موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الإمام الحسن عليه السلام

الميدان الجديد

 

 لعلك تتفق معي على أنَّ من أدق المقاييس التي توزن بها شخصيات الرجال فيما يضطربون فيه من محاولات، هو موقفهم من شروطهم التي يأخذونها على أنفسهم راغبين مختارين. وما من انسان معنيّ بانسانيته يعطي الشرط من نفسه، الا وانه ليعلم ما يستوبله في شخصيته وفي سمعته وفي ذمامه اذا هو حنث في شرطه أو رجع عن وعده أو نقض ميثاقه الذي واثق على الوفاء به. ومن السهل ان نتصور انساناً يستميت في سبيل الوفاء لقولٍ قاله أو عهدٍ أعطاه، لانه انما يموت ضحية خلق رفيع خسر به الحياة المحدودة فربح به الحياة التي لا حدَّ لها، وبنى ـ الى ذلك ـ لبنةً جديدة في صرح الانسانية المثالية التي لا تفتأ تتعاون على نشر الخير في المجموع.
  أما ذلك الخائس بعهده الحانث بيمينه الكاذب بمواعيده، الذي بسم لصاحبه وهو يخادعه على شروطه، ثم عبس وتولّى وندم على ما أعطى، فليس من السهل أن نتصوره انساناً، ولكنه عدو الانسانية بما هدم من قواعدها وشلَّ من مقرراتها، وعدوّ نفسه بما عرضها للنقمة والاحتقار وسوء السمعة والحرمان من ثقة المجتمع. ولن ينفعه ـ بعد ذلك ـ أن يقول أو يقال عنه : ان الغاية تبرر الواسطة ـ فان هذا الاعتذار بذاته جريمةٌ كاملة لا يتسع لها صدر الغفران. وللغايات ـ على اختلافها ـ قيمتها الاعتبارية التي تواضع عليها الناس، فليكن لكل غايةٍ واسطتها التي تتناسب وغايتها في الاعتبار، ولن تكون الغاية شريفةً قطُّ الا اذا قامت على وسائط شريفةٍ أيضاً.
  وكان من الخير العام، أن يتواضع المجموع منذ بناية المجتمع، على اعتبار « اليمين » و « العهد » ضماناً في الاخذ والردّ، وأن تتضافر الاديان السماوية كلها على أن العهد كان مسؤولاً...
  ولعل من الافضل أن نستمع هنا الى ما عهد به أمير المؤمنين علي عليه السلام للاشتر النخعي في هذا الموضوع، قال :
  « وان عقدت بينك وبين عدوك عقدة، او البسته منك ذمةً فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالامانة، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت. فانه ليس من فرائض اللّه شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمتك ولا تخيسنَّ بعهدك ولا تختِلَنَّ عدوَّك، فانه لا يجترئ على اللّه الا جاهل شقي. وقد جعل اللّه عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون الى منعته ويستفيضون الى جواره... ».
  أقول : واذا رجعنا بعد الالمام بهذه الحقائق الى موضوعنا، رأينا أن الشروط التي أخذها الحسن بن علي (ع) على معاوية فيما تم بينهما من التعاهد على الصلح، كانت أكثر شروط عرفها التاريخ عهوداً مؤكدةً وأيماناً مغلَّظة، وكان معاوية هو الذي كتب نسختها الاخيرة بقلمه ووقعها بخاتمه.
  ولم يكن بدعاً أن يترقب الرأي العام الاسلامي، يومها، الوفاء بها كما يجب لمثل هذه العهود والايمان، وكما هو الانسب بشخصيتين من هذا الطراز في الاسلام.
  اما تلك المفاجأة الغريبة التي سبق اليها معاوية في خطابه على منبر الكوفة، ولما يمض على امضائه المعاهدة الا أيام ربما كانت لا تزيد على أسبوع واحد، فقد وقعت في المجتمع الاسلامي وقوع الصاعقة التي لا يسبقها انذار. فقال ( على رواية المدائني ) كما اشير اليه آنفاً : « وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين ! »، وصرَّح ( على رواية أبي اسحق السبيعي ) بقوله : « ألا ان كل شيء أعطيته للحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به ! » ثم شهد عليه الحصين بن المنذر الرقاشي قائلاً : « ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه، قتل حجراً واصحاب حجر، وبايع لابنه، وسمَّ الحسن !! (1) ».
  وهكذا قدّر لهذا الرجل الواسع الممتلكات الضيق الملكات أن يعود بعد حنثه بأيمانه علناً، ونقضه لمواثيقه صراحةً، أبعد الناس عن ثقة الناس، وأقلهم وزناً في المقاييس المعنوية التي يتواضع عليها الناس، وكان جزاءً وفاقاً، أن ينكره أكثر المغرورين بما كان أنكر هو عهوده ومواثيقه، وأن يضعوه من أنفسهم في المحل الذي وضع هو شروطه من نفسه..
  وما يدرينا، فلعلنا الآن عند مفترق الطريق بين الماضي المغلوب والمستقبل الغالب، الذي سينكشف عنه الصراع التاريخي بين الحسن ومعاوية. ولعلنا الآن على أبواب الخطة الجبارة التي نزل الحسن بن علي (ع) من طريقها الى الصلح، والتي فرضت ارادتها على معاوية أبعد ما يكون في المعروف من دهائه عن الفشل في الخطط التي تمسه في الصميم من مصالحه.
  وكان الحسن ـ كما نعلم ـ أعرف الناس بمعاوية وبحظه من الصدق والوفاء، وهو اذ يأخذ عليه الصيغ المغلّظة في الايمان والعهود، لا يقصد من ذلك الى التأكد من صدقه أو وفائه، ولكن ليكشف للاغبياء قابليات الرجل في دينه وفي ذمامه وفي شرفه بالقول.
  وانها للمبادأة الاولى التي ابتدأ الحسن عليه السلام زحفه منها الى ميدانه الثاني. ومن هنا وضعَ أول حجرٍ في البناء الجديد لقضية أهل البيت (ع). ثم مشى موكب الزمان، فاذا بالخطوات الموّفقة تمشي وئيداً مع الزمان واذا بطلائع النجاح كفيالق الجيش التي تتلاحق تباعاً لتتعاون على الفتح. وان من الفتوح ما لا يعتمد في أداته على السلاح، ومنها ما يكون وسائله الاولية أشبه بالهزيمة، حتى ليخاله الناس تسليماً محضاً، ولكنه في منطق العقلاء، ظفر لامع وفتح مبين.
 


1 ـ يراجع ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 16 و6 و7 ).


  وكان من أبرز الخطوات التي وفقت اليها خطة الحسن عليه السلام عن طريق الصلح، في سبيل التشهير بمعاوية حياً وميتاً، والنكاية ببني أمية اطلاقاً.
  1 ـ أنها ألَّبَت على معاوية في بداية عهده الاستقلالي عدداً ضخماً من الشخصيات البارزة في المملكة الاسلامية.
  فلعنه صراحةً بعضهم، وخبَثه آخر، وقرعه وجاهاً ثالث بل ثلاثة، وقاطعه رابع، وانكر عليه حتى مات غماً من فعاله كبير خامس، وقال فيه أحدهم : « وكان واللّه غداراً ». وقال الآخر (1) : « اربع خصال كنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقةً ». وقابله على مثل ذلك كثير من سادة وسيدات، لسنا الآن بصدد احصائهم، أو استيعاب كلماتهم.
  2 ـ وخلقت له معارضة الطبقات التي شملتها بنود المعاهدة، سواء في الامان المفروض فيها، أو في الحقوق المالية المنصوص عليها. فاذا بعالم عظيم من الناس أصبح ينظر الى معاوية نظره الى العدوّ الواتر في النفس والمال، بما نقضه من شروطهم، في نفوسهم وأموالهم.
  3 ـ وظن معاوية أنه سيجعل من نقضه معاهدة الحسن وضعاً شكلياً لبيعة ابنه يزيد، يتغلب به على عنعنات الاسلام المقررة بين المسلمين في أمر البيعة وصلاحية الخلافة.
  ولكنه لم يلبث أن اصطدم بالواقع، فاذا بهذه البيعة الجديدة، مثار النقمة الاسلامية العامة التي اصبحت تتحسس منذ ترشيح يزيد للخلافة بنوايا بني أمية من الاسلام.
 


1 ـ كان الذي لعنه صاحبه سمرة، والذي وصفه بأخبث الناس صديقه المغيرة، وكان الذي قرعه وجاهاً عائشة وآخرون، والذي قاطعه مالك بن هبيرة السكوني، والذي مات غماً من فعاله الربيع بن زياد الحارثي، وكان السادس أبا اسحق السبيعي، والسابع الحسن البصري. ويراجع عن ذلك شرح النهج وابن الاثير ومروج الذهب وغيرها.


  4 ـ ثم كانت البوائق الدامية التي جهر بها معاوية بعد نقض الصلح، في قتله خيار المسلمين ـ من صحابة وتابعين ـ بغير ذنب، عوامل أخرى للتشهير به، ولتحطيم معنوياته المزعومة، تمشياً مع الخطة المكينة، التي أرادها الامام الحسن (ع) منذ قرر الاقدام على الصلح.
  5 ـ وقضية الحسين في كربلاء سنة (61) هجري، كبرى قضايا الحسن فيما مهد له من الزحف على عدوهما المشترك، وعدو أبيهما من قبل.
  ولا ننسى أنه قال له يوم وفاته : « ولا يوم كيومك أبا عبد اللّه ».
  وهذه الكلمة على اختزالها ـ المقصود ـ هي الرمز الوحيد الذي سُمع من الحسن عليه السلام، فيما يشير به الى الخطة المقنَّعة بالسر، التي اعتورها الغموض من ست جهاتها، منذ يوم الصلح الى يوم صدور هذا الكتاب. وانك لتقرأ من هذه الكلمة لغة « القائد الاعلى » الذي يوزّع القواد لوقائعهم، ويوزع الايام لمناسباتها، ثم يميز أخاه ويوم أخيه فيقول : « ولا يوم كيومك.. ».
  وكان من طبيعة الحال ان تبعث المناسبات الزمنية حلقات الخطة كلاً ليومها. وكان لابد لكل حلقة أن توقظ الاخرى، وأن تؤرث السابقة اللاحقة، وتوقد الاولى جذوة الثانية، وهكذا دواليك.
  وحسبَ الحسن لكل هذه الخطوات حسابها المناسب لها، منذ قاول معاوية على هذا الصلح المعلوم، ودرس ـ الى ذلك ـ نفسيات خصومه بما كانت تشرئب له من النقمة عليه وعلى أخيه وعلى شيعته وعلى أهدافه جميعاً. وكانت هذه المطالعات بنطاقها الواسع، الاساس الذي بنى عليه الحسن خطواته المستقبلة فيما مهَّده لنفسه ولعدوه معاً.


 وكان من طبيعة الحال، أن تلقي هذه الخطوات قيادتها الى الحسين فيما لو حيل بين الحسن وبين قيادتها بنفسه. وهذا هو ما أردناه في بداية هذا القول.
  وهكذا كانت نهضة الحسين الخالدة الخطوة الجبارة في خطة أخيه العبقري العظيم.
  ولا تزال فاجعة كربلاء التي استوعبتها كل لغات الارض، اللطخة السوداء التي صبغت تاريخ أمية بالعار، مادام لكربلاء رسم، ولامية اسم.
  6 ـ ثم لم تزل الخطة البعيدة الاهداف، تستعرض في الفترات المتقاربة التاريخ، بعد واقعة الحسين عليه السلام بكربلاء، سلسلة أحداث قانية انبثقت من صميم الوضع الاموي المتشابه في أكثر ملامحه ـ بين عهد معاوية وابن عمه « الحمار » (1).
  وعادت الاموية في عرف المسلمين المعنيين باسلاميتهم الحكومة الجائرة المتغلبة بالظلم والاسراف وبالتحلل من كثير كثير من النواميس الدينية. واشتدت نقمة الناس عليها مع تمادي الايام، وكان أيّ علم يرفع لحرب بني أمية، لا يعدم الالوف وعشرات الالوف من المبايعين له على الموت.


1 ـ هو مروان الاموي الذي انقرضت دولة بني أمية على يده ـ ويلقب « بالحمار » و « بالجعدي » نسبة الى مربيه ( الجعد بن درهم ). وكان ابن درهم زنديقاً فعلمه مذهبه، وكان الناس يذمونه بنسبته اليه. ولما تعقب الفاتحون العباسيون مرواناً في هزيمته، أودع حرمه ( الكنيسة ) في بوصير !. فأين هو عن المساجد يا ترى ؟ ـ يراجع ابن الاثير ( ج 5 ص 159 و 160 ).


 اذاً، فلتكن عملية الصلح ـ على هذا ـ البذرة المستمدة من صميم مصلحة الاسلام ومصلحة أهل البيت عليهم السلام، ومن الوحي ايضاً. وليعد الحسن بن علي عليهما السلام بعد أقل من قرن، الغالب المنتصر على الخصوم المغلوبين، المنهزمين في التاريخ.
  خطوات موفقات، وسياسة صاعدة لا تبلغها السياسات، في صمت وتواضع واتئاد، وتحت ظل اصلاح وتسليم وحقن دماء.
  وهل العظمة شيء آخر غير هذا، ياترى ؟.


 

الفهرس