موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الحسن عليه السلام

في الموقف السياسي

13- سر الموقف

     ولعلنا لم نأت الى الان بشيء ينقع الغليل، أو يقنع كدليل فيما يرجع الى فهم السرّ الذي تجافى به الحسن عليه السلام، عن الشهادة قتلا ونزل منه الى قبول الصلح عمليا. وهنا نقطة التركز في قضية الحسن منذ حيكت من حولها الاقاويل الكثر، والنقدات النكر. وليس في ما تتناوله بحوثنا في غضون هذه الدراسة الواسعة الخطوات، موضوع أجدر بالعناية وبالكشف وبالتحقيق من هذا الموضوع، بماله من الاهمية الذاتية القائمة بنفسه، وبما هو «سر الموقف» الذي لم يوفق لازاحة الستار عنه أحد في التاريخ ـ مدى ثلاثة عشر قرنا ونيفا ـ!.
     ولكي نكون اكثر توفرا على الاخذ باسباب الغرض الذي نهدف اليه من هذا البحث، نبدأ اولا بنقل تصريحات اشهر المؤرخين في الموضوع، ثم نعود ـ بعد ذلك ـ الى غربلتنا الدقيقة للظرف القائم ساعة تسليم الحسن، و الى نتائجنا من البحث.

 

    اليعقوبي في تاريخه:
     «وكان معاوية يدس الى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ووجه الى عسكر قيس ـ بعد هزيمة عبيدالله ابن عباس ومن معه ـ من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية و أجابه، و وجه معاوية الى الحسن المغيرة بن شعبة وعبدالله بن كريز وعبدالرحمن ابن أم الحكم وأتوه وهو بالمدائن، نازل في مضاربه، ثم خرجوا من عنده وهم يقولون ويسمعون الناس: انّ الله له الدماء وسكن الفتنة وأجاب الى الصلح، فاضطرب العسكر، ولم يشكك الناس في صدقهم، فوثبوا بالحسن، فانتهبوا مضاربه وما فيها، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط، وقد كمن الجراح ابن سنان الاسدي، فجرحه بمغول (1) في فخذه، وقبض على لحية الجراح ثم لواها، فدق عنقه، وحمل الحسن الى المدائن، وقد نزف نزفا شديدا، واشتدت به العلة، فافترق عنه الناس. وقدم معاوية العراق فغلب على الامر، والحسن عليل شديد العلة، فلما رأى الحسن ان لا قوة له به، وأن اصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له، صالح معاوية....».

 

     الطبرى:
     «بايع الناس الحسن بن علي عليه السلام بالخلافة، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد على مقدمته (كذا) في اثنى عشر الفا وأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مسكن، فبينا الحسن في المدائن اذ نادى منادٍ في العسكر: الا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن عليه السلام، حتى نازعوه بساطا كان تحته وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن، وكان عم المختار بن ابي عبيد عاملا على المدائن، وكان اسمه سعد بن مسعود، فقال له المختار وهو غلام شاب: هل لك في الغنى والشرف؟، قال: وما ذاك؟، قال: توثق الحسن وتستأمن به الى معاوية، فقال له سعد: عليك لعنة الله!، أثبُ على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوثقه، بئس الرجل انت!!. فلما رأى الحسن تفرق الامر عنه، بعث الى معاوية يطلب الصلح وبعث معاوية اليه عبدالله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، فقدما على الحسن بالمدائن، فأعطياه ما أراد وصالحاه».


1 ـ: (نصل طويل).


 

ابن الاثير في الكامل:
     «فلما نزل الحسن المدائن، نادى منادٍ في العسكر: الا ان قيس بن سعد قتل فانفروا، فنفروا بسرادق الحسن ونهبوا متاعه».
     (وساق حديث الطبري المذكور قبله)، ثم قال:
     «.. وقيل انما سلم الحسن الامر الى معاوية، لانه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة (كذا)، خطب الناس، فحمد الله واثنى عليه وقال: انا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكّ ولا ندم، وانما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم الى صفين، ودينكم امام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. الا وقد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره. أما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر. الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى الله عزوجل بظبا السيوف. وان اردتم الحياة قبلناه واخذنا لكم الرضا.. فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية، وأمض الصلح».

 

ابن ابى الحديد في شرح النهج:
     «عن المدائني، قال: ثم وجه عبدالله بن عباس (كذا) ومعه قيس بن سعد بن عبادة مقدمة له في اثنى عشر الفا الى الشام، وخرج هو يريد المدائن فطعن بساباط وانتهب متاعه، ودخل المدائن وبلغ ذلك معاوية فاشاعه، وجعل اصحاب الحسن الذين وجههم مع عبدالله يتسللون الى معاوية، الوجوه وأهل البيوتات، فكتب عبدالله بن عباس بذلك الى الحسن عليه السلام، فخطب الناس و وبخهم و قال: خالفتم أبي حتى حكَّم وهو كاره، ثم دعاكم الى قتال أهل الشام بعد التحكيم، فأبيتم حتى صار الى كرامة الله ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني، وقد أتاني أن اهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فحسبي منكم لا تعروني من ديني ونفسي. وأرسل عبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب الى معاوية يسأله المسالمة، واشترط عليه العمل بكتاب الله وسنة نبيه، وان لا يبايع لأحد بعده».


     المفيد في الارشاد:
     «وكتب جماعة من رؤساء القبائل الى معاوية بالسمع والطاعة في السرّ استحثوه على المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوّهم من عسكره، أو الفتك به، وبلغ الحسن ذلك، وورد عليه كتاب قيس بن سعد وكان قد أنفذه مع عبيدالله بن العباس عند مسيره من الكوفة، ليلقى معاوية ويرده عن العراق، وجعله أميرا على الجماعة. وقال: ان أصبت فالامير قيس بن سعد. فوصل كتاب قيس بن سعد يخبره أنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الجنوبية بازاء مسكن،وأن معاوية ارسل الى عبيدالله بن العباس يرغبه في المصير اليه، وضمن له الف الف درهم، يعجل له منها النصف ويعطيه النصف الاخر عند دخوله الى الكوفة. فانسل عبيدالله في الليل الى معسكر معاوية في خاصته، وأصبح الناس قد فقدوا اميرهم فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في أمورهم. فازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له، وفساد نيات المحكمة فيه بما اظهروا من السب والتكفير له واستحلال دمه و نهب امواله، ولم يبق معه من يأمن غوائله الا خاصته من شيعة أبيه وشيعته، وهم جماعة لا تقوم لاجناد الشام. فكتب اليه معاوية في الهدنة والصلح، وانفذ اليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه اليه، فاشترط له على نفسه في اجابته الى صلحه شروطا كثيرة، وعقد له عقودا كان في الوفاء بها مصالح شاملة. فلم يثق به الحسن وعلم باحتياله بذلك، واغتياله، غير أنه لم يجد بدا من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانفاذ الهدنة، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له، وما انطوى عليه كثير منهم في استحلال دمه، وتسليمه الى خصمه، وما كان من خذلان ابن عمه له، وميله الى عدوه، وميل الجمهور منهم الى العاجلة وزهدهم في الآجلة..».
     أقول:
     ثم لا تجد في أكثر الموسوعات التاريخية الاخرى، عرضا يحفل بشيء من التفصيل عن قضية الحسن عليه السلام، يشبه هذه العروض، على ما بينها من تضارب في استعراض الحقائق التاريخية، و على ما فيها من نقص في العرض و اختزال في التعبير.
     فيرى أحدهم ـ كما رأيت ـ ان الذي طلب الصلح هو الحسن، ويرى الاخر أنه معاوية، ويرى بعضهم ان سبب طلبه الصلح أو قبوله اياه هو فتن الشام في المعسكرين [مسكن والمدائن]، ثم يختلفون في نوع الفتنة. بينما يرى البعض الاخر ان سبب قبول الصلح من جانب الحسن هو تفرق الناس عنه بعد اصابته ومرضه. ويرى ثالث منهم أن السبب هو نكول الناس عن القتال معه كما يدل عليه جوابهم على خطبته «بالبُقيَة البُقيَة» وقولهم له صريحا «وأمض الصلح». ويرى الرابع، ان فرار قائده وخيانة اصحابه واستحلال بعضهم دمه وعدم كفاية الباقين للقتال، هو السبب لقبوله الصلح.
     ثم لا يزالون مختلفين في تسمية قائد المقدمة، فيسميه أحدهم عبدالله ابن عباس، ويسميه الثاني قيس بن سعد بن عبادة، ويسميه الثالث عبيد الله ابن العباس...
     وما انكى النكبة التي تتعرض لها القضية التاريخية، حين يخبط بها مؤرخوها هذا الخبط، و يخلطون حقائقها بموضوعاتها هذا الخلط.
     ومرت المصادر الاخرى على هذه القضية، مرورها على القضايا الهامشية في التاريخ، دون أن تستفزها الاحداث الكبرى، التي حفلت بها هذه الحقبة القصيرة من الزمن، التي هي عهد الحسن في الخلافة الاسلامية العامة، وعهد الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية، وعهد انقلاب الخلافة الى الملك، وعهد انبثاق الحزازات الطائفية في الاسلام.
     ولم يعن مؤرخو قضية الحسن من الصنفين ـ المفصلين والموجزين ـ بأكثر من الاشارة الى الظروف المتأزمة التي كان من طبيعتها أن تشفع لدى الحسن بقبول الصلح أو تضطرَّه اليه، فمن مذعن ساكت لا يبدي رأيا، ومن مصوب عاذر يتزيد الحجج ويعدد المعاذير، ومن ناقد جاهل خفي عليه «سر الموقف» فراح يكشف عن سر نفسه من التعصب الوقح والتحامل المرير.
     ولم يكن فيما توفر عليه كل من الاصدقاء والناقمين في استعراضهم التاريخي للمآزق التي تعرض لها الحسن عليه السلام، ما يحول بنسقه دون النقد الجارح [أو قل] ما يجيب بأسلوبه على السؤال المتأدب، في عزوف الحسن عن «الشهادة» التي كانت ـ ولا شك ـ افضل النهايتين، وأجدرهما بالامام الخالد.
     وكان الكلام على كشف هذا السرّ لو قدروا عليه هو نفسه الدليل الكاشف عن السبب الجوهري فيما صار اليه الامام من اختيار الصلح، دون أن يحتاجوا الى جهد اخر في تعداد المحن أو استعراض المآزق الصعاب لان شيئا من ذلك لا يدلّ في عرف الناقمين ولا المستفهمين، على انحصار المخرج بالصلح، ولا يغلق في وجوههم، احتمال ظرف الحسن للشهادة، كما احتملها ظرف اخيه الحسين، فيما كان قد اصطلح عليه من مضايقات هي في الكثير من ملامحها، صورة طبق الاصل عن ظروف أخيه، وقد خرج منها بالشهادة دون الصلح، وكانت آية خلوده في تاريخ الانسانية الثائرة على الظلم.
     اذاً، فلماذا لم يفعل الحسن اولاً، ما فعله الحسين اخيراً؟.
     ألِجبُنٍ ـ واستغفر اللّه ـ وما كان الحسين بأشجع من الحسن جناناً، ولا امضى منه سيفاً، ولا اكثر منه تعرضاً لمهاب الاهوال. وهما الشقيقان بكل مزاياهما العظيمة، خُلُقاً، وديناً، وتضحيةً في الدين، وشجاعة في الميادين، وابنا أشجع العرب، فأين مكان الجبن منه يا ترى؟.
     أم لطمع بالحياة، وحاشا الامام الروحي المعطر التاريخ، أن يؤثر الحياة، على ما ادخره اللّه له من الكرامة والملك العظيم، في الجنان التي هو سيد شبابها الكريم، والطليعة من ملوكها المتوجين، وما حياة متنازل عن عرشه، حتى تكون مطمعاً للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد، وترعرعت على التضحيات؟.
     أم لانه رضي معاوية لرياسة الاسلام، فسالمه وسلم له، وليس مثل الحسن بالذي يرضى مثل معاوية، وهذه كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية، وكلها صريحة في نسبة البغي اليه، وفي وجوب قتاله، وفي عدم الشك في أمره، وفي كفره اخيراً.
     فيقول فيما كتبه اليه أيام البيعة في الكوفة: «ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما انت لاقيه به (1)!..».
     ويقول وهو يجيب أحد اصحابه العاتبين عليه بالصلح: «واللّه لو وجدت انصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري (2)».


1 ـ شرح النهج (ج 4 ص 12).
2 ـ احتجاج الطبرسي (151).


    ويقول في خطابه التاريخي في المدائن «انا واللّه ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم..».
     ويقول لابي سعيد فيما نقلناه عنه آنفاً: «علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبني ضمرة وبني أشجع ولاهل مكة، حين انصرف من الحديبية، اولئك كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه «كفار» بالتأويل.
     اذاً، فما سالم معاوية رضا به، ولا ترك القتال جبناً عن القتال، ولا تجافى عن الشهادة طمعاً بالحياة، ولكنه صالح حين لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح، وبذلك ينفرد الحسن عن الحسين، اذ كان للحسين محرجان ميسّران من ظرفه ـ الشهادة والصلح ـ ولن يتأخر افضل الناس عن أفضل الوسيلتين، اما الحسن فقد اغلق في وجهه طريق الشهادة، ولم يبق أمامه الا باب واحد لا مندوحة له ومن ولوجه.
     وأقول ذلك وانا واثق بما أقول.
     وقد يبدو مستغرباً قولي [أغلق في وجهه طريق الشهادة]، وهل شهادة المؤمن الذي نزل للّه عن حقه في حياته، الا أن يقتحم الميدان مستقتلاً في سبيل اللّه، تاركاً ما في الدنيا للدنيا، وبائعاً للّه نفسه تنتاشه السيوف، وتنهل من دمه الاسنة والرماح، فاذا هو الشهيد الخالد. وكيف يغلق مثل هذا على مجاهدٍ له من ميدانه متسع للجهاد؟. وللحسن ميدانه الذي يواجه به العدوّ في «مسكن»، فلماذا لم يخفَّ اليه؟. ولم لم نسمع أنه وصله أو بارز العدوّ فيه، أو اقتحمه اقتحامة الموت، يوم ضاقت به الدنيا، فسدّت في وجهه كل باب الا باباً واحداً؟. وانه لو فعل ذلك فبرز الى ميدانه مستميتاً، لاستمات بين يديه عامة شيعته المخلصين لاهدافه، فانما كانوا ينتظرون منه كلمته الاخيرة لخوض غمرات الموت.
     نعم، ومن هنا كان مهبّ الرياح التي اجتاحت قضية الحسن بين قضايا أهل البيت عليهم السلام، ومن هنا جاءت الشبهات التي نسجت هيكل المشكلة التاريخية التي لغا حولها اللاغون ما شاء لهم اللغو، فزادوا الواقع تعقيداً وابتعاداً به عن فهم الناس.
     ثم كان من طبيعة هذا اللغو ـ أبعد ما يكون عن التغلغل في الصميم من تسلسل الحوادث ـ أن يرتجل الاحكام، وأن يتناول قبل كل شيء سياسة الحسن فينبزها بالضعف، ويتطاول عليها بالنقد غير مكترث ولا مرتاب.
     وسنرى بعد البحث، أيّ هاتيك الآراء مما اختاره الحسن أو مما افترضه الناقدون، كان أقرب الى الصواب، وانفذ الى صميم السياسة.
     وما كان الحسن في عظمته بالرجل الذي تستثار حوله الشبه، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن يجد المنفذ الى نقده والمأخذ عليه.
    واذ قد انتهينا الآن عامدين، الى مواجهة المشكلة في صميمها، وبما حيك حولها من نقدات ونقمات، فمن الخير أن نسبق الكلام على حلها، باستحضار حقائق ثلاث، هنَّ هنا أصابع البحث التي تمتد بتدّرج رقيق الى كشف الغطاء عن السرّ، فاذا الموضوع كله وضوح بعد تعقيد، وعذر بعد نقمة، وتعديل بعد تجريح.
     الاولى في بيان معنى الشهادة.
     والثانية في رسم صورة مصغرة عن الواقع الذي حاق بالحسن في لحظاته الاخيرة في «المدائن».
     والثالثة في خطة معاوية تجاه أهداف الحسن عليه السلام.
     وسيجرنا البحث الى التلميح بحقائق تقدم عرضها في أطواء دراستنا السابقة في الكتاب، ولكن الحرص على استيفاء ما يجب أن يقال هنا، هو الذي سوّغ لنا هذا التجاوز فرأيناه جائزاً.
     1 ـ الشهادة في اللّه:
    وهي بمعناها الذي يصنع الحياة، تضحية النفس لاحياء معروف او اماتة منكر.
     وليس منها التضحية لغاية ليست من سبل اللّه، ولا التضحية في ميدان ليس من ميادين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
     فلو قتل كافر مسلماً في ساحة جهاد، كان المسلم شهيداً.
     ولو قتل باغ مسلماً في ميدان دفاع كان المسلم شهيداً.
     اما لو قتل مسلم مسلماً في نزاع شخصي، أو قتله انتصاراً لمبدأ ديني صحيح، فلا شهادة ولا مجادة، ذلك لان الكرامة التي تواضع عليها تاريخ الانسانية للشهيد، هي أجرة تضحيته بروحه في سبيل المصلحة العامة فلا الحوادث الشخصية، ولا التضحيات التي تناقض المصلحة في خط مستقيم، مما يدخل في معنى الشهادة.
     وقتلة اخرى، أضيع دماً، وأبعد عن «الشهادة» معنى واسماً، هي ميتة رئيس يثور به أتباعه وذوو الحق في أمره، فيلقونه ارضاً. والمجموع في كل مجتمع هو مصدر السلطات لكل من يتولى شيئاً من أموره باسمه، وكانت هذه هي القاعدة التي بنيت عليها السلطات الجماعية في الاسلام، وعلى هذه القاعدة قال المسلم الاول لعمر بن الخطاب: «لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا».
     وانما كانت هذه القتلة أضيع دماً، وأبعد عن الشهادة اسماً، لان الايدي الصديقة التي اجتمعت على اراقة هذا الدم، كانت في ثورتها لحقها، وتضافرها الناطق ببلاغة حجتها، أولى عند الناس بالعذر.. «ولان الامة التي ولّته هي التي تقيم عليه الحدود» ـ على حد تعبير القفال الشافعي.
     فعثمان ـ مثلاً ـ الذي كان ثالث ثلاثة من أكبر الشخصيات التاريخية، التي هزّت الارض بسلطانها المرهوب، مات مقتولاً بسلاح الثائرين من ذوي الحق في أمره. فلم يستطع التاريخ، ولم يوفق اصدقاؤه في التاريخ، أن يسجلوا له «الشهادة» كما تقتضيها كلمة «شهيد».
     أما ذلك العبد الاسود الفقير، الذي لم يكن له من الاثر في الحياة، ما يملأ الشعور أو يشغل الذاكرة [جون مولى أبي ذر الغفاري]، فقد أرغم التاريخ على تقديسه، لانه قتل في سبيل اللّه فكان «الشهيد» بكل ما في الكلمة من معنى.
     اذاً، فليس من شروط الشهادة ولا من لوازم كرامتها، أن لا تكون الا في العظيم، وليس من شروط العظيم اذا قتل أيّ قتلة كانت، ان يكون شهيداً على كل حال.
     ولندع الآن هذا التمهيد لنخطو عنه الى الموضوع الثاني، ثم لنأخذ منه حاجتنا عند اقتضاء البحث.
     2 ـ صورة مصغرة عن الوضع الشاذ في المدائن:
    علمنا مما سبق ـ وبعض الاعادة ضرورة للبحث ـ أن خيرة أجناد الحسن كان في الركب الذي سبقه في مقدمته الى «مسكن»، وأن الفصائل التي عسكر بها الحسن في «المدائن» كانت من أضعف الجيوش معنوية، ومن أقربها نزعة الى النفور والقلق والانقسام.
     وعلمنا أنه فوجئ في أيامه الاول من المدائن ـ ولما يتلقَّ نجداته من معسكراته الاخرى ـ ببوادر ثلاث، كانت نذر الكارثة على الموقف.
     1 ـ أنباء الخيانة الواسعة النطاق في «مسكن».
     2 ـ الشائعة الاستفزازية التي ناشدت الناس بأن ينفروا، لان قيس بن سعد ـ وهو القائد الثاني على جيش مسكن ـ قد قتل!.
     3 ـ فتنة الوفد الشامي الذي جاء ليعرض كتب الخونة الكوفيين على الامام، ثم خرج وهو يعلن في المعسكر أن الحسن اجاب الى الصلح!.
    وفي هذا الجيش ـ كما قدمنا في الفصل (8) ـ، أصحاب الفتن، وأصحاب الطمع بالغنائم، والخوارج، وغيرهم، ولم يكن لهؤلاء مرتع أخصب من هذه الفتن التي زرعتها هذه البوادر المؤسفة الثلاث.
     وجمع الحسن الناس فخطبهم وناشدهم سلامة النية وحسن الصبر، وذكرهم بالمحمود من أيامهم في صفين، ثم نعى عليهم اختلافهم في يومه منهم. وكان أروع ما أفاده الحسن من خطابه هذا، أنه انتزع من الناس اعترافهم على انفسهم بالنكول عن الحرب صريحاً، واستدرجهم الى هذا الاعتراف بما تظاهر به من استشارتهم فيما عرضه عليه معاوية، فقال في آخر خطابه: «الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نَصفة، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى اللّه عزّ وجل بظبا السيوف، وان أردتم الحياة قبلناه منه وأخذنا لكم الرضا؟». فناداه الناس من كل جانب: «البقية البقية وأمض الصلح (1)».
     أقول: وليس في تاريخ قضية الحسن عليه السلام روايتان كثر رواتهما حتى لقد أصبحت من مسلمات هذا التاريخ، كرواية جواب الناس على هذه الخطبة بطلب البقية وامضاء الصلح، ورواية ثورة الناس في المدائن انكاراً للصلح والحاحاً على الحرب!!. وليت شعري. فأيّ الرأيين كان هدف هؤلاء الناس؟.
     وهل هذه الا بوادر الانقسام الذي أشرنا اليه آنفاً، بل «الفوضى» التي لن يستقيم معها ميدان حرب، والتي لا تمنع ان يكون المنادون بالصلح من كل جانب هم المنادين بالحرب انفسهم.
     وما للفوضى ودعوة جهاد وصحبة امام؟!
     وعلى أيٍّ، فقد كان هذا أحد الوان معسكر المدائن وأحد ظواهر التلوّن في عساكره وتحكّم العناصر المختلفة في مقدراته.


1 ـ ابن خلدون وابن الاثير والبحار وغيرهم ـ وكنا عرضنا القسم الاول من هذه الخطبة فيما رويناه في تصريحات المؤرخين من هذا الفصل.


    ولقد تدل ملامح النداء بالتكفير للحسن عليه السلام من قبل الثائرين عليه من جنوده هناك، أنه كان لسان حال «الخوارج»، وكانت هذه هي لغتهم النابية اذا استشرى غضبهم على أحد من المسلمين أو أئمة المسلمين. وانهم اذ يستغلون هذه اللحظة، أو يبعثونها من مرقدها، فانما كانوا يقصدون التذرّع الى أعظم جريمة في الدم الحرام، وفق مبادئهم الجهنمية التي طعن بها أحدهم الامام الحسن في فخذه فشقه حتى بلغ العظم!.
     وتدل ملامح النهب والسلب الذي مزّق الستار وتناول حتى رداء الحسن ومصلاه، على أنه كان عمل الفريق الآخر الذي سمته المصادر «أصحاب الطمع بالغنائم».
     ويدل طغيان الفتنة وسرعة انتشار الاضطرابات في المعسكر على أنه صنيعة «أصحاب الفتن» الذين كان يعج بهم هذا الجيش منذ كان في الكوفة ومنذ انتقل الى المعسكرين تحت لواء الجهاد المقدس!.
     وهكذا جمحت الفتنة في المدائن جماحها الذي خرجت به من أعنّة المخلصين والمنظمين، وحال الاكثرون بأحداثهم دون قيام الاقلين بواجبهم، ولم يعد لهذا الجيش من الاستقرار ما يستطيع به الثبات، ولا من الاهداف الا الاهداف الطائشة. فان لم يتسنَّ لهم قتال معاوية فليقتلوا الحسن امامهم، وان لم يبلغوا غنائم الحرب من أعدائهم فليتبلغوا بالغنائم من نهب أصدقائهم، وان لم يمكنهم الفرار الى معاوية ـ كما فعل أمثالهم في المعسكر الثاني ـ فليكتبوا الى معاوية ليجيء هو اليهم!!!
     وكان هذا هو ما حفظه التاريخ على هذه المجموعة من الناس، أمّا ما نسيه التاريخ أو تناساه أو حيل بينه وبين ذكره، فذلك ما لا يعلمه الا اللّه عزّ وجل.
     تُرى، فهل لو وضعنا معاوية مكان الحسن من هذه اللحظة أو من هذا الجيش بما لمعاوية من دهاء وسخاء، أكان يستطيع أن يخرج من مأزقه بأحسن مما خرج به الحسن مضمون السلامة على مبادئه وخططه ومستقبله؟.
    ولكي نزداد تحريّاً للاسباب التي أغلقت في وجه الحسن طريق الشهادة الكريمة، ننتقل بالقارئ الى الموضوع الثالث من مراحل هذه الجولة الكئيبة الخطوات.
     3 ـ خطة معاوية من أهداف الحسن (ع)
    ومات بموت عثمان لقب «الوالي» عن معاوية، ولا نعرف ما كان يجب أن يلقب به بعد ذلك، ولا نوع مسؤوليته في العرف الاسلامي. وقد علمنا أن الخليفتين الشرعيين علياً وابنه الحسن (عليهما السلام) لم يوّلياه، فليس هو بالوالي، وعلمنا أن الاسلام لا يتسع في تشريعه لخليفتين في عصر واحد، فليس هو بالخليفة.
     اذاً، فما معاوية بعد عثمان؟.
     لا ندري.
     نعم، انه شهر السلاح في وجه هذين الخليفتين منذ عزل عن ولاية الشام، ورأينا أن التشريع الاسلامي يثبت للقائم بمثل عمله هذا، لقباً نشك أن يكون معاوية رضي به لنفسه، وهذا اللقب هو «الباغي».
     تُرى، فهل كان هو يعرف لنفسه لقباً آخر غير زعامة البغاة؟.
 

 

        والمظنون أن معاوية في طموحه العتيد، لم يكن بالذي يزعجه أن يظل مجهول اللقب، أو محكوماً في «الشرع» بلقب الباغي، مادام هو في طريقة الى غزو أكبر الالقاب بالقوة، رضي الشرع أو أبى. فهو الملك ـ بعد ذلك ـ على لسان سعد بن أبي وقاص، وهو «الخليفة» و  «أمير المؤمنين» على لسان مسلم (1) بن عقبة والمغيرة (2) بن شعبة وعمرو (3) بن العاص، وهو المتنعم الدنيوي الذي «لم يبق شيء يصيبه الناس من الدنيا الا وقد أصابه» ـ على حد تعبيره عن نفسه. ولن يضيره بعد اعتراف ابن العاص وابن عقبة وابن شعبة له بالخلافة وامارة المؤمنين، أن يكون التشريع الاسلامي ينكر عليه هذا اللقب، لانه لا يسيغ غزو الالقاب الدينية بالقوة، ولا يسبغ لقب «الخليفة» على أحد، الا عند قرب الشبه بين صاحبه وبين النبي (ص)، ويصرفه دائماً عن الرجل الذي يكون بينه وبين النبي كما بين دينين.
 


1 ـ هو صاحب واقعة الحرة في مدينة الرسول صلى اللّه عليه وآله يوم أباحها ثلاثاً شر اباحة. وهو هادم الكعبة (زادها اللّه شرفاً) يوم رماها بالمنجنيق. وكان معاوية هو الذي نصح لابنه يزيد، فيما مهد له من الأمور. بأن يولي «مسلماً» هذا. قال له: «ان لك من أهل المدينة ليوماً، فان فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فانه رجل قد عرفت نصيحته!!.»
«يراجع الطبري والبيهقي وابن الاثير».
2 ـ كان المغيرة [فيما يحدثنا عنه البيهقي في المحاسن والمساوئ] اول من رشي في الاسلام. وكان [فيما يحدثنا به سائر مؤرخته] الوسيط في قضية استلحاق زياد ـ رغم النواميس الاسلامية. وكان السابق الى ترشيح يزيد بن معاوية للخلافة، وهو الذي يقول في ذلك: «لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً!!..». وكان هو الذي عناه حسان بن ثابت بقوله:

لو ان اللؤم ينسب كان عبداً تركت الدين والايمان جهلاً وراجعت الصبا وذكرت لهواً

قبيح الوجه أعور من ثقيف غداة لقيت صاحبة النصيف من الاحشاء والخصر اللطيف

3 ـ نار على علم. اعتركت الدنيا والآخرة على قلبه ـ على حد تعبير غلامه «وردان» ـ فقدم الدنيا على الآخرة، وشايع معاوية على أن تكون له مصر طعمة، فلا ظفرت يد البائع وخزيت أمانة المبتاع.
     روى ابن عبد ربه بسنده الى الحسن البصري قال: «علم معاوية واللّه ان لم يبايعه عمرو لم يتم له أمر، فقال له: يا عمرو اتبعني. قال: لماذا؟ اللآخرة فواللّه ما معك آخرة، أم للدنيا فواللّه لا كان حتى أكون شريكك فيها. قال: فانت شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها. فكتب له مصر وكورها. وكتب في آخر الكتاب: وعلى عمرو السمع والطاعة. قال عمرو: واكتب ان السمع والطاعة لا يغيران من شرطه شيئاً. قال معاوية: لا ينظر الى هذا. قال عمرو: حتى تكتب...!!».
     ورضي الصحابي المسن الذي مات في الثامنة والتسعين أن يختم هذا العمر المديد على مثل هذه المداورة الخبيثة في الدين، وراح يقول غير مبال: «لولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها فاني أعلم ان علي بن أبي طالب على الحق، وأنا على ضده!».
     اما بواكير حياته فكانت أبعد اثراً في النكاية بالاسلام ونبي الاسلام
(ص). وهو اذ ذاك أحد السهميين الذين ساهموا في فكرة قتل النبي (ص) ليلة الفراش في مكة. وهو «الابتر» المقصود بقوله تعالى «ان شانئك هو الابتر». ثم كان بعد ذلك من المساهمين في التأليب على عثمان، ولم يخرج الى فلسطين حتى نكأ القرحة كما قال هو عن نفسه يوم بلغه مقتل عثمان. والتحق اخيراً بمعاوية على هذه المساومة المفضوحة. ونجا من القتل المحقق في صفين بأشنع وسيلة عرفها التاريخ. ثم كان صاحب الفكرة في رفع المصاحف التي فتن بها المسلمين ونقض بها فتل الاسلام. وحضرته الوفاة فقال لابنه: «اني قد دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند اللّه فيها». ثم نظر الى ماله فرأى كثرته فقال: «ياليته كان بعراً، ياليتني مت قبل هذا بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمي على رشدي حتى حضرني أجلي». وخلف من المال ثلاثمائة الف دينار ذهباً ومليوني درهم فضة عدا الضياع. وكان رسول اللّه (ص) يقول فيه وفي معاوية: «انهما ما اجتمعا الا على غدر». أخرج هذا الحديث كل من الطبراني وابن عساكر، وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما عن أبي برزة قال: «كنا مع النبي (ص) فسمع صوت غناء فقال: انظروا ما هذا. فصعدت فاذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان فجئت فأخبرت النبي (ص) فقال: اللهم أركسهما في الفتنة ركساً. اللهم دعهما في النار دعاً». وعن تطهير الجنان لابن حجر: «أن عمراً صعد المنبر فوقع في علي ثم فعل مثله المغيرة بن شعبة، فقيل للحسن: اصعد المنبر لترد عليهما، فامتنع الا أن يعطوه عهداً انهم يصدقونه ان قال حقاً ويكذبونه ان قال باطلاً فأعطوه ذلك، فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: انشدك اللّه يا عمرو ويا مغيرة، أتعلمان ان رسول اللّه لعن السائق والقائد أحدهما فلان ـ يعني معاوية ـ، قالا: بلى، ثم قال: أنشدك اللّه يا معاوية ويا مغيرة ألم تعلما ان النبي لعن عمراً بكل قافية قالها لعنة، فقالا: اللهم بلى، ثم قال: أنشدك اللّه يا عمرو ويا معاوية الم تعلما ان النبي لعن قوم هذا ـ يعني المغيرة ـ قال الحسن فاني احمد اللّه الذي جعلكم فيمن تبرأ من هذا ـ يعني علياً ـ». وكان ابن العاص هذا، هو الذي عناه الصحابي الكريم عمار بن ياسر (رض) بقوله للمجاهدين في صفين: «أتريدون ان تنظروا الى من عادى اللّه ورسوله وجاهدهما، وبغى على المسلمين وظاهر المشركين، فلما رأى اللّه عز وجل يعز دينه ويظهر رسوله صلى اللّه عليه وسلم، أسلم وهو فيما نرى راهب غير راغب. ثم قبض اللّه رسوله (ص) فواللّه أن زال بعده معروفاً بعداوة المسلم وهوادة المجرم. فاثبتوا له وقاتلوه، فانه يطفئ نور اللّه ويظاهر أعداء اللّه عز وجل!!» (الطبري، ابن أبي الحديد، المسعودي، وغيرهم).


     ولا ندري على التحقيق مبلغ ما كلفت معاوية هذه الالقاب في دينه، يوم غزاها لنفسه، أو يوم غزاها لابنه يزيد، وانه لاعرف الناس بابنه؟!.
     ولا ندري مبلغ اهتمام الرجل، بمحاسبة نفسه تجاه اللّه، فيما كان يجب أن يحاسبها عليه؟.
     ولكننا علمنا ـ على ضوء محاولاته الكثيرة في الاخذ والرد ـ، أنه لم يعن بمحاسبة نفسه قطّ، وعلمنا أن الانانية الطموح كانت تملأ مجاهل نفسه، فتنسيه موقفه الواهن ـ المفضوح الوهن ـ الواقف في مهاب الرياح، والمتركز في حقيقته على خيوط العنكبوت، يوم طارت من حواليه الالقاب كلها.
     وعلمنا أن قبليته الطاغية الجامحة، كانت تأخذ عليه منافذ تفكيره، فتريه من شهادة ابن العاص له بالخلافة، ومن ترشيح المغيرة بن شعبة ابنه يزيد لامارة المؤمنين، مبرراً يردّ به الصريح من شرائط الاسلام. وهل كانت هذه الشهادة أو ذاك الترشيح، الا نبت المساومات الرخيصة على ولاية مصر وولاية الكوفة، كما هو الثابت تاريخياً؟.
     ولا عجب من «ابن أبي سفيان» ان يكون كما كان، وهو الاموي الصريح، أو الاموي اللصيق الذي يعمل جاهداً ليكون أموياً صريحاً (1).


1 ـ يراجع الزمخشري في «ربيع الابرار» وابن السائب في «المثالب» وابو الفرج في «الاغاني» وابن السمان في «مثالب بني امية» وجعفر بن محمد الهمداني في «بهجة المستفيد». ثم ليكن القارئ بعد ذلك عند اختياره في نسبة معاوية الى أي آبائه الاربعة المذكورين هناك باسمائهم.
     اقول: والى ذلك يشير سيد العرب في نهجه بقوله: «وليس الصريح كاللصيق».

    وللأموية والهاشمية تاريخهما الذي يصعد بهما حتى يلتقيا وينزل معهما كلما نزل الزمان.
     وكان من طبيعة «ردّ الفعل» في النفوس التي شبت مع العنعنات القبلية جاهليةً واسلاماً، والتي قبلت الاسلام مرغمة يوم الفتح، ثم لم تهضم الاسلام ـ كما يريده الاسلام ـ أن تكون دائماً عند ذحولها من الضغائن الموروثة، والترات القديمة العميقة الجروح.
     وكان معاوية ـ بعد الفتح ـ وعلى عهد النبوة الطالعة بالنور، الطليق «الحافي القدمين» كما يحدثنا هو عن نفسه. امّا في الدور الذي تململ معه النفوذ الاموي ليسترجع مكانته في المجتمع، وعلى عهد السياسة الجديدة التي رشحت للشورى عضواً أموياً عتيداً، فلِمَ لا يكون ابن عم عثمان والي الشام القوي المرهوب، الذي يصطنع الاعوان والمؤيدين، ويسترضي الاتباع والاجناد والمشاورين، ويتخذ القصور والستور والبوابين، وفي ثروة ولايته ما يسع كل صاحب طمع أو بائع ضمير أو لاحسن قصعة!!.
     ولئن كان معاوية في دور النبوة الرعية المخذول العاجز عن الانتصاف لنفسه ولقبيله من القوة التي غلبت على أمره وأمر قبيله، فَلِمَ لا يحاسب تلك القوة حسابها العسير في الدور الذي ملك فيه مقاليد القوة بنفسه أو بقبيله، ولِمَ لا يعود الى طبيعته فيتحسس بذحوله القديمة من الابناء والاخوة والاصحاب، ويأخذ بثاره من المبادئ والاهداف؟. ولذلك فقد كان من المنتظر المرقوب لمعاوية، أن يشنّ غاراته المسلحة على عليّ والحسن (عليهما السلام) في أول فرصة تمكنه من ذلك، وأن يشن معهما حروبه (الباردة) الاخرى، التي كانت أطول الحربين أمداً، وأبعدهما حراً، وأفظعهما نكالاً في الاسلام.
     ويستدل من كثير كثير من الاعمال الدبلوماسية التي قام بها معاوية في عهده الطويل الامد، أنه كان قد قرر التوفر على حملة واسعة النطاق لتحطيم المبادئ العلوية، أو قل لتحطيم جوهرية الاسلام متمثلة في دعوة علي وأولاده المطهّرين عليهم السلام.
     ويظهر أنه كان ثمة أربعة أهداف تكمن وراء هذه الحملة.
     1 ـ شلّ الكتلة الشيعية ـ وهي الكتلة الحرة ـ والقضاء تدريجياً على كل منتمٍ الى التشيع وتمزيق جامعتهم.
     2 ـ خلق الاضطرابات المقصودة في المناطق المنتمية لأهل البيت والمعروفة بتشيعها لهم، ثمَّ التنكيل بهؤلاء الآمنين بحجة تسبيب الشغب.
     3 ـ عزل أهل البيت عن العالم الاسلامي، وفرض نسيانهم على المسلمين الا بالذكر السيئ، والحؤول ـ بكل الوسائل ـ دون تيسّر النفوذ لهم، ثم العمل على ابادتهم من طريق الغيلة.
     4 ـ تشديد حرب الاعصاب.
     ولمعاوية في الميدان الاخير جولات ظالمة سيطول حسابها عند اللّه عزّ وجل كما طال حسابها في التاريخ، وسيجرّنا البحث الى عرض نماذج منها عند الكلام على مخالفاته لشروط الصلح، وهو مكانها من الكتاب.
     وكان من أبرز هذه الجولات في سبيل مناوأته لعلي وأولاده ولمبادئهم وأهدافهم، أنه فرض لعنهم في جميع البلدان الخاضعة لنفوذه، بما ينطوي تحت مفاد «اللعن» من انكار حقهم، ومنع رواية الحديث في فضلهم، وأخذ الناس بالبراءة منهم فكان ـ بهذا ـ أول من فتح باب اللعن في الصحابة، وهي السابقة التي لا يحسده عليها مسلم يغار على دينه، وتوصّل الى استنزال الرأي العام على ارادته في هذه الاحدوثة المنكرة «بتدابير محبوكة» تبتعد عن مبادئ اللّه عزّ وجل، بمقدار ما تلتحم بمبادئ معاوية.
     وان من شذوذ أحوال المجتمع، أنه سريع التأثر بالدعاوات الجارفة القوية ـ مهما كان لونها ـ ولا سيما اذا كانت مشفوعة بالدليلين من مطامع المال ومطامع الجاه.
     وما يدرينا بِمَ رضي الناس من معاوية، فلعنوا معه علياً وحسناً وحسيناً عليهم السلام؟ وما يدرينا بماذا نقم الناس على أهل البيت فنالوا منهم كما شاء معاوية أن ينالوا؟!.
     ربما يكون قد أقنعهم بأن علياً وأولاده، هم الذين حاربوا النبي صلى اللّه عليه وآله ابان دعوته، وأنهم هم الذين حرموا ما أحلّ اللّه وأحلّوا ما حرّم اللّه، وهم الذين ألحقوا العهار بالنسب، وهم الذين نقضوا المواثيق وحنثوا بالايمان، وقتلوا كبار المسلمين صبراً، ودفنوا الابرياء أحياء، وصلوا الجمعة يوم الاربعاء (1).
     وربما يكون قد أطمعهم دون أن يقنعهم، وربما يكون قد أخافهم دون أن يطمعهم، فكان ما أراد «وارتقى بهم الامر في طاعته الى أن جعلوا لعن علي سنّةً ينشأ عليها الصغير ويهلك الكبير (2)». والمرجّح أن معاوية هو الذي فضّل تسمية هذه البدعة «بالسنّة» فسماها معه المغرورون بزعامته والمأخوذون بطاعته كما أحبَّ، وظلّ الناس بعده على بدعته. الى أن ألغاها عمر بن عبد العزيز ـ «وأخذ خطيب جامع (حرّان) يخطب ثم ختم


1 ـ يراجع عن هذا مروج الذهب (ج 2 ص 72) وعن غيره مما ذكر قبله، المصادر التي أشرنا اليها آنفاً عند ذكر بعض هذه الحقائق، والمصادر التي سنذكرها في فصل الوفاء بشروط الصلح فيما يأتي، عند ذكرنا للبعض الآخر.
2 ـ مروج الذهب (ج 2 ص 72).
ولنتذكر هنا، أن علياً عليه السلام سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين، فنهاهم، وقال لهم: «اني اكره لكم أن في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم اياهم: اللهم احقن دماءنا تكونوا سبابين ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به...» ـ النهج: (ج 1 ص 420 و421). ـ وجاء يوماً رسول معاوية الى الحسن عليه السلاموكان فيما قال له: «أسأل الله ان يحفظك ويهلك هؤلاء القوم». فقال له الحسن: «رفقاً لا تخن من ائتمنك، وحسبك ان تحبني لحب رسول اللّه (ص) ولابي وأمي، ومن الخيانة ان يثق بك قوم وأنت عدو لهم وتدعو عليهم..». الملاحم والفتن (ص 143 طبع النجف).


 

خطبته ولم يقل شيئاً من سب أبي تراب كعادته، فتصايح الناس من كل جانب: ويحك ويحك السنة السنة، تركت السنة! (1)».
     ثم كانت «سنّة معاوية» هي الاصل التاريخي لتكوين هذه الكلمة تكويناً اصطلاحياً آخر، تناسل مع الاجيال، وتنوسيت معه مناسباته السياسية الاولى.
     وانتباهة منصفة في تناسق نفسيات الرجل، تغنيك عن استعراض أمثلة كثيرة من أعماله في هذا السبيل..
     وبعد هذا، فما ظنك بمعاوية لو قدّر له الظفر في حربه مع الحسن، وقدّر للحسن الشهادة في الحرب؟.
     أفكان من سوابق الرجل هذه، ما يدل على أنه سيلزم جانب الاعتدال والقصد، في استغلال انتصاره تجاه فلول الحرب من شيعة الحسن والبقية الباقية من الثابتين على العقيدة والايمان؟ أم أن موجة ابادة ساحقة ستكون هي عنوان علاقاته بهؤلاء، بعد موقفه الصريح من السلالة النبوية نفسها، وبعد أن يكون قد طحن في هذه الحرب أكبر رأس في البيت النبوي العظيم.
     ان معاوية سوف لا يتقي بعد ذلك أحداً. وانه سوف لا يتردد سياسياً، ولا يتورع ديناً، من أن يمضي قدماً في تصفية حسابه مع المبدأ الذي أقض مضجعه وأكل قلبه وهزئ بكيانه، منذ ولي عليّ الخلافة، بل منذ طلعت الهاشمية بالنور على الدنيا، بل منذ هزمت المنافرة أمية الى الشام.
     وما كان معاوية بالذي يعجز عن وضع «تدابير محبوكة» أخرى لعملية محق الشيعة، بعد مقتل الحسن، يحتال بها على المغرورين بزعامته من الجيل الذي شدّ أزره على اصطناع ما أتاه من مخالفات.


1 ـ «الاسلام بين السنة والشيعة» (ص 25).


    وهو صاحب تدابير «لعن أهل البيت» وصاحب تدابير «رمي عليّ بدم عثمان»، فلتكن ثالثة أثافيه تدابيره في «القضاء على التشيع» مادياً ومعنوياً. وانه لرجل الميدان في تعبئة هذه الالوان من التدابير.
     وفي جنبات قصوره الشاهقات في الشام، الضمائر المعروضة للبيع والاقلام المفوضة للايجار، فلتضع الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وفق الخطط المرسومة، ولتنتهك المبادئ العلوية انتهاكاً فتمسخها مسخاً وتزدريها ازدراء تنتزع به استحقاقها للبقاء بين الناس، ثم لتخلق منها ـ وقد خلا الجوّ من آل محمد (ص) ـ ردة اخرى عن الاسلام تتهم بها بناة الاسلام ومهابط تنزيله ومنازل وحيه ومصادر تعاليمه أنفسهم، ثم لتشرّع للناس ـ مع تمادي الوضع والرفع ـ اسلاماً آخر، هو قريحة معاوية ـ لا ما هتفت به الهاشمية من وحي السماء.
     وكان هذا هو الذي عناه الحسن عليه السلام حين قال: «ما تدرون ما عملت، واللّه للَّذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس».
     وما شيء خيراً مما طلعت عليه الشمس من حفظ العقيدة وتخليد المبدأ.
     وكان هو ما عناه ـ أيضاً ـ الامام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (الباقر) عليه السلام، حين سُئِل عن صلح الحسن (ع) فقال: «انه أعلم بما صنع ولولا ما صنع لكان أمر عظيم».
     النتائج:
    وأغلب الظن أن خطوات هذه المراحل الثلاث، بلغت بالقارئ الكريم هدفنا المقصود من البحث، قبل ان نعلن عنه صريحاً، وكشفت له بتدرّجها الرفيق كثيراً من الغموض الذي هيأ جواً للنقد الموروث.
     ونقول الآن تدليلاً على ما ادعيناه أولاً من انغلاق طريق الشهادة عن الحسن (ع)، الذي كان معناه امتناعها هي منه، دون امتناعه هو منها: ان الحسن لو حاول أن يجيب على حدّة مأزقه التي اصطلحت عليه في لحظته الاخيرة في المدائن، باراقة دمه الطاهر في سبيل اللّه عزّ وجل انكاراً على البغي الذي صارحه به ستون ألفاً من أجناد الشام، وايثاراً للشهادة ومقامها الكريم ـ لحيل بينه وبين ما يريد، ولكان ـ بلا ريب ـ ذلك المقتول الضائع الدم الذي لن يستطيع أصدقاؤه في التاريخ أن يسجلوا له الشهادة كما تقتضيها كلمة «شهيد».
     ذلك لان الظرف المؤسف الذي انتهى اليه طالع المدائن بما عبرت عنه الفوضى الرعناء في صيحاتها الكافرة وفي سلاحها ـ أيضاً ـ، وبما كشفت عنه كتب الخونة الكوفيين في مواثيقهم لمعاوية على الفتك بالحسن ـ وهو ما وقف عليه الحسن نفسه في رسائلهم ـ، كل ذلك يفرض علينا الاستسلام للاعتقاد بأن فكرةً قوية الانصار من رجالات المعسكر، كانت قد قررت التورط في أعظم جريمة من أمر الامام عليه السلام، وأنهم كانوا يتحينون الفرص لاقتراف هذه البائقة الكبرى.
     ووجدوا من تلاشي النظام في المعسكر، بما انتاشه من الفزع وبما انتابه من الفتن، وبما بلغه من أخبار مسكن، ومن الفوضى «المصطنعة» التي اطلعت رأسها بين جماهيره الهوج ـ ظرفاً مناسباً لانزال الضربة الحاسمة التي كانت هدف الخوارج فيما أرادوه من جهادهم مع الحسن وكانت غاية «الحزب الاموي» فيما تم عليه الاتفاق بينه وبين معاوية. ولا ننسى أن معاوية نفسه كان قد لوّح للحسن عليه السلام في رسائله الاولى اليه، بما يشعره التهديد بهذه الخطة العدوة ـ من أول الامر. والا فما معنى قوله هناك: «فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس!!.».
     وبلغ من دقة الموقف وتوتر الوضع، في لحظات المدائن الاخيرة، أن أيَّ حركة من الامام عليه السلام سواء في سبيل الحرب أو في سبيل الصلح، وفي سبيل الانضمام الى الجبهة في مسكن أو في سبيل العودة الى الكوفة ـ مثلاً ـ، لابد أن تنقلب الى خلاف حادّ، فتمرد واسع، فثورة مسلحة هوجاء، هي كل ما يتمناه معاوية، ويُصوِّب له ذهبه وخزائنه.
     ولن يطفئ النائرة يومئذ لو اتقدت جذوتها الا دم الحسن الزكي.
     وللثورات الجامحة أحكامها القاسية وتجنياتها التي لا تبالي في سبيل الوصول الى أهدافها بالاشخاص مهما عظمت مكانتهم في النفوس.
     أَوَليست طعنة الحسن في ساباط المدائن دليلاً على ما نقول؟. وهل كانت الا الطعنة التي تطوعت الى قتله عن ارادة وعمد؟ وكان قد خرج اذ ذاك من فسطاطه يؤم مقصورة عامله على «المدائن» ليتجنب ضوضاء الناس، وليكون هناك أقدر على اتخاذ ما يحتمله الظرف من تدبير.
     وهنا يقول المؤرخون ما لفظه: «وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا عنه من أراده». وفي نص آخر: «فأطافوا به ودفعوا الناس عنه» أقول: فمِمَّ كانوا يدفعون الناس عنه؟ ومِمَّ منعوا من أراده؟.. أوَليس هذا كله صريحاً بأنه أصبح مهدداً على حياته، وأن الذين خرجوا معه كمجاهدين يدافعون عنه انكشفوا ـ بعد قليل ـ عن أعداءٍ يتدافعون عليه؟؟.
     وهل كان انكفاؤه الى مقصورة سعد بن مسعود، الا ليبتعد عن المحيط المفتون الذي أصبح يستعد لثورة لا يُدرى مدى اندفاعها بالموبقات؟. ورأى بأم رأسه انسياح فصائله أنفسهم في مضاربه نهباً، وفي مقامه المقدس تكفيراً وسباً، ورأى تحاملهم المقصود على ايذائه وتدافعهم العامد على العظيم من أمره، فعلم أنهم أصبحوا لا يطيقون رؤيته، وأن ظهوره بشخصه بينهم هو مثار تمردهم الخبيث، فانتقل غير بعيد، وكانت انتقالته نفسها احدى وسائله لعلاج الموقف، لو أنه وجد للعلاج سبيلاً.
     وبديهيّ أنه لم يكن أحد آخر في الدنيا كلها، أحرص من الحسن نفسه على الفوز في قضيته، ولا أكثر عملاً، ولا أشد اهتماماً، ولا أنشط حيوية، ولا أسرع تضحية فيما تستدعيه من تضحيات.
    وبديهيّ أيضاً، أنه لم يكن ليفوته ما لا يفوتنا من رأي، ولا يخطئه ما لا يخطئنا من تدبير. ولقد برهنت سائر مراحله على أنه الرجل الحصيف الذي غالب مشاكله كلها ثم اختار لها أفضل الحلول في حربه وسلمه ومع مراحل جهاده ومعاهدات صلحه، وفي عاصمة ملكه «الكوفة» وعاصمة امامته «المدينة».
     ترى، أفكان من جنون هذه اللحظات في المدائن، مجال للموت الذي يصنع الحياة؟ أم هو المجال الذي لا يصنع الا الموت في الموت أبدياً، وهو ما يجب أن تربأ عنه النفوس الكريمة التي لا تموت الا لتحيي بعدها سنة أو تنقذ أمة.
     فأين امكان الشهادة للحسن يا ترى؟..
    ولقد يحز في النفس حتى ليضيق محب الحسن ذرعاً بما يترسمه في ذهنه من معالم الخطوب السود، التي كانت تتدفق بطوفانها الرهيب على هذا الامام الممتحن في أحرج ساعاته وأدق لحظاته.
     ربما كان للذهن قابلية التصور أو قابلية الهضم للحوادث التي ترجع الى مصادرها الاعتيادية في الناس، من العداء الشخصي، أو النزاع القبلي، أو الخلاف النظري ـ كعداء معاوية للحسن، أو خصومة بني أمية للهاشميين، أو خلاف الخوارج على عليّ وأولاده (ع). أما الحوادث التي لا مرجع لها الا الطمع الدنيء فانه من آلم ما يتصوره الانسان من شذوذ الناس.
     أفتظن ان من الممكن لشيعي يعتقد امامة الحسن كما يعتقد نبوة النبي، ويعيش في نعمة الحسن كما يعيش في نعمة أبيه، ثم تحدثه نفسه بالخيانة العظمى في أحرج اللحظات التي تمر بامامه وولي نعمته، وأحوجها الى الاخلاص الصحيح من شيعته؟.
     أجل، انها للمؤامرة الدنيئة التي كانت من صميم الواقع الذي دار حول الحسن عليه السلام، في ابان وجوده في المقصورة البيضاء بالمدائن!!..
     فانظر الى أيّ حد كان قد بلغ التفسخ الخلقي في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتخذ منه أجناده الى جهاد عدوه.
     قد يكون الفرد بذاته من ذوي الحسب، وقد يكون على انفراده من ذوي السكينة، ولكنه اذا انساح بضعفه المتأصل في نفسه مع العاصفة الطارئة، واحتضنته الجماهير المتحمسة من حوله، كان جديراً بان تغلب عليه روح الجماعة فلا يشعر الا بشعورها، ولا يفكر الا بفكرها، ولا يعمل الا بعملها ـ ويخالف ـ عندئذٍ ـ مشاعره الفطرية مخالفة لا تنفك في أكثر الاحيان عن الندم الجارح عند سكون العاصفة وتبدّل الاحوال.
     وهكذا كان من السورة الجامحة في ضوضاء المدائن يومئذ ما أخضع لتياره حتى الشيعيّ الضعيف، فنسي تشيعه ونسي عنعناته، ونسي حتى المعنويات العربية الساذجة التي تتحلل من الدين على اختلاف نزعاته!!..
     فانه ان لم يكن امامك فولي نعمتك، وان لم يكن ولي نعمتك فالكريم الجريح.
     وهذا مثلٌ واحد ـ حفظه التاريخ ـ عن شيعيهم، ظنك بخارجيهم وأمويهم وشكاكهم وأحمرهم؟.
     ومثلٌ واحد حفظه التاريخ، يدل على أمثال كثيرة نسيها التاريخ أو تناساها.
     ووجه آخر:
    هو ما أشار اليه الحسن نفسه في أجوبته لشيعته الذين نقموا عليه الصلح. قال: «ما أردت بمصالحتي معاوية الا أن ادفع عنكم القتل (1)».


1 ـ الدينوري (ص 303).


 

وأثر عنه بهذا المعنى كلمات كثيرة.
     وللتوفر على فهم هذه الحقيقة بشيء من التفصيل الذي يخرج بنا الى القناعة بما أجمله الامام بهذا القول، نقول:
     لم يكن النزاع بين الحسن ومعاوية في حقيقته، نزاعاً بين شخصين يتسابقان الى عرش، وانما كان صراعاً بين مبدأين يتنازعان البقاء والخلود. وكان معنى الانتصار في هذا النزاع، خلود المبدأ الذي ينتصر له أحد الخصمين المتنازعين. وكذلك هي حرب المبادئ التي لا تسجل انتصاراتها من طريق السلاح، ولكن من طريق الظفر بثبات العقيدة وخلود المبدأ. وربما ظفر المبدأ بالخلود ولكن تحت ظل اللواء المغلوب ظاهراً.
     وانقسم المسلمون يومئذ، على اختلاف رأيهم في المبدأين، الى معسكرين يحمي كل منهما مبدأه، ويتفادى له بكل ما أوتي من حول وقوة.
     فكانت العلوية والاموية، وكانت الكوفة والشام.
     ونخلت الادوار الاستفزازية التي لعبها معاوية، باسم الثأر لعثمان، معسكر الشام من شيعة عليّ وأولاده عليهم السلام. فكان لابد لهؤلاء أن ينضووا الى معسكرهم في الكوفة، وفي البلاد التي ترجع بأمرها الى الكوفة، غير مروعين ولا مطاردين.
     واجتمع ـ على ذلك ـ في الكوفة والبصرة والمدائن والحجاز واليمن عامة القائلين بالتشيّع لأهل البيت عليهم السلام.
     وخلص الى عاصمة الامام في العراق من الامصار كلها، الثقل الاكبر من أعلام المسلمين، وبقايا السيوف من المهاجرين والانصار. فكانت كوفة علي على عهد الخلافة الهاشمية، مباءة الاسلام، والمركز الذي احتفظ بتراث الرسالة بأمانة وصبر وايمان.
     وكان طبيعياً ان يستجيب لدعوة الحسن، في زحفه للموقعة الفاصلة بين المبدأين، عامة هذه النخبة المختارة المتبقية في الكوفة بعد وفاة أبيه عليه     السلام، من شيعته وشيعة أبيه وصحابة جده صلى اللّه عليه وآله، فاذا هم جميعاً عند مواقعهم من صفوف وحداتهم، في الجيش الذي يستعدّ في «النخيلة».
     ولم يكن في الدنيا كلها، قابلية أخرى لصيانة التراث الاسلامي على وجهه الصحيح، كالقابليات التي لفّها جناح هذا الجيش، بانضواء هذه الكتل الكريمة اليه، وفيها أفراد الاسرة المطهرة من الهاشميين.
     واحتضنت وحدات النخيلة مع هؤلاء، أجناساً كثيرة من الناس، أتينا ـ فيما سبق ـ على عرض واسع لمختلف عناصرهم وشتى منازعهم ونتائج أعمالهم.
     وكان المضيّ في الزحف ضرورة اقتضاها الظرف الطارئ كما أشير اليه آنفاً.
     وما هي الا أيام لم تبلغ عدد الاصابع، حتى انتظم المعسكران في «المدائن» و «مسكن» أقسام الجيش كلها، فكان في كل منهما جماعة من الطبقة الممتازة في مسلكها ومعنوياتها واخلاصها، وجماعات أخرى من طبقات مختلفة منوّعة.
     وجاءت هزيمة عبيد اللّه بن عباس ومن معه الى معاوية، أشبه بعملية تصفية قد تكون نافعة، لو لم تعزّزها نكبات أخرى من نوعها ومن غير نوعها، ذلك لانها نخلت معسكر مسكن، وهو المعسكر الذي نازل العدو وجهاً لوجه، من الاخلاط التي كانت العضو الفاسد في هذا الجيش.
     أما في المدائن فقد كان الحسن وخاصته في سواد من أشباه المهزومين لا يتسنى لهم الوصول الى معاوية فيفرون، ولا يستفزّهم الواجب فيرضخون. وكانوا في المستقبل القريب، أداة الكارثة التاريخية، بما حالوا بين الحسن وبين أهدافه من هذه الحرب، وبما أغلقوا عليه من طريق الشهادة الكريمة، وبما أفسدوا عليه كل شيء من أمره، (كما مرّ بيانه قريباً).
    ولنفترض الآن أن شيئاً واحداً كان لا يزال تحت متناول الحسن في سبيل الاستمرار على الحرب، أو في سبيل الامتناع على الصلح.
     ذلك هو أن يصدر أوامره من حصاره في «المدائن» الى انصاره في «مسكن» بمباشرة الحرب، تحت قيادة القائد الجديد «قيس بن سعد بن عبادة الانصاري»، الرجل العظيم الذي نعرف من دراسة ميوله الشخصية، أنه كان يؤثر الحرب حتى ولو صالح الامام (1). واذا كانت ثورة المشاكسين في المدائن، قد حالت دون تكتيب هذا الجيش للقتال، فما كانت لتحول دون ارسال الاوامر الى المخلصين الاوفياء في جيش مسكن بالحرب، ان سراً وان علناً.
     ومن المحتمل أن كثيراً من المغلوبين على أمرهم من مجاهدة المدائن المخلصين، كانوا يستطيعون التسلل الى «مسكن» لانجاد القوات المحاربة هناك، فيما لو وجدوا من جانب الحسن استعداداً لهذه الفكرة او تشجيعاً عليها.
     ولعل من المحتمل ايضاً ان الامام نفسه كان يستطيع هو ايضاً وبعد تريث غير طويل، ينتظر به خفوت الزوابع الدائرة حوله في المدائن، أن يخفّ الى مسكن حيث النصر الحاسم، أو الشهادة بكل معانيها الكريمة في اللّه وفي التاريخ.
     فلماذا ينزل الى الصلح، وله من هذا التدبير مندوحة عنه؟.
     نقول:
     ربما كان في مستطاع الحسن اصدار هذه الاوامر في لحظاته الاخيرة في المدائن، وربما لم يكن.


1 ـ يراجع عن هذا ابن الاثير (ج 3 ص 162).


    وعلى كل من التقديرين، فما كل مندوحة لوحت بنجاح، يجوز الاخذ بها، ورب تدبير في ظرف هو نفسه مفتاح مآزق صعابٍ لظرفٍ آخر. وهذه هي القاعدة التي يجب الالتفات اليها عند الاخذ بأيّ اقتراح في أيّ من المآزق.
     وهنا ايضاً، فهل فكَّر مقترح هذا التدبير، في المدة التي كان يمكن أن تستوعبها حرب أربعة آلاف ـ هم جيش الحسن في مسكن ـ لستين الفاً هم جيش معاوية أو ثمانية وستين الفاً؟ واستغفر اللّه، بل حرب مجموعة من جيش تنازل مجموعة من جيش تزيدها خمسة واربعين ضعفاً! [ارجع الى تحليل النسبة العددية بين الفريقين عسكر مسكن وعسكر الشام في الفصل ـ 11 ـ].
     وهل فكَّر مقترح هذه المندوحة، فيما عسى ان يكون موقف الحسن عند انتهاء اللحظات القصيرة من عمر هذه الحرب، وعندما يتفانى المساعير من أنصاره في مسكن.
     انه ولا شك الموقف الذي سيضطره ـ لو بقي حياً ـ الى التسليم بدون قيد ولا شرط.
     وانه ولا شك الطالع الجديد الذي كان ينتظره معاوية للاجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام، الاجراءات التي لا تعدو الاحتلال العسكري المظفر بويلاته ونقماته التي لا حدَّ لفظاعتها في أهل البيت وشيعتهم، وأخلق باحتلال كهذا أن يطوّح بكل أماني البلاد، وبشعائرها الممتازة، ومبادئها التي قامت على جماجم عشرات الالوف من صفوة الشهداء المجاهدين في اللّه.
     ولا اخال أنّ أحداً يفطن الى هذه النتائج المحتمة، ثم لا يحكم بفشل هذه المندوحة المنتقضة على نفسها، وانّ من أبرز اخطائها انها تنقل الحسن ـ في أقصر زمان ـ من خصم مرهوب يملي الشروط على عدوه، الى محارب مغلوبٍ لا مفرّ له من التسليم بدون قيد ولا شرط.
     وهذا فيما لو انكشفت الحرب والحسن حيّ يحال بينه وبين الاشتراك فيها.
     وأما لو قدر لهذه الحرب القصيرة العمر، أن تجتاح في طاحونتها حتى الحسن لينال الشهادة، وافترضنا أنه كان قد استطاع التسلل الى مسكن والاشتراك في القتال ـ الامر الذي لا ينسجم وسير الحوادث هناك كما عرفت قريباً ـ فالجواب هو أن الشهادة التي يكون ثمنها امحاء المبدأ امحاءً أبدياً، لا يمكن ان تكون وسيلة نجاح في اللّه ولا في التاريخ.
     وان التاريخ الذي سيناط به ذكر هذه الحرب، بعد شهادة الحسن وذيولها المؤسفة، سيروي للاجيال من شؤون الحسن وحروبه، ما لا يخرج بمفهومه عن معنى «الخروج». وذلك هو ما أردنا التلميح اليه في كلامنا على «خطة معاوية تجاه أهداف الحسن» من هذا الفصل.
     ولكي نزيد هذا الاجمال توضيحاً نقول:
     علمنا مما تقدم، أن الصفوة من حملة الكتاب، والبقية من الصحابة الابرار، والنخبة المختارة من الشيعة الاوفياء، كانوا قد اجتمعوا للحسن عليه السلام فيمن دلف به الى معاوية في زحفه هذا. ولا نعرف أن احداً من هذا الطراز تخلَّف مختاراً عن تلبية الحسن فيما دعا اليه من الجهاد.
     فكان الموقف في هذه اللحظة المبدئية الدقيقة بين الحسن ومعاوية، أشبه بالموقف الآنف بين أبويهما رسول اللّه (ص) وأبي سفيان بن حرب يوم كان يبرز الايمان كله للشرك كله.
     وعلمنا مما تقدم ايضاً أنه لم يكن في الدنيا كلها مجموعة اخرى تؤتمن على الثقل الاكبر من نواميس الاسلام، والمبادئ المثالية الصحيحة على وجهها الصحيح، مثل هذه المجموعة التي اجتمعت للحسن في هذا الزحف.
     فكان معنى تنفيذ فكرة الحرب، والتورّط بهذه الزمرة في القتال المستميت الذي لن ينكشف منهم على نافخ ضرمة قط، هو التفريط بالثقل الاكبر الذي يحملونه ولا يحمله في الدنيا أحد غيرهم.
    وكان معنى التفريط به، انقطاع الصلة بين عليّ واولاده الائمة الميامين، وبين الاجيال الآتية الى يوم الدين.
     ثم لتعودن قضية الحسن ـ بعد ذلك ـ أشبه بقضايا الاشراف العلويين، الذين نهضوا في ظروف مختلفة من أيام الحكم الاسلامي، يهتفون بالاصلاح، ويحتجون بالرحم الماسة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم غلبوا على امرهم، فلم يبق من دعوتهم الا اسماؤهم في أطواء التاريخ أو في كتب الانساب.
     وما يدرينا، فيما لو صُفّي الحساب مع آل محمد تصفيته الاموية الاخيرة، فقتل الحسن، وقتل معه جميع أهل بيته، وقتل معهم الصفوة المختارة من عباد اللّه المخلصين، وانقلب الاسلام أموياً، ماذا سيكون من ذكريات محمد (صلى اللّه عليه وآله) في التاريخ؟. وماذا سيكون من شأن المثاليات التي نفخ الاسلام روحها في الصفوة من رجالاته؟. وهل رجالاته المصطفون الا هذه الاشلاء التي طحنتها سيوف الشام في هذه الحروب؟.
     وعلمنا ـ مما تقدم ـ مبلغ ما تهتز به أوتار معاوية بن أبي سفيان من العنعنات القبلية والانانيات والترات. فهل لنا ـ وقد أيسنا من ذكر عليّ وأولاده في أعقاب هذه التصفية الا بالسوء، أن نطمئن الى ذكر محمد صلى اللّه عليه وآله وذكر تعاليمه ومبادئه الصحيحة بخير؟.
     والعدوّ المنتصر هو معاوية بن أبي سفيان، الذي ضاق بذكر الناس لاخي هاشم (النبي ص) في كل يوم خمس مرات كما تقتضيه السنة الاسلامية في «الاذان»، حتى قال للمغيرة بن شعبة: «فأي عملٍ يبقى بعد هذا لا أُمَّ لك، الا دفنا دفناً (1)!!..».


1 ـ مروج الذهب (ج 2 ص 343)، وابن أبي الحديد (ج 2 ص 357) «قال مطرف بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة الى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده، ثم ينصرف الي فيذكر معاوية ويذكر عقله، ويعجب مما يرى منه، اذ جاء ذات ليلة، فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتمَّاً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: مالي أراك مغتماً منذ الليلة. قال: يا بني اني جئت من أخبث الناس. قلت له: وما ذاك. قال: قلت له وقد خلوت به: انك قد بلغت مناك يا امير المؤمنين فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فانك قد كبرت، ولو نظرت الى اخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فواللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه، فقال لي: هيهات هيهات، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فواللّه ما عدا ان هلك، فهلك ذكره، الا أن يقول قائل أبو بكر. ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين، فواللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره، الا أن يقول قائل عمر، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعمل به، فواللّه ما عدا أن هلك ذكره وذكر ما فعل به. وان أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات أشهد ان محمداً رسول اللّه. فأي عمل يبقى بعد هذا لا ام لك، الا دفنا دفناً».


    ورجاله المنتصرون هم: أخوه [الشرعي؟!] «زياد ابن ابيه»، والصحابي المسنّ «عمرو بن العاص»، والداهية [النزيه؟!] «المغيرة بن شعبة»، وفاتح الحرمين!! «مسلم بن عقبة»، وامثال هذه النماذج من الغيارى على روحيات الاسلام!!..
     وفي مجازر (زياد) في الكوفة، وفتن (عمرو) في صفين ودومة الجندل، ومساعي أول مرتشٍ في الاسلام (المغيرة بن شعبة) لتنصيب يزيد للخلافة ولالحاق زياد للاخوة، ومواقف (ابن عقبة) من المدينة والكعبة، كفاية للاطمئنان على الرقم القياسي الذي صعدت اليه غيرة كلٍّ من هؤلاء، على التراث الاسلامي، وعلى مقدسات الاسلام، وعلى مصالح المسلمين.
     انهم عملوا ما عملوا، وهم اذ ذاك على مسمع ومشهد، من آل محمد والصفوة الباقية من تلامذة محمد (ص) ومن أشياعهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والواقفين لهم بالمرصاد.
     فكيف بهم، وماذا كانوا يعملون، لو أصفرت الدنيا من آل محمد وعباد اللّه الصالحين؟؟.
    ان النتائج الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، هي أن الامام الحسن عليه السلام لو سخا بنفسه وبشيعته، وفرضنا أنه كان قد استطاع حضور ميدانه في «مسكن»، لحكم على نفسه بالموت حتى لا يبقى اسمه الا في كتب الانساب، وعلى مبدئه المقدس بالاعدام حتى لا يبقى منه أيّ أثر بين سمع الارض وبصرها، ولرأيت تاريخه المجيد وتاريخ بيته العتيد، أسطورة مشوهة من أبشع الاساطير، يمليها معاوية كما يشتهي، ويشرحها بعده مروان وآل مروان كما يشاؤون.
     وكان معنى ذلك نهاية تاريخ الروحية الاسلامية، وبداية تاريخ اموي له طابعه المعروف وخصائصه الغنية عن البيان.
     وفي الحديث الشريف: «لو لم يبق من بني أمية الا عجوز درداء لبغت دين اللّه عوجاً (1)».
     ترى، فهل كان في امكان الحسن غير ما كان؟.
     وان أقل استقراء وتدبر، يثبتان أنها كانت افضل طريقة للتخفيف من عرامة الاجراءات المتوقعة، بل كانت الطريقة الوحيدة التي لا ثانية لها.
     وحفظ الحسن بها ـ حين استيقن هذه النتائج كحقائق واقعة ـ خطوط اتصاله بالاجيال، بل خطوط اتصال أبيه وجده عليهما الصلاة والسلام، من طريق الابقاء على شيعته، وأنقذ بذلك مبدأه من الابادة المحققة، وصان تاريخه من التشويه والتزوير والمسخ والازدراء.
     وانتزع من الخذلان الذي حاق به في دنياه، الانتصار اللامع لروحيته وعقيدته واخراه.
     وهكذا ترك الدنيا ليحفظ الدين.
     وذلك هو طابع الامامة في هذه الزمرة المباركة من آل اللّه.


1 ـ الخرائج والجرائح لسعيد بن هبة اللّه الراوندي المتوفى سنة 573 (ص 228).


 

 

الفهرس