موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الحسن عليه السلام

في الموقف السياسي

11- بين المبدأ والملك

 لعل أفضل طريقة للاستعانة على تجلية موضوعنا في هذا الفصل ، ان نبدأه بشيء من الكشف الصريح عن المعنيين المختلف عليهما « للخلافة » في عرف المسلمين. وللكلام على الخلافة [ أو حواليها ] ، خطره ومسؤوليته لدى واحد من الجانبيين غالباً ، ولديهما معا أحيانا.
 ونحن اذ نفهرس الخلافة هنا كما هي عند الفريقين ، لا نريد أن نأخذ من موضوعها الا بمقدار ما يتصل منه بموضوعنا.
 ونريد مع ذلك أن نعمد ـ أسطراداً ـ وعلى ضوء ما نضعه من صيغة البحث ، الى تقريب النظريتين المختلفتين ، تقريبا جديرا بأن يخلق من بذرتنا هذه شجرة الاصلاح ، لو وجد الاصلاح في هذه التربة سبيلا للازدهار ، ولا خطر ولا مسؤولية لدى أحد الجانيين ولا لديهما معاً مما نريد ، بل هو الخير كله ، وما في الاصلاح الا الخير للكل.
 فنقول: الخلافة هي النيابة العامة عن النبي صلى الله عليه واله، في رياسة المسلمين بعد وفاته ، ولها على الناس الطاعة ، وللناس عليها العمل بكتاب الله وسنة رسوله (ص).
 واعتاد فريق من المسلمين أن يتقبلوا لهذه النيابة عن النبي (ص) أحدهم فيما لو استطاع أن يدّعيها لنفسه ، اما بالقوة ، كخلافة معاوية الذي « نال الخلافة بحدّ السيف تارةً وبالمكيدة والسياسة تارةً اخرى (1) » ، وكخلافة ابن الزبير ، وأبى العباس السفاح ، وعبدالرحمن الناصر ، وآخرين ، وامّا بالعهد اليه من سلفه الذي كان أخذها بالقوة أو بسبب آخر ، كخلافة عمر و يزيد و الرشيد و غيرهم ، و امّا باختيار فئة من المسلمين ايّاه بادىء ذي بدء ، كخلافة أبي بكر ، وعثمان ، ومحمد رشاد.
 


1 ـ تاريخ الاسلام السياسي ( ج 1 ص 396 ).


 ورجع الفريق الثاني من المسلمين في تعيين النائب عن الرسول (ص) الى نصوص صاحب الرسالة نفسه ، فلم ينسيبوا عنه الا من أنابه هو فيما اثر عنه.
 وعلى ذلك جرى الفريقان ، وعلى ذلك كانا فريقين (1).
 وكما اختلفا في أسباب نصب الخليفة ، اختلفا في قابليته للتغيير والعزل ، فعلى النظرية الاولى ، كان حرياً بالعزل متى وفّق غيره للتغلب عليه ، أو متى وجد اقتضاء آخر ، وعلى نظرية النص ليس لاحد تغييره ولا عزله ، ولن يكون الخليفة المنصوص عليه معرّضاً لنقص يخلّ بمقامه كنائب نبي ، ومن هنا يرمز اليه بالعصمة من الله تعالى شأنه ، كما هي شأن النبي نفسه صلى الله عليه واله وسلم.
 فالخلافة من النوع الاول سلطة عامة مقيدة بدستور خاص ، وهي بواقعها أشبه بهذه السلطات القائمة اليوم ، لا تختلف عنها الا من ناحية الاختلاف في الدستور ، أو كما تختلف بعض هذه السلطات عن بعض.
 وقداستها ، فرع قابليات الرجل الذي اختير لها أو الرجل الذي تغلّب عليها ، وأحياناً كان أفضل الناس قدسا ، كما كان في وقت آخر من أشد الناس تمردا على الدين والخلق الصحيح.
 وهي من النوع الثاني وعلى نظرية النص منصب آلهي تجب له الطاعة ديناً ، كما تجب للنبي ، وما هي بهذا المعنى الا ظل النبوة بمعناها الذي يتصل بالسماء ، ولكنها انما تتصل بالسماء عن طريق النبي ، وهو مصدر روحيتها كما هو مصدر النص عليها.


 

1 ـ فالفريق الاول هم السنة ، والفريق الثاني هم الشيعة. ووافق الشيعة أكثرية المعتزلة فقالوا « لا امامة الا بالنص والتعيين ». يراجع « آراء المعتزلة السياسية » ( ص 15 ) ، مجلة الالواح ( ع 11 س 1 ).


 أما قداستها فطبيعية ثابتة لها ، ثبوتها للنبوة نفسها. ولا خليفة من خلفاء النص ، الا كان أقدس شخصية في الناس وأفضلهم.
 وقديما كان موضوع « الخلافة » مثار شغب عنيف بين المسلمين ومصدر مآسٍ كثيرة مؤسفة في تاريخ الاسلام. وما كان من السهل ولا من الممكن يومئذ ، ما نظنه اليوم ممكنا وسهلاُ ، في موضوع تقريب الفريقين بعضهما من بعض ، و جمعهما على نصف من الرأي ، ينبذ به الخلاف ، و يؤخذ معه بالواجب من الاخوة و النجوح الى الاصلاح.
 وذلك هو ما يقتضيه الاهتمام بالجوهر دون الاعراض ، وبالدين الصحيح دون الاغراض ، وذلك هو الاسلام الذي يجب أن يتصل به المسلم الى الله على حقيقته ، دون أن تخدعه العنعنات أو العواطف أو المؤثرات.
 وقضية الدين ـ وهو العلاقة بين العبد وربه و هو النقطة التي يرتكز عليها مسقبله في حياته الاخرى ـ لا تشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها ، لهوى النفس أو لتقاليد البيئة ، أو لعواطف أو المؤثرات.
 وقضية الدين ـ وهو العلاقة بين العبد وربه وهو النقطة التي يرتكز عليها مستقبله في حياته الاخرى ـ لاتشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها ، لهوى النفس أو لتقاليد البيئة ، أو لعواطف الانسان وميوله وعصبياته.
 أمّا صاحب الدين ،فلا همّ له في دينه الا الواقع مجرداً.
 ولا نريد الآن ، في موضوع الخلافة ، الا جمع الكلمة على الواقع المجرد دون أيّ تصرّف أو تحريف.
 فيعترف الشيعي بالخلافة ( من النوع الاول ) على واقعها يوم وقعت [ ولا ينبغي للاعتراف بأمرٍ ما أن يجاوز واقعه ] بوصفها سلطة عامة قائمة بين المسلمين ، لها ما تستحقه من الاطراء في كثير من آثارها في الاسلام.

 ويعترف السني بالخلافة ( من النوع الثاني ) على واقعها ايضا بوصفها واسطة بينه وبين النبي في دينه ، وهي الحقيقة التي تواترت بها الصحاح في مختلف البيانات النبوية التي لا يصح ـ علمياً ـ النقاش عليها ، مرويةً بأفضل الطرق التي يفزع اليها المسلم في أخذ دينه.
 ثم يكون هذا هو الحل (1) الجدير بالاعتبار ، الذي تتحلل به العقد الرئيسة بين الفريقين دون أيّ غبنٍ أو استئثار.
 ولما كنا الآن بصد البحث عن أحد أفراد الصفوة المختارة من خلفاء النص ، فلنعلم بأن لموضوع بحثنا ـ الحسن بن علي عليهما السلام ـ خلافةً اسلامية من طراز فريد في تاريخ الخلائف في الاسلام ، ذلك لانه حظي « بالخلافة » منذ بيعته و وفاة أبيه (ع) ، على النوعين من معنييها اللذين يلتقيان عند هذا اللفظ في عرف المسلمين كافة ، وعلى أفضل وجه في كل نوع يحتمل التفاضل.
 فهو الخليفة من النوع الاول ، ولكن « بالانتخاب » ، وهو الخليفة بالنص بلفظ « امام ».
 ولعلك قرأت [ في الفصل الثالث ] نموذجاً من النصوص على تعيينه للمنصب ، وعرضا عابراً لطريقة اختياره و بيعته من الناس.
 والحسن اذ يقف موقفه الاخير من معاوية ـ بين المبدأ و الملك ـ فلا يعني بالملك الا تلك السلطة التي كان مصدرها انتخاب الناس له دون المنصب الذي كان مصدره اختيار الله له ونص الرسول عليه ، لان هذا المنصب لا تناله يد في تغيير أو تبديل ـ كما نبَّهنا عليه ـ وانما هو من أمر الله ، وأمر الله لا مرد له.
 وكذلك كانت الزعازع والنكبات التي اصطلحت على الحسن في دور خلافته ، فانها لا تعنى الحسن « الامام » وانما الحسن « ذا الجيش والسلطان ».


1 ـ ولعل من الخير ان ننبه هنا ، الى ان بعض منتحلة آراء الناس سبق الى نشر هذا الحل من دون أن، ينسبه الى صاحبه. وكان الرجل أحد مستمعينا ـ في أكثر من مناسبة ـ حين نوهنا بهذا الرأي كنموذج من آراء هذا الكتاب التي ينفرد بها.


 والحسن في امامته ، لا يناله تغيير و لا تمسه نكبة ، فهو كالقرآن في امامته. ولن يضير القرآن ، وهو المرجع الاعلى للمسلمين ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، خلاف الناس عليه ، ولا جموحهم عنه ، ولا نفارهم منه ، وهو هو في منزلة من امامة الناس ، وعلى حقيقته من كلمات الله ، رضي الناس أو أبوا ، عملوا بهداه أو عصوا ، أسلموه قيادهم أو جمحوا.
 وكذلك كانت امامة الحسن عليه السلام.
 و كل من القرآن و الحسن ، هو مركز الثقل في الاسلام ، كما يكون كل من القانون والمَلكِ في الدولة الدستورية ، هو مركز الثقل في الامة.
 وأعني « بالثقل في الاسلام » ذاك الذي نوّه به رسول الله صلى الله عليه واله ، في الصحيح بل المتواتر من حديثه الشريف ، حيث يقول :
 « اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (1) ».
 والحسن من العترة ـ يومئذ ـ واسطة العقد وامام القوم ، فهو من الاسلام كله « مركز الدائرة » الذي خلفّه صاحب الرسالة للمسلمين ، كما خلّف القرآن « المرجع الاعلى ».
 وهل الامامة شيء آخر غير هذا ، ياترى ؟
 وانظر الى الحسن حين تتحدث عن حقيقته ، كيف تتجاذبه كلمات الله من شتى جوانبه : القرآن ، النبوة ، الامامة ، الثقلان ، الجنة ، الاصلاح ، حقن الدماء ، الوفاء بالعهد.
 


1 ـ أخرجه الحاكم ( ج 3 ص 148 ) ثم قال « هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين » ، واخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفا بصحته على شرط الشيخين ، وروى حديث الثقلين الامام أحمد في مسنده ( ص 17 وص 26 ) واخرجه ابن ابي شيبة وأبويعلى وابن سعد في الكنز ( ج 1 ص 47) وغيرهم.


 ثم ارجع بذاكرتك قليلاً الى خصمه الذي راح ينازعه على الطاعة المفروضة له في الناس ، فانظر أي كلمات تتجاذب الحديث عنه : الطمع ، المراوغة ، الفتنة ، الرشا ، نقض العهود ، المال والحطام ، الحروب وشن الغارات.
 وانّ من هوان الدنيا أن ينازع فيها مثل هذا مثل ذاك !!
 نعم ذاك هو الحسن ابن رسول الله « الامام » ، فما شأن الملك الدنيويّ وما شأن المال والحطام ؟
 وذاك هو « سيد شباب أهل الجنة » ، كما وصفه جده الاعظم (ص) وراءه عنه جميع فرق الاسلام ، وهو الحديث الذي واكب القرآن في صحته وتواتره ، وجاوز كلام الآدميين في عمقه وبلاغته.
 ونقول على هامش هذا الحديث : هل اختلج في رأس سائل ان يسأل : لماذا لم يوصف الحسن في هذا الحديث ، بأنه سيد شباب أهل الدنيا ؟ وهل كان في الدنيا الا سيد شبابها خلالاً مشرقة ، ومزايا مشرفة ، وكرائم مكرمات غلب عليها الناس ؟

 

من هاشم في ذراها وهي صاعدة *** الى السماء تميت الناس بالحسد

 قوم أبى الله الا ان تكون لهم *** مكارم الدين والدنيا بلا أمد

فما هو سرّ الطفرة التي جاوزت بهذا الحديث عالما بكامله ، لتضيف الحسن الى عالم آخر ، غائب غير حاضر ؟
 انه ليغيب عن الذهن « اليوم » التنبّه الى هذا الاستفهام ، لان الذهن حين يلتفت اليوم الى الحسن ـ وقد اختاره الله اليه ـ لا يتصوره الا سيداً من سادات الجنة ، فليكن سيد شبابها ، ثم لا يفطن الى نسبة هذه السيادة للدنيا. ـ ولان القرون [ الاربعة عشر ] لاكت الحديث و روته في مختلف المناسبات ، كأكثر ما يروى حديث في مناسبة حتى أصبح كأنه كلمة واحدة لا يفهم الناس منها الا حسنا وحسينا ، دون ما تنبه الى الاستفهام.
 ترى ، فهل فهم الناس منه ، يوم صدر من مصدر بلاغته الاول ، ما أراد به ذلك البليغ العظيم (ص) ؟
 نعم انه أراد أن يلمح ـ اذ يبارك على ابنيه بهذا اللقب ـ الى أن الوطن العاق الذي ينبت الخيانة والغدر ، كهذه الدنيا ، والناس القلقين الذين مرنوا على النفاق ونقض المواثيق ، كشباب ذلك العصر ، لا يستحقان الاستظلال بسيادة هذين السيدين ، ولا يناسبانها. فهما اذاً ، سيدا الشباب ، ولكن من ذلك النوع المختار الذي وفي لله في عهده ، وفي الوطن المختار الذي نزع الله فيه الغلّ من صدور ساكنيه ، وجعلهم فيه اخواناً على سرر متقابلين.
 سيدا شباب أهل الجنة وكفى.
 وعلى اسلوب أقرب الى التوضيح : انهما اذا عقّت الدنيا وعقّ شباب هذه الدنيا حقهما ، وبغيا عليهما ، وأنكرا سيادتهما ، وأبقا منهما ، فلا بد لسيادتهما أن تسود ، ولكن في دنيا خير من هذه الدنيا ، وفي ناسٍ خير من هؤلاء الناس.
 ولتبؤ هذه الدنيا بحرمانها من بركتهما وفضلهما وتوجيههما.
 وليبؤ شبابها الخائن الغادر، بالعار والندامة ، وخزي التاريخ وعذاب القيامة.
 والحديث ـ على هذا المفهوم ـ ملحمة نبوية ، تقرأ الغيب من وراء الغيب ، وتشير ـ باجمال الملاحم ـ الى ما سيلاقيه سيدا شباب أهل الجنة من شباب أهل الدنيا ، وتفرض لكل من السيدين عليهما السلام نصيبهما رابحاً غير خاسر.
 وما من شك ، بأن من كان سيد الجنة أو سيد شبابها ، فانه سيد الناس وسيد الدنيا بأسرها.
 ولسيد الانبياء صلى الله عليه واله وسلم ، فيما تحملته عنه الاسانيد الصحيحة من كلماته القصار ، بلاغته التي تتقاصر عن شأوها ملكات العظماء من بلغاء الناس. ثم هي في فيضها العربي الرائع ، أعجوبة اللغة في سعتها وروعتها ، وان من أروع وجوه الامتياز في البلاغة النبوية اشعاعها الخاص الى المعاني الكثيرة باللفظ القليل ، فتارة بالتصريح و أخرى بالتلويح. ومن هنا كان اتصالها الكثير بالنبوءات الصادقة التي لا يفارقها الاعجاز.
 وكان هذا النوع من البلاغة ـ بذاته ـ دليل صحة الحديث النبوي اذا كان في صحته ما يقال.
 ومن ذلك ، قوله صلى الله عليه وال وسلم في سبيل النص على امامة سبطيه الكريمين الحسن والحسين عليهما السلام : « انهما امامان ان قاما وان قعدا » ـ ولقد تتدبر ظاهر هذا الحديث فلا تفهم منه الا التصريح بامامة السيدين الحسنين ، ثم تتدبره من وراء هذا الظاهر ، فتراه يلمح بنبوءته الصادقة الى سيرة كل من هذين الامامين ، ويدل على أن احدهما سيقوم وأن الآخر سيقعد ، أو على أن أحدهما أو كلا منهما سيكون مرةً قائماً ، واخرى قاعدا ، ثم هو في كل من الحالين امام لا يجوز الخلاف عليه على اختلاف حاليه.
 ولم يكن أحد في الاسلام أكثر استيعابا لنبوءات رسول الله صلى الله عليه واله فيما أثر عنه ، من ابنه وخليفته الحسن بن علي ، فعلم ما عناه جده فيما أثبته له أو رفعه عنه ، في هذين الحديثين ، وفي أحاديث كثيرة أخرى.
 وانه لأولى من يتمسك بنبوءاته ، ليتخذ منها مناهج حياته ومماته.
 أو ليس هو ابن ذلك النبي (ص) ووارث شمائله ، ووصيّه على أمته ؟ فليكن ما يلقاه من قومه ، شبيه مالقيه النبي من قومه ، ـ في دعوته ـ ، وليقل اليوم مثل ما كان يقوله النبي يوم ذاك :
 « اللهم اهدِ قومي فانهم لا يعلمون ».
 ولهذه النبوَّة من تلكم النبوة ، خاصّتها الكريمة ، التي غلب بها الحسن سائر المسلمين في دنيا الاسلام ، واستغنى بها عن القوة المادية وعن الثروة والسلطان ، لانها بحقيقتها قوة وثروة وسلطان.
 فليبغ عليه معاوية ، وليخنه عبيدالله بن عباس ولتخذله الكوفة ، فلن تخذله بنوته الكريمة من رسول الله ، ولن تخونه امامته المفروضة بأمر الله ، ولن تبغي عليه مودته الواجبة في كتاب الله.
 وما قيمة الملك المحدود ، اذا قيس بالملك الروحي الذي لا تبلغه الحدود.
 وما كان الاخفاق ولا الفشل ولا الموت ، بقادر على القضاء ـ ولو يوماً واحداً ـ على هذه المعنويات الروحية التي طبقت الجواء فخارا ، وتجارب بها التاريخ اعجاباً واكبارا ، وبسطت سلطانها على قلوب المسلمين ، لا يحرمها الزدهار عدوان المعتدين ، ولا يمنعها الاثمار انكار المنكرين الجاحدين. وها هي ذي الى يوم الناس هذا لتصّاعد قدماً في عظمتها وعلى طريق خلودها ، في خط مستقيم بدون انحناءات.
 والى هنا وقد تبينا ـ بهذا ـ الصلة الوشيجة بين الحسن وبين الينبوع الذي ينض بالخير على البشرية في مزالق الشر، وبالهدى على المسلمين في مواقف الفتنة و التيه ، وبالبركة على الدنيا في ساعات الجدب والحرمان ، وعرفنا الحسن بوصفه ابن رسول الله وسيد شباب أهل الجنة واماماً يشارك القرآن في امامته.
 بقي علينا ان ننقاد بشيء كثير من العناية والاهتمام ، الى فهم ما يرمز اليه الحسن نفسه في ايضاح موقفه ـ بين الملك والمبدأ ـ.
 ولنرسم الآن صورة موجزة مختارة من كثير كثير ، مما تناقلته عنه الحكايات المتناثرة بأسانيدها المتفاوتة في الثقة ، ثم لنستظهر ـ بعد ذلك ـ اشارته البليغة الواردة فيما نذكره من هذه الحكايات ، وهي ذات اهمية كبرى ، لتوجيهنا الى القول الفصل في الموضوع.
 ولنستمع الآن الى تصريح شخصي منه له قيمته في موضوعنا الخاص.
 انه يجيب على السؤال العاتب الذي ألقاه عليه « سليمان بن صرد » الرجل الذي وصفه ابن قتيبة « بسيد العراق ورئيسهم (1) » ، فيقول :
 « ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا وللدنيا أعمل وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني وأشد شكيمة ، ولكان رأيي غير ما رأيتم ...(2) »
 ومثل واحد يغني عن كثير مما أجاب به شيعته.
 أما أجوبته لاعدائه ، وفيهم من يسرّه أن يؤذيه وقد أمن الشر من ناحيته ، كعبدالله بن الزبير الذي كان يعلن مناوأته لآل محمد (ص) ، فكان مما أجابه به قوله « وتزعم أني سلسَّمت الامر ، وكيف يكون ذلك ـ ويحك ـ كذلك ، وأنا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين. لم افعل ذلك ـ ويحك ـ جبنا ولا ضعفا ولكنه بايعني مثلك ، وهو يطلبني بترةٍ ، ويداجيني الموّدة ، ولم أثق بنصرته .. (3) ».
 وتصريح آخر قصير ولكنه خطير ، ولعله على اجماله ، أبلغ تصريح في هذا الصدد ، وهو ما يجيب به شقيقه ومزاج مائه ، وشريك حوبائه في سراته وضرائه « الحسين عليه السلام ».
 انه سأله : « ما الذى دعاك الى تسليم الامر ؟ » فقال : « الذى دعا أباك فيما تقدم (4) ».
 اقول : ولتكفنا هذه النماذج القليلة عن كثير من مثيلاتها ، شاهدا على « الامتحان » القاسي الذي تعرضت له الامامة من أصدقائها ومن اعدائها ، والذي خرجت منه ـ في نهاية المطاف ـ مزهوةً بدرجة الشرف في النجاح.
 ونحن اذا نخلنا تصريحات الامام في هذا الصدد ، وجدناها تنكشف في شتي بياناتها عن العناصر الرئيسة الآتية.
 


1 و 2 ـ ابن قتيبة الدينوري في الامامة والسياسة ( ص 151 ).
3 ـ المحاسن والمساويء للبيهقي ( ج 2 ص 60 ـ 65 ).
4 ـ البحار ( ج 10 ص 113 ).


1 ـ أنه لم يعمل للدنيا.
2 ـ أنه لو أراد أن يعمل للدنيا ، لكان أقوى عليها من خصومه ، و لكانت مناهجه في الحياة ، غير هذه المناهج.
3 ـ أنه لم يؤت في موقفه من ضعف نفس ولا ضعف سياسة ولا جبن ، ولكنه لم يجد الانصار المخلصين ، ومعني ذلك أن أداة النصر كانت متوفرة لديه ، لو قدّر له مؤازرون صادقون.
4 ـ أن هدفه الوحيد هو هدف أبيه من قبل ، وكان هدف أبيه فيما سكت عنه من حقه ، صيانة المعنويات الاسلامية من الانقراض ، والعقائد الدينية عن الانتقاض.
 ولقد ترى ان معالم الامامة الروحية تتجلى واضحة بين عناصر هذه البنود الاربع ، لا تشتبه بضعف ولا تتصل بتراجع ولا تمتّ الى نكول ، ولكنها القوة القائمة بنفسها ، والدائبة على العمل لربها ، فلماذا تعمل للدنيا ، وما الدنيا من شاكلتها ولا هي من شاكلة الدنيا. كذلك هي « الامامة » بمعناها الصحيح ، وبما هي ظل النبوة بمعناها الذي يتصل بالسماء ، وما قامت النبوة في الارض ـ يوم شاء الله لها ان تقوم ـ الا بالانصار المخلصين ، ولن تقوم الامامة اذا شاء الله لها أن تقوم الا بالانصار المخلصين. وأين الانصار المخلصون من هؤلاء الذين يداجون المودة رئاءً وهم يطلبون بالترات ، ويبايعون على الطاعة المطلقة ثم يفرّون على غير مبالاة.
 وكما لم يكن محمد صلى الله عليه واله وسلم الا رسولا قد خلت من قبله الرسل ، فما كان ابنه الحسن الا اماما في قلبه الايمان وعلى لسانه المثُل ، وهذه هي رسالته التي أريدت له وأريد لها.
 ومُني بالموقف الحرج ، كذلك الذي مني به جده رسول الله صلى الله عليه واله يوم الحديبية وبني أشجع ، ونكب من أنصاره كما نكب أبوه عليه السلام بخذلان الناصر يوم « السقيفة » ويوم « الشورى (1) » ، فلم لا يتخذ من جده وأبيه مثله ، وينجز على سنتّهما عمله ، وما من غضاضة عليه اذا كان فيما أتاه ثالث هذين الاثنين العظيمين.
 ثم نقول على هامش ما ورد في دلالة البند الثاني : ان الحسن بن علي كان قد أخذ على نفسه أن يضع مواهبه وحياته وتاريخه وكيانه السياسي وما أوتي من جلد وقوة ، رهنا بخدمة مبدئه وقربانا في سبيل تخليده واعلاء كلمته ، وكان في خطوته الجبّارة التي ختم بها موقفه ـ بين المبدأ والملك ـ الامام الزاهد بالدنيا والخليفة الذي لم ينزل الى قبول المسؤولية من الناس الا ليصعد من طريقها الى اقامة المُثل الانسانية في الناس.
 فهو فيما أخذ وفيما ترك ، كان المثل الاعلى للزعماء المبدئيين.
 وجاءته الدنيا طائعة بملكها وثروتها ونفوذها ولذاذاتها ، و لم تكلّفه ثمنا لانقيادها اليه ، و اختصاصها به ، و عكوفها بين يديه ، الا ايثارها من ناحيته ، فأبى.
 ولو أنه كان فعل ، فآثرها « وحزم ونصب لها » لكان ـ بدون شك ـ أربح انسان فيها ، لانه اذ ذاك الملك الذي جمع أفضل نسب في تاريخ الانسانية ، الى اعظم مملكة في تاريخ الممالك.
 ولكنه كان عليه ، لو رضينا له أن يكون دنيويا ـ وفرض المحال غير محال ـ أن يتجرد من قيود وراثته وتربيته ، وأن يترك عنعناته الروحية جانبا ، وأن يكون هو غير الحسن بن علي وابن فاطمة وسبط رسول الله


1 ـ للتعريف بيوم السقيفة بحوثها التي استوفتها الكتب الطوال ، واما يوم الشورى ، فأن احسن عرض لموقف علي عليه السلام منه ، هو ما يدل عليه قوله هو لاصحاب الشورى يومئذ : « لقد علمتم أني احق الناس بها من غيري. و والله لا سلمن ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الا علي خاصة ، التماسا لاجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه .. » ـ النهج ( ج 1 ص 124 ).


 ولكنه كان عليه ، لو رضينا له أن يكون دنيويا ـ وفرض المحال غير محال ـ أن يتجرد من قيود وراثته وتربيته ، وأن يترك عنعناته الروحية جانبا ، وأن يكون هو غير الحسن بن علي وابن فاطمة وسبط رسول الله صلى الله عليه واله ، فيعمد الى ارضاء الطامعين ، واصطناع الموازرين وارشاء القلقين. وفي جباية امبراطوريته المترامية يومئذ ، ما يتسع لشتي المطامع التي يتطامن لسحرها زعماء ذلك الجيل و « أبناء بيوتاته النفعيون » فاذا المنافقون كلهم مؤمنون طيّبون ، واذا الخونة كلهم أمناء مخلصون واذا القلقون رعية خاضعون ، واذا الناس كلهم مزيّفون وهم لا يشعرون !!.
 ولرأيت عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد ابن ابيه ورجال مدرستهم ، يلوذون ببلاط الحسن في الكوفة ، كما يلوذ به اليوم حجر بن عدّي وقيس بن سعد وعدّي بن حاتم ، أو كما يلوذون هم ببلاط معاوية هناك ، وما كانوا ليصطدموا من شمائل الحسن ـ اذ يلوذون به ـ بما يصدمهم من عناصر الفشل في معاوية وتاريخه ومواريثه وارتجالياته.
 ولنجحت قضية الحسن ، على الشكل الذي لا يغرينا بأن نكتب عنها أو نخوض فيها ، أو نضحي لها وقتا ..
 ولرأيت هذا الشعب الكوفي اللئيم ـ الذي واكب عهد الحسن في التاريخ ـ ولاءً وطمانينةً واستقرارا ، ما دامت خزائنه معرضة لشراء الضمائر وولاياته مفوّضة لاستجابة نهم الاكابر ، وما دامت سياسة دولته تداري ما حولها من الاهواء النفسية ، والاغراض الحزبية ، والاطماع الدنيوية ، اللهم الا ما ينبهنا اليه استقراء نفسيات الاقلية المتزّمته من « شيعة أبيه » الذين برهنوا في ثباتهم مع الحسن العازف عن الدنيا ، ومع أبيه الذي طلّق الدنيا ثلاثا ، على أنهم كانوا وراء حقائق لا وراء مطامع.
 ولكن الذي كان يؤمل أن يخفف الضغط من ناحية هؤلاء أن بنوّة الحسن ـ التي لن تفارقه ـ من رسول الله (ص) ، ستكون هي شفيعه المقبول الشفاعة ، لدى هذه الزمرة من المؤمنين غير المزيفين.
 وما ظنك بعد هذا ؟ فهل ترى أنه كان من مستطاع معاوية أن يقاوم « هذا الحسن » أو ينتصر عليه ؟ وأيهما ـ على هذا ـ كان أولى بالضعف ، وأيهما كان اولى بالقوة ، الحسن أم معاوية ؟
 وعلى ضوء هذا التقريب ، نفهم معنى قول الامام الحسن : « ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا وللدنيا أعمل و أنصب ما كان معاوية بأبأس (1) مني و أشد شكيمة (2). ولكان رأيي غير ما رأيتم ».
 أجل ، وهذا هو المظنون ، لو أراد الحسن الدنيا.
 ولكن الشيء المعلوم ،هو أن الامام الحسن بن علي عليه وعلى أبيه السلام كان بشرا آخر غير هذا.
 انه كان من ذلك النوع الذي لا يطلّ على هذا العالم ، الا في فترات معدودة من الزمان ، فتستروح البشرية من شمائله مُثُلَها ، وتترسم بهداه النقي الفاضل سعادتها.
 انه كان يفهم من الشرف معنى خاصا ، مزيجا من عزة النفس ومصالح الدين ، فلا الملك ولا المال ، ولا المتع الملذوذة في الدنيا ، مما يدخل في حساب الشرف عنده.
 وكانت عصمته عن الرجس كما يصفها الكتاب ، وروحيته المثالية التي تملأ ذلك الاهاب ، تمنعانه النزول عن شموخ هذا الشرف ، الى الحضيض من رغبات الملك الزائل ، واللُّبانات المنغَّصات ، مع ما يستلزم ذلك من الصدوف عن الله وعن كتبه ورسله واليوم الاخر ، ولن يكون الرجل الدنيوي الا متغاضيا عن اولئك جميعا أو مغاضبا لهم.
 وكان معنى ربح الموقف ، عن طريق هذه الاساليب الملتوية ، الخسارة الكبرى ، في حياة هذا النوع من ذروات المثالية و أعالي الناس.


1 ـ البأس : الشجاعة والقوة. ومعنى « ما كان معاوية بأبأس مني » : ما كان بأشجع وأقوى مني.
2 ـ الشكيمة : الأنفة والانتصار من الظلم ، وشديد الشكيمة : هو الابي الذي لا ينقاد.


 وكان من لوازم هذا الالتواء ـ في جانب الحسن ـ أن تتلاشى في نفسه ، الغرائز المثلى التي غرستها في كيانه يد النبوة ، وغذتها في روحه أثداء الوحي ، وبسطتها في وجدانه مهابط التنزيل.
 و أنى لتلك الغرائز ان تتلاشى في نفسه ، وهي منه كبعض ذاتياته التي لا تنفصل عنه ؟. وانى له أن يعمل للدنيا أو « يحزم وينصب لها » وهو ابن رسول الله وربيب حجره ، وتلميذ مدرسته ؟.
 وما لرسول الله وللدنيا ، لولا انها ميدان رسالته.
 فليكن الحسن بحكم طبيعته المملاة عليه من تربيته و عقيدته و محيطه ، مرآة جده ، ولكن في ميدان امامته ، وتلك هي القدوة الحسنة والاسوة الطيبة ، التي لا يمسها ضعف ، و لاتتهم بجبن ، و لايهزمها همزة بنقص ـ مرآته في زهده بالدنيا ، كما هو مرآته في كرائم صفاته ، لانه كان « أشبههم به خلقاً خلقا » ، ومرآته حتى في سياسته و ادراته.
 فأين هي مآخذ الضعف على الحسن فيما يتسرع اليه المنتقدون ؟.
 ونسي الخائضون في نقد سياسة الحسن عليه السلام ، حراجة موقفه من أنصاره ، ونسوا ان شذوذ هؤلاء الانصار انما كان وليد الحوادث الزمنية التي لا يَدَ للحسن فيها ، بحكم تطور الحياة العامة منذ الجيل الثالث بعد عهد النبوة ، و انطلاق الناس ـ أو اكثرهم ـ من عقال التقوى ، واستكانتهم للمطامع وللملذات. فالجناية اذاً جناية ظرفه ، والخيانة خيانة جيله الذي قدر له أن يعيش معه ، ولا تثريب على الحسن من هذا أو ذاك.
 ونسوا ـ وهم يتحاملون على سياسة الحسن عليه السلام ـ ان العاقبة لمثل هذا الموقف ومثل هذا الظرف ، ومثل هذا المجتمع الذي جبل على الرياء والباطل ، مع الرجل الذي لا يحلم بغير الاخلاص والحق ، لا تحتمل في الامكان أحسن مما كان.
 لذلك نرى أن التدابير الخاصة التي اتخذها الامام الحسن في خطوات قضيته ، كانت أبرع الحلول لمشاكلها ، وأروعها سياسة ، وأدقها نظرا ، واليقها بسيرة امام.
 وقد عرضنا في فصولنا هذه ، المآخذ التي أخذت على الحسن عليه السلام فذكرنا كلا منها فيما ناسبه من موضوعاتنا ، ورجعناه هناك الى وجه الصحيح الذي كان يواكبه في واقعه ، والذي لا يدع مجالا ـ بعده ـ لتحريف أو تخريف.
 وهكذا انتفض الحسن ـ اخيرا ـ انتفاضته الاصلاحية الكبرى ، فطوّر الموقعة القائمة على الفتن والسلاح ، الى دعاوة خُلُق ومحبة واصلاح ، فاذا هو « المصلح الاكبر » المجلى في ميدان المصلحين ، واذا هو « القائد المبدئيّ » الظافر بأسمى مدارج الكمال بين الابطال المبدئيين.
 واذا هو ـ بعد ـ ملك الدنيا بأسرها ، وان لم يكن ملك عرش.
 وهل الاسلام في حقيقته ، الا هذه الروح الملائكية ، التي لن تغلبها مادية الدنيا ، ولن تستذلها شهواتها الرخيصة وأوهامها الخلّب الكذوب ؟
 انه نظر الى الكثرة من « أصحابه » فساءه أن يجدهم في تواكلهم عن الواجب ، وعزوفهم عن الخلق ، وتفرقّهم عن حقهم ، أصحابا لعدوه من دونه ، وكانت العدوى الخبيثة التي نشبت أظافرها في رؤوس الخائنين المعدودين ، قد فتكت في المجتمع المغلوب على أمره ففرقّت كلمته وضعضعت من صفوفه وجعلت من ـ في قليل من الزمن ـ طرائق و اوزاعا ، يرسم كل فريق منهم خططه بيده ويستعدّ للحرب ، و لكن ليحارب ـ في يوم كريهته ـ أبعد الرجلين عن مآربه وأقربهما الى حرمانه.
 وأيّ أمل بأصحاب ليس شرا منهم الاعداء؟
 فلِمَ لا يقول الامام« النائب عن النبي (ص) » كلمته التي يفرغ بها عن لسان النبوة في رحمتها وسموها ، كلمته التي تتحايد بمغزاها عن الفريقين المتحاربين ، كما لو كانت شيئا فوق الجميع ؟
 و هل « الامام » في حقيقته الا شيئا فوق الجميع ؟.

 

الفهرس