موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع

 

 

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

 

المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع

 

 

السيد مصطفى الخميني. تحريرات في الأصول

في حجية الإجماع المنقول

- تحريرات في الأصول- السيد مصطفى الخميني ج 6  ص 355: ([1])

        تمهيد وقبل الخوض في مهمة البحث، لابد من الإشارة إلى جهات:

الجهة الأولى: في تعريف الإجماع

        قد عرف الإجماع بتعاريف، فعن الغزالي: “أنه اتفاق الأمة الإسلامية”([2]). وعن الفخر: “أنه اتفاق أهل الحل والعقد”([3]). وعن الحاجبي: “أنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة”([4]).

        وربما يقال: إن المتأخرين حيث رأوا أن الإجماع بالتفسير الأول، غير حاصل على أمر الخلافة، ارتكبوا الفساد، وفسروه بما ينطبق على مرادهم([5]).

        وأنت خبير: بأن الإجماع من المفاهيم العرفية، والذي هو مفهومه التدقيقي المأخوذ من حديث مشهور عنه صلى الله عليه وآله هو اجتماع الأمة، ولا يضر بهذا المفهوم خروج الفرد النادر الشاذ.

[الصفحة 356]

        ويؤيده ما في أخبارنا، ففي مقبولة عمر بن حنظلة: “خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، فإن المجمع عليه لا ريب فيه”([6]) فإن منه يستفاد أن الاتفاق، لا يتضرر بخروج النادر الشاذ، فيكون المفهوم المسامحي منه ذلك، أو هو مفهومه التدقيقي أيضا عرفا.

        وأما قضية الخلافة، فما هو مورد اتفاق الأمة الإسلامية، هي خلافة أمير المؤمنين عليه السلام وإنما الاختلاف في خصوصياتها، وهي الأولية، والرابعية، وأما الثلاثة الباقون فخلافتهم خلافية، فأصل الخلافة ثابت له عليه السلام دون غيره، فاغتنم.

        وأما تعريف الإجماع بالوجه الأحسن، فهو موقوف على ميزان حجيته، فإنه ربما يختلف ذلك باختلاف رأيهم في المسألة الآتية، ضرورة أن القائل بحجية الإجماع من باب القطع، ربما يحصل له القطع من العدة القليلين، والقائل: بأن ميزان الحجية هي الملازمة العقلية، يعتبر الاتفاق بمعناه التدقيقي، وربما يضر خروج مجهول النسب عنه ولو كان واحدا، فلو أخبر أحد من المجمعين بذهاب شخص مجهول عنده إلى الخلاف، فهو يضر بالإجماع الحدسي والدخولي، بل واللطفي، مع أنه قد حصل الاتفاق الكلي من المعلوم نسبهم، فلو كان الإجماع هو الاتفاق المفيد للقطع، فلا يكون الاتفاق المزبور منه، كما لا يخفى.

        ومن هنا يظهر ما في كلام جمع من الأصحاب رحمهم الله الخائضين في هذه المرحلة من البحث، والأمر سهل.

الجهة الثانية: في عدم تفرع هذه المسألة على حجية خبر الواحد

[الصفحة 357]

        يظهر من جماعة منهم: أن هذه المسألة من متفرعات حجية الخبر الواحد، فكان ينبغي تأخيرها عنها([7]).

        وفيه: أن في مسألة حجية خبر الواحد، يكون البحث أولا حول أخبار الثقة في الأحكام ولو كان غير إمامي أو كافرا مثلا، ولا خلاف هناك إلا في الخبر غير المقرون بالأمارات والقرائن الخاصة.

        وأما فيما نحن فيه فناقل الإجماع أولا ينقل الموضوع، وحديث نقل السنة اشتباه، لاختلاف الآراء في وجه حجية الإجماع، فإن من الآراء أنه حجة، لكونه كاشفا عن الرأي وفتوى الإمام، لا السنة والرواية، وبينهما -كما يأتي- فرق.

        فبالجملة: ما هو مصب النزاع كما سيظهر، هو أن نقل الإجماع والاتفاق الحسي الذي هو موضوع من الموضوعات، يكون حجة، لأجل كونه موضوعا، أو سببا وكاشفا، أو ملازما لدخوله عليه السلام بشخصه عقلا، أو عادة وعرفا، أو غير ذلك، أم لا؟ كما أن الوجدان حاكم بأن ناقل الإجماع، لا يحكي إلا ذلك.

        هذا مع أن نقل أحد الفقهاء مشحون بالقرينة، ويكون مفروغا منه في تلك المسألة.

        وعلى كل تقدير ربما يكون نقل الإجماع متواترا، ولكنه ليس بحجة، فلا تكون هذه المسألة من متفرعات المسألة الآتية، فلا تخلط، والأمر سهل.

الجهة الثالثة: في توقف هذه المسألة على معرفة الإجماع المحصل

[الصفحة 358]

        المراد من (الإجماع المنقول) هو نقل الإجماع المحصل، فيكون على هذا الإجماع المحصل، هو الإجماع بالحمل الشائع، والإجماع المنقول هو الإجماع بالحمل الأولي، كما هو كذلك في المسائل الشرعية التي يتمسك فيها بالإجماع، وبالاتفاق، وبمفاهيم (لا خلاف، ولا يعرف فيها الخلاف) وغير ذلك، فالمنقول من الإجماع ليس أمرا وراء نقل الإجماع المحصل، فعليه لابد من النظر في الإجماع المحصل، حتى يتبين حال هذه المسألة.

الجهة الرابعة: في وجه حجية الإجماع المحصل

        فإن كان له وجه تصل نوبة البحث إلى حجية المنقول، وإلا فهو ساقط.

        وبالجملة: ذهب جماعة([8]) ورئيسهم السيد المرتضى قدس سره([9]) إلى أن وجه الحجية، دخول الإمام عليه السلام وعليه لو كانوا كلهم معلومي النسب، فلا ينعقد الإجماع، فيعتبر وجود مجهول النسب شرطا، ونتيجة ذلك: أن للإجماع معنى آخر غير مفهومه العرفي واللغوي، فاتفاق الأمة أو المجتهدين ليس بإجماع، بل هو اصطلاح خاص. وهذا -مضافا إلى أن المتأخرين كلهم غير راضين بمقالته- غير مطابق لما يستفاد من قوله عليه السلام: “فإن المجمع عليه لا ريب فيه”([10]) أو “لن تجتمع أمتي على خطأ”([11]) [الصفحة 359] فان المفهوم منهما هو المفهوم العرفي في سائر الألفاظ ولا حقيقة شرعية له، كما لا يخفى.

        ثم للمناقشة في حجية رأي المعصوم عليه السلام في حال الغيبة، مجال واسع لمن يرى أن حجية رأيهم، تابعة لاعتبار الرسول صلى الله عليه وآله فإنه عندئذ يمكن ذلك، لأن القدر المتيقن من حجية رأيهم، حال حضوره عليه السلام.

        كما ربما يقال: إن المتيقن من حجية رأي الحاضر حال الإمامة، وأما حجية رأي الابن حال وجود الأب، فغير واضحة. وأما عندي فرأيهم وسنتهم حجة مطلقا.

        وذهب شيخ الطائفة الحقة إلى قاعدة اللطف، وأن الإجماع حجة بحكم العقل([12]).

        وفيه: أن قاعدة اللطف ليست تامة، لا في باب النبوة، ولا في باب الإمامة، والتفصيل في محل آخر، وأما المتأخرون المتمسكون بها في مسألة النبوة، فلا فارق بينها وبين المقام بحسب بعض التقاريب فيها.

        وذهب جماعة إلى الحدس، للملازمة العادية أو العقلية([13]).

        وهذا لا يرجع إلى محصل إلا برجوعه إلى أحد الأولين، أو القول الأخير الآتي من ذي قبل إن شاء الله تعالى: لأنه لا معنى للحدس بوجود الحكم الواقعي، إلا لأجل وجوده عليه السلام فيهم، أو وجود رأيه في آرائهم احتمالا وإمكانا، فيكون راجعا إلى ما سلف.

        أو يرجع إلى الحدس بوجود السنة بينهم، أو الرأي فيهم واشتهاره لديهم، فلا [الصفحة 360] يرجع حديث الحدس إلى معنى محصل. كما أن حديث تراكم الظنون مثله([14])، كما لا يخفى.

        ومما ذكرنا يظهر: أن مناقشة بعضهم في هذه المقالات في غير محله، والأمر سهل.

        بقي ما هو المشهور بين المتأخرين: وهو أن الإجماع حجة، لرجوعه إلى وجود السنة بينهم، وهي غير واصلة إلى المتأخرين، ويكون ذلك الخبر والسنة نقي الدلالة والسند، ويكون تاما من جهة الصدور، بحيث إذا وصل إلى المتأخرين لنالوا منه ما نالوا منه، ولأدركوا ولاستظهروا منه ما استظهروه منه([15]).

        فالمناقشة في هذا المسلك تارة: باختلاف نظر المجمعين مع غيرهم في حجية السند، وأخرى: بأن من المحتمل كون الخبر غير تام الدلالة، غير تامة، وقابلة للدفع، ضرورة أن من اتفاقهم في الحكم، يتبين أن السند مورد وثاقتهم الخاصة، ومن اتفاق القدماء وأرباب الحديث الأولين الذين هم لا يعملون الاجتهادات الدقيقة في فتاويهم، يحصل الوثوق والاطمئنان بأن الخبر الموجود عندهم ظاهر.

        وأما قصة اتفاقهم في مسألة نجاسة ماء البئر، مع اختلاف المتأخرين منهم فيها، فهي راجعة إلى كيفية الجمع بين الأدلة، فتدبر.

        نعم، ربما يشكل الأمر على هذه الطريقة: بأن احتمال وجود رواية لديهم، وعدم نقلها في الجوامع الأولية، بعيد جدا.

        ولكنه يهون بعد التأمل في تأريخ حياتهم، واغتشاش بالهم، وعدم العثور على كثير من الآثار. مع إمكان عدم نقل الطبقة الأولى للمتأخرين، فلم تصل السنة [الصفحة 361] إلى (الكافي) وأضرابه.

هذا مع أن الذي يخطر ببالي: أن مستند المجمعين، كثيرا ما يوجد في الآثار والأخبار المنتشرة في كتب الحديث، ولكنه غير مضبوط في محالها، ويطلع عليه المتتبع أحيانا، ولذلك قيل: (لا يجوز الاجتهاد إلا بعد الفحص عن أخبار مستدرك الوسائل أيضا).

        هذا مع أن من الممكن كون مستندهم السنة، إلا أن لعدم انحفاظ ألفاظها بما لها من المعاني، لم تضبط في الجوامع، وهذا واضح للمتدبر المتأمل، فما في حواشي العلامة الأصفهاني قدس سره من المناقشات([16]) كلها قابلة للدفع، كما لا يخفى.

        وأما ما هو الإشكال الوحيد: فهو أن استكشاف الرواية بالإجماع، يستلزم كونها -كسائر الأخبار والسنن- قابلة للتقييد عند تحقق المعارضة بينها، وبين سائر السنن والآيات الأحكامية، مع أنهم غير ملتزمين به، ويعملون بمعاقد الإجماعات معاملة النصوص، فالقول المزبور أيضا غير مرضي، فانتظر ما هو حله.

        بقي ما ذهب إليه السيد المحقق الوالد مد ظله وهو: "أن الإجماع يكشف عن رأي المعصوم عليه السلام ويكشف عن اشتهار الحكم في العصر الأول، كما هو الآن كذلك بالنسبة إلى طائفة من الأحكام"([17]).

        وغير خفي: أنه بناء على مرام المتأخرين لا معنى للإجماع بين المتأخرين أو المتوسطين، بل الإجماع المفيد هو الإجماع الموجود بين القدماء.

        ويمكن أن يقال: إنه على رأي المتأخرين يمكن ذلك، لإمكان اطلاع أمثال الشهيد أو المحقق على رواية، دون القدماء، لوجود بعض كتب الحديث عندهم، [الصفحة 362] ولاسيما عند الشهيد رحمه الله فإنه ربما يقال: إنه من الخمسة الذين هم من المحدثين العظماء، وعلى هذا تحصل المعارضة أحيانا بين الإجماعين.

        وأما على القول: بأن الإجماع يكشف عن اشتهار الحكم بين الأوائل، حتى وصل إلى الثواني، فلا معارضة بينه وبين الإجماع الحاصل بين المتأخرين، لما لا حجية له رأسا.

        ومما يؤيد الوجه الأخير: عدم قابلية معقد الإجماع للتخصيص والتقييد، ولا يعامل معه معاملة السنة الصحيحة، كما هو الواضح.

        ولكن الذي ربما يتوجه إليه: إمكان تحصيل الإجماع على بعض المسائل الفرعية، التي لا يحتمل اشتهارها في الصدر الأول، ولا تكون مورد الابتلاء، فإن الأحكام المشتهرة في عصرنا، هي الأحكام الشائعة المبتلى بها الناس، دون مثل الحكم في كتاب الظهار والإيلاء، فعلى هذا لا بأس بالالتزام بكونه كاشفا عن الرأي في بعض المواقف، وعن السنة في الموقف الآخر، ولا داعي إلى كون وجه الحجية أمرا وحيدا، وجهة فريدة.

        ولنا حل الإشكال الذي أشرنا إليه: بأن عمل المجمعين بإطلاق الحديث الموجود عندهم، يورث إضرابهم عن مفاد الدليل المقيد له، فلا يكون الحديث الأخص، صالحا لتقييد إطلاق معقد الإجماع، فليتدبر جيدا.

        وبالجملة تحصل: أن الاحتمالات الكثيرة في وجه حجية الإجماع، كلها غير صالحة إلا الأخيران، ولا داعي إلى القول: بأن الإجماع يكشف عن السنة، أو يكشف عن رأي المعصوم، وعن فتوى الإمام عليه السلام بل تختلف الموارد: ففيما يكون الحكم من الأحكام المتلقاة عن الأئمة، لكونها كثيرة الابتلاء، يكون وجه الحجية اشتهاره.

[الصفحة 363]

        وفيما لا يكون ذلك، ولا يحتمل اشتهاره بين أصحاب الحديث وأرباب الرواية، يعلم أن المسألة ذات رواية، إلا أنها لأجل الجهات المذكورة، غير واصلة إلينا، فليتدبر، فإن المسألة تحتاج إلى مزيد التدبر جدا.

        بقي شيء: في صعوبة تحصيل صغرى الإجماع المحصل بعد الفراغ من حجية الإجماع المحصل بنحو الكبرى الكلية، يبقى الإشكال الأساسي في صغراها، وأنه كيف يمكن تحصيل ذلك الإجماع للمتأخرين، أو لأحد من الأسبقين والسالفين؟

        أما المتأخرون، فلعدم تمكنهم من العثور على مؤلفات القدماء بأجمعهم، وعلى آرائهم بالاتفاق، لعدم نيل المتأخرين جميع ما كان عندهم من التأليف، أو لإمكان وجود جماعة من الفقهاء غير المضبوطة أسماؤهم في كتب التراجم والفهارس، ولاسيما في مثل البلاد البعيدة، وخصوصا في تلك الأعصار، المتشتت فيها الأمر عليهم من النواحي المختلفة، والضواحي الكثيرة.

        ويشهد لذلك سقوط جماعة كثيرة من الطبقة الثانية عشرة، وهي طبقة الشيخ الطوسي عن قلم صاحب (الفهرست) منتجب الدين، كما صرح به الأستاذ البروجردي قدس سره في مقدمة (جامع الرواة)([18]) وهذا يكفي للشك حقا في إمكان كسب الإجماع.

        ومن المحتمل وجود تأليف آخر لأمثال الصدوق وابن بابويه وأبنائهما وغيرهم، وهي غير واصلة إلينا، ويكون الحكم فيها غير ما وصل إلينا، كيف؟! وقد ذكر ابن النديم في (الفهرست): أن الصدوق ذكر مائتي كتاب لوالده([19])، ويذكر [الصفحة 364] العلامة للصدوق ثلاثمائة مؤلف([20])، كما في (الكنى)([21]) فتحصيل الإجماع للمتأخرين غير ممكن.

        وأما تحصيله لمدعي الإجماع من القدماء -كالمفيد، والسيد، والشيخ، والحلبي، والصهرشتي، وأبناء زهرة، وحمزة، وإدريس- فهو أصعب، لأن العصر كان عصر فقد الحضارة، وبعد المراحل، وقصور الاطلاع، وقلة الباع، وفقد الوسائل، فإن الكتب المؤلفة كانت وحيدة، منحصرة النسخة، وحيدة الشخص، فكيف يمكن للعالم البغدادي الاطلاع على رأي القميين وبالعكس، أو للعالم النجفي الاطلاع على الحكم في المدينة؟! لبعد الطرق، وامتناع الاستخبار جدا، فعليه لا يمكن تحصيل الإجماع أصلا.

        فإذا كان الإجماع المحصل ممنوع الصغرى، فنقل الإجماع المحصل كذب ومسامحة، ومحمول على أمر آخر كما قيل، فإنه لأجل المحافظة على شؤون ناقلي الإجماع، يصح أن يقال: إن كثيرا من الإجماعات المنقولة، مستندة إلى القواعد العقلائية، أو الشرعية، أو إلى الأصول، أو محمولة على أن الناقل، يريد بها وجود السنة التي هي معتبرة عنده، ولا يريد بها السنة المعمول بها عند الكل، حتى ينجبر ضعف سندها، ودلالتها، وجهة صدورها.

        ولعل منها كما قيل، إجماعات الشيخ في (الخلاف) وابن زهرة في (الغنية) وقد أصر عليه الأستاذان البروجردي([22]) والحجة قدس سرهما وإليه يشعر بعض كلام الثاني([23])، فراجع.

[الصفحة 365]

        وعلى كل تقدير: يمكن أن يكون هذا النحو من الدعاوي الواضحة في كلامهما موجبة لإشكال آخر على إمكان نيل الإجماع جدا، فلا تصل نوبة البحث إلى حجية المنقول، لما عرفت أن الإجماع المنقول ليس إلا نقل الإجماع المحصل، فلو كان الإجماع المنقول نقل السنة غير الواضح عمل الأصحاب بها كلهم، فلا يكون حجة، لأن الإشكالات التي ذكرناها ودفعناها، غير قابلة للدفع في هذه الصورة بالضرورة.

        فبالجملة تحصل: أن إجماعات السيد والمفيد وأضرابهما، غير حاكية عن السنة المعمول بها عند الكل، ولا عن اشتهار الحكم عند الكل، لامتناع نيلهم ذلك، فتكون محمولة على المسامحة، أو غيرها، فلا تكون حجة، لأجل عدم وجود له، لا لأجل عدم تمامية الكبرى، فلا تخلط جدا.

        والذي يمكن أن يقال حلا لهذه العويصة: هو أن من اتفاق الأكابر في الكتب الموجودة بين أيدينا، يصح الحدس بأن ذلك الحكم، رأي عام لكل فقيه في ذلك العصر، ويكون حدس ناقلي الإجماع أيضا مستندا إلى ذلك، فيتمكن المتأخرون من تحصيل الإجماع، وهكذا القدماء، ويكون وجهه واحدا. إلا أن حدس المتأخر لو كان موجبا لوثوقه وقطعه فهو، وإلا فحدس ناقل الإجماع -ولو كان من القدماء- غير كاف، إلا إذا حصل منه الوثوق، وقد عرفت منا فيما مضى مناقشة في حجية مطلق الوثوق والاطمئنان([24])، فلا تغفل.

[الصفحة 366]

الجهة الخامسة: هل الإجماع حجة أو ما يحكي عنه؟

        ربما يقال: إن الإجماع ليس حجة عندنا، خلافا للمخالفين، فتكون الأدلة ثلاثة: العقل، والكتاب، والسنة، فإن الإجماع لأجل الكشف عن السنة حجة، فتكون السنة حجة، لا الإجماع([25]).

        أقول: إن حجية العقل صحيحة، لا بمعنى انكشاف الحكم به، فإن قاعدة الملازمة -كما مر([26])- من الأباطيل الواضحة، فليس معنى حجية العقل، قبال ما يكون المراد من حجية الكتاب والسنة، فإن الكتاب والسنة حجتان كاشفتان عن الحكم، بخلافه، وهما ليسا إلا حجة بمعنى واحد، ولا يتعدد ذلك، لعدم الاختلاف بينهما. ومجرد كون أحدهما قطعي الصدور لا يكفي، وإلا يلزم تعدد الحجة باختلاف الجهات العديدة.

        فالحجة على الأحكام بمعنى انكشاف الحكم بها، هي الظواهر من الكتاب والسنة، لا غير، وأما الإجماع فهو حجة، كما يكون قول زرارة حجة، فلا معنى لسلب الحجية عنه إلا بالمعنى المزبور، لأن المراد من (الحجة) ما يحتج به المولى على العبد وبالعكس، وبهذا المعنى يكون الإجماع حجة، كما يكون العقل حجة.

        وأما توهم: أن ما هو الحجة هو الحكم الثابت بالظواهر والإجماع، فلا يكون الكتاب والسنة حجة، كما لا يكون الإجماع حجة، فهو في غير محله، فإن الحكم شيء، والحجة عليه شيء آخر، فافهم وتدبر.

        ويمكن أن يقال: إن الإجماع حجة، بمعنى حجية الظواهر، لكونه كاشفا عن رأي المعصوم عليه السلام مثلها، فالعقل ليس بهذا المعنى حجة مطلقا.

[الصفحة 367]

        وغير خفي: أن المراد من (الحجة) لو كان ما يحتج به العبد على المولى وبالعكس، للزم تعدد الأدلة، ولا تنحصر بالعشر والعشرين، كما لا يخفى، والأمر سهل.

التحقيق في حجية الإجماع المنقول

        إذا تبينت هذه الجهات فاعلم: أن أصحابنا الأصوليين، ذهبوا في ناحية نقل السبب إلى أن ناقل الإجماع تارة: ينقل السبب التام، وأخرى: السبب الناقص. وعلى التقدير الأول تارة: ينقل السبب المحض.

        وأخرى: ينقل السبب والمسبب، والكاشف والمنكشف.

        وثالثة: ينقل السبب.

        وفي ناحية حجية النقل تارة: إلى قصور أدلة حجية الخبر الواحد عن شمول ما نحن فيه، إذا كانت الحكاية مشتملة على المسبب، أو ممحضة فيه.

        وأخرى: إلى عدم قصور لها، لأنه من قبيل الإخبار عن الحدس القريب من الحس كما في (الدرر)([27]).

        وثالثة: إلى أن أدلة حجية الخبر الواحد، تشمل مطلق الإخبار عن الحدس والحس، وإنما المخصص اللبي قائم على خروج الإخبار عن الحدس، وفي شمول ذلك المخصص لما نحن فيه شبهة، ويكون المرجع حينئذ عموم الأدلة.

        أقول: فيما أفادوه -مضافا إلى الأنظار الخاصة، على فرض صحة مدخلهم في البحث، ولا يهمنا الإشارة إليه- أن مقتضى ما تحرر منا في الجهات السابقة: أن الإجماع المنقول ليس إلا نقل الإجماع المحصل، والإجماع المحصل هو الإجماع [الصفحة 368] -بالحمل الشائع- القائم على الرأي الواحد، والفتوى الفاردة([28]).

        فناقل الإجماع لا يحكي إلا نقل الاتفاق، كسائر ناقلي الإجماع في العلوم الأخر غير الشرعية، والشرعية من سائر المذاهب والملل، ولا اصطلاح خاص في هذه المسألة في هذه الناحية، فظاهر نقل الإجماع ليس إلا نقل السبب.

        نعم، اختلفت الآراء في أن الاتفاق المزبور، دليل على الدخول، أو يستلزم اللطف، أو يلازم الحدس، أو يكشف عن السنة، أو فتوى الإمام عليه السلام، وناقل الإجماع يحكي ما هو موضوع لتلك الآراء والعقائد، حتى يذهب كل إلى معتقده، ولو كان نقل الإجماع قابلا للقسمة إلى ما ذكر، للزم عدم حجية الإجماع إلا في بعض الصور، لأنه يجوز أن يكون ناقل الإجماع القائل بالدخول، ناقلا لما يعلم بدخوله فيه وإن لم يكن إجماعا، والقائل باللطف كذلك وهكذا، فلا يوجد عندئذ للمتأخرين إجماع واتفاق يكشف عن السنة، أو رأي المعصوم، فيعلم منه أن بناء الناقلين، ليس إلا نقل الاتفاق والسبب.

        هذا مع أن نقل بعض السبب المشخص غير معهود، ونقل بعض السبب المهمل لا يورث شيئا، لما لا يمكن العلم بانضمام البعض الآخر، كما لا يخفى. فما في كلامهم من كفاية الانضمام([29]) غير تام أيضا.

        فالأظهر أن ناقلي الإجماع، يريدون بذلك نقل السبب التام المحض. إلا أنه قد عرفت منا عدم إمكان اطلاعهم على السبب التام جدا عادة.

        فالقسمة المزبورة المشهورة في كلامهم صدرا وذيلا، ليست على ما ينبغي، ولو كانت هي صحيحة للزم منه أيضا إشكال صغروي في حصول الاتفاق المفيد للمتأخرين القائلين بالكشف، كما أشير إليه. هذا كله في الناحية الأولى.

[الصفحة 369]

        وأما الناحية الثانية فالحق: أن حديث حجية الخبر الواحد، لا يرجع إلى الأدلة اللفظية حتى يتمسك بالعام، ثم يلاحظ المخصص اللبي وغير ذلك، ولا إلى البناء على خروج الإخبار عن حدس، ودخول الإخبار مما يقرب من الحس ولو كان حدسا، بل المناط بناء العرف والعقلاء، وهو دليل لبي لا إطلاق له، ولو شك في مورد فلا شاهد على وجوب الأخذ فيه بدليل لفظي إطلاقا أو عموما، منطوقا أو مفهوما.

        ومن هنا يظهر إمكان الالتزام بحجية الإخبار عن الحدس المحض، فيما كان بناء القوم على الحدس، كما في مسألة الخرص من غير حاجة إلى النص، وحديث كثرة الخطأ وقلته، ليس من العلل الدائر مدارها الحجية، حتى يلزم الشك في حجية الإخبار عن الحس أحيانا فيما يكثر فيه الخطأ، أو يلزم منه حجية حدس من يقل خطأه في الحدس، بل ذلك من الحكم والعلل العقلائية المنتهية أحيانا إلى الشك في بناء العقلاء، كما لا يخفى.

        وأما ذيل آية النبأ، فيأتي تحقيقه من ذي قبل إن شاء الله تعالى، ويظهر أن الآية أجنبية عن مسألتنا([30]).

        ثم إن ناقل الإجماع بناء على ما سلكناه، يكون ناقل الموضوع، وحجية الخبر الواحد في باب الموضوعات عند المحققين، محل المناقشة والإشكال([31]).

        ولكن الحق عدم قصور في أدلة حجية الخبر الواحد، المنحصرة في بناء العقلاء، وما يرتبط بهم أحيانا، ويؤيد حالهم في هذه السيرة عن إثبات حجيته في الموضوعات، ولاسيما في المقام، وعلى هذا يمكن أن يقال: بأن الإجماع بالنقل يثبت مثلا، وإذا ثبت موضوعه يصح أن يقال: (هو حجة ولا ريب فيه) نظرا إلى [الصفحة 370] عموم التعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة([32]).

        فتحصل لحد الآن: أن حجية الإجماع المحصل والإجماع المنقول، قابلة للتصديق، وإنما الإشكال في صغراهما، وإذا أشكل الأمر في تحصيل الإجماع المحصل، فلا مصداق للإجماع المنقول الذي هو ينفع لدينا.

        والإشكال في حجية الإجماع المنقول: بأنه من الإخبار عن حدس([33])، في غير محله، فإن المنقول هو المعنى المحسوس وهو السبب، وأما أنه سبب لأية جهة؟ فهو مورد الاختلاف، فيذهب كل من المنقول إليه إلى مذهبه في وجه حجيته، وإذا ثبت السبب بإخبار العدل الإمامي الفقيه فرضا، يكون حجة، لعموم التعليل، فتأمل.

        ولو قيل: عموم التعليل ممنوع. قلنا: لو كان ممنوعا فهو في خصوص الرواية المجمع عليها في النقل المتروك العمل، لا الفتوى، وكلامنا في الفتوى المجمع عليها، فإنها لا ريب فيها، ومن الأمور الثلاثة التي بين رشدها كما يأتي بتفصيل([34]).

        وغير خفي: أن من هذا التفصيل، يستفاد أيضا حجية الإجماع المحصل تعبدا، وأما أن لازمه كون الحجة ذات الإجماع والاتفاق، وهو خلاف مذهب الخاصة. فهو ممنوع أولا: لأن من الممكن أن الشرع اعتبر حجية الإجماع نوعا، لكشفه الغالبي مثلا عن السنة أو رأي المعصوم، كسائر الظنون الخاصة. وثانيا: أن ما اشتهر من عدم حجية الإجماع في ذاته، غير تام على القول:

[الصفحة 371]

        بأنه كاشف عن رأي وفتوى المعصوم، لأن كاشفيته عن الرأي والفتوى تكون مثل كاشفية الظواهر، فكما مر أنها حجة بذاتها([35])، كذلك الإجماع، وقد مر شطر من الكلام حوله في الجهة الخامسة([36])، فراجع.

        وتوهم: أن المراد من (المجمع عليه) هي الشهرة لا الإجماع([37])، في غير محله:

        فأولا: لإطلاق التعليل.

        وثانيا: لأن خروج الفرد النادر، لا يضر بالإجماع الكاشف عن السنة والاشتهار، وسيظهر تمام الكلام حول التعليل في البحث الآتي إن شاء الله تعالى([38]).

تذنيب: في أن الإجماع المنقول من الظنون النوعية الخاصة

        البحث في حجية الإجماع، يدور حول كونه من الظنون الخاصة النوعية، ولو كان المدار في حجيته على الحدس، أو الدخول، أو اللطف، للزم التلازم بين الوثوق والعلم بالحكم والإجماع.

        وأما لو كان المدار على الكشف، فلا يعتبر حصول الظن الشخصي، لأن بناء العقلاء على الكشف المزبور. وإذا ثبتت حجية نقل الإجماع المحصل المسمى ب‍ (الإجماع المنقول) تكون حجية ذلك أيضا نوعية، لا شخصية، ولا تدور مدار حصول الوثوق الشخصي. وهكذا إذا قلنا: بأن وجه حجية الإجماع المنقول والمحصل، عموم التعليل. فمن هنا يظهر: أن حجية الإجماع المنقول، ثابتة بالبناء العقلائي أيضا، وذلك [الصفحة 372] لوجودها أولا: على حجية نقل ناقله، وثانيا: على حجية السبب، لكونه كاشفا نوعيا عن رأي المعصوم، أو السنة التامة دلالة وسندا وجهة، فافهم واغتنم.

        فبالجملة تبين: أن دليل حجية الإجماع المنقول -مضافا إلى عموم التعليل- يكون بناء العقلاء القائم على حجية نقل ناقله، ثم بعد ثبوت الإجماع بذلك النقل، ينكشف به الرأي كشفا عقلائيا نوعيا.

        وإن شئت قلت: بناء العقلاء أولا على حجية نقل السيد والشيخ رحمهما الله ثم بعد ذلك يثبت بها وجود الإجماع المحصل وبنائهم على أن الإجماع المحصل كاشف عن وجود السنة، فتثبت بها السنة، ثم بعد ذلك تكون السنة حجة، لبنائهم على حجية الظواهر، فيكون ما نحن فيه من قبيل قيام الحجة على الحجة القائمة على وجود الحجة.

تنبيه: في حجية الإجماع المقيد بالسبب

        لو بنينا على أن الإجماع المستند إليه في كتب الأصحاب، عبارة عن الاتفاق المقرون والمقيد بالسبب، فهو أيضا لا يضر، لأن الأثر المترتب على نقل السبب، لا يتضرر ولا ينتفي بانتفاء عدم ترتب الأثر المخصوص به، وهو السبب، فمن كان يرى أن الاتفاق يكشف عن الرأي والفتوى أو السنة، يتمكن من ذلك، لأجل ثبوت الاتفاق بنقل مثل السيد والشيخ رحمهما الله فلا تغفل.

وهم ودفع

        لو كانت الصحيحة مورد الاستناد، للزم كون الإجماع المتأخر معارضا لإجماع القدماء. ويندفع: بأن الظاهر من مورد التعليل، هو أن الإجماع ليس حجة بذاته على [الصفحة 373] الحكم الشرعي، بل الإجماع إما مرجح الحجة على الحجة، أو مميز الحجة عن اللاحجة، فلابد هناك من وجود حجة واقعية وراءه، وهذا أمر ممكن بالنسبة إلى إجماع القدماء، دون المتأخرين.

        وبالجملة: عدم حجية الإجماع ذاتا إجماعي، وحجية الإجماع في الجملة أيضا إجماعية، ولكنه إجماع مدركي معلل بما في المقبولة، ولو كانت هي مورد الاستناد لحجية الإجماع، فالبحث عن الجهات -كالدخول، واللطف، وغيره- أيضا لغو، ولو كان واحد منها صحيحا إجمالا لكفى، كما لا يخفى.


 

([1]) النسخة المعتمدة: نشر مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره- 1418. هوامش هذا الكتاب نقلا عن المصدر.

([2]) المستصفى 1: 173.

([3]) المحصول في علم الأصول 2: 3.

([4]) شرح العضدي 1: 122.

([5]) أنوار الهداية 1: 254.

([6]) عوالي اللآلي 4: 133، مستدرك الوسائل 17: 302 - 303 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1 و 2.

([7]) فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 146، نهاية الأفكار 3: 96، مصباح الأصول 2: 134.

([8]) معارج الأصول: 126، معالم الدين: 173، الوافية في أصول الفقه: 152 - 153، قوانين الأصول 1: 346 / السطر 23 - 24، فرائد الأصول 1: 95.

([9]) الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 626.

([10]) وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

([11]) بحار الأنوار 2: 225 / 30 مع تفاوت يسير.

([12]) عدة الأصول: 246 / السطر 18.

([13]) كفاية الأصول: 331، نهاية الأفكار 3: 97، منتهى الأصول 2: 88.

([14]) لاحظ هداية المسترشدين: 418 / السطر 9، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 2: 149.

([15]) فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 152، نهاية الأفكار 3: 98.

([16]) نهاية الدراية 3: 185.

([17]) تهذيب الأصول 2: 98.

([18]) جامع الرواة 1: مقدمة ه‍.

([19]) الفهرست، لابن النديم: 246.

([20]) رجال الحلي: 147.

([21]) الكنى والألقاب 1: 221 - 223.

([22]) نهاية الأصول: 537.

([23]) البيع (تقريرات المحقق الكوه كمري) التجليل: 332.

([24]) تقدم في الصفحة 298 - 299.

([25]) الوافية في أصول الفقه: 152.

([26]) تقدم في الصفحة 75.

([27]) درر الفوائد، المحقق الحائري: 372 - 373.

([28]) تقدم في الصفحة 358.

([29]) فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 152.

([30]) يأتي في الصفحة 459 وما بعدها.

([31]) يأتي في الصفحة 535.

([32]) تقدم في الصفحة 356.

([33]) نهاية الأفكار 3: 97، منتهى الأصول 2: 88.

([34]) يأتي في الصفحة 382 - 384.

([35]) تقدم في الصفحة 297.

([36]) تقدم في الصفحة 366.

([37]) مصباح  الأصول 2: 141.

([38]) يأتي في الصفحة 380 - 383.