موقع عقائد الشيعة الإمامية

 

صلح الحسن عليه السلام

المقدمة

 وهأنذا مقدم ـ الآن ـ بين يدي قارئي الكريم، عصارة بحوث تستملي حقايقها من صميم الواقع غير مدخول بالشكوك، ولا خاضع للمؤثرات عن الحقبة المظلومة التاريخ، التي لم يحفل في عرضها، بما تستحق ـ مؤرخونا القدامى، ولم يعن في تحليلها ـ كما يجب ـ كتابنا المحدثون.
 تلك هي قطعة الزمن التي كانت عهد خلافة الحسن بن علي في الاسلام والتي جاءت بين دوافع الاولين، وتساهل الآخرين، صورة مشوهة من صور التاريخ. وتعرضت في مختلف ادوارها لما كان يجب ان يتعرض له امثالها من الفترات المطموسة المعالم، المنسية للحقائق، المقصودة ـ على الاكثر ـ بالاهمال او بالتشويه، فاذا بالحسن بن علي (عليه وعلى ابيه افضل الصلاة والسلام) في عرف الاكثرين من المتسرعين باحكامهم ـ من شرقيين وغربيين ـ الخليفة الضعيف السياسة! التوفر على حب النساء! الذي باع « الخلافة » لمعاوية بالمال!!.. الى كثير من هذا الهذر الظالم، الذي لا يستند في مقاييسه على منطق، ولا يرجع في تحكماته الى دليل، ولا يعنى في ارتجالياته بتحقيق او تدقيق.
 وعمدت هذه الفصول الى تقلية هذه الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف احداث لا تقل بأهميتها ـ في ذاتها ـ ولا بموقعها « الاستراتيجي » في التاريخ ـ اذا صح هذا التعبير ـ عن اعظم الفترات التي مرّ بها تاريخ الاسلام منذ وفاة الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والى يوم الناس، لانها كانت ظرف الخلافة الفريدة من نوعها في تاريخ الخلائف الآخرين، ولانها بداية اقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحية والسلطات الزمنية في الاسلام، واللحظة التي صدَّقت باحداثها الحديث النبوي الشريف الذي انبأ برجوع الامر بعد ثلاثين عاماً الى الملك العضوض، ولانها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لاول مرة في تاريخ العقائد الاسلامية.
 ولم يكن قليلاً من مجهود هذه الفصول، ان ترجع ـ بعد الجهد المرتخص في سبيلها ـ بالخبر اليقين عن الكثير من تلك الحقائق ـ أبعد ما تكون تأتياً في البحث، واكثر ما تكون تفسخاً في المصادر، وأقل ما تكون حظاً من تسلسل الحوادث وتناسق الاحداث ـ فتعرضها في هذه السطور مجلوة على واقعها الاول، او على اقرب صورة من واقعها الذي تنشأت عليه بين احضان جيلها المختلف الالوان.
 فاذا الحسن بن علي (ع) ـ بعد هذا ـ وعلى قصر عهده في خلافته، من أطول الخلفاء باعاً في الادارة والسياسة، والرجل الذي بلغ من دقته في تصريف الامور، وسموّه في علاج المشكلات، انه استغفل معاوية بن ابي سفيان اعنف ما يكون في موقفه منه حذراً وانتباهاً واستعداداً للحبائل والغوائل. واذا بزواجه الكثير دليل عظمته الروحية في الناس. واذا « بالصلح » الذي حاكه على معاوية اداته الجبارة للقضاء على خصومه في التاريخ، دون ان يكون ثمة اية مساومة على بيعة أو على خلافة أو على مال. واذا كل خطوات هذا الامام، وكل ايجاب او سلب في سياسته ـ مخفقاً او منتصراً ـ آية من آيات عظمته التي جهلها الناس وظلمها المؤرخون.
 وكان من أفظع الكفران لمواهب العظماء، ان يتحكم في تاريخهم وتنسيق مراتبهم، ناس من هؤلاء الناس المأخوذين بسوء الذوق، او المغلوبين بسوء الطوية، يتظاهرون بالمعرفة ويرتجزون بحسن التفكير، ثم يتحذلقون بالتطاول على الكرامات المجيدة، دون رويّة ولا تدقيق ولا اكتراث، فلا يدلون بتفريطهم في احكامهم الا على فرط الضعف في نفوسهم.
 وليس يضر الحسن بن علي أن تظلمه الضمائر البليدة ثم ينصفه التمييز. وان لهذا الامام من مواقفه ومن مواهبه ومن عمقه ومن أهدافه ما يضعه بالمكان الاسنى من صفوة « العظماء » الخالدين.
 وحسبنا من هذه السطور، أن تجلو عن طريق المنطق الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف عليه الناس، عظمة هذا الامام، خالصة من كل شوب، سالمة من كل عيب، نقية من كل نقد.
 وكانت النقود التي جرح بها وقاح الرأي سياسة الحسن عليه السلام، أبعد ما يكونون ـ في تجريحهم ـ عن النصف والعمق والاحاطة بالظرف الخاص، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الامام عليه السلام، وكان للشهوة الحزبية من بعض، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر، وللجهل بالواقع من ثالث، أثره فيما أسف به المتسرّعون الى أحكامهم.
 ونظروا اليه نظرتهم الى زعيم أخفق في زعامته، وفاتهم أن ينظروا الى دوافع هذا الاخفاق المزعوم، الذي كان ـ في حقيقته ـ انعكاساً للحالة القائمة في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتزعمه في خلافته، بما كان قد طغى على هذا الجبل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة على الناس، وأيّ غضاضة على « الزعيم » اذا فسد جيله، أو خانت جنوده، أو فقد مجتمعه وجدانه الاجتماعي.
 وفاتهم ـ بعد ذلك ـ أن ينظروا اليه كألمع سياسيّ يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه، فيضع الخطط ويقرر النتائج، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها، ويحفر ـ بنتائجه ـ قبور خصومه قبراً قبراً، ويمرّ بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح، المرفوع الرأس بالدعوة الى الاصلاح. ثم يموت ولا يرضى أن يهرق في أمره محجمة دم. تُرى، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون؟.
 وان كتابنا هذا ليضع نقاط هذه الحروف كلها، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع ـ كما قلنا ـ أقرب شيء من الواقع، أو هي الواقع نفسه، مدلولاً عليه بالمقاييس المنطقية، وبالدراسات النفسية، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد البحث في الكتاب، والقاعدة التي خرج منها الى احكامه بسهولة ويسر، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء..
 وسيجد القارئ أن الكتاب ليس كتاباً في أحوال الامام الحسن (ع)، بوجه عام، وانما هو كتاب مواقفه السياسية فحسب. وكان من التوفر على استيعاب هذا الموضوع أن نتقدم بفصل خاص عن الترجمة له، وأن نستطرد في أطوائه ما يضطرنا البحث اليه.
 وان موضوعاً من العمق والعسر كموضوعنا، وبحثاً فقير المادة قصير المدد كبحثنا ـ ونحن نتطلع اليه بعد 1328 من السنين ـ لحريّ بأن لا يدرّ على كاتبه باكثر مما درّت به هذه الفصول، احرص ما تكون توفراً على استقصاء المواد، وتنسيق عناصر الموضوع، وتهذيبها من الزائف والدخيل. ونحن اذ نومئ الى « فقر المادة » وأثره على البحث، لا نعني بالمادة الا هذه « الموسوعات » التي كان بامكاننا التعاون معها على تجلية موضوعنا بما هي عليه من تشويش للتناسق أو تشويه للحقايق. اما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤها في معاجم المؤلفين الاولين، مما كتب عن قضية الحسن (ع) فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا القديم قيد المؤثرات الزمنية، وطعمة الضياع والانقراض اخيراً. وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح الصحيح من تاريخ الاسلام، وفي المهم المهم من قضاياه الحساسة امثال قضيتنا ـ موضوع البحث.
 فلم نجد ـ على هذا ـ من مصادر الموضوع: كتاب صلح الحسن ومعاوية، لاحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفى سنة 333 هجري، ولا كتاب صلح الحسن عليه السلام، لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولاهم)، ولا كتاب قيام الحسن عليه السلام، لهشام بن محمد بن السائب، ولا كتاب قيام الحسن عليه السلام، لابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي المتوفى سنة 283 هجري ولا كتاب عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري في امر الحسن عليه السلام، ولا كتاب اخبار الحسن عليه السلام ووفاته، للهيثم بن عدي الثعلي المتوفى سنة 207 هجري، ولا كتاب اخبار الحسن بن علي عليه السلام، لابي اسحاق ابراهيم بن محمد الاصفاني الثقفي (1)، ولا نظائرها.
 اما هذه المصادر التي قدّر لنا ان لا نجد غيرها سنداً، فيما احتاجت به هذه البحوث الى سند ما، فقد كان اعجب ما فيها انها تتفق جميعها في قضية الحسن عليه السلام على ان لا تتفق في عرض حادثة، او رواية خطبة، او نقل تصريح، او الحكم على احصاء، بل لا يتفق سندان منها ـ على الاكثر ـ في تأريخ وقت الحادث او الخطبة من تقديم او تأخير، ولا في تعيين اسم القائد مثلاً، او ترتيب القيادة بين الاثنين او الثلاثة، ولا في رواية طرق النكاية التي اريدت بالحسن (ع) في ميادينه، او في التعبير عن صلحه، او في قتله اخيراً، ولا في كل صغيرة او كبيرة من اخبار الملحمة، من ألفها الى يائها.
 وللمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر، عند نقاطها الحساسة اثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.
 


1 ـ تجد ذكر هذه المؤلفات ضمن تراجم مؤلفيها في كتب الرجال، كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما. وستجد معها اسماء كتب اخرى تخص موضوع الحسن عليه السلام في صلحه وفي مقتله، لا نريد الاطالة باستقصائها بعد ان اصبحت اسماء بلا مسميات.

 واذا كان من اصعب مراحل هذا التأليف، ارجاع هذه الحقائق الى تسلسلها الصحيح الذي يجب ان يكون هو واقعها الاول، فقد كان من أيسر

الوسائل الى تحقيق هذا الغرض، الاستعانة عليه بقرائن الاحوال، وتناسق الاحداث، اللذين لا يتم بدونهما حكم على وضع.
 وكان من حسن الصدف، ان لا نخرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح، الذي بعثرته هذه المصادر نفسها، في اطواء رواياتها الكثيرة المضطربة، فكانت ـ بمجموعها ـ وعلى نقص كل منها، أدلتنا الكاملة على ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق.
 ووقفنا في فلسفة الموقف ـ عند مختلف مراحله ـ وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور، التي لا تستسلم للنقل اكثر مما تحتكم للعقل. ورجعنا في كثير مما التمسنا تدقيقه، الى التصريحات الشخصية التي جاءت ادلّ على الغرض من روايات كثير من المؤرخين.
 وهي ـ بعد ـ بضاعتي المزجاة التي لا اريد منها الا ان تكون مفتاح بحوث جديدة، من شأنها ان تكشف كثيراً من الغموض الذي دار مع قضية الحسن في التاريخ.
 فان هي وُفِّقَتْ الى ذلك، فقد أوتيت خيراً كثيراً.
 وما توفيقي الا باللّه عليه توكلت واليه انيب.

المؤلف
 

الفهرس