موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع

 

 

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

 

المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع

 

السيد البروجردي. الحاشية على كفاية الأصول

فصل الإجماع المنقول بخبر الواحد

- حاشية على كفاية الأصول- تقرير بحث السيد حسين البروجردي لبهاء الدين البروجردي ج2 ص79: ([1])

[فصل الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أنه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص، فلا بد في اعتباره من شمول أدلة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها. وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور: الأول: إن وجه اعتبار الإجماع، هو القطع برأي الإمام عليه السلام]

        قوله: فصل الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة... الخ

        اِعلم ان التحقيق فيه يستدعى تمهيد مقدمات: منها في بيان معنى الإجماع لغة واصطلاحا، اما الإجماع في اللغة فهو يطلق على معنيين: الأول العزم، يقال: ان زيدا اجمع على كذا، أي عزم عليه، والثاني الاتفاق، مثل قوله تعالى: {وأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}([2]) أي اتفقوا.

        واما اصطلاحا فقد نقل في اصطلاح الأصوليين عن الاتفاق المطلق الصادق على اتفاق شخصين في شيء إلى اتفاق خاص لأجل خصوصية في هذا الفرد الخاص وهو عند العامة عبارة عن اتفاق جميع علماء الأمة على أمر ديني في عصر واحد من الأعصار مطلقا من غير تقييد بعصر دون عصر، ولا مشروط بكونه في جميع الأعصار.

        وتمسكوا لحجيته بالآية الشريفة: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}([3])، وبالمروي [الصفحة 80]

[ومستند القطع به لحاكيه -على ما يظهر من كلماتهم- هو علمه بدخوله عليه السلام في المجمعين شخصا، ولم يعرف عينا، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه عليه السلام عقلا من باب اللطف، أو عادة أو اتفاقا من جهة حدس رأيه، وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلا ولا عادة، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع، حيث إنهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية ولا الملازمة العادية غالبا وعدم العلم بدخول جنابه عليه السلام في المجمعين عادة، يحكون الإجماع كثيرا، كما]

عن النبي صلى الله عليه وآله: “لا تجتمع أمتي على الخطأ”([4])، ولا ملاك آخر لهم. واما الخاصة من الأصوليين فقد تبعوا العامة في إطلاق ذاك اللفظ على ذاك المعنى، والقول بحجيته ان تحقق، ليس بملاك الاتفاق والاجتماع نفسه، بل بملاك اشتماله على قول المعصوم، لانه لا يخلو زمان من إمام معصوم وعلى هذا فان اتفق جميع علماء الأمة من غير خروج احد منهم على أمر وعلى حال فالإمام داخل فيهم بلا كلام. منها في بيان مستند القطع برأي المعصوم، اعلم ان في المقام ثلاث مسالك: الدخول، والكشف، والحدس، اما الأول فهو عبارة عن دخول الإمام بشخصه وقوله في المجمعين ولم يعلم بشخصه الشريف، بل علم إجمالا بأنه احد المتفقين، فمستند القطع فيه هو العلم الإجمالي، وهذا مسلك المتقدمين على شيخ الطائفة آبي جعفر الطوسي مثل المفيد، والسيد ابن زهرة والسيد المرتضى رضوان الله عليهم، وبعض المتوسطين كصاحب (المعالم) ويسمى هذا الإجماع [الصفحة 81]

[أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب، أنه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله عليه السلام وممن اعتذر عنه بانقراض عصره، أنه استند إلى قاعدة اللطف. هذا مضافا إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم، وربما يتفق لبعض الاوحدي وجه آخر من تشرفه برؤيته عليه السلام وأخذه الفتوى من جنابه، وإنما لم ينقل عنه، بل يحكي الإجماع لبعض دواعي الاخفاء.

الأمر الثاني: إنه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع، فتارة ينقل رأيه عليه السلام في ضمن نقله حدسا كما هو الغالب، أو حسا وهو نادر جدا، وأخرى لا ينقل إلا ما هو السبب عند ناقله، عقلا أو عادة أو اتفاقا، واختلاف ألفاظ النقل]

بالإجماع الدخولي، وهذا القسم نادر الوجود بل معلوم العدم، فإنهم في زمان ظهورهم عليهم السلام كانوا معلومين بأشخاصهم الشريفة وأقوالهم المنيفة، ولم يكونوا مستورين عن الأنظار، بل كانوا كالشمس في رابعة النهار، وفي زمان الغيبة وان كان وجود الحجة في العالم عجل الله فرجه الشريف من المسلمات والضروريات، الا ان وجوده بين المجتهدين وانه من احدهم محل الشك والإنكار، بل المنع كما لا يخفى على ذوي الأنظار.

        وأما الثاني فهو عبارة اتفاق جماعة على قول بحيث يكشف قولهم واتفاقهم من باب الملازمة العقلية عن صدور الحكم عن الإمام عليه السلام بمعونة قاعدة اللطف، فمستند القطع فيه هو الملازمة العقلية القطعية بين اتفاق جماعة على مسألة وكونها رأيا للإمام عليه السلام، بمعونة قاعدة اللطف، وبيانها انه إذا اتفق العلماء على مسألة خلاف رأيه الشريف يجب عليه ردعهم عنها، فإذا لم يردع، أو لم يعلم ردعه علمنا ان المسألة تكون موافقة لرأيه الشريف، وهذا هو مسلك الشيخ، وان كانت له طريقة أخرى أيضا وهي الطريقة الأولى كما [الصفحة 82]

[أيضا صراحة وظهورا وإجمالا في ذلك، أي في أنه نقل السبب أو نقل السبب والمسبب. الأمر الثالث: إنه لا إشكال في حجية الإجماع المنقول بأدلة حجية الخبر، إذا كان نقله متضمنا لنقل السبب والمسبب عن حس، لو لم نقل بأن نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدا، وكذا إذا لم يكن متضمنا له، بل كان ممحضا لنقل السبب عن حس، إلا أنه كان سببا بنظر المنقول إليه أيضا عقلا أو عادة أو اتفاقا، فيعامل]

يظهر لمن تأمل كلامه في (العدة) المصنفة في الأصول، ويسمى هذا الإجماع بالإجماع الكشفي واللطفي ولا يخفى ان تسمية مثل هذا الاتفاق بالإجماع مسامحة وخارجة عن الاصطلاح، فانه على الفرض لم يكن باتفاق الكل، لخروج الإمام عليه السلام على المفروض عن المتفقين.

        اما الثالث فهو عبارة عن اتفاق جماعة لا يمكن تواطؤهم على الخطاء عادة أو اتفاقا باعتبار علو مرتبتهم وعلو فهمهم أو قرب زمانهم بزمان رؤسائهم أو غيرها مما يوجب القطع برأي إمامهم بطريق الحدس، فمستند القطع فيه هو الحدس وهذا هو مسلك المتأخرين، ويسمى بالإجماع الحدسي، وتسمية هذا بالإجماع أيضا من باب المسامحة.

        ولا يخفى ما في المسلكين الأخيرين، فان الصغرى فيهما ممنوعة، اما الأول فلمنع تحقيق الاتفاق الذي يلازم رأي المعصوم أولا، ولمنع وجوب الردع على الإمام، لانا موجبون لاستاره عليه السلام عنا ثانيا.

        واما الثاني فلأنه كيف ومتى يتفق اتفاق لا يمكن تواطؤ المتفقين على الخطاء؟ وقد رأينا في كل عصر اتفاق جماعة من الأساطين والعظماء من العلماء على مسألة وقد اتفق جماعة أخرى مثلهم في الصفات على خلافهم فيما، فلا يبقى وثوق واطمئنان بحيث يقطع من توافقهم على أمر بأنه حكم الإمام عليه [الصفحة 83]

[حينئذ مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه بأحكامه وآثاره. وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه دون المنقول إليه ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلة على حجيته، إذ المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك، كما أن المنصرف من الآيات والروايات ذلك، على تقدير دلالتهما، خصوصا فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة، هذا فيما انكشف الحال.]

السلام. نعم يمكن القطع برأي الإمام من اتفاق أصحابهم الذين أدركوهم في زمانهم، وان لم يصل إلينا منهم عليهم السلام شيء يدل على رأيهم سوى اتفاق أصحابهم، فلا بد في مقام العمل على الاتفاق المذكور من إحرازه عن طريق معتبر. ويمكن أيضا القطع برأي الإمام عليه السلام من الأخبار الصادرة عن الأئمة الماضين عليهم السلام، والتعبير عنه بالإجماع كما هو ديدن العلماء المتقدمين مثل شيخ الطائفة والمفيد وابن زهرة، كما لا يخفى من راجع كلامهم في الأصول والفقه، والشاهد على ما ذكرنا تمسكهم في بطلان العول والتعصيب بالإجماع مع ان الاخبار المتواترة ناهضة على بطلانهما. فان قلت: ما هو الداعي إلى التعبير عن رأي الإمام المستفاد من النصوص بلفظ الإجماع؟ قلت: الداعي ذلك هو ان كلمات المتقدمين ناظرة غالبا إلى خلاف لمخالفين في الحكم وبطلان مذهبهم في المسألة الكذائية، ولم يكن قول الإمام عندهم بحجة باعتبار إنكارهم الإمامة، وكانت الحجة عندهم منحصرة في الكتاب والسنة النبوية والإجماع والقياس، فعبر المتقدمون منا عن قول الإمام عليه السلام الذي هو حجة عندنا بلفظ الإجماع الذي يكون عندهم بما هو هو [الصفحة 84]

[وأما فيما اشتبه، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، فإن عمدة أدلة حجية الاخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء على التوقف والتفتيش، عن أنه عن حدس أو حس، بل العمل على طبقه والجري على وفقه بدون ذلك، نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك، فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس، أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة.]

حجة، في مقام إثبات الحكم على طبق مذهبنا ردا عليهم وإلزاما لهم، ولم يعبروا بلفظ الاخبار الصادرة عنهم عليهم السلام لعدم التزام المخالفين بذلك أصلا. إذا عرفت ذلك فاعلم انه وان اختلفوا في حجية الإجماع المنقول بالإضافة إلى نقل المسبب اعني رأي الإمام عليه السلام، فذهب جماعة إلى حجيته، والآخرون إلى عدمها، ولكنه بالإضافة إلى نقل السبب، اعني اتفاق جماعة على كذا، حجة، بمعنى انه يترتب على الاتفاق المنقول آثاره فيما إذا كان إحراز الاتفاق مستندا إلى الحس، كما إذا اطلع على أقوالهم حسا ولو بالنظر إلى كتبهم المدونة عينا، واما إذا كان إحراز الاتفاق مستندا إلى الحدس، كما إذا كان الاطلاع على أقوال جماعة موجبا لحدس أقوال الآخرين فلا يكون بحجة إلا في المقدار المحسوس، وذلك لعدم شمول أدلة حجية الخبر الواحد لمثل ذلك. واما وجه حجية الإجماع المنقول عند القائلين بها بالإضافة إلى نقل المسبب، فهو ان نقل الإجماع إنما يكون نقلا لقول الإمام والأدلة الدالة على حجية الاخبار تشمله بالعموم أو الإطلاق. ووجه عدم الحجية عندهم هو ان طريق استكشاف رأي الإمام عليه السلام منحصر في الوجوه الثلاثة المتقدمة، اعني العلم الإجمالي بدخول الإمام في المجمعين، والملازمة القطعية بين اتفاق غير الإمام ورأيه عليه السلام بمعونة [الصفحة 85]

[هذا لكن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلا، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستندا إلى الحس، فلا بد في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها، ولو بملاحظة حال الناقل وخصوص موضع النقل، فيؤخذ بذاك المقدار ويعامل معه كأنه المحصل، فإن كان بمقدار تمام السبب، وإلا فلا يجدي ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل له من سائر الأقوال أو سائر الأمارات ما به تم، فافهم.]

قاعدة اللطف، والقطع برأيه من الحدس الحاصل من الاتفاق، وهذه الوجوه بأسرها ممنوعة، اما الأول فلمنع الصغرى، ضرورة ان دخول الإمام في المجمعين مما لا يمكن تحصيله في عصر الغيبة، لانه مبني على استقصاء آراء أشخاص يكون الإمام عليه السلام منهم ولا يعرف شخصه تفصيلا، ومن المعلوم انه لا يتفق لأحد في هذه الأعصار، وأما الثاني فلمنع ثبوت الملازمة وعدم تمامية البرهان الذي أقيم عليه، فان غيبة الإمام عليه السلام واستتاره عنا سبب عن تقصيرنا، فكل ما يفوتنا من المصالح والمنافع المتوفقة على حضوره الشريف قد فاتنا من قبل أنفسنا، فلا يجب عليه عقلا ان يظهر المخالفة عند اتفاق العلماء على خلاف الواقع.

        واما الثالث فلمنع الكبرى، ضرورة عدم شمول أدلة اعتبار الخبر لمثل ذلك، وذلك لان المتيقن من أدلة حجية الخبر هو فيما إذا كان عن حس أو المبادئ القريبة منه كالاخبار بالعدالة فيما إذا أحرزت من حسن الظاهر، واما إذا لم يكن كذلك، مثل ان يكون الاخبار عن الحدس الناشي عن المبادي البعيدة، كالحدس برأي الإمام عليه السلام من اتفاق جماعة على حكم من الاحكام فلا تشمله، نعم إذا كان الحدس في المقام ناشئا عن اتفاق أصحاب [الصفحة 86]

[فتلخص بما ذكرنا: أن الإجماع المنقول بخبر الواحد، من جهة حكايته رأي الإمام عليه السلام بالتضمن أو الالتزام، كخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه عليه السلام وما نقله من الأقوال، بنحو الجملة والإجمال، وتعمه أدلة اعتباره، وينقسم بأقسامه، ويشاركه في أحكامه، وإلا لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.]

الأئمة الماضين عليهم السلام فحدس رأيهم من اتفاقهم يكون نظير حدس العدالة من حسن الظاهر فتشمله أدلة الحجية، فافهم هذا كله فيما إذا كان الحال معلوما، واما إذا كان الحال مشتبها، بمعنى عدم معلومية طريق استكشاف الناقل للإجماع رأي الإمام عندنا فليس بحجة فيما إذا لم يتطرق احتمال كون منشأ الحدس اتفاق أصحاب الأئمة عليهم السلام، كما إذا كانت المسألة التي ادعى عليها الإجماع من الفروع التي استخرجت من الأصول والناقل للإجماع كان من المتأخرين لعدم شمول الأدلة لمثل ذلك، واما إذا تطرق الاحتمال المذكور كما إذا كانت المسألة من الأصول المعنونة في كتب الأصحاب وكان الناقل من المتقدمين، فنقل الإجماع يكون حجة بلا ريب، لشمول أدلة حجية الخبر لمثله. هذا، ولكن التحقيق هو التفصيل بين ان يكون طريق الاستكشاف عند الناقل منحصرا في الاتفاق مع كونه كاشفا عن رأي الإمام بأحد الوجوه الثلاثة، من دون تطرق احتمال كون الحدس من اتفاق أصحاب الأئمة عليهم السلام، فنقول: انه ليس بحجة لما ذكرنا من عدم شمول الأدلة لمثل ذلك، وبين ان لا يكون كذلك بان لا يكون الطريق منحصرا في الاتفاق، بل اعم من ذلك ومن الاخبار الصادرة عن الأئمة الماضين عليهم السلام، وكان الناقل مخبرا عن الحكم المستكشف بطريق القطع من الاخبار بلفظ الإجماع لنكتة كما ذكرناه في المقدمة الأخيرة، أو كان الطريق منحصرا مع تطرق احتمال كون الحدس من [الصفحة 87]

[وأما من جهة نقل السبب، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل، فلو ضم إليه مما حصله أو نقل له -من أقوال السائرين أو سائر الأمارات- مقدار كان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصل، ويكون حاله كما إذا كان كله منقولا، ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه وبه قوامه، كما يشهد به حجيته بلا ريب في تعيين حال]

اتفاق أصحاب الأئمة عليهم السلام، فنقول بالحجية. وهذا كله فيما إذا اشتبه الحال، واما فيما إذا لم يشتبه الحال، بان علم تفصيلا ان طريق الاستكشاف لدى الناقل هو الاتفاق وانه كان ممن يرى الملازمة بينه وبين رأي الإمام عليه السلام، أو ممن يرى دخول الإمام في المجمعين، أو ممن يحدس رأي الإمام من الاتفاق أو الاخبار فالأمر سهل، فان الحكم تابع لما عليه المنقول إليه من رأيه في كل واحد منها، فان كان ممن يرى خطاء الناقل فيما استند إليه في نقل رأي الإمام عليه السلام فلا يستند إلى نقله، وان كان ممن يرى صوابه في نقله إياه يستند إليه ويتمسك به. هذا بالإضافة إلى حكاية المسبب، واما بالإضافة إلى حكاية السبب فلا شبهة في اعتبارها وحجيتها بالنسبة إلى الأقوال التي نقلت بنحو الجملة والإجمال فتكون بمنزلة المحصل، فان كان المنقول تمام السبب لاستكشاف رأي الإمام عليه السلام والقطع به فهو، والا ضم إليه مما حصله المنقول إليه من سائر الأقوال أو الأمارات التي حصلت له بمقدار كان المجموع من المحصل والمنقول تمام السبب للاستكشاف فيصير المجموع محصلا ويترتب عليه آثاره، وذلك لانه لا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه أو ماله دخل فيه وبه قوامه. [الصفحة 88]

[السائل، وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك مما له دخل في تعيين مرامه عليه السلام من كلامه. وينبغي التنبيه على أمور: الأول: إنه قد مر أن مبنى دعوى الإجماع غالبا، هو اعتقاد الملازمة عقلا، لقاعدة اللطف، وهي باطلة، أو اتفاقا بحدس رأيه عليه السلام من فتوى جماعة، وهي غالبا غير مسلمة، وأما كون المبنى العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى، فقليل جدا في]

        وبالجملة البحث في حجية الإجماع المنقول اما يكون من جهة المسبب اعني رأي الإمام عليه السلام، وأما من جهة السبب اعني اتفاق جماعة على كذا، اما الأول فلا بد في حجيته من إحراز ان الناقل أراد من الإجماع نقل قول الإمام قطعا أو بظهور لفظه في ذلك، والا فان احتمل في كلامه انه أراد من الإجماع ما اصطلح عليه كل ذي فن في فنه من اتفاق جماعة على أمر من الأمور يخرج عن درجة الاعتبار، كما انه يعتبر في حجيته تطرق احتمال كون المستند من الأمور الحسية كالاخبار الصادرة عن الأئمة الماضين عليهم السلام، أو اتفاق أصحابهم الذين أدركوا حضورهم سلام الله عليهم أجمعين، ومع عدم تطرق هذا الاحتمال وانحصار المستند في اتفاق غير أصحاب الأئمة عليهم السلام يسقط عن درجة الاعتبار أيضا كما بيناه مفصلا، واما الثاني فلا بد، في تعيين ان الاتفاق المنقول هل هو تمام السبب أو جزئه، من ملاحظة ظهور الألفاظ الحاكية عن الإجماع، وملاحظة اختلاف المقام أي مقام ذكر الإجماع، مثل مقام الاستدلال، ومقام بيان الخلاف والوفاق في المسألة، وملاحظة الناقلين، فانه ربما يكون الاتفاق الذي يكون منقولا من بعضهم، كالشيخ الطوسي والمتقدمين عليه، تمام السبب، فإنهم إنما ينقلون اتفاق أصحاب الأئمة عليهم السلام ومن كان في قرب عصرهم، ومن [الصفحة 89]

[الإجماعات المتداولة في السنة الأصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتفق العلم بدخوله عليه السلام على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل تشرف بعض الأوحدي بخدمته ومعرفته أحيانا، فلا يكاد يجدي نقل الإجماع إلا من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه، بما اكتنف به من حال أو مقال، ويعامل معه معاملة المحصل.

الثاني: إنه لا يخفى أن الإجماعات المنقولة، إذا تعارض إثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلا بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض في البين، لاحتمال صدق الكل، لكن نقل الفتاوى على الإجمال بلفظ الإجماع]

المعلوم ان اتفاق مثلهم يكون كاشفا عن رأي رئيسهم قطعا، ولا بد أيضا من ملاحظة اختلاف الكتب وزمان تدوينها، فانه ربما يكون كتاب ممحضا لذكر المسائل والدليل الدال عليها من غير نظر إلى خلاف مخالف في المسألة، وربما يكون تصنيف كتاب لأجل ذكر المسائل الخلافية والوفاقية، فان ذكر الإجماع في الأول يكون تمام السبب، وفي الثاني إنما يكون لمجرد بيان الوفاق والخلاف، وربما يختلف ذكر الإجماع في كتاب دون في أوائل التحصيل مع الكتاب الذي دون في أواخره، فان التتبع في الكتاب والأقوال يختلف بالإضافة إليهما، فالمتبع هو ما يستظهره من لفظ الإجماع بملاحظة جميع هذه الخصوصيات، وعلى تقدير الإجمال وعدم الاستظهار المتبع هو الاقتصار على الأقل كما لا يخفى من تأمل.

        قوله: الثاني انه لا يخفى ان الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر.. الخ

        اعلم انه قد يتعارض الإجماع المنقول بحسب المسبب، وقد يكون بحسب السبب فيما إذا نقل ناقل اتفاق جميع الفقهاء في جميع الأعصار المتقدمة على أمر، ونقل آخر اتفاقهم كذلك على خلاف ذلك الأمر، فهذان النقلان [الصفحة 90]

[حينئذ، لا يصلح لان يكون سببا، ولا جزء سبب، لثبوت الخلاف فيها، إلا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه عليه السلام لو اطلع عليها، ولو مع اطلاعه على الخلاف، وهو وإن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلا ببعيد، إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا مجملا بعيد، فافهم. الثالث: إنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأنه من حيث المسبب لا بد في اعتباره من كون الاخبار به إخبارا على الإجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به، ومن حيث السبب يثبت به كل مقدار كان اخباره بالتواتر دالا عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل، فربما لا يكون إلا دون حد]

يتعارضان لعدم إمكان صدقهما معا، فلا وجه لما ذكره المصنف قدس سره بنحو الإطلاق من عدم التعارض بحسب الأسباب لاحتمال صدقهما. ولا يخفى ان علاج التعارض بينهما، لما لم يكن المنقول من مقولة اللفظ، منحصر بالمرجحات، ولا طريق في مقام العلاج إلى الجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر، أو على النص مثلا، لعدم لفظ يكون قابلا لذلك، فافهم وتأمل.

        قوله: الثالث انه ينقدح مما ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر...

        اعلم ان التواتر في اصطلاحهم عبارة عن اخبار جماعة بشيء يمتنع تواطؤهم على الكذب بحيث يفيد بنفسه العلم بصدقه، وان ذاك الشيء المخبر به متحقق وواقع، ولا يخفى ان تقيد التواتر بكونه مفيدا للعلم في تعريفه لا يكون باعتبار ان هذه الصفة مأخوذة في مفهوم التواتر وتحققه، بل باعتبار انها معرفة له تعريف الشيء بخاصته، ولا يخفى أيضا ان المقصود بإفادته العلم كونه مفيدا للعلم نوعا وان كان قد يتفق لبعض بحسب بعض الاعتبارات عدم حصول العلم له من ذلك. [الصفحة 91]

[التواتر، فلابد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الاخبار، يبلغ المجموع ذاك الحد. نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو عند المخبر - لوجب ترتيبه عليه، ولو لم يدل على ما بحد التواتر من المقدار.]

        إذا عرفت ذلك فاعلم ان التواتر المنقول حجة بلا كلام، وذلك مطلقا بالإضافة إلى السبب والمسبب، اما بالنسبة إلى السبب فواضح لان الاخبار به مستند إلى الحس، فيكون مشمولا لأدلة حجية الخبر، واما بالإضافة إلى المسبب فلأنه مستند إلى الحس أيضا لا إلى الحدس، لان الناقل استند في نقله رأي الإمام إلى أمر محسوس يكون مستلزما وموجبا للعلم برأيه نوعا، وان كان قد يتفق عدم العلم به منه، وذلك لا يضر بشيء بعد كون المخبر به مستندا إلى ما يوجب العلم نوعا. هذا بناء على ما أفاده السيد الأستاذ، وهو خلاف ما ذهب إليه المصنف قدس سره، فانه اشترط في اعتبار نقل التواتر بالإضافة إلى المسبب ان يكون التواتر الذي اخبر به بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما اخبر به من رأي الإمام عليه السلام لو اطلع بالمتواتر مفصلا، وذلك منه قدس سره مبني على ان التواتر المصطلح عبارة عن اخبار جماعة يوجب قطع كل احد بما اخبروا به، بحيث لو اتفق عدم إيجابه العلم لواحد لا يكون متواترا أصلا. وبعبارة أخرى مبنى كلامه زيد في علو مقامه على اخذ الصفة الكذائية (كون التواتر موجبا للقطع) في مفهوم التواتر، وعليه فإذا انفك التواتر عن هذه الصفة ولو اتفاقا، يخرج عن كونه متواترا، فإذا اخبر به ناقل ولم يكن بمقدار يوجب علم المنقول إليه لم يكن اخباره به حجة وان كان موجبا لعلم الناقل، وذلك لان الاخبار الكذائي بنظر المنقول إليه يكون اخبارا عن الحدس.

 

 

السيد البروجردي. تقريرات في أصول الفقه

الإجماع المنقول بخبر الواحد

- تقريرات في أصول الفقه- تقرير بحث السيد البروجردي للشيخ علي الاشتهاردي  ص 280 : ([5])

        ويتفرع على حجية الخبر حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد، وقد جعله مستندا جمع من الفقهاء، ولا سيما متأخري المتأخرين كصاحب الرياض وغيره، بل وقبلهم كالعلامة، فإنه استدل على نجاسة العصير العنبي بالإجماع الذي ادعاه الشيخ في الخلاف. وكيف كان، فقبل الورود في بيان حجيته وعدمها لا بد من بيان معنى الإجماع المحقق ووجه حجيته وعدمها، فنقول بعون الله تعالى:

إن الإجماع يطلق على معنيين:

        (أحدهما) العزم كقوله صلى الله عليه وآله: “لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل”([6]) أي لم يعزمه.

        (الثاني) الاتفاق، وهذا يطلق على وجهين:

        أحدهما: ما هو عند العامة الذين هم أسسوا بنيانه وفرعوا عليه كثيرا من المسائل الفقهية، وهو اتفاق أهل الحل والعقد من الأمة في عصر واحد على أمر من الأمور الشرعية.

[الصفحة 281]

        ثانيهما: أعم من هذا، وهو اتفاق أهل كل فن على أمر متعلق بذلك الأمر، كاتفاق النحوي مثلا على مسألة نحوية، والصرفي على الصرفية، وأمثال ذلك، ولا يختص بكون المتفقين من أهل عصر واحد بل المراد من قولهم مثلا: اتفق النحويون على كذا أن كل من كان من أهل هذا الفن سواء كان حيا أم ميتا، ذهب إليه.

        وبهذا المعنى يطلق أكثر الاتفاقات المدعاة في كلمات فقهائنا كقول العلامة مثلا اتفق علماؤنا أو فقهائنا على كذا، وكذا قول الشيخ رحمه الله مثلا في الخلاف: لا خلاف بين المسلمين في كذا، وغيرهما.

وكيف كان، فقد استدل العامة على حجيته بأمور:

        (الأول) الحديث المعروف عندهم الذي هو العمدة في أدلتهم -وإن كان قد أيدهم بعض منهم بعد نقل الحديث منه- والاستدلال به بآيات سنشير إليها إن شاء الله تعالى: “لا تجتمع أمتي على الضلالة” أو (على ضلالة) أو (على الخطأ)([7]) على اختلاف النقل أو “وما كان الله ليجمع أمتي على الضلالة”([8]).

        وقالوا: إن لفظ (الأمة) وإن كانت عامة إلا أنه معلوم من القرائن الخارجية أن المراد من كان لرأيه دخل في الاستنباط، وهو من كان من أهل الحل والعقد.

        وأما وجه التخصيص بالعصر الواحد فهو أنه وإن كان يتصور عقلا أن يكون المراد من الأمة جميعها من أول الإسلام إلى انقضاء زمن التكليف إلا أنه حينئذ كلام لا فائدة فيه، فيصير قبيحا، فيستحيل صدوره من الحكيم لذلك، فليس ذلك بمراد قطعا.

        فإما أن يكون المراد اتفاقهم في جميع الأعصار إلى عصر المدعي أو العصر [الصفحة 282] الواحد، وحمله على الأول يوجب إدخال ما ليس له دخل في تحقق المجمع عليه، لان السابقين قد ماتوا، فلا رأي لهم كي يتفقهوا أو يختلفوا، فتعين الثاني.

        وتوضيح هذا الكلام على تقدير صدوره من النبي صلى الله عليه وآله على وجه يعرف منشأ الوجهين، هو أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وآله مثلا: “لا تجتمع أمتي... الخ” هل يكون المراد من الاجتماع هو الاجتماع في الوجود ولو كان في أزمنة مختلفة أو يكون المراد هو الاجتماع في الزمان؟ وجهان:

        من ظهور لفظة (أمتي) في العموم الشامل لجميع الأزمان. ومن ظهور لفظة (الاجتماع) الذي هو في مقابل الاختلاف في الاجتماع الفعلي لا الوجودي، ولا يبعد كون الثاني أظهر. وقد أورد الامامية عليهم بوجوه:

        الأول: عدم معلومية صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله، وعدم كون رواة هذا الحديث محرزي الوثاقة حتى يصير حجة شرعية، وقد يرد هذا بعدم اختصاص نقله بالعامة، بل استدل به في بعض الاخبار الواردة عن الأئمة عليهم السلام.

        ففي الاحتجاج: ومما أجاب أبو الحسن علي بن محمد العسكري÷ في رسالته إلى الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أن قال: اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون، لقول النبي صلى الله عليه وآله: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”، فأخبر عليه السلام أن ما اجتمعت عليه الأمة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق، فهذا معنى الحديث، لا ما تأوله المعاندون من إبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة والأحاديث المزخرفة واتباع الأهواء المريبة المهلكة التي تخالف نص الكتاب وتحقيق الآيات الواضحات النيرات، ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصواب ويهدينا [الصفحة 283] إلى الرشاد... الحديث([9]).

        وكتاب الاحتجاج لأحمد بن أبي طالب الطبرسي([10]) غير الطبرسي المعروف صاحب (مجمع البيان)([11]) وكان من علماء الامامية قد جمع فيه احتجاجات الأئمة عليهم السلام على المخالفين وأغلب رواياته وإن كانت مرسلة إلا أنه قال في أوله: ولا نأتي في أكثر ما نورده من الاخبار باسناد، إما لوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلت عليه العقول أو الاشتهار في السير والكتب بين المخالف والمؤالف إلا ما أوردته عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري‘ فإنه ليس في الاشتهار على حد ما سواه... الخ. دل الخبر المذكور على كون الخبر المشهور صادرا عن النبي صلى الله عليه وآله.

        وفيه: أنه يمكن أن يكون عليه السلام قد أجاب في مقام المعارضة بذلك، وإلا فليس لإثبات حقية القرآن بالتمسك بإجماع المسلمين الذي هو حجة بدليل قول النبي صلى الله عليه وآله: “لا تجتمع... الخ”، لان ثبوت حقية القرآن في عرض ثبوت حقية نبوة النبي صلى الله عليه وآله وليست أظهر كي يتمسك بها عليها، كما لا يخفى.

        ويشهد لما ذكرنا أن الإمام عليه السلام كتب هذا الجواب لأهل الأهواز الذين كانوا شيعة له عليه السلام، وكانوا معتقدين للقرآن من غير حاجة إلى إثباته بإجماع الأمة، فيعلم من هذا أن مراده عليه السلام تعليم الشيعة للمناظرة مع المخالفين بالطرق التي يعتقدونها، فتأمل.

        الثاني -مما أورده الامامية على المخالفين في استدلالهم بالحديث النبوي-: عدم دلالته على حجية الإجماع بما هو إجماع، لم لا يكون باعتبار اشتماله على [الصفحة 284] قول إمام معصوم عليه السلام؟ فنحن مشتركون معهم في القول بالحجية مفترقون عنهم من حيث ملاك الحجية.

        الثالث: عدم دلالته على ما ادعوه من حجية إجماع أهل العصر الواحد من أهل الحل والعقد، فالدليل أخص من المدعى.

        ثم اعترضوا على قولهم بعدم الحجية بأنه لم تقولون أن الإجماع حجة؟ بل لازم ما ذكر -لو تم- كون قول الإمام عليه السلام حجة فضم غيره إليه كضم الحجر بجنب الإنسان لا دخل له في الحجية وأجابوا بأنا لم نكن مبتدئين في هذه المسألة، بل كنا تابعين في الورود في أصل هذه المسألة، بل في مطلق المسائل الأصولية، فحيث إنهم عنونوا هذه وقالوا بأن الإجماع بما هو حجة أوردنا عليهم بأنه حجة، لكن بالاعتبار الذي ذكرناه.

        ولعل السر في ذلك هو أن قدماءنا من الفقهاء في مقام تدوينهم للفقه كانوا على طائفتين:

        (إحداهما) في مقام المنازعة والمشاجرة مع مخالفيهم من العامة وفي هذا المقام لا يمكنهم أن يستدلوا على المسألة الفقهية في صورة مخالفتهم معهم صريحا بقول الإمام عليه السلام مع فرض عدم كونه حجة عندهم بمقتضى مذهبهم.

        ولذا ترى السيدين كثيرا ما في الانتصار والناصريات والغنية في مقام الاستدلال يستدلان بالإجماع ويقولان: (دليلنا) الإجماع المتقدم أو المتكرر إليه الإشارة، ومرادهم هو الإجماع الذي أثبتاه في الأصول ولا يستدلان غالبا بالرواية الصادرة عن الأئمة عليهم السلام.

        (ثانيتهما) في مقام ترجيع قول الإمام عليه السلام كالعلامة في المختلف مثلا، والشيخ في النهاية وفي هذا المقام يستدلون بها.  فتحصل أن الإجماع الذي يدعون مرادهم، هو قول المعصوم عليه السلام.

[الصفحة 285]

        (الثاني)([12]) قوله تعالى: {مَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}([13]) أوعد الله تعالى النار على اتباع غير سبيل المؤمنين، والإجماع سبيلهم، فلا يجوز مخالفته.

        وفيه: أن ظاهره أن اتباع السبيل الذي يقتضيه الإيمان بما هو إيمان واجب كما يؤيده صدر الآية، فإن معناه من جعل نفسه شقا آخر واتبع غير سبيل المؤمنين فعليه كذا وكذا، فالوفاق معه صلى الله عليه وآله عبارة عن متابعة سبيلهم كما أن الخلاف معه صلى الله عليه وآله متابعة غير سبيلهم، فيكون اتباع غير سبيل المؤمنين عبارة أخرى عن المشاقة مع الرسول صلى الله عليه وآله، فلا تدل على اتباع ما لا يكون من مقتضيات الإيمان، بل هو أمر حادث اتفق عليه المؤمنون. وعلى تقدير الدلالة يرد عليه ما ورد على الدليل الأول من الجواب الثاني.

        (الثالث) قوله عزوجل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}([14]) الآية والخيرية تقتضي كون ما اتفقت عليه الأمة حقا. وفيه: أنه لا ربط لها بالمقام كما لا يخفى.

        (الرابع) قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}([15]).

        وفيه: أن الظاهر أن المراد من الوسطية هو الاعتدال، يعني جعلناكم معتدلا من بين سائر الأمم، ولا ربط لها بحجية ما اتفقت عليه. وغيرها من الاستدلالات بالآيات، ولكن الاستدلال بها أوهن من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.

        فالحق أن حجية الإجماع منحصرة بما إذا كان مشتملا على قول المعصوم أو [الصفحة 286] رأيه أو رضاه قطعا، وهو مذهب الامامية.

نعم، اختلفوا في طريق استكشافه([16]) على أقوال:

        الأول: قاعدة اللطف، وهي التي مستندة إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمة الله عليه.

        قال في عدة الأصول -في جواب السؤال عما إذا اختلفت الأمة كيف يستكشف ويعلم دخول الإمام عليه السلام- ما هذا لفظه: ومتى فرضنا أن يكون الحق في واحد من الأقوال ولم يكن هناك غير ذلك القول من غيره فلا يجوز للإمام المعصوم عليه السلام حينئذ الاستتار ووجب عليه أن يظهر ويبين الحق في تلك المسألة أو يعلم بعض ثقاته الذين يسكن إليهم الحق من تلك الأفعال حتى يؤدي ذلك إلى الأمة ويقترن بقوله علم معجز يدل على صدقه، لانه متى لم يكن كذلك لم يحسن التكليف، وقد علمنا ببقاء التكليف وعدم ظهوره، أو ظهور ما يجري دليل على أن ذلك لم يتفق -إلى أن قال- وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس الله روحه أخيرا أنه يجوز أن يكون الحق فيما عند الإمام والأقوال الأخر تكون كلها باطلة ولا يجب عليه الظهور -إلى أن قال- وهذا عندي غير صحيح، لانه يؤدي إلى أن لا يصح الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا، لانا لا نعلم دخول الإمام عليه السلام فيها الا بالاعتبار الذي بيناه، فمتى جوزنا انفراده بالقول ولا يجب ظهوره، منع ذلك بالإجماع. انتهى.

        قوله رحمه الله: “وهذا عندي غير صحيح... الخ” فيه: إنا لا نجد وجها لهذا الكلام، لعدم محذور في عدم صحة الاحتجاج بالإجماع، نعم، قاعدة اللطف ممنوعة.

        الثاني: ما ذهب إليه المتأخرون -وهو الحدس- بمعنى أنه يستحيل عادة كون فتوى جميع العلماء خطأ مع نهاية تتبعهم وغاية احتياطهم.

        وفيه: أن خطأ العلماء في أمر اتفقوا عليه ليس بمستحيل كما نشاهد في كثير [الصفحة 287] من المسائل العقلية التي اتفق قدماءهم عليها فانكشف خطأها.

        فالحق أن يقال: إن إجماع الفقهاء على وجهين:

        (أحدهما) اتفاقهم في المسائل التفريعية التي يكون للنظر والاجتهاد فيها دخل في إثباتها. وبعبارة أخرى: ما لا يكون دليلها منحصرا في السمع وبمثل هذا الاتفاق لا يكشف قول الإمام عليه السلام.

(ثانيهما) أن يكون طريقها منحصرا في السمع كمسألة العول مثلا بشرط أن يتصل إلى زمن المعصوم عليه السلام وكانت معروفة في جميع الطبقات، فإنا لو وجدنا مسألة العول في كتب علماء زمن الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله، وكذا من قبله مثل الشيخ المفيد رحمه الله، وكذا من قبله مثل الكليني عليه الرحمة الذي هو في زمن الغيبة الصغرى، ومن قبله مثل علي بن إبراهيم رحمه الله وأمثاله مثلا، نكشف أن ذلك كان صادرا عن الإمام عليه السلام قطعا. هذا كله في الإجماع المحقق.

        وأما الإجماع المنقول فظاهر فرائد الشيخ الأنصاري قدس سره بل صريحه ومن تأخر عنه عدم الحجية.

        ومحصل إشكاله قدس سره في شمول أدلة حجية خبر الواحد أنها لا تشمل إلا الاخبار عن حس أو عن حدس مستند إلى مبادي حسية مستلزمة عادة للأمر الحسي.

        وحيث إن استكشاف قول المعصوم عليه السلام لا يمكن لنا بالحس ولا للناقلين للإجماع عادة كالشيخين والسيدين، ولا بالحدس المذكور فلا يشمل الأدلة له.

        والسر في عدم الشمول هو أن الأدلة تجعل قول العادل حجة بملاحظة عدم تعمده في الكذب مع ضميمة أصالة عدم الاشتباه في الحس. وبعبارة أخرى: حجية قول المخبر يحتاج إلى أمرين:

(أحدهما) عدم تعمده على الكذب.

        (ثانيهما) عدم اشتباهه، فإذا فقدا أو فقد أحدهما فلا، ففي ما إذا كان المخبر عادلا وكان المخبر به أحد الأمرين المذكورين فقد تم أركان الحجية، وفي [الصفحة 288] الفاسق أو العادل الذي يخبر بأمر حدسي يختل الشرطان أو أحدهما.

        نعم، يثبت بإخباره نفس الأقوال التي هي محسوسة بالفرض، فان كان ناقله ممن قال باللطف، يلزم من ذلك حجيته بالنسبة إلى من قال ذلك، وإلا فعلى التقرير أو الحدس يستكشف رأي الإمام عليه السلام إما من الكاشف أو من نقل المنكشف الذي هو رأي الإمام عليه السلام في ضمن نقل الكاشف.

        وحيث إن قاعدة اللطف غير تامة فكل من كان من القائلين باللطف كالشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله ومن تبعه، فإجماعه ليس بحجة.

        وأما قاعدة الحدس فلما كان مقدمات العلم بقول الإمام عليه السلام غير مستندة إلى الأمور الحسية المستلزمة لكشف رأيه عليه السلام فلا يمكن أن يقال: إن نقل الإجماع من القائل بالحدس مطلقا حجة بل يختلف باختلاف الناقلين، هذا. لكن فيه مواقع للنظر:

        (الأول) أن استكشاف رأي الإمام عليه السلام لا ينحصر أن يكون من الإمام الغائب صلوات الله وسلامه عليه كي يكون إحراز قوله عليه السلام بالحس ممتنعا عادة، بل كما يمكن ذلك يمكن أيضا أن يكون قد استكشف رأيه عليه السلام بالنقل عن الأئمة السابقة على عصره.

        فرد إجماعات الشيخ رحمه الله استنادا إلى كونه مدعاة من جهة تسليم قاعدة اللطف الغير التامة ليس في محله، بل صرح الشيخ رحمه الله على خلاف ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى نقل عبارته بعينها.

        والحاصل: أن الكلام في أن إحراز قول الإمام عليه السلام هل يكون منحصرا في أمرين كما استظهره الشيخ الأنصاري رحمه الله من كلمات العلماء:

        (احدهما) كون الإمام عليه السلام داخلا في جملة المجمعين بحيث يكون قول الإمام عليه السلام وسائر الفقهاء في عرض واحد من دون تقدم لأحدهما على الآخر.

        (ثانيهما) كون قول الإمام عليه السلام منكشفا بأقوال السائرين بحيث يكون قوله عليه السلام متقدما في الخارج [الصفحة 289] بحسب الواقع ومتأخرا في الذهن؟ أم يكون هناك شق ثالث أيضا وهو إحراز قوله عليه السلام بالنقل بحيث كان الاعتماد في حكاية الإجماع على النقل كما صرح به الشيخ قدس سره في العدة؟ فإنه قال في فصل كيفية العلم بالإجماع ومن يعتبر قوله ما هذا لفظه:

        إذا كان المعتبر في باب كونه حجة -قول الإمام عليه السلام- فالطريق إلى معرفة قوله شيئان:

        (أحدهما) السماع منه عليه السلام والمشاهدة لقوله عليه السلام.

        (والثاني) النقل عنه بما يوجب العلم، فيعلم بذلك أيضا قوله عليه السلام([17]) (انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه).

        وهذا تصريح منه بأنه يمكن أن ينقل الإجماع ويكون المستند في نقل الإجماع إحراز دخول قوله عليه السلام فيه بالنقل، ولا تنحصر طريقة العلم بقوله عليه السلام من قاعدة اللطف كما أدعاه الشيخ الأنصاري قدس سره فتأمل.

        ولا دلالة فيما أجاب به عن السيد رحمه الله القائل بعدم اقتضاء اللطف وجوب إظهاره عليه السلام الحق بنفسه أو بنائبه، بأنه لو صح ذلك لما يمكن الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا.

        فإن كلامه([18]) فيما إذا أريد استفادة قول الإمام عليه السلام بإجماع الطائفة، لا أن إحراز قوله عليه السلام منحصر في اللطف.

        وبالجملة، فرق بين انحصار استفادة قوله عليه السلام في اللطف وبين انحصار استفادة قوله عليه السلام بإجماع الطائفة فيه، فالذي صرح به الشيخ الطوسي رحمه الله هو الأول دون الثاني، بل صرح بخلافه في مواضع من العدة، وقد عرفت بعضها فراجع العدة.

        إن قلت: ظاهر كلمات الشيخ والسيد أبي المكارم ابن زهرة كون الكلام [الصفحة 290] منحصرا في استكشاف رأي الإمام الغائب عليه السلام.

        قال السيد علم الهدى في الانتصار: وقد بينا صحة هذه الطريقة في مواضع من كتبنا وخاصة في جواب مسائل عبد الله بن النبال رحمه الله (إلى أن قال:) وحسمنا كل شبهة تعترض عليه وبينا كيف الطريق إلى العلم بأن قول الإمام المعصوم في جملة أقوال الامامية؟ وكيف السبيل إلى أن تعرف مذاهبه ونحن لا نميز شخصه وعينه في أحوال غيبته؟ وأسقطنا عجب من يقول: من لا أعرفه كيف أعرف مذهبه (انتهى).

        وقال السيد أبو المكارم ابن زهرة في الغنية -بعد بيان وجه الحجية وأنه لاشتماله على قول المعصوم عليه السلام- ما لفظه:

        إن قيل: كيف يمكنكم القطع على أن قول الإمام الغائب في جملة أقوال الامامية مع عدم تميزه ومعرفته ومع استتاره وغيبته؟

        قلنا: قد بينا فيما مضى أن الإمام عليه السلام موجود العين فينا وبين أظهرنا نلقاه ويلقانا وإن كنا لا نعرفه بعينه ولا نميزه من غيره، ومعنى قولنا أنه غائب، أنه مجهول العين غير متميز الشخص، لا نريد بذلك الغيبة أنه بحيث لا يرى شخصه ولا يسمع كلامه (انتهى).

        وأما الشيخ رحمه الله في العدة فكلماته في مسألة الإجماع مشحونة بذلك، وأظهر ما يبين ذلك المشاجرة الواقعة بينه وبين السيد رحمه الله بالنسبة إلى قاعدة اللطف، ومع ذلك كيف تقولون بعدم انحصار النزاع في استكشاف رأي الإمام الغائب عليه السلام؟

        قلت:([19]) قد ذكرنا الجواب عن ذلك من أن نزاعهم في قاعدة اللطف بعد فرض عدم إمكان الكشف إلا من الإجماع، وإلا فقد سمعت تصريح الشيخ بعدم الانحصار.

        فالحاصل: أن نقل الإجماع ليس منحصرا بصورة استكشاف رأي الإمام [الصفحة 291] الغائب عليه السلام.

        نعم لا ينحصر أيضا في مورد ورود الرواية عنهم عليهم السلام، ولذا ترى في مسائل الخلاف قد ادعى الإجماع على جواز نية الفرادى، وكذا العدول من الفرادى إلى الجماعة، وكذا جواز استخلاف إمام الجماعة إذا عرض له مانع يمنعه من إتمام صلاته، واستدل بهذه المسائل الثلاث بالإجماع والاخبار، وأشار إلى ذكر الاخبار في كتابه الكبير (التهذيب) مع أنه لم يذكر فيها إلا روايات الاستخلاف، واستنبط منها المسألتين الاخيرتين.

        والذي يدل على ما ذكرنا من ادعاء الإجماع في مورد النقل أيضا وجعله دليلا على المدعى إدعاء السيد المرتضى رحمه الله الإجماع في مسألة منع الزوجة في الإرث من الأرض في الجملة مع ورود الاخبار المتواترة من الأئمة عليهم السلام. وكذا في مسألة العول، بل من راجع الغنية لابن زهرة يقطع بما ذكرنا، فإنه قلما، كان في المسألة الفقهية لم يدع فيها الإجماع مع ورود الاخبار بذلك.

        (الثاني)([20]) على تقدير الانحصار، لا تنحصر كيفية استكشاف رأيه عليه السلام بأن يجمع طائفة من العلماء يكون أحدهما الإمام عليه السلام بنفسه وبشخصه، فيكون هذا النحو من الإجماع نادرا، بل يمكن أن يجمع جميع الفقهاء على قول يعلم بكون الإمام عليه السلام موافقا كما مثل به شيخ الطائفة عليه الرحمة في العدة بمسألة إرث الأخ والجدة، فإن فقهاء الإسلام على قولين:

        أحدهما اختصاصه بالأخ.

        ثانيهما اشتراكهما فيه، فيعلم أن اختصاص الجد به مجمع على خلافه، فيعلم أن الإمام عليه السلام لم يقل به.

        (الثالث) أن الناقل للإجماع لا ينقل شيئين: أحدهما رأي المعصوم المنكشف، ثانيهما إجماع العلماء الكاشف كي يقال: إنه حجة من حيث المنكشف أو الكاشف، بل ينقل شيئا واحدا، وهو اتفاقهم على كذا مثلا، فلا وجه لدوران الحجية بينهما.

[الصفحة 292]

        إن قلت: على ما ذكرت من مراد الناقلين للإجماع كالشيخ والسيدين رحمهم الله هو نقل قول الإمام عليه السلام فلا فائدة في الإجماع المنقول على كل حال، لانه إما أن يكون في مورد نقل الإجماع خبر عن المعصوم عليه السلام أم لا. فعلى الأول فاللازم النظر في دلالة الخبر، فإن دل فهو المتبع، وإلا فلا اعتبار له بعد احتمال أن يكون مدرك الناقل هذا الخبر الغير الدال على المدعى بالفرض. وعلى الثاني فلا حجية فيه أيضا، لان المفروض أن الناقل قد يدعي الإجماع مستندا إلى قاعدة اللطف الغير التامة فيكون مجملا فلا يكون حجة.

        قلت: (أولا) قد ذكرنا أن طريقة الشيخ لا تنحصر في قاعدة اللطف لا أنها منحصرة في غير اللطف.

        (وثانيا) لا مانع من تكثير الأدلة على تقدير وجود الخبر، وعلى تقدير عدمه أو عدم دلالته لا نسلم عدم حجيته بعد احتمال كون مدرك الناقل غير هذا الخبر أو غير اللطف من المبادي الحسية احتمالا قريبا بالنسبة إلى القدماء، ولا سيما من مثل الشيخ الذي كانت الجوامع الأولية المدونة في عصر علي بن موسى الرضا‘ موجودة عنده، ولا يلزم إحراز عدم استناده إلى الحدس، بل يكفي عدم إحراز استناده إليه في الحكم باستناده إلى الحس كما في قول المخبر زيد عادل، فإن بناء العقلاء العمل بمقتضاه وإن كان يحتمل استناد المخبر في إحراز المخبر به إلى الحدس، فتأمل جيدا.

(وثالثا) إحراز رأي المعصوم عليه السلام بقاعدة اللطف في مقابل إحرازه بالنقل نادر بحيث يلحق بالمعدوم، فلا يحمل عليه عند عدم القرينة، بل يحمل على الافراد الغالبة. إن قلت: لا وجه حينئذ لادعاء الإجماع بل يكفي أن يقول: دليلنا قول الإمام عليه السلام. قلت: قد ذكرنا أنه في مقابل العامة القائلين بحجيته بنفسه.

[لصفحة 293]

        إن قلت: لا وجه حينئذ للتقييد بقولهم (المحقة) بعد عدم كون أقوالهم حجة عند العامة. قلت: قد يتخيل أن المقصود من الإجماع إلزام العامة، وليس كذلك، بل المقصود بيان أن لنا في الفقه مدركا لدفع تعبيرهم للإمامية بعدم المدرك لفقههم، فأخذت الامامية في أصول مذهبهم في إثبات أن الإمام كما أن له سلطنة كذلك له بيان الاحكام، فالمقصود والغرض من ادعاء الإجماع بيان المدرك لقولهم، غاية الأمر بتعبير يكون عند العامة حجة أيضا وهو الإجماع. إن قلت: إن قولهم (دليلنا إجماع الفرقة المحقة) لا يثبت إلا إجماع خصوص هذه الطائفة، والمفروض أن الإجماع الذي هو حجة عند العامة هو إجماع المسلمين لا إجماع الخاصة فقط.

        قلت: المقصود من هذا التعبير هو التمسك بأصل الإجماع لا به مع خصوصياته، فإنهم أيضا قد اختلفوا بين قائل بحجية إجماع الصحابة فقط وقائل بحجية إجماع أهل المدينة وقائل بحجية قول أهل الحل والعقد مطلقا، فلا مانع حينئذ للإمامية بادعاء حجية إجماعهم فقط. إن قلت: على ما ذكرت من كون المقصود من الإجماع نقل الرواية فلا وجه لنقل الرواية أيضا بعد دعوى الإجماع في كثير من المسائل الفقهية، مع أنه كثيرا ما يدعى الإجماع وينقل الرواية أيضا كما فعله السيد علم الهدى في الناصريات والشيخ أبو جعفر الطوسي في الخلاف. قلت: يمكن أن يكون الوجه في ذلك بيان مأخذ دعوى الإجماع من الناقل للمنقول إليه. إن قلت: إذا كان المقصود من الإجماع نقل قول الإمام عليه السلام فلا حاجة إلى أن يضيف المدعي جملة (وأخبارهم) مع أن الشيخ عليه الرحمة كثيرا ما يقول: دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، فراجع كتاب الخلاف.

[الصفحة 294]

        قلت: يمكن أن يكون المراد من قوله: (وأخبارهم) هي الاخبار النبوية، فكأن الناقل قد أقام على المسألة دليلين: أحدهما نقل قول المعصوم عليه السلام، ثانيهما الاخبار النبوية، غاية الأمر بطريقهم لا بطريق العامة، كما يرشد إليه الخبر الدال على سؤال بعض الأصحاب عن أبي عبد الله عليه السلام بيان أسانيد أخباره وجوابه عليه السلام بأني كلما رويت فقد رويته عن أبى عن أبيه عن أبيه عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله([21]).

        هذا كله في الإجماع المنقول بخبر الواحد.

        وأما الإجماع المنقول بالخبر المتواتر، فإن كان مراد ناقله أنه أخبر على كذا X، مثلا جماعة كثيرة يوجب قولهم العلم لكل واحد وكان الأمر واقعا كذلك فهو حجة لانه ينقل ما يوجب العلم، وإلا فلا وإن كان الناقل ينقل بنظره ما هو موجب للعلم. ومن هنا يعلم أن قول الشيخ الأنصاري قدس سره في الفرائد: ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلام في المتواتر المنقول (انتهى) محل نظر للفرق بين المقامين، فإن الناقل للإجماع ينقل ما يكون بالحمل الشايع الصناعي موجبا للعلم إما مطلقا أو بنظر الناقل لا بعنوانه، بخلاف الناقل للتواتر فإنه ينقل ما يكون موجبا للعلم بعنوان أنه موجب للعلم، والله العالم.

        قال الشيخ قدس سره: ومن جملة الظنون التي توهم حجيتها بالخصوص الشهرة في الفتوى الحاصلة بفتوى جل الفقهاء المعروفين (إلى أن قال:) وفي المقبولة -بعد فرض السائل تساوي الروايتين في العدالة- قال عليه السلام: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه... الخ([22]).

        اعلم أن في الرواية جهات من البحث:

[الصفحة 295]

        (الجهة الأولى) هل المراد من التنازع هو التنازع في الموضوع أو الحكم؟

        (الجهة الثانية) هل المراد من حجية الشهرة هي الشهرة رواية أو فتوى؟

        (الجهة الثالثة) على التقدير الثاني هل تدل على حجية الشهرة أيضا أم لا؟ أما الجهة الأولى فالظاهر من الرواية هو التنازع في الحكم ويؤيده أمور.

        الأول: إرجاع الإمام عليه السلام السائل إلى الأفقه إذا تعارض حكم الفقيهين، وهو يناسب الشبهة في الحكم.

        الثاني: إرجاعه عليه السلام إلى مستند حكم الفقيهين إذا تساويا في الصفات الراجعة إلى القاضي، وهو أيضا يناسب الحكم دون الموضوع.

        الثالث: سؤال الراوي: (أيحل ذلك له؟) والسؤال عن الحل ظاهر في الحكم.

        وأما الجهة الثانية فقد يقال: إن ما هو المرجح لإحدى الروايتين على الأخرى هو الشهرة من حيث الرواية لا الفتوى، لان السؤال عن اختلاف الحكمين من حيث الرواية فأجاب عليه السلام بأخذ المجمع عليه مثلا معللا بأنه لا ريب فيه. لكن الأظهر هو إرادة الشهرة الفتوائية لأمرين:

        (أحدهما) كون السؤال كما مر في الحكم بمعنى أن حكم أحدهما منشأ لفعل الخصومة فأمر عليه السلام أولا بما حكم به أعدلهما وأوثقهما... الخ.

        (ثانيهما) تعليله عليه السلام بأن المجمع عليه لا ريب فيه.

        ولا شبهة في أن المتصف بكونه لا ريب فيه ليس هو خصوص اللفظ فقط، بل هو مع المعنى.

والظاهر عدم خصوصية ضم اللفظ، فيصير المعنى أن المطلب الذي هو مشهور بين أصحابك بمعنى أنه لو سئل هذا الحكم من أي أحد؟ يجيب بجواب واحد مثل مسألة عدم تنصيف المهر فيما إذا مات أحد الزوجين قبل الدخول، فيؤخذ به ويترك الذي لا يفتي على خلاف المشهور إلا النادر.

[الصفحة 296]

        وليس المراد اتفاق الكل بحيث لا يشذ منها أحد كي لا يتصور في طرفي المسألة، بل المراد وضوح الحكم بحيث لا يكون نادرا ويعرفه عدة من الأصحاب المفتين.

        فقول الراوي: “إنهما معا مشهوران” في المرفوعة([23]) وقوله: “يا سيدي كلاهما مشهوران” في المقبولة([24]) لا ينافي ما قلناه.

        إن قلت: ظاهر تعليله عليه السلام بأن المجمع عليه لا ريب فيه مع قوله عليه السلام: “ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور” بمنزلة قوله: (إنهما معا لا ريب فيهما) مع أنه غير ممكن في الفتوى بخلاف الروايتين، فإنه يمكن أن لا يكون ريب في صدورهما.

        قلت: الشهرة مقتضية لكونها لا ريب فيها لا علة تامة، ومن الممكن كون الشهرة الأخرى في قبالها مانعة لاتصافها بذلك. وبعبارة أخرى: كل واحد منهما مانع عن اتصاف الأخرى بعدم الريب.

والحاصل: أنه لا يقال للرواية -بمجردها من دون كون مضمونها مفتى به- إنها مما لا ريب فيها، بل عدم الفتوى موجب لكونها ذات ريب. ومن هنا اشتهر أن الرواية كلما ازدادت صحة ازدادت ضعفا وريبا إذا أعرض عنها الأصحاب، وكلما ازدادت ضعفا زادت قوة إذا عمل بها الأصحاب كما في المسألة المشار إليها.

        فالروايات الكثيرة المعرض عنها التي تبلغ عشرين رواية -في مسألة عدم تنصيف المهر إذا مات أحد الزوجين- والتي تدل على عدمه ليس إلا رواية واحدة ومع ذلك تكون الثانية مفتى بها عند الأصحاب.

        إن قلت: قوله في مرفوعة زرارة: “يأتي عنكم الخبران المتعارضان” يدل [الصفحة 297] ظاهرا على أن محل السؤال هو الخبر الذي يكون حجة مع قطع النظر عن المعارضة، وما ذكر في المثال لا يكون مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد.

        قلت: قوله عليه السلام: “خذ بما اشتهر بين أصحابك... الخ”([25])، لعله إشارة إلى ارتكاز العقلاء في تقديمهم المشهور على الشاذ من غير فرق بين أن يكون على وجه الترجيح أو التعيين.

        وأما الجهة الثالثة -وهي كون الشهرة حجة مطلقة- فيحتاج إلى إلغاء خصوصيتين: أحدهما كونها متعارضة، ثانيتهما كونها مضمون خبر.

        فالأولى لا شك في إلغائها، لان الشهرة لو كانت متعارضة كانت واجبة الأخذ ففي صورة عدم المعارضة بطريق أولى.

        وأما الثانية ففي إلغائها وعدمه وجهان، أظهرهما عدمه، فلا يمكن الحكم بحجية كل شهرة استنادا إلى هذا الخبر إما بجعل اللام للجنس أو إلغاء الخصوصية. نعم، يمكن الحكم بحجية قسم منها بملاك آخر غير الاستناد إلى الخبر.

        توضيحه: أن المسائل الفقهية -كما يظهر لمن تتبع وتأمل تأملا تاما دقيقا- على أقسام ثلاثة:

        الأول: الأصول المتلقاة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام، بحيث عبر فيها بعين ما نقل عنهم عليهم السلام بلا زيادة ونقصان.

        الثاني: المسائل التوضيحية، بمعنى أن ما صدر عنهم عليهم السلام كان مجملا، فيحتاج إلى توضيح معناه وبيان موضوعه.

        الثالث: المسائل التفريعية، بمعنى أن المستنبط -بعد بيان موضوعه- يفرع على ما صدر عنهم عليهم السلام أمورا وفروعا مستفادة من كلامهم عليهم السلام. ولا يبعد أن يكون القسم الأول حجة، لعدم دخالة الاجتهاد فيها أصلا لا توضيحا ولا تفريعا كما في القسمين الأخيرين كذلك، ولا أقل من عدم الجرأة [الصفحة 298] على مخالفته.

        هذا، ولكن تشخيص هذه الأقسام الثلاثة وتمييز بعضها عن بعض يحتاج إلى تتبع تام وتأمل دقيق، فلا يحكم بمجرد وجود شهرة بصدورها عنهم عليهم السلام، ولا يحكم أيضا بكونها من أحد القسمين الأخيرين، فافهم واغتنم، والله العالم.

فائدة:

        بناء على عدم إلغاء خصوصية الخبرية يستقيم دليل ما اشتهر بينهم خصوصا بين المتأخرين منهم، بل استقر بينهم من أن الشهرة جابرة لضعف السند مطلقا وإن كانوا لم يستندوا في ذلك إلى تلك الرواية فإنه يصير معناها حينئذ أن المشهور المطابق للخبر لا ريب فيه، وهذا لا فرق فيه بين الاستناد وعدمه.


 

([1]) النسخة المعتمدة:  نشر مؤسسة أنصاريان- قم- 1412. هوامش هذا الكتاب نقلا عن المصدر.

([2]) سورة يوسف: 16.

([3]) سورة النساء: 115.

([4]) رغم اشتهار هذا الحديث عند المتأخرين ونقلهم في كتبهم الكلامية والأصولية، ولكنا لم نجد فيما توصلنا إليه من كتب: الاخبار والصحاح إلا مضامينين: " إن أمتي... أو أمة محمد لا تجتمع على ضلالة "، " لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة " راجع: سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، ومستدرك الحاكم، والجامع الصغير للسيوطي، وأصول السرخسى وغيرها لكن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

([5]) النسخة المعتمدة: نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين- قم- 1417. هوامش هذا الكتاب نقلا عن المصدر.

([6]) عوالي اللآلي ج 3 ص 132 طبع مطبعة سيد الشهداء - قم.

([7]) راجع عدة الأصول لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي: ج 2 ص 74 طبع النجف الأشرف.

([8]) نفس المصدر.

([9]) الاحتجاج: ص 450 مطبعة سعيد مشهد المقدسة.

([10]) ولم تحدد لنا المصادر سنة ولادته كما لم تحدد لنا سنة وفاته (الاحتجاج: ج 1 المقدمة بقلم السيد محمد الخرسان).

([11]) المتوفى عام 548 ه‍ بسبزوار وحمل نعشه إلى المشهد الرضوي سلام الله على مشرفه.

([12]) عطف على قوله مد ظله في ص 281: " الأول: الحديث المعروف... الخ ".

([13]) النساء: 115.

([14]) آل عمران: 110.

([15]) البقرة: 143.

([16]) يعني بعد استحالة دخوله عليه السلام بعينه في جملة المجمعين.

([17]) عدة الأصول: فصل في كيفية العلم بالإجماع ص 75.

([18]) بيان لقوله مد ظله: (ولا دلالة في... الخ).

([19]) جواب لقوله مد ظله: "إن قلت ظاهر كلمات... الخ".

([20]) عطف على قوله مد ظله: "وفيه مواقع للنظر: الأول... الخ".

([21]) الوسائل: ج 18 ص 58 باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 26.

([22]) الوسائل: ج 18 ص 75 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1.

([23]) عوالي اللآلي: ج 4 ص 133 طبع مطبعة سيد الشهداء - قم.

([24]) الوسائل: ج 18 ص 75 باب 9 من أبواب صفات القاضي قطعة من ح 1.

([25]) عولي اللآلي: ج 4 ص 133 ح 229 طبع مطبعة سيد الشهداء - قم.