موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع

 

 

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

 

 

المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع

 

 

السيد محمد تقي الحكيم. الأصول العامة

الإجماع/ تعريفه

- الأصول العامة للفقه المقارن- السيد محمد تقي الحكيم ص 243:([1])

        الإجماع في اللغة لفظ مشترك بين العزم والتصميم -فيقال على سبيل المثال أجمع القوم على النهوض بالعمل الفلاني، أي عزموا وصمموا عليه- وبين الاتفاق فيقال أجمعوا على القيام بعمل مّا أي اتفقوا عليه. وهو في اصطلاح الأصوليين موضع خلاف، وان اتفقوا على دلالته على الاتفاق.

وموقع الخلاف منه متعلق الاتفاق، فقيل انه مطلق الأمة، وقيل خصوص المجتهدين منهم في عصر، وفي رأي مالك اتفاق أهل المدينة([2])، وقال بعضهم: اتفاق أهل الحرمين (مكة والمدينة)، أو أهل المصرين (الكوفة والبصرة) وربما ضيق إلى اتفاق الشيخين أو الخلفاء الأربعة([3])، وفي بعض المذاهب اتفاق خصوص مجتهديهم، إلى ما هنالك من أقوال لا تعكس أكثر من اختلافهم في تحديد هذا المصطلح تبعا لاختلافهم في مقدار ما ثبتت له الحجية من ذلك الاتفاق.

        ولذلك لا نرى وجها لالتماس تحديد المراد من هذه اللفظة كمصطلح عام بعد ان كانت لا تتولى الحكاية عن مضمون موحد، فلا معنى للإشكال على تعاريفهم بعدم الاطراد والانعكاس.

[الصفحة 244]

        والمهم في الموضوع أن يبحث عن اعتباره أصلا من الأصول في مقابل الكتاب والسنة ودليل العقل، ثم عن حجيته وما يصلح للدلالة عليها من الأدلة، ومنها يلتمس مدى وجه الحق في هذه الأقوال وغيرها مما عرض في الكتب المطولة.

هل الإجماع أصل أو حكاية عن أصل؟

        ونريد بالأصل هنا أن يكون له كيان مستقل في الحكاية عن الحكم الواقعي، أي لا يحتاج إلى توسط في عالم الحكاية من قبل أصل من الأصول الثلاثة، فهو لا يحكي عن الكتاب أو السنة أو العقل، وإنما هو مستقل في مقابلها في عوالم الحكاية عن الأحكام.

        والظاهر أن الكثير منهم يرى أنه لا استقلال له، يقول الخضري: “لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند”([4]).

        وفي حكايته عن الآمدي وغيره عن بعض الأصوليين: “انه لا يشترط المستند، بل يجوز صدوره عن توفيق بأن يوفقهم اللَّه تعالى لاختيار الصواب”([5]).

        وقد ذكرت أدلة لكل من وجهتي النّظر في كثير من الكتب، وليس في استعراضها ومناقشتها أية جدوى، لكون أكثرها واردة بمنأى عن أدلة الحجية.

        والّذي يقتضي التركيز عليه استعراض أدلة الحجية، والنّظر في حدود ما تقتضيه مضامينها من استقلال وعدمه.

        وسيأتي ان بعضها يبدو منه استقلاله في الحجية لظهوره بإعطاء العصمة للأمة، وجعل ذلك من مزاياها على ان يكون لاتفاقها خصوصية في إصابة الحكم الواقعي بمنأى عن بقية الأدلة، وإذا وجد هناك دليل على وفق الإجماع، فهو من [الصفحة 245] باب تعدد الأدلة على الحكم الواحد كبعض الأدلة السمعية والعقلية، ولكن بعضها الآخر يبدو منه اعتبار المستند باعتبار حكايته عن رأي المعصوم، ومن استعراضها والتماس وجه الحق فيها تبدو نتائج ما ننتهي إليه.

الخلاف في حجيته

        “ذهب المتكلمون بأجمعهم والفقهاء بأسرهم على اختلاف مذاهبهم إلى أن الإجماع حجة، وحكي عن النظام وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر أنهم قالوا:

        الإجماع ليس بحجة، واختلف من قال انه حجة، فمنهم من قال انه حجة من جهة العقل وهم الشذاذ، وذهب الجمهور الأعظم والسواد الأكثر إلى أن طريق كونه حجة السمع دون العقل”([6]).

أدلة الحجية

        وقد استدلوا على الحجية بالأدلة الثلاثة، وأقصوا الإجماع عن الاستدلال به على حجيته لانتهائه إلى الدور.

أدلة الحجية/ الكتاب

        وأهم أدلتهم من الكتاب هذه الآيات:  الأولى قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}([7])، وقد قرب دلالتها على مذهب الجمهور صاحب سلّم الوصول بقوله: “ان اللَّه تعالى جمع بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد حيث قال: نوله ما تولى ونصله جهنم فيلزم ان يكون اتباع غير سبيل المؤمنين محرما مثل مشاقة [الصفحة 246] الرسول، لأنه لو لم يكن محرما لما جمع في الوعيد بينه وبين المحرم الّذي هو مشاقة الرسول عليه الصّلاة والسّلام، فإنه لا يحسن الجمع بين حلال وحرام في الوعيد، وإذا حرم اتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم، إذ لا واسطة بينهما، ويلزم من اتباع سبيلهم ان يكون الإجماع حجة لأن سبيل الشخص هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد”([8]).

ويرد على هذا التقريب:

        أ- إن ظهور تعدد الشرط مع وحدة الجزاء اشتراكهما في علة التحريم، ولازمه ان اتباع غير سبيل المؤمنين من دون مشاقة للرسول لا يدل على الحرمة فلا يتم المطلوب، وقد استظهر الغزالي ما يقرب من هذا المعنى من مساق الآية، وبعّد لذلك دلالتها على الإجماع، يقول: “والظاهر ان المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه، نوله ما تولى، فكأنه لم يكتف بترك المشاقة، حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم”([9]).

        ب- وفي عقيدتي أن الآية لا يمكن أن تحمل على إرادة الإجماع منها لما فيها من كلمة نوله ما تولى إذ لا معنى للقول: بأن من يتبع غير ما أجمعوا عليه من الأحكام نجعل ما اتبعه من الحكم غير المجمع عليه واليا عليه يوم القيامة، وأي معنى لمثل هذا النوع من الكلام؟ والظاهر ان مضمون الآية: أن من يشاقق الرسول ويخالف المؤمنين في اتباعه، ويتبع غيره من رؤساء الأديان والنحل الأخرى، نوله ما تولى، أي أننا نربط [الصفحة 247] مصيره يوم القيامة بمصير من تولاه، فيكون مساقها أشبه بمساق الآية الأخرى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}([10])، وحينئذ تكون أجنبية عن مفاد جعل الحجية للإجماع.

        وأظن أننا بهذا المقدار نكتفي عن مناقشة المراد من كلمة: غير والألف واللام في المؤمنين، وغير ذلك مما ذكروه في مناقشة هذه الآية وأكثرها غير تام([11]).

        الثانية: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}([12])، بتقريب: “ان الوسط هو العدل والخيار، والعدل والخيار لا يصدر عنه إلا الحق، والإجماع صادر عن هذه الأمة العدول الخيار فليكن حقا”([13]).

        وهذه الدلالة لو تمت للآية، فهي لا تزيد على أكثر من إثبات العدالة لهم لا العصمة، والّذي ينفع في المقام إنما هو إثبات العصمة لهم لا العدالة، ليتم حكايتها عن الحكم الواقعي.

        إذا العدل لا يمتنع صدور غير الحق منه، ولو فرض فانما “يلزم صدور الحق منه بطريق الظاهر فيما طريقه الصدق والكذب، وهو نقل الأخبار وأداء الشهادات، أما فيما طريقه الخطأ والصواب في استخراج الأحكام والاجتهاد فيها فلا”([14]).

        الآية الثالثة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلو آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}([15]) وقد قربت دلالتها بما نقله الشيخ الطوسي في تقريبها، يقول في [الصفحة 248] العدة: “قالوا: وصف اللَّه تعالى الأمة بأنها خير الأمة، وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا يجوز ان يقع منها خطأ لأن ذلك يخرجها من كونها خيارا، ويخرجها من كونها آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، إلى ان تكون آمرة بالمنكر وناهية عن المعروف، ولا ملجأ من ذلك إلا بالامتناع من وقوع شي‏ء من القبائح من جهتهم”([16]).

        وقد سبق الحديث عن هذه الآية في مبحث (سنّة الصحابة) وذكرنا هناك عدم دلالتها على أكثر من التفضيل النسبي، وهو لا يستدعي العصمة وعدم الوقوع في الخطأ، على أنّا لا نعرف وجها للملازمة التي ذكروها هنا في تقريب دلالة الآية بين عدم جواز وقوع الخطأ منهم وبين ما علل به من لزوم خروجها عن كونها خيارا، لأن الخيار يخطأون وان كانوا معذورين كما هو الشأن هو في غير المعصومين من العدول، فإثبات العصمة للأمة بهذه الآية لا يتضح له وجه.

        الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}([17]) بتقريب ان الإجماع حبل اللَّه فيجب الاعتصام به ولا يجوز التفرق عنه.

        وتمام دلالة الآية موقوف على ان يكون الإجماع مصداقا لهذا المفهوم، والآية لا تتكفل بإثبات ذلك لأنها لا تثبت موضوعها بداهة.

        والآيات الباقية -وهي أضعف منها دلالة- تتضح مناقشتها مما عرضناه هنا فلا نطيل بعرضها والتحدث عنها.

أدلة الحجية/ السنّة

        وقد استدلوا منها بطوائف من الأحاديث مأثورة عن: عمر، وابن مسعود وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وابن عمر، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان [الصفحة 249] وغيرهم، من نحو قوله: “لا تجتمع أمتي على الضلالة”([18]). “لم يكن اللَّه ليجمع أمتي على الضلالة”([19]). “سألت اللَّه ان لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها”([20]). “من سرّه ان يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فان دعوتهم تحيط من ورائهم، ان الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد”([21]). “يد اللَّه مع الجماعة، ولا يبالي اللَّه بشذوذ من شذ”([22]). “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم”([23])، وروي “لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من الأداء”([24]). “من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه”([25]). “من فارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية”([26]) إلى غيرها من الروايات([27]).

        وهذه الروايات على طوائف، بعضها أجنبي عن عوالم جعل العصمة لرأي الأمة كالأخبار الداعية إلى الألفة والتجمع أمثال: “يد اللَّه مع الجماعة”. “ان الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد”. وكالأخبار الحاثة على إطاعة السلطان ولزوم جماعته، أمثال: “اتبعوا السواد الأعظم فانه من شذ شذ في [الصفحة 250] النار”([28])، و”يد اللَّه مع الجماعة”، يقول الطوفي: “فأما نحو قوله عليه السلام: “اتبعوا السواد الأعظم فانه من شذ شذ في النار ويد اللَّه مع الجماعة” فانما المراد به طاعة الأئمة والأمراء وترك الخروج عليهم بدليل قوله عليه السلام: “اسمعوا وأطيعوا وان تأمّر عليكم عبد حبشي”([29]) وقوله عليه السلام: “من مات تحت راية عصبية مات ميتة جاهلية”([30])([31]).

        وهناك قسم يذكر في الحث على صلاة الجماعة، ولم يبق إلا أحاديث “لا تجتمع أمتي على الضلالة” وأمثالها.

        يقول المحقق الكاظمي: “وأقوى ما ينبغي ان يعتمد عليه من النقل حديث “لا تجتمع أمتي على الخطأ” وما في معناه، لاشتهاره وقوة دلالته، وتعويل معظمهم ولا سيما أوائلهم عليه وتلقيهم له بالقبول لفظا ومعنى، وادعاء جماعة منهم تواتره معنى، وموافقة العلاّمة -من أصحابنا([32])- لهم على ذلك في أوائل المنتهى، وادعائه في آخر المائة الأول من كتاب الألفين أنه متفق عليه([33]) أي بين الفريقين، وتعداده في القواعد من خصائص نبينا صلى الله عليه وآله عصمة أمته بناء على ظاهرها، وكذا في التذكرة مع التصريح بعصمتهم من الاجتماع على الضلالة ووروده من طرقنا أيضا”([34]).

والروايات التي ذكرها -من طرقنا- ليست جامعة لشرائط الحجية في أخبار [الصفحة 251] الآحاد ولا جدوى بعرضها، ويمكن الرجوع إليها في كتابه المذكور([35]).

        وأهم ما أورد على هذه الروايات من اعتراضات ما ذكره الطوفي من “ان هذا الخبر وإن تعددت ألفاظه ورواياته لا نسلم أنه بلغ رتبة التواتر المعنوي، لأنه إذا عرضنا هذا الخبر على أذهاننا، وسخاء حاتم، وشجاعة علي، ونحوهما من المتواترات المعنوية، وجدناها قاطعة بثبوت الرّأي الثاني غير قاطعة بالأول، فهو إذن في القوة دون سخاء حاتم وشجاعة علي، وهما متواتران، وما دون المتواتر ليس بمتواتر، فهذا الخبر ليس بمتواتر لكنه في غاية الاستفاضة، فإن قيل تلقته الأمة بالقبول فدل على ثبوته، فجوابه من وجوه:

        أحدها: لا نسلم تلقيها له بالقبول إذ منكر والإجماع كالنظام والشيعة([36]) والخوارج والظاهرية -فيما عدا إجماع الصحابة- لو تلقوه بالقبول لما خالفوه.

        الثاني: ان الاحتجاج بتلقي الأمة له بالقبول احتجاج بالإجماع، وهو إثبات الشي‏ء بنفسه”([37])، إلى آخر ما ناقش به.

        ولكن الظاهر ان هذه المناقشات غير واردة، لأن المراد بتلقي الأمة له بالقبول ليس كل الأمة بل أغلبيتها، ولو سلّم فربما كان خلاف الخوارج والظاهرية من جهة الدلالة، فلا يؤثر في صحة السند، والاستدلال بالتلقي له بالقبول ليس استدلالا بالإجماع ليلزم إثبات الشي‏ء بنفسه، وإنما هو من عوامل احداث الاطمئنان بصحة صدوره، وهو أشبه بما سبق ان ذكرناه من أن إعراض المشهور عن الرواية يوجب وهنا حتى إذا كانت صحيحة، وأخذهم بالرواية الضعيفة [الصفحة 252] يوجب الوثوق بصدورها، وقد قلنا هناك أن المدار على حصول الوثوق بالصدور، فإن أحدث تلقي الأمة له بالقبول ذلك كان هو الحجة وإلا فلا.

        تبقى مناقشة واحدة وهي واردة على جملة ما ذكر من الأدلة السمعية لا على خصوص هذا الحديث، وهي ورود لفظ الأمة فيها أو ما يؤدي مؤداها والأخذ بظاهره لا يفيد إلا من قال بأن إجماع الأمة حجة، أما بقية الأقوال كإجماع المجتهدين أو أهل الحرمين أو الصحابة أو أهل طائفة ما، فإن هذه الأدلة لا تصلح لإثباتها. والقول بأن الأمة ليست هي إلا مجتهديها وأهل الحل والعقد فيها، فلا عبرة بغيرهم قول لا يعتمد سوى الخطابة والاستحسان، وهما لا يصلحان في مقام التمسك بالأدلة على الحجج الشرعية، فالخروج على النص فيها لا مبرر له، وأوضح من ذلك في الإشكال قصرها على الصحابة أو أهل المدينة، وهكذا.

أدلة الحجية/ العقل

        وقد صوّر دليلهم بصور عدة، لعل أهمها ثلاث:

        أولاها: ما ذكر من: “ان الجم الغفير من أهل الفضل والذكاء مع استفراغ الوسع في الاجتهاد وإمعان النّظر في طلب الحكم، يمتنع في العادة اتفاقهم على الخطأ”([38])، وقد أشكل على هذا الدليل “بالنقض بإجماع اليهود والنصارى وسائر أهل الملل على ضلالتهم، مع كثرتهم، وفضلهم واجتهادهم وإمعانهم في النّظر”([39]). وما أكثر ما يقع الاشتباه في الأمور الحدسية أو البرهانية، وكم اتفق الفلاسفة على أمر برهاني، ثم انكشف خطؤه بعد ذلك، وتاريخ العلماء ملي‏ء بذلك.

        ثانيها: ما ذكره الشيخ الطوسي قدس سره من الاستدلال بقاعدة اللطف، وقد قربت هذه القاعدة بتقريب أن اللَّه سبحانه يجب عليه، من باب اللطف بالعباد: “أن لا [الصفحة 253] يمنعهم عن التقرب والوصول إليه، بل عليه أن يكمل نفوسهم القابلة، ويرشدهم إلى مناهج الصلاح، ويحذرهم عن مساقط الهلكة، وهذا هو السبب في لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب، وعليه فلو اتفقت الأمة على خلاف الواقع في حكم من الأحكام، لزم على الإمام المنصوب حجة على العباد إزاحة الشبهة بإلقاء الخلاف بينهم، فمن عدم الخلاف نستكشف موافقة رأي الإمام عليه السلام دائما، ويستحيل تخلفه”([40]).

        وهذه القاعدة -لو تمت- فهي إنما تتم على رأي الشيعة فحسب لاعتقادهم بوجود الإمام المعصوم، وهو ما نؤمن به -كمقارنين- إذا تم ما سبق أن انتهينا إليه في مبحث (سنّة أهل البيت عليهم السلام).

على أن القاعدة لا تتم في نفسها بالنسبة إلى موضع حديثنا، لأن القاعدة غاية ما تقتضيه أن يصدر تبليغ الأحكام للناس على النحو المتعارف لا أن يوصلها إلى كل فرد، وربما يكون الإمام قد بلّغ، ولم يصل إلى هؤلاء المجتهدين لبعض العوامل التي اقتضت الاختفاء.

        والمصلحة التي تقتضي اختفاء الإمام نفسه، قد تكون متوفرة في اختفاء أحد الأحكام، فلا يلزم إظهاره على كل حال، على أن إيقاع الخلاف من شخص مجهول لا يؤثر الأثر المطلوب في بلورة الحكم وإظهاره، فما قيمة هذا الخلاف؟ ثالثها: ما ذكر من أن الإجماع يكشف عن دليل معتبر عند المجمعين بحيث لو وصل إلينا لكان معتبرا عندنا.

        ويرد على هذا الوجه، أن الدليل إما ان يكون كتابا أو سنة أو حكم عقل أو قياسا، ولا يمكن أن يكون إجماعا، إذ لا معنى لأن يكون الإجماع على حكم مستندا للإجماع عليه.

[الصفحة 254]

        أما الكتاب: فآياته محدودة وهي بأيدينا، ومع قيامها لدينا، لا معنى لالتماس الحجة من الإجماع لكفاية المستند، على أن مفروض الدليل ان المستند غير واصل إلينا فلا يحتمل أن يكون آية، كما لا يحتمل أن يكون حكم عقل، لأن الأحكام العقلية -كما يتضح من مفهومها الآتي- لا تتوفر إلا إذا تطابق عليها العقلاء، والمفروض أننا منهم، فلا يمكن ان تختفي عنا لنحتاج إلى استكشافها من اتفاق الفقهاء، ومع فرض اختفائها عنها، فلا تطابق بين العقلاء الملازم لانتفاء الحكم عقلا.

        وأما السنة: فالمتواتر منها لا يختفي عنا، وغير المتواتر لا يكشف عن الحجة سندا ودلالة لاحتمال اعتماد المجمعين على ما لا نتفق معهم على صحة الاعتماد عليه في روايته لو اطلعنا عليها، ولاحتمال اختلافنا معهم في كيفية استفادة الحكم منها.

        وقد رأينا في أخبار البئر ما كان متفقا على دلالته في يوم ما، ثم تبدلت وجهة نظر الفقهاء في العصور المتأخرة فيها، ومن هنا قيل ان فهم المجتهدين لا يكون حجة على غيرهم من العلماء.

        والقياس: لما كان نفسه موضع خلاف كبير بين العلماء -كما يأتي تحقيقه- لا يمكن ان يكون مستندا للإجماع، بل لا يمكن ان ينعقد إجماع من غير القائلين به لعدم إمكان استنادهم إليه مع انتهائهم إلى عدم حجيته، وما قيمة إجماع لا يشترك فيه ما يقرب من نصف الأمة؟ وقد ضربوا له من الأمثلة إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر قياسا على تقديمه في الصلاة([41]). والمناقشة في هذا المثال واردة صغرى وكبرى:

        أما من حيث الصغرى فلعدم انعقاده مع خلاف عشرات من الصحابة أمثال علي عليه السلام والعباس وولده وبقية بني هاشم وعمار وأبي ذر والزبير والمقداد وسلمان [الصفحة 255] وسعد بن أبي عبادة وأتباعه إلى غيرهم من أهل الحل والعقد.

        وأما الكبرى فلأن نسبة الاعتماد إليهم جميعا على القياس لا تخلو من تخرص لعدم تصريح الجميع بذلك، بالإضافة إلى عدم حجية نفس القياس، كما يأتي الحديث عنه.

        والغريب ان تفهم أحداث التاريخ الكبرى بهذا المقدار من الفهم الساذج، حيث يعتقد ان الصحابة كانوا على درجة من الغفلة بحيث يسكتون عن التساؤل عن معرفة مصيرهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وهو الّذي عاش ما بين ظهرانيهم مدة من الزمن مريضا ينعى إليهم نفسه، أما كان فيهم من يجرؤ على سؤاله عن وظيفتهم في تعيين الحكم وأسلوبه من بعده؟ وهل يعتمد الاختيار؟ وكيف؟ وما هي شروط الناخب أو المنتخب؟ أو يعتمد النص؟ ومن هو المنصوص عليه؟ والنبي نفسه هل يمكن ان يغفل هذا الأمر الخطير ويعرض الأمة إلى رجّة قد تأتي -في أيسر خلافاتها حول أسلوب الحكم وتعيين الحاكم- على الإسلام نفسه؟ وبخاصة إذا لوحظ ظروفها الخارجية من تعرضها لغزو الروم وخروج مسيلمة وارتداد كثير من الأعراب، إلى ما هنالك مما يعرض الأمة لأشد الأخطار لو تعرضت إلى أية خلافات داخلية حول الحكم، أمن الحق ان نفترض ان الصحابة كانوا على هذه الدرجة من الغفلة، ثم استيقظوا بعد وفاة نبيهم دفعة واحدة فلم يجدوا أمامهم من الأدلة في تعيين الحاكم الا هذا النوع من القياس المظنون ليجعلوه مصدرا لأهم حدث في تاريخهم الاجتماعي؟ أ هكذا تفهم احداث التاريخ وبعقلية أبناء هذا القرن بما جد فيه من تطورات ألقت كثيرا من الأضواء على دراسة وفهم احداث التاريخ وربطها بأسبابها الحقيقية بيئية وزمانية ونفسية؟ ولنا من هذا الحدث موقف طويل في كتابنا عن (عبد اللّه بن عباس) حبر الأمة، وليس موضع عرضه هنا، وطبيعة مناقشة المثال لا تستدعي أكثر من هذا الكلام.

[الصفحة 256]

        وهناك أدلة نظرية تعود إلى ضرورة دخول الإمام في جملة المجمعين -قولا أو إقرارا- بحكم كونه رئيسهم، فهم لا يخالفونه عادة أو لا يقرهم على المخالفة.

        وهي أدلة لا تتجاوز الحدس، وقد نوقشت في كتب الشيعة الإمامية جميعا وبخاصة المتأخرين منهم([42])، فلا جدوى بإطالة الحديث فيها.

        بقيت دعوة من يدعي ان الإجماع مما يحصل بسببه القطع بوجود دليل لو اطلعنا عليه لوافقناه المجمعين على الحكم، وهي دعوى لا تنفع الا من يحصل لديه القطع، ولا يبعد ان يحصل غالبا مثل ذلك في كثير من الأحكام الإجماعية، وبخاصة تلك التي لا تتصل بمنابع العاطفة أو العقيدة.

        ومن هنا يتضح ان هذه الأدلة مختلفة في ألسنتها، فبعضها يعطي الإجماع قيمة كبرى تجعله في مقابل الكتاب والسنة وحكم العقل، أي تجعله دليلا مستقلا في مقابل بقية الأدلة، كالأدلة السمعية التي عرضناها مفصلا وبخاصة حديث: “ما اجتمعت أمتي على ضلال”([43]) لإعطائها فضيلة العصمة وعدم الخطأ، فكان لاجتماعها على الحكم خصوصية في بلوغ الواقع ولو من غير الطرق المعروفة، كالكتاب والسنة.

        وبعضها تعتبره كاشفا عن رأي المعصوم، أو عن دليل معتبر من الكتاب والسنة، أو القياس على اختلاف في المباني، ومثل هذه الأدلة لا تعتبر الإجماع دليلا مستقلا، فعده في مقابلها في غير موضعه.

        وعلى المبنى الأول ان الإجماع متى قام أخذ به، ولا يعارضه دليل سمعي له ظاهر على الخلاف، ويستحيل ان يعارض القطعي سندا ودلالة منها -أي الأدلة- لأن الشارع لا يتناقض على نفسه، وعلى المبنى الثاني متى عرف المستند من [الصفحة 257] كتاب أو سنة نقل الحديث إليه، ولا معنى للتعبد به بالخصوص، بل متى احتمل منه الاستناد إلى دليل ظني لم يحصل القطع بحجيته، ينقل الحديث إلى نفس ذلك المستند.

        ومن هذا العرض لهذه الأدلة يتضح ان الحجية منوطة بإجماع الأمة لا الصحابة ولا أهل المدينة ولا الحرمين ولا مجموع المجتهدين ولا أهل المصرين، فتخصيص غير الأمة بالحجية على أي دعوى من هذه الدعاوي، لا يتضح له وجه وليس عليه دليل، نعم ما ذهب إليه القائلون باكتشاف رأي المعصوم من دخوله ضمن المجمعين لا يعين الأمة جميعا بل يكفي منها ما يعتقد فيه بدخول المعصوم.

        قال المحقق في المعتبر، وهو ممن يذهبون إلى ان مناط الحجية هو دخول المعصوم: “فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين، كان قولهما حجة”([44]).

        وقال السيد المرتضى: “إذا كان علة كون الإجماع حجة كون الإمام فيهم، فكل جماعة كثرت أو قلت كان الإمام في أقوالها، فإجماعها حجة”([45]) إلى ما هنالك من التصريحات بذلك.

حكم منكري حجية الإجماع      

        ومن هذه الأدلة التي عرضناها -وهي قابلة للمناقشة- لا نرى مبررا لمن يذهب إلى تكفير منكري حجية الإجماع، كما ذهب إلى ذلك بعض الأصوليين بدعوى “ان إنكاره متضمن إنكار دليل قاطع وهو يتضمن إنكار صدق الرسول صلى الله عليه وآله وذلك كفر”([46]).

[الصفحة 258]

        وما أجمل ما قاله إمام الحرمين، وهو يفصل القول في المسألة ويرد على هؤلاء دعواهم: “فشا في لسان الفقهاء ان خارق الإجماع يكفر، وهو باطل قطعا، فان منكر أصل الإجماع لا يكفر، والقول في التكفير والتبري ليس بالهيّن -ثم قال-: نعم من اعترف بالإجماع وأقرّ بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما أجمعوا عليه، كان التكذيب آئلا إلى الشارع، ومن كذّب الشارع كفر، والقول الضابط فيه ان من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشي‏ء من الشرع ثم جحده كان منكرا للشرع وإنكاره جزءا من الشرع كإنكاره كله”([47]).

        وهذا التفصيل من إمام الحرمين في موضعه لوضوح ان إنكار الطريق لا يستلزم إنكار حكم شرعي ثبت بالضرورة، بخلاف الاعتراف به وجحوده والتنكر له لانتهائه إلى إنكار ما ثبت من الشريعة قطعا.

إمكان الإجماع وعدمه

        تحدثوا حول إمكان الإجماع وعدمه وأطالوا الحديث في ذلك، فقال قوم منهم النظام: ان ذلك مستحيل([48]).

        والظاهر أن وجه الاستحالة لديهم قياسهم هذا النوع من الاتفاق على امتناع “اتفاقهم في الساعة على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة”([49]).

        وهذا الوجه لا يصلح لإثبات الاستحالة لعدم توفرها -عقلا- في المقيس عليه، بالإضافة إلى الفارق الكبير بينهما، فالأكل وغيره مما هو وليد الحاجة الفعلية لتقوم الأجسام، أو وليد الرغبة العابرة لا بد ان يتفاوت زمانا ومكانا بحسب العادة تبعا لاختلاف تكون الحاجات أو الرغبات بخلاف قضايا الفكر أو [الصفحة 259] القضايا المحسة، فإن التفاوت فيها ينعدم أو يقل عادة لتقارب الناس في إدراك أولياتها، وفي اشتمالهم على قواها المدركة نوعا، وما أكثر ما اتفق العقلاء في آرائهم المحمودة على الكثير من القضايا، فهذه الشبهة إذن لا تستند على أساس لعدم المانع العقلي من الاتفاق في بعض الوقائع أو القضايا ولو على سبيل الموجبة الجزئية.

        ولكن الكلام كل الكلام -بعد فرض إمكان الاتفاق- في وقوعه والطرق إلى إثبات ذلك.

        ودعاوى الوقوع كثيرة على ألسنة الفقهاء، ولهم إلى إثبات ذلك طريقان:

        أولاهما: تحصيل الإجماع بالمباشرة، وبحثوا هذه الطريق فيما أسموه بـ :

الإجماع المحصل

        و”هو ما ثبت واقعا وعلم بلا واسطة النقل” كما جاء في تعريفه لدى المحقق الكاظمي([50])، وأراد بهذا التعريف ان يتولى المجتهد نفسه مئونة البحث عن هؤلاء المجمعين والتعرف على هوياتهم وآرائهم في المسألة التي يريد معرفة حكمها حتى يحصل له العلم بالاتفاق على الحكم.

وقد نوقش هذا الإجماع من وجهة صغروية، وأهم ما جاء في مناقشته ما عرضه الشوكاني في تعبيره عن وجهة نظر المنكرين لإمكانه بقوله: “قالوا لا طريق لنا إلى العلم بحصوله، لأن العلم بالأشياء إما ان يكون وجدانيا أو لا يكون وجدانيا، أما الوجداني فكما يجد أحدنا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه، ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله ليس من هذا الباب.

        وأما الّذي لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته لا مجال [الصفحة 260] للعقل فيها، إذ كون الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق، ولا مجال أيضا للحس فيها لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته.

        فإذا العلم باتفاق الأمة لا يحصل الا بعد معرفة كل واحد منهم، وذلك متعذر قطعا.

        ومن ذلك الّذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب وسائر البلاد الإسلامية؟ فان العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم فضلا عن اختبار أحوالهم ومعرفة من هو من أهل الإجماع منهم ومن لم يكن من أهله، ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به. والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم، فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة فضلا عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام.

        ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس، فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله في تلك المسألة بعينها.

        وأيضا قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه، كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام، فإنهم قد يعتقدون شيئا إذا خالفهم فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم.

        وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر فيمكن ان يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل ان يجمع أهل بلدة أخرى، بل لو فرضنا حتما اجتماع العالم بأسرهم في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة [الصفحة 261] قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلاني، فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال ان يكون بعضهم مخالفا فيه وسكت تقية وخوفا على نفسه”([51]).

        وهذا الإشكال -على فجوات في بعض فقراته وخطابية في أسلوب عرضه- يكاد لا يكون له مدفع نعرفه إذا أخذنا في مفهوم الإجماع اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وآله على اختلاف في مذاهبهم وآرائهم، أو اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله على اختلاف طوائفها كما هو مقتضى أدلة حجيته السمعية التي عرضناها في البحث السابق.

        أما إذا ضيقنا في مفهومه إلى ما يخص مجتهدي مذهب معين أو جماعة يعلم بدخول الإمام في ضمنهم، فقد يقال بإمكانه مع جهد الفحص والقطع بعدم الاتقاء، ولا يبعد وقوع ذلك أحيانا.

فالمباني على هذا فيه مختلفة، والمسألة تتبع المباني في إمكان العلم به وعدمه.

        نعم ما يتصل منه بضروريات الدين أو بعض المدركات العقلية التي يقطع باتفاق العقلاء وتطابقهم عليها بما أنهم عقلاء، فإنكار وقوعه مصادرة لا تعتمد على أساس. ولكن الحكم فيها لا يستفاد من الإجماع ولا تتوقف حجيته عليه.

        فالحق ان تحصيل الإجماع بمفهومه الواسع أمر متعذر فيما عدا الضروريات الدينية أو العقلية.

وأكثر منه تعذرا تحصيل الإجماع من الإجماع السكوتي، لأن السكوت لا يكون كاشفا عن الموافقة على الحكم واختياره، لاحتمال التقية أو الجهل بالحكم وعدم اعتقاده بضرورة إعلانه أمام الآخرين أو غفلته عنه وهكذا، فمجرد السكوت لا يكشف عن الموافقة ليتحقق بها الإجماع والاتفاق، ومن هنا نعرف قيمة الإجماع السكوتي الّذي ذهب إلى اعتباره بعض الأصوليين.

وثاني الطريقين: بلوغه من طريق النقل

[الصفحة 262]

        وهذا الطريق ينقسم بدوره إلى متواتر ونقل آحاد، وقد بحثوا هذه الطريق بقسميها بما أسموه بالإجماع المنقول:

        1 - الإجماع المتواتر:

        وهذا التواتر في النقل للإجماع وان كان من شأنه ان يفيد القطع بمدلوله، الا أن حساب تحصيله لكل واحد منهم هو نفس ذلك الحساب السابق، والخلاف من حيث الإمكان وعدمه هو نفس ذلك الخلاف، فإذا جوزنا تحصيل الإجماع بأن أخذنا بدعوى من يقول بأنه يكفي فيه اجتماع جماعة يعلم بدخول المعصوم في ضمنهم، كان هذا التواتر حجة لتحصيله القطع بمدلوله، وإلا فمع احتمال اشتباه كل واحد منهم في دعوى الإجماع لا يمكن ان يحصل من اخبارهم القطع فلا يكون حجة.

        2 - الإجماع المنقول بأخبار الآحاد:

        وهذا النوع من الإجماع لا يمكن الإيمان بحجيته إلا بعد معرفة مبنى الناقل للإجماع في منشأ حجيته، وملاحظة موافقة المنقول إليه في المبني ثم التعرف على ما إذا كان من الممكن تحصيله لمثله أو لا، ومع فرض إمكانه معرفة ما إذا كان نقله له مستلزما لنقل الحجة في حق المنقول إليه، أي ان المبنى متحد في مدرك حجية الإجماع بينهما، أو انه يعطي نفس النتيجة التي يعطيها المبني الآخر من حيث استلزام الحجية لو قدر لهما الاختلاف. والمقياس ان يكون نقل الإجماع نقلا للحجة الشرعية، ليدخل في كبرى حجية أخبار الآحاد. ومع عدم التوفر على هذه الأمور لا يمكن الإيمان بحجية الإجماع المنقول. وقد أطال أعلامنا في تقريب حجيته، وجل ما قالوه يرجع إلى ما ذكرناه، فلا حاجة إلى الإطالة في عرضه والتحدث فيه مفصلا.

 


 

([1]) النسخة المعتمدة:  نشر المجمع العلمي لأهل البيت عليهم السلام- قم- 1418. هوامش هذا الكتاب نقلا عن المصدر.

([2]) عدة الأصول للشيخ الطوسي: ص232، وأصول الخضري: ص270.

([3]) أصول الفقه للخضري: ص270،  وغيره.

([4]) أصول الفقه: ص275.

([5]) المصدر السابق.

([6]) عدة الأصول: ص 232.

([7]) سورة النساء: الآية 110.

([8]) سلم الوصول،  ص272 والظاهر أن هذا التقريب لصاحب السؤال وإن لم يقوسه كما يوحي إرجاعه في الهامش إليه.

([9]) أصول الفقه للخضري: من ص 279 نقلا عنه.

([10]) سورة الإسراء: الآية 71.

([11]) راجع الطوفي في مناقشاته لها: ص 100 وما بعدها من رسالته المنشورة في مصادر التشريع الاسلامي، والشيخ الطوسي في العدة: ص 234 وما بعدها.

([12]) سورة البقرة: الآية 243.

([13]) الطوفي في رسالته السابقة: ص103.

([14]) المصدر السابق.

([15]) سورة آل عمران: الآية 110.

([16]) عدة الأصول: ص242.

([17]) سورة آل عمران: الآية 103.

([18]) شرح السنّة للبغوي: ص 86، والدرر المنتثرة للسيوطي: ص 180. وفيهما: "لا تجتمع أمتي على ضلالة".

([19]) سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة، ح 2167. وفيه: "إن اللَّه لا يجمع أمتي على ضلالة".

([20]) مسند أحمد:6-396، ح 26682.

([21]) كنز العمال: ح 1033 وفيه:"من سرّه ان يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد".

([22]) سنن الترمذي، كتاب الفتن، ح 2167 وفيه: "يد اللَّه مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار".

([23]) سنن أبي داود، كتاب الفتن، ح4252.

([24]) مجمع الزوائد: 288- 7 وفيه: "لا يزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم إلاّ ما أصابهم من لأواء".

([25]) المعجم الكبير للطبراني: 289- 10، ح 10687 وفيه: "من فارق المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".

([26]) صحيح البخاري، كتاب الفتن: 87 - 8 وفيه: "من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية".

([27]) راجع: أصول الفقه للخضري: 279 وما بعدها.

([28]) مستدرك الحاكم: 1-115.

([29]) مسند أحمد: 6-403، ح: 26722.

([30]) المعجم الكبير للطبراني: 10-289، ح 60687 وفيه: "من مات تحت راية عمية إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتله جاهلية.

([31]) رسالة الطوفي: ص106.

([32]) المقصود العلامة الحسن بن يوسف المطهر الحلي قدس سره.

([33]) الألفين للعلامة الحلي: الوجه التاسع والتسعون من البحث السابع ص:100.

([34]) كشف القناع عن وجوه  حجية الإجماع، للشيخ أسد الله المعروف بالمحقق الكاظمي: ص6.

([35]) كشف القناع عن وجود حجية الإجماع: ص6 وما بعدها.

([36]) عد الطوفي الشيعة من جملة منكري الإجماع لا يعرف له وجه إذا أريد بهم الاثنا عشرية لأنهم من القائلين نوعا بحجيته، ولعل سر الاشتباه في النسبة ما اطلع عليه من إنكارهم الإجماع في يوم السقيفة، ولكن مناقشتهم له هنا من وجهة صغروية لعدم انعقاده بمخالفة جماعة كبيرة من كبار الصحابة أمثال بني هاشم، وأبي ذر، وعمار، وغيرهم. (المؤلف).

([37]) رسالة الطوفي: ص105.

([38]) مصادر التشريع: ص106 (رسالة الطوفي).

([39]) المصدر السابق.

([40]) دراسات: ص88.

([41]) الخضري في أصول الفقه: ص277 وغيره.

([42]) راجع الدراسات: ص88 وما بعدها، وأصول الفقه للشيخ المظفر: 3-92 وما بعدها.                     

([43]) شرح السنة للبغوي: ص 86 وفيه: "لا تجتمع أمتي على الضلالة".

([44]) المعتبر: ص6.

([45]) أصول الفقه للمظفر: 3-93.

([46]) أصول الفقه للجعفري: ص281.

([47]) أصول الفقه للخضري: من 281.

([48]) إرشاد الفحول: من 72.

([49]) المصدر السابق.

([50]) كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع: ص4.

([51]) إرشاد الفحول: من 72.