم ترد "ما" في (ص)، (ظ)، (ل) و (م)، وورد بدلها في (ظ): "أن".

([53]) أي كلام المحقق في المعتبر المتقدم في الصفحة 186.

([54]) المعالم: 174.

([55]) راجع الصفحة السابقة.

([56]) راجع الصفحة 188.

([57]) انظر الصفحة 202 و 217.

([58]) في الصفحة 184.

([59]) راجع الصفحة 187 - 188.

([60]) العدة2: 631.

([61]) العدة 2: 631 و 637.

([62]) حكاه السيد المجاهد في مفاتيح الأصول عن جماعة، منهم الحلبي في ظاهر الكافي، انظر مفاتيح الأصول: 496، والكافي: 507 - 510.

([63]) انظر القوانين 1: 353، والفصول: 245 - 246.

([64]) أنظر الصفحة الآتية.

([65]) كذا في (ص)، (ظ) و (م)، وفي غيرها: "وجوب قاعدة".

([66]) هو المحقق القمي في القوانين 1: 350.

([67]) في غير (ل) و (م) زيادة: "يكون".

([68]) لم ترد " يكون " في (ر)، (ص) و (ه).

([69]) العدة 2: 631.

([70]) العدة 2: 637.

([71]) حكاه المحقق التستري عن الشيخ الحمصي في التعليق العراقي، راجع كشف القناع: 118.

([72]) تمهيد الأصول (مخطوط)، لا يوجد لدينا، وهو شرح على " جمل العلم والعمل " للسيد المرتضى، يوجد منه نسخة في الخزانة الرضوية، كما في الذريعة إلى تصانيف الشيعة 4: 433، وانظر العدة 2: 631.

([73]) كتاب الغيبة: 97.

([74]) إيضاح الفوائد 1: 502.

([75]) انظر إيضاح الفوائد 3: 318.

([76]) الذكرى 1: 44.

([77]) حاشية الشرائع (مخطوط): 99.

([78]) الواردة في قوله تعالى: "وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً" لقمان: 20.

([79]) الحاكي عن البعض هو المحقق التستري في كشف القناع: 145.

([80]) الذكرى 1: 51.

([81]) المعالم: 174.

([82]) في (ر) و (ص) زيادة: "له".

([83]) كذا في (ت) و (ه)، وفي غيرهما: "يحصل".

([84]) انظر الصفحة: 204 - 208.

([85]) العبارة في (ظ)، (ل) و (م) هكذا: "فلا يسمع دعوى من استند إليه، تعين كون المستند في الإجماعات المتداولة على ألسنة ناقليها هو الحدس".

([86]) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه) بدل "أو": "و".

([87]) هو السيد المحقق الكاظمي المعروف بالسيد الأعرجي.

([88]) الوافي في شرح الوافية (مخطوط): الورقة 150.

([89]) انظر القوانين 1: 353، والفصول: 245 - 246.

([90]) في (ه): "هو".

([91]) في (ه): كما ذكر.

([92]) المعتبر: 1: 62.

([93]) لم ترد عبارة "وأن جزمه في غير محله" في (م).

([94]) في (ظ) و (م): "لحكم".

([95]) في (ت)، (ر)، (ص) و (ل): "لا تنشأ".

([96]) كذا في (ت) و (ه)، وفي غيرهما: "العصرين".

([97]) في (ت)، (ر) و (ه): "الموارد".

([98]) الخلاف أو مسائل الخلاف من مصنفات السيد المرتضى، وهي مفقودة.

([99]) مسائل الخلاف من مصنفات الشيخ المفيد، وهي مفقودة أيضا.

([100]) المسائل المصرية (الرسائل التسع): 215 و 216، وأما مسائل الخلاف فهي من مصنفات الشيخ المفيد المفقودة.

([101]) الأنسب: "أنه"، كما في نسخة (د).

([102]) الخلاف 6: 290، المسألة 36.

([103]) لم ترد " السابق " في (ه)، وكتب عليه في (ص): "زائد".

([104]) الخلاف 6: 290، المسألة 37.

([105]) في (ص): "ومن الأول"، وفي غيرها ونسخة بدل (ص) ما أثبتناه.

([106]) البقرة: 229.

([107]) لم نقف عليه بلفظه، وورد ما يقرب منه في كنز العمال 1: 219 - 220، الحديث 1101، 1109.

([108]) الوسائل 14: 356، الباب 20 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 4، مع تفاوت يسير.

([109]) الفصول المختارة (مصنفات الشيخ المفيد) 2: 175 - 177.

([110]) السرائر 2: 682 - 684.

([111]) كذا في النسخ، ويبدو أن الصحيح " نوادر المصنف " كما في غاية المراد 1: 102، والسرائر 3: 601، أو " نوادر المصنفين " كما في الوسائل 20: 47، وأما كتاب نوادر الحكمة فإنه من تأليفات محمد بن أحمد بن يحيى، كما ستأتي الإشارة إليه في الصفحة 324، وانظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة 24: 346 و 349.

([112]) رجل حفظة كهمزة، أي كثير الحفظ، تاج العروس 5: 251.

([113]) رسالة خلاصة الاستدلال من مؤلفات الحلي قدس سره، وهي مفقودة، وحكاه عنه الشهيد (قدس سره) في غاية المراد 1: 102.

([114]) كالشيخ الصدوق في الفقيه 1: 358، و 434، الحديث 1031 و 1264، والشيخ الطوسي في التهذيب 2: 171 و 273، الحديث 680 و 108.

([115]) في (ظ) و (ه): "الركون".

([116]) السرائر 1: 466.

([117]) المعتبر 2: 601 - 602.

([118]) في (ظ)، (ل) و (م): "نفقة".

([119]) انظر الوسائل 6: 228، الباب 5 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 3 و 4.

([120]) المسائل العزية (الرسائل التسع): 144 – 145.

([121]) راجع الصفحة 186 - 187.

([122]) انظر المعالم: 174، والذكرى 1: 51.

([123]) البحار 89: 222.

([124]) لم ترد في (م): "المذكور".

([125]) في غير (ت): "ليس".

([126]) في (ه): "اللازم".

([127]) ذخيرة المعاد: 50 - 51.

([128]) لم ترد: " هو " في (ظ)، (ل) و (م).

([129]) راجع الصفحة 198 - 199.

([130]) راجع الصفحة: 200.

([131]) راجع الصفحة: 202.

([132]) في الصفحة: 192.

([133]) في (ت)، (ر) و (ص): "الأكثرين".

([134]) راجع الصفحة: 212.

([135]) في (ت)، (ر)، (ص) و (ه): "يستلزم".

([136]) في (ت) و (ه): "صدور".

([137]) في (ص) بدل " لفظ ": "نقل".

([138]) في (ر) و (ه) بدل "و": "بل".

([139]) راجع الصفحة: 191.

([140]) في (ت) و (ه): "تحقق".

([141]) في (ظ) والمصدر: "يعرف".

([142]) في (ظ) و (م): "بها".

([143]) كذا في المصدر، والأنسب: "كان الأول أولى".

([144]) كذا في (ظ) و (م)، وفي غيرهما: "فإذا".

([145]) "عليه" من المصدر.

([146]) في (ظ) و (ه): "عدم مزيته".

([147]) في (ت)، (ر)، (ل) و (م) زيادة " مع "، وشطب عليها في (ص).

([148]) في (ر) و (ص): "إذ عرفت".

([149]) في (ظ): "التعرض".

([150]) كشف القناع: 400 - 405.

([151]) كذا في (ت) و (ه)، وفي غيرهما: "عليها".

([152]) كذا في (ظ)، وفي غيرها: "فالإنصاف".

([153]) لم ترد في (م): "تعبدا".

([154]) راجع الصفحة: 180.

([155]) في (م) زيادة: "إنما".

([156]) في (ت) و (ه) زيادة: "الواحد".

([157]) في (ر)، (ص) و (ل) بدل " أنه يشترط ": "أن الشرط".

([158]) في (ر)، (ل) و (ه): "ليرتب".

([159]) الذكرى (الطبعة الحجرية): 187.

([160]) في (ت) و (ل) زيادة: "يعقوب وخلف".

([161]) في (ظ) و (م): "بإخبار".

([162]) في (ر)، (ص)، (ل)، (ه) ونسخة بدل (ت): ينظر.

([163]) انظر جامع المقاصد 2: 246، وروض الجنان: 262، والمقاصد العلية: 137.

([164]) الذكرى (الطبعة الحجرية): 187.

([165]) لم نعثر عليه في كتب العلامة، بل وجدنا خلافه، انظر نهاية الإحكام 1: 565، ولم ينسبه المحقق والشهيد الثانيان في الكتب المذكورة إلا إلى الشهيد، ويبدو أن المصنف اعتمد في ذلك على ما نقله السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 326.

([166]) المدارك 3: 338.

([167]) مجمع الفائدة 2: 217 - 218.