عقائد الشيعة الإمامية / أبو صلاح الحلبي
مسائل العدل
مسألة: في معنى الكلام في العدل
تقريب المعارف - أبو الصلاح الحلبي – مسائل العدل ص 94 - 142
الكلام في العدل كلام في أحكام أفعاله وما يتعلق بها من أفعال خلقة، والحكم بجميعها بالحسن، ويتقدم أمام ذلك الحسن والقبيح والطريق إلى العلم بهما، ويلي ذلك أحكام الأفعال.
الحسن: ما يستحق به المدح مع القصد إليه، وينقسم إلى: واجب، وندب، وإحسان. فالواجب هو: ما يستحق به المدح وبأن لا يفعل ولاما يقوم مقامه الذم، وينقسم إلى: واجب مضيق لا بدل منه، وإلى ماله بدل، وإلى ما يختص كل عين، وما هو على الكفاية، وإلى ما يتعين، وإلى ما لا يتعين. والندب هو: ما يستحق به المدح ولا ذم على تركه، وهو مختص بالفاعل. والاحسان هو: ما قصد به فاعله الأنعام على غيره، ومن حقه تعلقه بغير الفاعل، ويستحق فاعله المدح لحسنه والشكر على المنعم عليه، وصفة الحسن مشترطة في جميع أجناسه بانتفاء وجوب القبح. والقبيح هو: ما يستحق به الذم، وينقسم إلى فعل قبيح كالظلم، وإخلال بواجب كالعدل، بشرط إمكان العلم بوجوب الشئ وقبحه. والحسن والقبح على ضربين: عقلي، وشرعي. فالشرعي: كالصلاة، والزكاة، والزنا، والربا. والعقلي: العدل، والصدق، وشكر المنعم، والظلم، والكذب، والخطر. ولا خلاف في أن الطريق إلى العلم بحسن الشرعيات وقبحها السمع، وإن كان الوجه الذي له كانت كذلك متعلقا بالعقليات. والخلاف في العدل والصدق والظلم والكذب وما يناسب ذلك، فالمجبرة تدعي اختصاص طريق العلم به السمع، والصحيح اختصاصه بالعقول. والعلم به على وجهين: ضروري، ومكتسب. فالضروري هو: العلم على الجملة بقبح كل ضرر عري من نفع يوفى عليه، ودفع ضرر أعظم، أو استحقاق، أو على جهة المدافعة، وبكل خبر بالشيء على ما هو به، إلا وجوب شكر كل نعمة. والمكتسب هو: العلم بضرر معين بهذه الصفة، وخبر معين، وكون فعل معين شكر النعمة. وقلنا: إن الأول ضروري، لعمومه كافة العقلاء، وحصوله ابتداء على وجه لا يمكن العالم إخراج نفسه عنه بشبهة، كالعلم بالمشاهدات، ولو كان مكتسبا لوقف على مكتسبه، فاختص ببعض العقلاء، وأمكن إدخال الشبهة فيه كسائر العلوم المكتسبة. وليس لا حد أن يقدح في هذا بخلاف المجبرة. لأن المجبرة لا تنازع في حصول هذا العلم لكل عاقل، وهو البرهان على كونه ضروريا، ودخول الشبهة عليهم بأنه معلوم بالسمع تسقط، لعمومته العقلاء من دان منهم بالسمع وأنكره، وبمخالفته السمعيات بدخول الشبهة فيها وبعده عنها، وبحصول الشك في جميع السمعيات بالشك في النبوة وارتفاع الريب بقبح العقليات والحال هذه، وبكون السمع المؤثر للحسن والقبح معدوما في حال وقوع الحسن والقبح من المكلف، مع استحالة تأثير المعدوم ووجوب تعلق بما أثر فيه على آكد الوجوه، وبعدم السمع المدعى تأثيره في أفعالنا، لاختصاصه به تعالى. وإسناد ذلك إلى الميل والنفور ظاهر الفساد، لاختلاف العقلاء فيما يتعلق بالميل والنفور، واتفاقهم على قبح الظلم والكذب وحسن الصدق والعدل، ولأن الميل والنفور يختصان المدركات وقد نعلم قبح ما لا ندركه، ولأنا قد نعلم قبح كثير مما نميل إليه وحسن كثير مما ننفر عنه، ولأنا نعلم ضرورة استحقاق فاعل العدل والصدف المدح وفاعل الظلم والكذب الذم، ولا يجوز إسناد ذلك إلى الميل والنفور المختصان به تعالى، وقبح ذم الغير ومدحه على ما لم يفعله. وقلنا: إن التفصيل مكتسب، لوقوف حصوله لمن علم الجمل، ولو كان ضروريا لجاز حصوله من دونها.
مسألة: في كونه تعالى قادرا على القبيح
وهو تعالى قادر على القبح من جنس الحسن، وإنما يكون قبيحا لوقوعه على وجه، وحسنا لوقوعه على وجه، كقول القائل: زيد في الدار فإن كان متعلق الخبر بالمخبر عنه على ما هو به فهو حسن، وإن كان متعلقه بخلاف ما هو به فهو قبيح، فلو لم يكن تعالى قادرا على القبيح لم يكن قادرا على الحسن. وأيضا فلا يخلو القبيح أن يكون جنسا أو وجها، وكونه تعالى قادرا على جنس ووجوهه، لقيام الدلالة على كونه قادرا لنفسه، والقادر لنفسه يجب أن يكون قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا، لأن كونه قادرا يصحح تعلقه بكل مقدور، وما صح من صفة النفس وجب، لأنه لو لم يجب لاستحال من حيث لا مقتضي لوجوب ما جاز في صفة النفس خارج عنها، فلا يتقدر فرق بين الصحة والوجوب فيها. ولأن كون القادر قادرا يصحح تعلقه بكل مقدور، والمقتضي للحصر والتخصيص هو القدر المتعلقة بأجناس مخصوصة يستحيل تعلقها بغيرها، وبما زاد على الجز الواحد من الجنس الواحد في المحل الواحد والوقت الواحد على ما بينته، فيجب الحكم فيمن كان قادرا لا بقدرة بكونه قادرا على كل جنس وقدر ووجه، فإذا ثبت كونه تعالى قادرا لنفسه، وجب كونه قادرا على القبيح جنسا كان أو وجها. ولأن خروج القبيح عن كونه مقدورا له سبحانه يخرجه عن كونه قادرا جملة، لأنا نقدر عليه مع كوننا قادرين بقدر محدثه، فالقبيح إن كان وجها لجنس فتعذره يقتضي تعذر الجنس، وإن كان جنسا ضدا للحسن فتعذره يقتضي تعذر ضده، فيجب الحكم في من لا يقدر عليه بكونه غير قادر، وقد ثبت كونه قادرا، فيجب أن يكون قادرا عليه. ولأنا نقدر على القبيح، وهو آكد حالا منا في كونه قادرا، لصحة تعلقه بما لا يقدر عليه من الأجناس والمقادير في كل حال وعلى كل وجه. وقول النظام: إنه لو كان سبحانه قادرا على القبيح لصح منه وقوعه، فيقتضي ذلك خروجه تعالى عن كونه عالما أو غنيا، أو انتقاض دلالة القبيح على ذلك. يسقط بوجوب كونه قادرا على كل ما يصح كونه كذلك والقبيح من جملته، وهذا كاف في سقوط الشبهة. على أنا نستأنف كلاما في إسقاطها، فنقول: إنا قد علمنا أنه لا يصح وقوع مقدور العالم الذي لا يجوز عليه العبث إلا لداع، والداعي إلى فعل القبيح المعلوم هو الحاجة، وهي مستحيلة فيه تعالى، فلا يتوهم منه تعالى وقوعه على حال، لعدم ما لا يصح وقوع المقدور المعلوم إلا معه، كما ( لا ) يقع مع العجز عنه، وإن اختلف جهتا التعذر، ألا ترى أنا لا نتوهم وقوع فعل معين ممن أعلمنا الله سبحانه فيه أنه لا يختاره وإن كان قادرا عليه، ولا فرق بين أن نعلم بخبره تعالى عن حال الغير أنه لا داعي له إلى فعل ما وبين أن نعلم بالدليل أنه لا داعي له إلى القبيح في وجوب القطع على تعذر وقوعه منه. وإذا صح هذا وعلمنا أنه سبحانه لا داعي له إلى القبيح لكونه عالما بقبحه، وبأنه غني عنه، وجب القطع على ارتفاع المقدور على كل حال. وأيضا فلو فرضنا وقوعه منه مع تعذره لاقتضى ذلك نقض دلالته على الجهل أو الحاجة، من حيث قدرنا وقوعه من العالم الغني، كما لو قيل لنا: لو ظهر المعجز على يد كذاب ما كانت يكون حال المعجز فإنما كانت دلالته على الصدق منتقضة. ولا يلزم على هذا أن يقال لنا: فقولوا الآن بانتقاض دلالتهما. لأن المفروض محال، ورد الجواب يحسنه، والحال الآن بخلاف ذلك، فلا يجوز لنا الحكم بانتقاض دلالة القبيح ولا المعجز.
مسألة: في كونه تعالى لا يفعل القبيح
وهو تعالى لا يفعل القبيح، لعلمه بقبحه، وبأنه غني عنه، وقلنا ذلك لأن صفة القبح صارفة عنه. وكذلك من علم وصوله إلى نفعه بالصدق على الوجه الذي يصل إليها بالكذب لا يؤثره على الصدق، وإنما يصح إيثاره على الصدق متى جهل قبحه، فينتفي الصارف، أو دعت إليه الحاجة، فيقابل داعيها صارف القبح فيؤثره. وأيضا فالقبح يستحق به الذم والاستخفاف وخفوض الرتبة، وذلك صارف قوي عنه، لا يجوز معه إيثاره إلا لجهل به، أو لحاجة زائدة عليه، وكلا الأمرين مستحيل فيه سبحانه، فلا يصح منه مواقعة القبيح. وإذا كانت هذه القضية سارية في القبح، وجب القطع على انتفاء الداعي منه تعالى إلى شئ منه، وتعذر وقوع جميعه، ولا يلزم على ذلك وقوع كل حسن، لأن صارف القبح موجب لارتفاعه ممن علمه واستغنى عنه، وداعي الحسن غير موجب، لعلمنا بأن أحدنا قد يفعل الشئ لحسنه، ولا يفعل كل ما شاركه في صفة الحسن كصدقة درهم لحسنها، وترك أمثالها مع مساواتها لها في صفة الحسن، ولا يجوز أن يترك كذبا لقبحه ويفعل مثله. وليس لأحد أن يقول: كما لا يفعل القبيح إلا لجهل به أو اعتقاد حاجة إليه، فكذلك الحسن قد لا يفعل إلا لاجتلاب نفع أو دفع ضر، فيجب أن لا يفعله سبحانه لاستحالة الضر والنفع عليه. لأنا قد بينا تعذر وقوع القبيح إلا لجهل أو لحاجة، فيجب فيمن لا يصحان عليه أن لا يفعله على حال، والمعلوم ضرورة في الحسن خلاف ذلك، لوقوعه منه تعالى، مع استحالة النفع والضر عليه. ولأنا نعلم إرشاد الملحد الضال عن الطريق إليها، وعن التردي في البئر، بحيث لا يراد أحد ولا يرجو معه نفعا ولا دفع ضرر، فلم يبق لفعله وجه إلا مجرد الحسن، ولأن من علم وصوله إلى نفع أو دفع ضرر بالصدق كالكذب لا يختار إلا الصدق، ولا وجه لذلك إلا مجرد الحسن.
مسألة: في ما يصح تعلق إرادته وكراهته به وما لا يصح
قد بينا كونه تعالى مريدا أو كارها، فينبغي أن نبين ما يصح تعلق إرادته به وكراهته وما لا يصح ذلك فيه. وكون المريد مؤثرا مختص بحدوث الفعل، لكون هذه الحال وجها لوقوع الفعل على صفة دون صفة، ووجه الفعل كيفية لحدوثه، فيجب أن يكون ما أثره مصاحبا لحدوثه، فإذا اختص تأثيرها بالحدوث. والمحدثات على ضربين: أفعاله تعالى، وهو على ضربين: مفعول لغرض يخصه، كالواجب في حكمته، والاحسان إلى خلقه، وكلاهما مراد، لأن العالم بالفعل المخلى بينه وبين إرادته القاصد بفعله غرضا يخصه لا بد من كونه مريدا له، لولا ذلك لم يكن بأن يفعله لذلك الغرض دون غيره. والثاني: مفعول لغرض يخص غيره كالإرادة، وما هذه حاله لا يجب كونه مرادا، لأن الداعي إلى المراد داع إلى إرادته، فهي كالجزء منه، فلا يفتقر إلى إرادة يخصها. ولا يصح أن يكره شيئا من أفعاله، لأن كونه سبحانه كارها لشئ يقتضي قبحه، وهو لا يفعل القبيح، ولأن الواقع من مقدوراته تعالى قد بينا وجوب كونه تعالى مريدا ( له )، فلا يجوز أن يكون كارها ( له )، لأن ذلك يقتضي كونه مريدا كارها لشئ واحد، وهو محال. وأفعال عباده سبحانه على ضربين: واقع عن إلجاء، وإيثار. وما وقع بإلجائه تعالى لا بد من كونه مريدا له، لأنه بإلجاء في حكم فعله، ولا بد من وقوع ما هذه حاله، لكونه جاريا مجرى فعله الذي لا بد من وقوعه متى أراده، فلا مجوز إلجاؤه إلى قبيح، لأن ذلك مقتض لكونه فاعلا له، وقد بينا فساد ذلك. وما وقع بإلجاء غيره تعالى حكمه حكم ما اختاره العبد الملجأ من حسن وقبح، وسنبينه. وعلى كلا الوجهين لا تجد من كون الملجأ مريدا لما ألجئ إليه، إذ معنى كونه ملجأ توفر دواعيه لخوف الضرر، أو لرجاء النفع، وخلوص الدواعي إلى الفعل يقتضي كون القادر مريدا. والواقع عن إيثار على ضروب: واجب، وندب، وقبيح، ومباح. فالواجب والندب مرادان له تعالى بغير شبهة، لأنه قد أمر بهما ورغب فيهما " والأمر لا يكون أمرا إلا بالإرادة، لعلمنا بوجود جنسه وصيغته وليس بأمر، ولتجدد إرادته تعالى لذلك حال الأمر به، وتعلقها بالمراد المكلف فعله على جهة الإيثار له المصحح لغرض المجري بالتكليف إليه، لافتقار ما يجب فعله أو تركه أو الترغيب فيه في كونه كذلك إلى تعلق إرادته سبحانه على وقوعه على هذا الوجه. ولا يجوز أن يكره شيئا مما أراده من أفعال عباده الواجبة والمندوبة، لأن كراهيته تقتضي قبح المكروه، وقد علمنا حسن هذه الأفعال عبادة الواجبة تعالى مريد لما على ما دللناه عليه، فلا يجوز أن يكون كارها لما، لأن ذلك يقتضي كونه تعالى مريدا كارها للشئ الواحد مع استحالته. وأما القبيح فهو سبحانه كاره له، لأنه قد نهى عنه، والنهي لا يكون نهيا إلا بالكراهة، لوجود الجنس والصيغة فيما ليس بنهي، ولأنه تعالى لا يجوز أن يريد القبيح لما بينته، ولا يجوز أن يكون غير مريد له ولا كاره، لأن ذلك يخرجه عن حد التكليف، فلم يبق إلا كونه كارها له، وإذا ثبت أنه تعالى كاره لقبائح العباد، لم يجز أن يريد شيئا منها، لأن ذلك يقتضي كونه مريدا كارها لها، مع فساد ذلك. وأيضا فإن إرادة القبيح قبيحة، لأن كل من علمها إرادة قبيح علم قبحها، يوضح ذلك: توجه ذم العقلاء إلى مريد القبيح كفاعله، فلو أراد تعالى القبيح لم يرده إلا بإرادة يفعلها على ما بيناه من وقوف كونه مريدا على فعله الإرادة له، وهذا يقتضي كونه فاعلا للقبح، وقد بينا فساد ذلك. وتعلق المجبرة في كونه تعالى غير مريد لها لم يقع من الطاعات، ومريدا لما يقع من القبائح، بأنه لو أراد ما لا يقع فوقع ما لا يريد وارتفع ما أراد للحقه نقص، كالملك المريد من عبيده نصرته متى لم يقع منهم، ما أراد كان مغلوبا. ظاهر السقوط، لأن وقوع المكروه وارتفاع المراد إنما يدل على نقص المريد الكاره إذا كان في ذلك نفع له وفي خلافه ضرر عليه، وهو قادر على المنع مما كره والحمل على ما أراد، كإرادة الملك من أنصاره الذب عن دولته وكراهية القعود عن نصرته، فيه نفع له وفي خلافه ضرر عليه، فمتى لم يقع ما أراد ويرتفع ما كونه لحقه نقص، لتعلق الضرر به وعجزه عن دفعه عنه. والتكليف بخلاف ذلك، لأنه لا يتعلق به تعالى منه نفع ولا ضرر بل هما مختصان بالمكلف، وإن كان فعل ما أراده وترك ما كرهه مختصا بنفع المأمور المنهي، وكان هذا النفع مختصا بوقوع ذلك وارتفاع هذا بإيثاره، وهو قادر على إلجائه إلى فعل المراد وترك المكروه، كإرادة سلطان الإسلام وأنصاره من أهل الذمة الإيمان، وكراهيتهم منهم الكفر، لما لهم في ذلك من النفع المختص بإيثارهم دون إلجائهم، مع كونهم قادرين على إلجائهم إليه واصطلامهم دونه، لم يكن في ذلك نقص على المريد الكاره، ولم يصفه أحد بالغلبة. وهذه صفة ما أراده تعالى وكرهه من عباده، لأن نفعه مختص بهم وهو موقوف على حصول ذلك عن إيثارهم دون قهرهم، مع كونه سبحانه قادرا عليه وإن لم يفعله، فلا يجوز وصفه تعالى - لوقوع القبائح التي كرهها، وارتفاع الطاعات التي أرادها منهم - بصفة نقص، تعالى عن ذلك، ولا وصفهم بأنهم غالبون له تعالى، كما لا يصف أحد أهل الذمة بكونهم غالبين لسلطان الإسلام وأنصاره، لإيجادهم خلاف ما أراد منهم. وأما المباح من أفعالهم فلا يصح كونه مريدا له ولا كارها، لأن كونه مرادا يقتضي كونه طاعة، وكونه مكروها يقتضي كونه قبيحا، وذلك يخرجه عن صفة الإباحة.
وهو تعالى متكلم، وكلامه فعله. وأولى ما حد به الكلام أن يقال: هو ما تالف من حرفين فصاعدا من الحروف المعقولة، إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله الإفادة. الدلالة على ذلك: أنه متى تكاملت هذه الصفات كان كلاما، وإن اختل شئ منها لم يكن كلاما. وإذا ثبت أنه من جنس الصوت، وعلمنا ضرورة تجدده بعد عدم - لإدراكنا له بعد أن كنا غير مدركين له، وعدمه بعد وجوده، لانتفاء كونه مدركا في الثاني من حال إدراكه، إذ لو كان باقيا لاستقر إدراكنا له - فثبت أنه محدث. والمتكلم من فعل الكلام، بدليل وقوعه بحسب أحواله. وإذا ثبت حدوث الكلام وكونه من دخل المتكلم، وجب أن يكون تعالى قادرا عليه، لكونه قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا، والكلام كذلك. والطريق إلى العلم بكونه متكلما هو السمع، وقد علمنا ضرورة من دين النبي عليه السلام أن القرآن كلامه تعالى، وإذا ثبت كونه تعالى متكلما وجب أن يكون كلامه فعله، لثبوت الاشتراك فيما له كان المتكلم متكلما، ولأن كلامه تعالى من جنس الصوت، وهو محدث، فيجب كونه محدثا، ولأنه خطاب لمخاطبين، فلو كان قديما لكان ما فيه من الأخبار الماضية كذبا وباقي الأخبار والأوامر والنواهي عبثا، وهو يتعالى عن ذلك، ولأنه قد أخبر أنه محدث، فقال: ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث )، و ( من الرحمن محدث ). وقول المخالف: إن القديم هو ما هذا الكلام حكاية عنه. ظاهر الفساد، لأنا قد بينا أن الكلام من جنس الأصوات، وهي محدثة، فيجب الحكم بحدوث كل كلام، لكونه صوتا، وما ليس بصوت لا يكون كلاما. ولأن ما هذا القرآن حكاية عنه لا يخلو أن يكون من جنس هذا الكلام أو مخالفا له، فإن يكن من جنسه فحكمه حكمه في الحدوث، وإن كان من غير جنسه لم يجز أن يكون هذا القرآن حكاية له، لأن الشئ لا يكون حكاية لما ليس مثلا له، ولمن جاز أن يكون هذا المتلو حكاية لما ليس من جنسه ليجوزن ذلك في أصوات الطير، بل في كل جنس من الأعراض، فيوصف بأنه قرآن، وهذا ضلال. ولأن ذلك يقتضي أن لا يوصف هذا بأنه قرآن ولا كلام الله تعالى، لأنه ليس بكلام الله ولا هو القرآن، وإنما القرآن خلافه، وهذا كفر، وقد وصف الله تعالى هذا المتلو بأنه قرآن وكلامه وأنه منزل من لدنه، وكل ذلك يقضي بفساد ما قالوه. والقرآن وإن كان محدثا، فوصفه بأنه مخلوق بدعة، وإن كان المعنى واحدا، لأمور: منها: أنه لا يوجد هذا الاسم في كتاب ولا سنة، بل الوصف له مختص بالأحداث. ومنها: أن وصف الكلام بأنه مخلوق يفيد: مكذوب، يقال: هذا كلام مخلوق ومختلق ومخترق ومفتعل بمعنى مكذوب، ومنه قوله: ( وخرقوا له بنين وبنات )، وقوله: ( إن هذا إلا خلق الأولين كه، وإذا كان إطلاق الخلق على الكلام يفيد الكذب وجب تنزيه كلامه تعالى عن هذا الوصف. ومنها ما روي عن أئمتنا عليهم السلام من القول بتبديع من وصفه بالخلق.
والتأثيرات الواقعة من جهة العباد مباشرها ومتولدها هم المحدثون لها دونه. وقالت المجبرة بأسرها: إن المتولد من فعل الله تعالى. وقال جهم في المباشر ما قاله في المتولد. وقال النجار: هو فعل القديم والمحدث. وقال الأشعري: هو من فعل الله تعالى خلق ومن العبد كسب. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: وجوب وقوعها بحسب أحوال من وقعت منه، ولو كانت فعلا لغيره من قديم أو محدث لاختلف الحال. وليس لأحد أن يقول: إذا كان القديم تعالى قادرا على إيجادها مطابقة لأحوالكم، فما المانع من كونها فعلا له ؟ لأن الوجوب يمنع من ذلك. ولأن إثباته تعالى فرع لا ثبات محدث في الشاهد، فلا يصح ممن نفى محدثا في الشاهد أن يثبت غائبا. ولأن إضافة الفعل إلى فاعل لا تمكن إلا بوقوعه بحسب أحواله، فلا يجوز نفيه عمن يعلم تعلقه به على هذا الوجه، وإضافته إلى من لا تعلق بينه وبينه، وهو لو كان فعلا له لم يكن كذلك إلا لوقوعه منه على هذا الوجه. وأيضا فمعلوم حسن الأمر والنهي وتوجه المدح والذم إلى من تعلق به التأثير الحسن والقبيح، ولا يجوز إسناد ذلك إلى الكسب لكونه غير معقول، بدليل تكرير المكالة لمدعيه والمطالبة بإفهامه وارتفاع العلم بحقيقته. ولأن ذلك ينتقض بالمتولد، كما نعلم حسن الأمر واللهي بالمباشر وتوجه المدح والذم عليه، يعلم مثل ذلك في المتولد، وهو كاف في صحة الاستدلال على كون العبد فاعلا، لأن إضافة المتولد إلى إحداثه يقتضي إضافة المباشر بغير شبهة. وإذا ثبت كونه قادرا لحاجة الفعل في وقوعه إلى كون فاعله قادرا فهو قادر بقدرة، لتجدد كونه كذلك بعد أن لم يكن، وخروجه عن ذلك وأحواله على ما كانت عليه، ولتزايد مقدورات بعضنا على بعض. وهي من فعل الله تعالى، ليوفر دواعينا في أحوال الحاجة، وتعذرها لا لوجه، ومن حكمها إيجاب حالة المختار وتصحيح الفعل من الحي بدليل تعذره مع انتفائها. ومن صفتها أن لا يصح بها الفعل إلا مع استعمال محلها، بدليل تعذر الاختراع علينا، ووقوف تأثيرها على المشارة لمحلها أو لما ماسته. وهي قدرة على الضدين، لصحة تصرف كل قادر في الجهات المتضادة، ولو كان ذلك عن قدرتين لصح انتفاء إحداهما، فيوجد قادر لا يصح منه التصرف في الجهات، والمعلوم خلاف ذلك. وتأثيرها مختص بالأحداث، بدليل ثبوت صفة القدم من دونها وتعذر إيجاد الموجود، ولأن المتجدد عند القصد إلى المقدور من صفاته هو الحدوث، وهي متقدمة للفعل، لاختصاص تأثيرها بالأحداث، فيجب أن تكون موجودة في حال عدمه، ولأن الحاجة إليها ليخرج بها الفعل من العدم إلى الوجود، فإذا وجد استحال تعلقه بها، ولا فرق في استغنائه عنها بوجوده بين أول حال وثانيها، ولأنا قد دللنا على تعلقها بالضدين، فلو كانت مصاحبة لهما مع كونها موجبة عندهم لاقتضى ذلك اجتماع الضدين وهو محال. ولا يجوز حدوث الفعل على وجهين، لأن ذلك لو جاز بقادر أو قادرين لصح تفريقهما، لأن القادر على جمع الصفتين قادر على تفريقهما، وذلك يقتضي فعل أحدهما في حال الحدوث والآخر في حال البقاء، وفيه إيجاد الموجود مع استحالته. وأيضا وصفه الحدوث لا يتزايده إذ لو كان الفعل صفة زائدة على مجرد حدوثه لوجب أن يكون لها حكم زائد على الأولى، ونحن نعلم أنه لا حكم للمحدث ولا صفة يزيد على كونه محدثا، لأن الأحكام كلها المشار إليها مع صفة زائدة حاصلة مع الأولى، فلا يجوز إثبات مما لا فرق بين إثباته ونفيه. ولا يجوز حدوث مقدور واحد بقادرين ولا قدرتين، لأنه لو كان لا يمتنع أن يتوفر دواعي أحدهما إليه وصوارف الآخر عنه، فإن وقع اقتضى إضافته إلى من يجب نفيه عنه، وإن ارتفع اقتضى نفيه عمن وجب إضافته إليه، وكونه بقدرتين يصح انتفاء إحداهما، فإن وقع فبقدرة معدومة وإن ارتفع خرجت الأخرى من كونها قدرة عليه، وكلاهما محال، وإذا استحال مقدور واحد بقادرين أو قدرتين وتجدده على وجهين فسد مذهب النجار والأشعري، لكونهما مبنيين على ذلك.
مسألة: في عدم تعلق القدرة بالإعدام
والإعدام لا تتعلق بقدرة ولا قادر، لأن العدم ليس بذات ولا صفة ولا حكم، ولا يعقل منه غير خروج الذات عن الوجود، فلا يصح تعلقه بقادر ولا قدرة، لأنه لا بد لتعلق القدرة من متعلق، وإذا لم يكن العدم ذاتا ولا صفة ولا حكما استحال تعلقه بقادر وأيضا فلو تعلق الأعدام بالقادر يجري مجرى الأحداث في وقوف حصوله على قادر، واستحالة ثبوت من دونه، فيودي إلى صحة بقاء ما لا يبقى من الأعراض، بأن لا يقصد القادر إلى أعدامها، وذلك محال.
مسألة: في قبح تكليف ما لا يطاق
ويقبح تكليف ما لا يطاق، وحقيقته: ما يتعذر وقوعه من المكلف لفقد قدرة عليه، أو حصول عجز لو كان معنى، أو فقد آله أو بنية أو علم فيما يحتاج إليها، أو حصول منع، أو تعليق بزمان لا تصح في مثله. الدليل على ذلك: ذم كافة العقلاء من كلف غيره ما يتعذر وقوعه من جهته لأحد الأسباب التي ذكرناها، ووصفه بأنه تكليف لما لا يطاق.
التكليف حسن لكونه تعريضا لما لا يصل إليه إلا به، ويشتمل على خمس مسائل: أولها: ما التكليف ؟ وثانيها: ( ما يجب كون المكلف عليه من الصفات. وثالثها: ) ما يجب كون المكلف تعالى عليه من الصفات. ( ورابعها ): بيان الغرض في التكليف. وخامسها: بيان المكلف وصفاته التي يحسن معها التكليف. فأما حقيقة التكليف، فهي: إرادة الأعلى من الأدنى ما فيه مشقة على جهة الابتداء، الدليل على صحة ذلك: أنه متى تكاملت هذه الشروط وصف المريد بأنه مكلف، والإرادة بأنها تكليف، والمراد منه بأنه مكلف، ومتى اختل شرط لم يثبت شئ من هذا الوصف. وأما ما يجب كون المكلف عليه من الصفات فيجب أن يكون المكلف بالحسن منعما بنعم يوجب طاعته على المكلف، معلوما أو مظنونا من حاله أنه لا يريد قبيحا. وأما ما يجب كونه تعالى عليه من الصفات في حق كونه مكلفا ما يشق فعلا وتركا تعريضا للثواب، ويلزم المكلف عبادته كذلك، فينقسم إلى صفات هو سبحانه تعالى عليها، وصفات يتعلق بأفعاله. فأما ما يخصته تعالى، فكونه تعالى قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا، عالما بكل معلوم، لا يجوز خروجه عن الصفتين، ليقطع المكتف على وصوله إلى ما لا يحسن التكليف من دونه. ومريدا، لا ( ن ) اختصاص التكليف بوجه يفتقر إلى كون المكلف سبحانه مريدا له دون غيره. وعلى الصفات التي لا تتم هذه الصفات من دونها، أو هي مقتضاة عنها، كموجود وحي وقديم. وينفي عنه تعالى ما يقدح في ثبوتها: من التشبيه، والادراك بالحواس، والحاجة، والثاني. وأما ما يتعلق بأفعاله، فأن يكون حكيما لا يفعل قبيحا، ولا يريده، ولا يخل بواجب، من حيث كان تجويز خلاف ذلك يرفع الثقة بما لا يحسن ح ؤ التكليف إلا معه، ويعلم ما يقتضي ذلك من المسائل وفساد ما يقدح فيه. وأن تكون له نعم يستحق بها العبادة، بأن تكون مستقلة بأنفسها لا تفتقر إلى غيره. وأن تكون أصولا للنعم، فلا تقدر نعمة منفصلة عنها، ولا يحصل من دونها. وأن يبلغ في الغاية في العظم إلى حد لا يساويها نعمة. وإنما قلنا ذلك، لأن العبادة المستحقة له تعالى غاية في الشكر، فلا بد من اختصاصها بغاية من العظم، وافتقار كل نعمة إليها من حيث اختص شكرها بالغاية التي لا يبلغها شكر، وهو كونه عبادة. وقد علمنا ما هو عليه تعالى من الصفات، وكونه حكيما بما تقدم، وعلمنا ثبوت الشروط التي اعتبرناها في نعمه: من الايجاد والحياة والإقدار وفعل الشهوة والمشتهى، وكون ذلك أصلا لكل نعمة، وافتقار كل نعمة إليها، وتعذر انفصالها منها، وبلوغها الغاية في العظم، وانغمار جميع نعم المحدثين في جنب بعضها. فيجب كونه تعالى مستحقا للعبادة دون كل منعم.
ويجب أن يكون له تعالى غرض في التكليف يحسن لمثله، لأن خلوه من غرض أو ثبوت غرض لا يحسن لمثله لا يجوز عليه سبحانه. ويجب كونه تعالى مزيحا لعلة المكلف بالتمكين والاستصلاح والبيان، لأن تكليفه من دون ذلك قبيح على ما بينته. وأما الوجه في ابتداء الخلق وتكليف العقلاء منهم، فالخلق جنسان: حيوان، وجماد. فالغرض في إيجاد الحي منه لينفع المكلف بالتفضل والثواب، ويجوز العوض، ويجوز أن يكون في خلقه لطف غيره. وغير المكلف فالتفضل والعوض، ويجوز أن يكون في خلقه لطف للمكلف. وغير الحي الغرض في خلقه نفع الحي. وقلنا: إن الغرض في تكليف العاقل التعريض للثواب. لأنه سبحانه لما خلقه وأكمل عقله وجعله ذا طباع يقبل إلى القبيح وينفر عن الواجب، ولم يغنه بالحسن عن القبح، ولم يجز أن يكون ذلك لغير غرض لكونه عبثا، ولا لغرض هو الانتفاع به أو دفع الضرر لاستحالتهما عليه تعالى، ولا للإضرار به لكونه ظلما، ولا لدفع الضرر عنه لكونه قادرا على ذلك من دون التكليف فيصير عبثا. علمنا أن الغرض هو التعريض للنفع. وقلنا: إن التعريض للنفع حسن. لعلمنا - وكل عاقل - بحسن تكلف المشاق في أنفسنا، وتعريض غيرنا لها تعريضا للنفع، واستحقاق المدح من عرض غيره لنفع، كاستحقاقه على إيصاله إليه. وقلنا: إن هذا النفع ثواب. لأن ما عداه من ضروب المنافع يحسن منه تعالى الابتداء بها، فلا يجوز أن يكلف المشاق لما يحسن الابتداء به، لأن ذلك عبث لا يجوز عليه سبحانه. وقلنا: إن الثواب مما يقبح الابتداء به. لكونه نفعا واقعا على جهة الاعظام مقترنا بالمدح والتبجيل، ومعلوم ضرورة قبح الابتداء بالمدح والتعظيم، وإنما يحسن مستحقا على الأمور الشاقة الواقعة عن إيثار، ولذلك اختصت منافع من ليس بعاقل من الأحياء بالتفضل والعوض دونه، لتعذر استحقاقهم له. ووجود الجماد لنفع الحي ظاهر في أكثره، وما لا يعلم ذلك من حاله تفصيلا فمعلوم على الجملة، من حيث كان خلاف ذلك يقتضي كون موجده سبحانه عابثا، وذلك فاسد. ولا يقدح في حسن تكليف العاقل للوجه الذي بيناه تكليف من علم من حاله أنه يكفر أو يعصي، لأن الوجه الذي حسن تكليف من علم من حاله أنه يؤمن قائم فيه، وهو التعريض للثواب، وكونه سبحانه عالما من حاله أنه لا ينتفع بما عرض له لا ينقض الغرض المجري بالتكليف إليه، لأن المعرض للنفع الممكن من الوصول إليه محسن إلى المعرض وإن علم أو ظن أنه لا ينتفع، بل يستضر بسوء اختياره. يوضح ذلك: حسن عرض الطعام على الجائع، وإدلاء الحبل إلى الغريق لينجو وإن ظن أنهما لا يفعلان. والقديم سبحانه وإن علم في من عرضه بتكليفه لنفع عظيم أنه لا يقبل ما يصل به إليه، بل بسوء النظر لنفسه، فيختار هلاكه على بصيرة من أمره وتمكن من صلاحه، لا يخرجه سبحانه عن كونه محسنا إليه بالتعريض للنفع العظيم، ولا يقتضي قبح فعل المكلف وسوء نظره لنفسه قبح فعله تعالى من التعريض. فما اختاره العبد المسئ وعلمه سبحانه بأنه لا يؤمن ليس بوجه قبح، كما أن علمنا بأن جميع الكفار لو جمعوا لنا ودعوناهم لم يؤمنوا ليس بمقتض لقبح دعوتنا لمم إلى الإيمان. وآكد ما اعتمد عليه في هذا الباب: أنه سبحانه قد كلف من علم أنه يكفر أو يعصي مع علمنا بحكمته سبحانه، وأنه لا يفعل قبيحا ولا يريده، وقد كلف من علم أنه يكفر أو يعصي، فيجب القطع على حسنه، لكونه من فعله، وهذا يغني عن تكلف كلام لإفساد كون هذا التكليف لشئ من وجوه القبح، كالظلم والاستفساد وغيرهما. وإذا كان الوجه في حسن التكليف كونه تعريضا، فينبغي أن نبين ما التعريض المقتضي لحسن التكليف، وهو مفتقر إلى شروط ثلاثة: أولها: أن يكون المعرض متمكنا مما عرض له. وثانيها: أن يكون المعرض مريدا لما عرض بفعله للثواب. وثالثها: أن يكون المعرض عالما أو ظانا وصول المعرض إلى ما عرض له متى فعل ما هو وصله إليه. والدلالة على الشرط الأول: قبح تعريض الأعمى لما لا يتم إلا بالرؤية، والزمن لما لا يصل إليه إلا بالسعي، بأوائل العقول. والدلالة على الشرط الثاني: أن من مكن غيره بإعطائه المال من المنافع والمضار لا يكون معرضا له لأحدهما إلا بالإرادة. وكون المكلف مريدا لما عرض لفعله النفع كاف عن كونه مريدا للنفع في حال التعريض، لأن من عرض ولده للتعليم ليستحق المدح والتعظيم يكفي في حسن تعريضه كونه مريدا التعليم ما أجري به إليه من المدح والتعظيم، بل لا يحسن إرادتهما في حال التعريض، لكونهما غير مستحقين في تلك الحال، ولهذا قلنا: إنه سبحانه مريد للتكليف في حال الامر به أو إيجابه عقلا، دون ما هو وصله إليه من الثواب، لقبح إرادة ثواب التكليف في تلك الحال، ولأن الثواب متأخر عن التكليف، وكونه تعالى مريدا للشئ قبل حدوثه لا يصح، لكون الإرادة الواقعة على هذا الوجه عزما يستحيل عليه تعالى. وليس لأحد أن يقول: إن إعلام المكلف وجوب الواجب وقبح القبيح يغني عن كونه مريدا. لأن ذلك يقتضي كونه معرضا لما أعلم وجوبه وإن كره فعله، وذلك فاسد، ولأن أحدنا قد يعلم غيره وجوب واجبات وقبح أشياء ولا يكون معرضا لأحدهما إلا بكونه مريدا. والدلالة على الشرط الثالث: أن التعريض بسلوك طريق إلى مصر لا يوصل إليه منه على حال ليصل إليه قبيح. وهذه الشروط أجمع ثابتة في تكليفه تعالى، لأنه مريد لما كلفه حسب ما دللناه عليه، والمكلف قادر على ما كلفه، معلوم من حاله وصوله إلى ما عرض له من الثواب بامتثاله ما كلفه حسب ما دللنا عليه، وذلك يقتضي حسن التكليف، وإذا ثبت حسن التكليف وجب، لأنه لا واسطة بين وجوبه وقبحه، من حيث كان القديم سبحانه قادرا على أن يغني العاقل بالحسن عن القبيح، فإذا لم يفعل وأحوجه إليه بالشهوات المخلوقة فيه وخلى بينه وبينه، فلا بد أن يكلفه، لأنه إن لم يكلفه الامتناع منه وإن شق تعريضا لعظيم النفع بالثواب كان مغريا له بالقبح، وذلك لا يجوز ( عليه ) تعالى.
بيان الأفعال التي تعلق بها التكليف وصفاتها
وأما بيان الأفعال التي تعلق بها التكليف وصفاتها، فمن حق ما تعلق التكليف بفعله أو تركه عقلا وسمعا صحة إيجاده، لأن تكليف ما لا يصح إيجاده قبيح، كالجواهر والحياة، ولا يحسن تعلقه بما لا يستحق بفعله أو بأن لا يفعل الثواب، لأن الغرض الذي له حسن كونه تعريضا للثواب، فلا يحسن تكليف ما لا يوصل بفعله أو تركه إليه. وهو ينقسم إلى ما يستحق بفعله الثواب، وإلى ما يستحق بأن لا يفعل العقاب وهو الواجب، وإلى ما لا حكم لتركه وهو الندب والاحسان، وإلى ما يستحق بأن لا يفعل الثواب وهو القبيح، ولا مدخل للمباح في التكليف، حيث كان لاحظ لفعله ولا تركه في استحقاق الثواب، وما لا يوصل إلى الثواب لا يحسن تكليفه. ولا بد لما كلف إليه تعالى فعله أو تركه من وجه اقتض ذلك فيه، لأنه لولا وجه اقتضاه لم يكن ما وجب أولى بذلك من الندب أو القبيح من الوجوب والندب. والتكليف على ضربين: ضروري، ومكتسب. والضروري على ضربين: واجب، وندب. والواجبات على ضربين: أفعال، وتروك. والأفعال: العدل، والصدق، وشكر النعمة، وأمثال ذلك. والتروك: الظلم، والكذب، والخطر، وتكليف ما لا يطاق، وأمثال ذلك. وجهة وجوب الأفعال وقبح التروك كونها عدلا وصدقا وظلما وكذبا، لأن كل من علمها كذلك علم وجوب ذلك وقبح هذه. والمندوبات على ضربين: أفعال، وتروك. والأفعال: الإحسان، والحلم، والجود، وقبول الاعتذار والعفو وأشباه ذلك. والتروك: خلاف ذلك. وجهة كون هذه مندوبا إليها كونها كذلك، لأن كل من علمها علمها مندوبا إليها. والمكتسب على ضربين: عقلي وسمعي. والعقلي: العلم بحدوث العالم وإثبات محدثه، وما يجب كونه تعالى عليه من الصفات وإحكام أفعاله وما يتعلق بها، والحكم لجميعها بالحسن، ولا تعلق لشئ منه بأفعال الجوارح ولا ترك فيه، وجهة وجوب هذا التكليف كونه شرطا في العلم بالثواب والعقاب الذي هو اللطف في التكليف الضروري، ولكونه شرطا في شكر النعمة، وقد سلف برهان ذلك. والسمعي على ضربين: أفعال، وتروك. والأفعال: مفروض، ومسنون. وجهة وجوب الفرائض: كونها لطفا في فعل الواجب العقلي وترك القبيح، وقبح تركها لأنه ترك لواجب. وجهة الترغيب في المسنون: كونه لطفا في المندوب العقلي، ولم يقبح تركه كما لم يقبح ترك ما هو لطف فيه. والتروك: الزنا، والربا، وشرب الخمر، وسائر القبائح الشرعية، وجهة قبحها: كون فعلها مفسدة في القبح العقلي، ووجب تركها لأنه ترك لقبح. والواجب في هذا التكليف العلم دون الظن، وطريقه الكتاب والإجماع والسنة المأثورة عن الصادقين عليهم السلام، والعمل به لوجوهه المخصوصة، وقد دللنا على صحة هذه الفتيا وفصلنا ما أجملناه هاهنا في مقدمتي كتابي العمدة والتلخيص في الفروع. ومن شرط الحسن في تكليف هذه الأفعال والتروك تقوية دواعي مكلفها إلى ما يختار عنده أفعالها، وصوارفه عن تروكها، أو يكون إلى ذلك أقرب، دون ما يقتضي الإلجاء المنافي للتكليف، لأن ذلك جار مجرى التمكين. فمتى علم سبحانه في شئ كونه لطفا في التكليف على أحد الوجهين وكان مختصا بمقدوره سبحانه فلا بد أن يفعله، وإن كان من مقدورات المكلف فلا بد من بيانه له وإيجابه عليه، وإن كان اللطف لا يتم إلا بفعله تعالى وفعل المكلف وجب عليه سبحانه فعل ما يختص به وبيان ما يختص المكلف وإيجابه، وإن كان من فعل غير المكلف فعلم سبحانه أن ذلك الغير يفعل هذا اللطف حسن تكليف هذا، وإن علم أنه لا يختاره وفي أفعاله تعالى أو أفعال المكلف بدل منه فعل ما يختصه وبين ما يختص المكلف، وإن لا يكن له بدل أسقط تكليف ما ذلك اللطف لطف فيه، لأن تكليفه والحال هذه قبيح على ما بينته، وتكليف غيره ما لا مصلحة له فيه قبيح أيضا، وإن كان لطفه يتعلق بفعل قبيح أو بما لا يصح إيجاده فلا بد من إسقاط تكليفه، لتعلقه بما لا يصح إيجاده أو يقبح فعله. وقلنا بوجوب ما ذكرناه. لأنه لا فرق في قبح المنع بينه وبين قبح المنع من التمكين. يوضح ذلك: أن من صنع طعاما لقوم يريد حضورهم نفعا لهم وعادته جارية في استدعائهم برسول، فلم يفعل الارسال مع كونه مريدا لحضورهم يستحق الذم، كما لو أغلق الباب دونهم، ولا شبهة في وجوب ما يستحق الذم بتركه. وإذا صح هذا وكان القديم سبحانه مريدا لتكليفه، فلا بد أن يفعل له ما يعلم أنه يختار التكليف عنده أو يكون أقرب إليه، أو يبتنه له إن كان من فعله، وسقط تكليفه إن كان معلقا بما لا يصح إيجاده أو يقبح أو مختصا بفعل غيره مع العلم بأنه لا يفعله ولا بدل له، لكونه تعالى عادلا لا يخل بواجب في حكمته سبحانه. وما هو من فعله تعالى لا بد أن يكون معلوما للملطوف له به أو مظنونا أو معتقدا لكونه داعيا، وما لا يعلم ولا يظن ولا يعتقد لا يكون داعيا، وسواء كان ما هو من فعله تعالى لطفا في واجب أو مندوب إليه أو ترك قبيح، فإنه يجب في حكمته سبحانه فعله، لكونه مريدا للجميع، وبيان ما هو لطف من فعل المكلف في التكاليف الثلاثة.
فأما ما يختص المكلف، فالواجب عليه فعل ما هو لطف في واجب وترك قبيح، وترك ما هو مفسدة فيهما، وهو في لطف المندوب بالخيار ولا فرق في إعلامه ما هو لطف له في تكليفه وإزاحة علته بين أن ينص له على كونه كذلك وبين أن يوجب عليه فعلا بدليل عقلي أو سمعي، فيعلم بذلك كونه لطفا في واجب، أو يوجب عليه تركه فيعلم بذلك كون فعله مفسدة، أو يرغبه في فعل أو ترك فيعلم كونه لطفا في مندوب، بحسن تكليفه ما هذا اللطف لطف فيه وإن جهله كذلك إذا كان متمكنا من العلم به، لكون علته مزاحمة بالتمكين وإن فرط فيما يجب عليه. ومن شرط اللطف أن يتأخر عن التكليف ولو بزمان واحد لكونه داعيا، ولا يتقدر الدواعي إلى غير ثابت، فإن علم سبحانه في فعل من الأفعال أنه إن صاحب التكليف دعا إلى اختياره فليس ذلك بلطف، لكونه وجها وسببا لحصول التكليف. فوصف هذا الجنس من الأفعال بأنه لطف اشتقاقا من التلطف للغير في إيصال المنافع إليه، ويسمى صلاحا لتأثيره وقوع الصلاح أو تقريب المكلف إليه، ويسمى استصلاحا على هذا الوجه، ويسمى منه توفيقا ما وافق وقوع الملطوف به فيه عنده. ويسمى منه عصمة ما اختار عنده المكلف ترك القبيح على كل حال تشبيها بالمنع من الفعل، وإن كان الفعل القبيح إنما ارتفع مع اللطف باختيار المكلف ومع المنع لأجله، فساوى الحال في ارتفاع القبيح على كل وجه وإن اختلف جهتا الارتفاع، فلذلك سمي الملطوف له بهذا الضرب من اللطف معصوما، ويجوز أن يكون الوجه في التسمية بمعصوم من حيث كان مفعولا له ما امتنع معه من القبيح تشبيها بالممنوع على الوجه الذي بيناه. ولا يلزم على هذا عصمة سائر المكلفين، لأن ما له هذه الصفة من الألطاف موقوف على ما يعلمه سبحانه من كونه مؤثرا في اختيار المكلف ما كلف فعله أو تركه، وما هذه حاله يجوز أن يختص ببعض المكلفين، ولا يكون في المعلوم شيء يعلم من حال الباقين كونهم مختارين لما كلفوه عنده، فيختص فعله إذ ذاك بمن علم من حاله كونه غير مختار عنده لشئ من القبائح، دون من علم أنه لا يترك القبح عند شئ من الأفعال، كما خبر عنهم سبحانه بقوله: ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله )، يريد: أن يشاء إلجائهم، وكقوله سبحانه: ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك )، وأمثال ذلك من الآيات الدالة على وجود مكلفين لا يختارون شيئا من الطاعات، ولا يتركون شيئا من القبائح، وإن فعل لمم كل آية. يحسن تكليف من يعلم أنه لا لطف له وأنه يطيع أو يعصي على كل حال، لأنه متمكن بجميع ضروب التمكين مما كلف ولم يمنع واجبا، وليست هذه حال من لطفه في القبيح أو فيما لا نهاية له، لأن هذا اللطف لم يفعل له، فقبح تكليفه. وأما الصلاح الدنيوي العري من وجوه القبح فغير واجب، لأنه لا تعلق له بالتكليف ولا له في نفسه صفة وجوب كالصدق والإنصاف، لأن وجوب ما هذه حاله معلوم ضرورة على جهة الجملة ومكتسبا على جهة التفصيل، ولأنه لو كان له وجه يقتضي وجوبه لكان ذلك لكونه نفعا، وذلك يوجب كل نفع لا ضرر فيه على الفاعل والمفعول له، والمعلوم ضرورة خلاف ذلك، لوجودنا سائر الأغنياء من العقلاء يمنعون غيرهم ماله هذه الصفة ولا يستحقون ( به ) الذم من أحد. وتعلق القائلين بالأصلح في إثبات وجه لوجوبه: بذم مانع الاستظلال بظل حائطه، والتقاط المتناثر من حب زرعه، وتناول الماء من نهره. ليس بصحيح، لأنه لو كان الوجه فيه كونه نفعا خالصا لوجب كل نفع خالص، لأن صفة الوجوب لا تختص بمثل دون مثل، وقد علمنا ضرورة خلاف ذلك، وإنما قبح المنع بحيث ذكروه لكونه عبثا لا غرض فيه، ولهذا متى حصل فيه أدنى غرض حسن، ولو كان الوجه في قبح منعه كونه نفعا خالصا لم يحسن، لوجود غرض فيه كالظلم، على أن مثالهم بخلاف الأصلح، لقولهم بوجوب فعل ما فيه نفع خالص، وقد علمنا أنه لا يجب بناء الحائط للاستظلال به، ولا حفر النهر لتناول الماء منه، ولا نثر الحب للالتقاط، وإذا لم يجب فلا شاهد لهم. ولا لهم أن يتعلقوا في إيجابه: بأن فاعله جواد ومانعه بخيل، وصفة الجود مدح وهو جدير بها سبحانه، وصفة البخل ذم لا يجوز عليه تعالى. لأن ذلك تعلق بعبارة يجوز غلط مطلقها وصوابه، ولا يجوز إثبات وجه الوجوب والقبح للموصوف ضرورة أو استدلالا ؟ ولا يجوز عند أحد من العلماء إثبات صفات الذوات بها، على أن المعلوم اختصاص إطلاق الجود والبخل بغير من ذكروه، لأنه لا أحد يصف من لم يمنع من الاستظلال والالتقاط الذي هو شاهد طم بأنه جواد، وإنما يصفون بذلك من أكثر الإحسان كحاتم وإن كان عليه فيه ضرر، بل لا يصفون بالجود من له إحسان ما، ولو كان الجود اسما لمن ذكروه لوجب اختصاصه به، أو إطلاقه، والمعلوم خلاف ذلك. وأما بخيل فليس بوصف لمن ليس بجواد، يعلمنا بوجود أكثر العقلاء غير موصوفين بالجود ولا البخل، ولو كان اسما لمن منع نفعا خالصا لوجب وصف كافة العقلاء به، حتى الأنبياء والأوصياء والفضلاء، لأنه لا أحد منهم إلا وهو مانع ماله هذه الصفة، وإنما هو مختص بمانع الواجب عليه لغيره، لكونه اسما للذم حسب ما نطق به القرآن، وإطلاق العرب له ( على ) مانع القرى لاعتقادهم وجوبه عليهم، ولهذا لا يصفون به من أخل بواجب يختصه، ولا مانع التفضل على كل حال، ويجوز أن يكون ذلك مجازا، والمجاز لا يقاس عليه ولا يجعله أصلا يرجع إليه. فسقط ما تعلقوا به معنى وعبارة، والمنة لله. وأيضا فإن المفعول منه في الوقت الواحد لا بد من انحصاره، لوجوب انحصار ما يخرج إلى الوجود، وما زاد عليه مما حكمه حكمه في النفع لا يخلو أن يكون مقدورا له تعالى أو غير مقدور ولا يصح كونه غير مقدور، لكونه تعالى قادرا لنفسه، ولكونه مقدورا لا يخلو أن يكون واجبا أو غير واجب، وكونه واجبا يقتضي كونه تعالى غير منفك في حال من الاخلال بالواجب، فلم يبق إلا أنه غير واجب. وليس لأحد أن يقول: فأنتم تجيزون فعل الأصلح، فيلزمكم في الجواز ما ألزمتموه في الوجوب. لأن الاخلال بالواجب لا يجوز عليه تعالى، والاخلال بالجائز جائز منه، فافترقا بغير شبهة. وليس له أيضا أن يقول: القدر الزائد إن كان صلاحا فلا بد أن يفعله، وإن لم يكن كذلك فلا مسألة علينا. لأنا فرضنا مساواة القدر الزائد المعدوم لما وجد منه في الصلاح، فاقتضى سقوط وجوب الأصلح، أو كونه تعالى غير منفك من الاخلال بالواجب، فسؤالهم إذن خارج عن تقديرنا. ولنا في هذا الدليل نظر لا يحتمله كتابنا هذا. وأيضا فلو لم يكن في أفعاله تعالى ما له صفة الإحسان لا يجب شكره، لاختصاص الشكر به دون سائر الأفعال، فإذا لم يتعين شكره لم يستحق العبادة، لكونها كيفية في الشكر وذلك ضلال. وأيضا فإنا نعلم ضرورة أن من جملة الأفعال الواقعة منا ما يستحق به الشكر والمدح، ولا يستحق به الذم، كما نعلم أن من جملتها واجب ومباح، فيجب أن يكون تعالى قادرا لنفسه على ما هذه حاله، وذلك ينتقض قوله: إنه ليس في الشاهد ولا الغائب ما يخرج عن واجب في العدل أو واجب في الجود. وأما المكلف، فهو الجملة الحيث المشاهدة، بدليل حصول العلم بوقوع الأفعال الدالة على كون من تعلقت به قادرا، والمحكمة المترتبة الدالة على كون من تعلقت به عالما مريدا منها، والقادر العالم المريد هو الحي المكلف. وإذا كان المعلوم استناد ما دل على كونه كذلك إلى الجملة، وجب وصفها به دون ما لا يعلم ولا يظن تعلق التأثيرات به، إذ كان نفيها عن الجملة المعلوم ضرورة تعلقها بها وإضافتها إلى من لا يمكن إضافتها إليه إلا على هذا الوجه تجاهل، ولا نعلم حصول الإدراك بأبعاضها، والمدرك هو الحي، فيجب أن يكون كل عضو حصل به الإدراك من جملتها. ولأن الأفعال تقع بأطرافها، ويبتدئ بها التأثيرات المحكمة، ويخف باليدين ما يثقل باليد الواحدة، ولا وجه لذلك إلا كون هذه الأعضاء محلا للقدر، ومحل القدر هو القادر، والقادر هو الحي. وليس لأحد أن يقول: ما المانع من كون الحي غيرها، وتقع أفعاله فيها مخترعة. لأن الاختراع يتعذر بجنس القدر ولأنه لو صح منه أن يخترع فيها لصح في غيرها، وذلك محال، ولأنه لو صح منه الاختراع لجاز أن يخترع في الإصبع الواحدة من حمل الثقيل ما ينقل باليدين، والمعلوم خلاف ذلك، ولأنا نعلم انتفاء الحياة بانتقاض هذه البنية، ولو كان الحي غيرها لكان لا فرق بين قطع الرأس والشر، والمعلوم خلاف ذلك. وببعض ما قدمناه يبطل كون الحي بعض الجملة، لصحة الإدراك بجميع أبعاضها، وبوقوع الأفعال في حالة واحدة بكثير من أعضائها، مع تعذر الاختراع على ما بيناه.
وأما صفات المكلف، فيجب أن يكون قادرا ليصح منه إيجاد ما كلف، والقدرة مختصة بمقدوراته سبحانه، فيجب عليه فعلها. وإن كان التكليف يفتقر إلى آلة وجب في حكمته سبحانه فعل ما يختصه كاليد والرجل " وتمكينه من تحصيل ما يختصه كالقلم والقوس، لتعذر الفعل المفتقر إلى آلة من دونها، لتعذره من دون القدرة. وإن كان التكليف مما يفتقر العلم به والعمل إلى زمان وجب تبقية الزمان الذي يصحان في مثله، لأن اخترامه من دونه قبيح. ويجب أن يكون عالما بتكليفه ووجهه، أو متمكنا من ذلك، لأن الغرض المقصود من الثواب لا يثبت مع الجهل بوجوب الأفعال، لاختصاص استحقاقه بإيقاع ما وجب أو ندب إليه واجتناب ما قبح للوجه الذي له حسنا وقبح هذا، ولأن المكلف لا يأمن براءة ذمته مما وجب عليه فعلا وتركا من دون العلم بهما. فما اقتضت الحكمة كونها من فعله تعالى، فلا بد من فعله للمكلف، كالعلم بالمشاهدات بأوائل العقول وسائر الضروريات، وما اقتضت المصلحة كونه من فعل المكلف، وجب إقداره عليه بإكمال عقله ونصب الأدلة وتخويفه من ترك النظر فيها، ويكفي ذلك في حسن تكليف ما يجب علمه استدلالا، وإن لم يكن معلوما في الحال، ولا مما يعلم في الثاني، لأن التكليف كاف، والتقصير مختص بالمكلف. والحال التي يصح معها تكليف العلم بالمعلوم، هي كون الحي عاقلا مخوفا من ترك النظر في الأدلة. والعقل: مجموع علوم من فعله تعالى، وهي على ضروب: منها: العلم بالمدركات مع ارتفاع اللبس. ومنها: العلم بأن المعلوم لا بد أن يكون ثابتا أو منتفيا، والثابت لا يخلو أن يكون لوجوده أول أو لا أول لوجوده. ومنها: العلم بوجوب شكر المنعم ورد الوديعة والصدق والإنصاف، وقبح الظلم والكذب والخطر، واستحقاق فاعل تلك ومجتنب هذه المدح والذم على فعل هذه واجتناب تلك إذا وقع ذلك عن قصد. ومنها: العلم بتعلق التأثيرات بالعبدة وفرق ما بين من تعلقت به وتعذرت ومنها: العلم بجهات الخوف والمضار، وما يستندان إليه من العادات. وقلنا: إن العقل مجموع هذه العلوم. لأنها متى تكاملت لحي وصف بأنه عاقل ومتى اختل شئ منها لم يكن كذلك، ولو كان العقل معنى سواها لجاز تكاملها بحي ولا يكون عاقلا، بأن لا يفعل فيه ذلك المعنى، أو يفعل في حي من دونها، فيكون عاقلا، والمعلوم خلاف ذلك. وقلنا: إنها من فعله تعالى لحصولها على وجه الاضطرار في الحي لأنها لو كانت من فعل الحي منا لكانت تابعة لمقصوده. وقلنا: إن كونه عاقلا شرط في تكليفه الضروري هو من جملتها، والمكتسب لا يتم من دونها، لافتقاره إلى النظر الذي يجب أن يتقدمه العلم بمجموعها، ولأنه لا حكم للنظر من دونه. ومما يجب كونه عليه التخلية بينه وبين مقدوره، فإن علم سبحانه حصول منع من فعله تعالى أو فعل المكلف أو غيره قبح تكليفه لتعذر وقوعه، وإن اختلفت أسباب التعذر. ولا يحسن منه تعالى تكليفه بشرط زوال المنع، لأنه عالم بالعواقب، والاشتراط فيه لا يتقدر، وإنما يحسن فيمن لا يعلم العواقب، ولذلك متى علمنا أو ظننا حصول منع من فعل لم يحسن منا تكليفه. ومما يجب كونه عليه: صحة الفعل، وتركه، لأن إلجائه ينقض الغرض المجري بالتكليف إليه من الثواب الموقوف على إيثار المشاق. والالجاء يكون بشيئين: أحدها: أن يعلم العاقل أو يظن في فعل أنه متى رامه منع منه لا محالة، كعلم الضعيف أنه متى رام قتل الملك منع منه هو الملجأ إلى الترك، وهذا الضرب من الالجاء لا يتغير. والثاني: يكون بتقوية الدواعي إلى المنافع الكثيرة الخالصة أو الصوارف بالمضار الخالصة، وهذا يجوز تغييره بأن يقابل الدواعي صوارف يزيد عليها، والصوارف دواع يزيد عليها، ولهذا استحال الالجاء على القديم سبحانه، لاستحالة ما يستند إليه من المنع ورجاء النفع وخوف الضرر. ومن صفاته: أن يكون مائلا إلى القبيح نافرا من الواجب محتاجا، لاستحالة تقدير التكليف من دون ذلك، من حيث كانت المشقة شرطا فيه، ولا مشقة من دون الميل والنفور، لأن ما يلتذ به الحي أو لا يلتذ به ولا تألم لا يشق عليه، فعلا كان أو تركا، ولأن الوجه في حسنه التعريض للنفع الملتذ به، ومتى لم يكن الحي على صفة من يلتذ ببعض المدركات ويألم ببعض لم يدعه داع إلى تكلف مشقة لاجتلاب نفع أو دفع مضرة، وكونه كذلك يقتضي كونه محتاجا إلى نيل النفع ودفع الضر، فإن فرضنا غناه بالحسن عن القبيح ارتفعت المشقة التي لا يتقدر تكليف من دونها. وليس من شرط التكليف أن يعلم المكلف أن له مكلفا، لأن التكليف الضروري ثابت من دون العلم بمكلفه سبحانه، ولأن المعرفة بالمكلف سبحانه لا وجه لوجوبها إلا تعلقها بالضروري، فلو وقف حسن التكليف على العلم بالمكلف لتعذر ثبوت شئ من التكاليف. وليس من شرطه أن يعلم المكلف أنه مكلف، لأنا قد بينا قبح الاشتراط في تكليفه سبحانه، وقبحه يوجب القطع على تبقيته المكلف الزمان الذي يصح منه فعل ما كلف على وجه، فلو كان من شرطه أن يكون عالما بأنه مكلف لوجب أن يكون قاطعا على البقاء إلى أن يؤدي ما كلف أو يخرج وقته، وذلك يقتضي كونه مغري بالقبح أو عصمته، والاغراء لا يجوز عليه، وعصمة كل مكلف معلوم ضرورة خلافه. ولأنا نعلم من أنفسنا وغيرنا من المكلفين أنه لا أحد منا يقطع على بقائه وقتا واحدا، بل يجوز اخترامه بعد دخول وقت التكليف وقبل تأديته العبادة وبعد ما دخل فيها ولم يحملها، وإنما نعلم أنه مكلف ما يحتاج إلى زمان إذا فعله أو خرج وقته إن كان موقتا. وليس لأحد أن يقول: فعلى هذا لا يلزم أحدا أن يفعل شيئا من الواجبات، وإن فعلها فلغير وجه الوجوب. لأنه لا يتعين له على ما ذكرتم إلا بعد الأداء أو خروج الوقت، لأنه وإن لم يعلم كونه مكلفا ما خوطب به إلا بعد فعله أو خروج وقته، فإنه يعلم وجوب الابتداء به، وإذا علم ذلك وجب عليه الدخول فيه والعزم على فعله لوجهه. ولأنه يجوز البقاء، ويعلم أنه ( إن ) خرج وقته ولم يؤده استحق الضرر، فيجب عليه التحرز من الضرر المخوف ويفعله لوجهه، فكل ما مضى منه جزء علم كونه مكلفا له حتى يمضي جملته أو وقته، وإن اخترم على بعضه في وقته فتكليفه مختص بما فعله دون ما لم يفعله. إن قيل: فيلزم على هذا أن يفرد كل حكم واجب من جملة تكليف بقصد مخصوص. قيل: إذا كان الحكم من جملة تكليف وجب عليه الابتداء به كفاه أن يبتديه بعزم على جملته وتفصيله لوجهه، لاختصاص تكليفه بذلك، وإن كان إفراد كل حكم من جملة تكليف بنية تخصه أفضل، ونية الجملة كافية، إذ لا فرق في تعلقها بالحكم بين مصاحبته أو تقدمها عليه في حال الابتداء بالعبادة التي هو من جملتها.
الألم: ما أدرك بمحل الحياة فيه، وهو: جنس، وغير جنس: فالمدرك بمحل الحياة فيه - كالحادث عند الحي، وفي رأس المصدع - جنس. والمدرك بمحل الحياة في غيره - كالحرارة، والبرودة، والطعم - ليس بجنس غير هذه المدركات. وقلنا ذلك. لأن الحي يجد من طريق الإدراك عند قطع بعض أعضائه ما لم يكن يجده، ويفصل بين تألمه من ناحية ذلك العضو وبين غيره. والادراك يتعلق بأخص صفات المدرك، ولا يجوز تعلقه بتفريق البنية، لأن الأكوان غير مدركة بمحل الحياة ولا غيره، والميل والنفور غير مدركين، ولأن حال كل منهما يحصل للحي، وهو غير آلم ولا ملتذ، فثبت وجود منى تعلق الإدراك به. وليست هذه حاله عند إدراك الحرارة والطعم وغيرهما، لأن الإدارك تعلق بجنس معلوم، فلا حاجة بنا إلى إثبات غيره، لما فيه من الجهالة. وسمي هذا المعنى ألما إذا أدركه الحي وهو نافر، ويسمى لذة إذا أدركه وهو مشته. والشهوة والنفار معنيان مغايران للألم واللذة، مختصان بالقديم تعالى. والألم مقدور للمحدث، ولا يصح منه إلا متولدا عن الوهي، وتقع منه تعالى متولدا ومبتدأ، كحصوله للمصدع والمنفرس. وإذا ثبت أن الألم جنس الفعل بطل قول من زعم أنه قبيح لكونه ألما، من حيث كان الشئ لم يقبح لجنسه، لأن ذلك يقتضي اختصاص القبح بجنس معين، أو يماثل سائر الأجناس، لصحة الاشتراك في صفة القبح، ويتعذر الجنس في شيء من أعيان الجنس، وإنما يقبح لوقوعه على وجه، ولهذا يقبح بعض الأكوان يحسن بعض. والوجه الذي عليه بقبح الألم هو كونه ظلما بتعريه من نفع يوفى عليه، ودفع ضرر هو أعظم منه، واستحقاق، وكونه مدافعة، وكونه عبثا بتعريه من عوض مثله، أو أنفع ( لا ) يحسن إيصاله إلى المؤلم من دونه، أو لدفع ضرر يندفع بغيره، أو كونه استفسادا بأن يكون داعيا إلى قبيح، أو صارفا عن حسن. والوجه الذي عليه يحسن هو أن يكون فيه نفع، أو دفع ضرر أعظم، أو عن استحقاق، أو مدافعة. وقلنا بقبحه لتلك الوجوه، وحسنه لهذه. لحصول العلم الضروري لكل عاقل بذلك من غير نظر ولا تأمل، ويقوم الظن في جميع ذلك مقام العلم، لعلمنا باتباع الحسن والقبح له. والوجه الذي يصح منه تعالى الايلام أن يكون مستحقا أو لطفا، وهذان الوجهان ثابتان فيما يفعله في الدنيا، فأما ما يفعله تعالى في الآخرة فمختص بالاستحقاق، لأن اللطف فيها غير متقدر. وقلنا باختصاص إيلامه في الدنيا بالوجهين. لأن الوجوه التي يقبح عليها الألم لا تصح منه تعالى، لما بيناه من حكمته تعالى. ولدفع الضرر قبيح منه وإن حسن منا على وجه، لأن الإيلام لدفع الضرر لا يحسن إلا بحيث لا يندفع الأعظم إلا به. يوضح ذلك: أن كسر يد الغريق لتخليصه لا يحسن مع غلبة الظن بخلاصه بمجرد الجذب، ويحسن إذا غلب الظن أنه لا يتخلص إلا به، والقديم تعالى قادر على دفع كل ضرر من غير إضرار، فلا وجه له منه تعالى. ولمجرد النفع لا يحسن، لكونه عبثا، لأن من استأجر غيره لنقل الرمل من جهة إلى أخرى لنفعه بالأجرة حسب يستحق الذم لكونه عبثا. وإذا فعل سبحانه الألم لاعتبار المفعول في المؤلم أو غيره، فلا بد من عوض ينغمر في جنبه، ليخرج به عن كونه ظلا، ولهذا حسن ما يقع منه سبحانه من إيلام، ولم يحسن ما يقع منا عريا من النفع ودفع الضرر والاستحقاق والمدافعة، وهو الظلم، وإن كان في مقابلته عوض لا بد من إيصاله إلى المظلوم. ولا فرق في حسن الألم للطف بين أن يكون اللطف مختصا به، أو مع مساواة النفع له في ذلك، لأنه بالعوض المستحق عليه قد لحق بالنفع وزاد عليه، فحاله تعالى في التخيير بينهما بخلاف حالنا، لأنا لا نقدر ولا نعلم من الأعواض ما يحسن له الألم، ولذلك لم يحسن منا الاستصلاح به بحيث يقوم النفع مقامه. والوجه في حسن إيلام الأطفال كونه لطفا للعقلاء، وفي البهائم كونه كذلك، وللانتفاع به في الدنيا، فيخرج بذلك عن حد العبث، وعليه عوض يخرجه عن كونه ظلما. وقلنا ذلك. لأن إضافته إلى الطبائع، أو الكواكب، أو الظلمة، أو الشيطان، أو القديم تعالى على وجه يقبح لا يصح على ما دللنا على فساده. وكونه لذة معلوم ضرورة خلافه، وكونه للاستحقاق يقتضي مصاحبة الذم له، ومعلوم قبحه وتقدم تكليف قبل زمانه، وذلك يقتضي حصول الذكر له. ولأن القائلين بذلك يبنونه على قبح الايلام لغير الاستحقاق، وقد بينا حصول العلم الضروري بحسنه، للنفع ودفع الضرر والمدافعة. ولأنه يوجب عليهم تقدم تكليف على تكليف إلى ما لا نهاية له، أو الانتهاء إلى تكليف غير مستحق، فيسقط معه مذهبهم، ويقتضي كون التكليف عقابا، وذلك محال. وبهذا يسقط مذهب القائلين بالتناسخ، ويسقطه أيضا قيام الدلالة على أن الحي هو الجملة دون بعضها أو غيرها، واستحالة كون زيد قردا، وإنما كان يصح ذلك لو كان الحي غير الجملة، وقد أفسدناه، وإن كانوا لا يهتدون إلى هذا الذي لا يتقدر تناسخ من دونه، ولأنه يقتضي تكميل عقل المنسوخ ليعلم كونه معدولا فيه معدنا، والمعلوم ضرورة خلاف ذلك، ولأنه كان يجب ذم كل مؤلم لكونه عقابا وإن كان نبيا أو صديقا. واعتذارهم في عدم الذكر بالموت لا يغني سببا، لأن فقد العلم في مدته لا يمنع عند الإحياء وإكمال العقل من الذكر، بل يجب كالنوم وحال العقلاء في البعث، ولأن الموت غير متقدر على مذاهبهم، وإنما هو انتقال الروح أو الحي، فإن فهموا مذهب القائلين به من جملة إلى جملة فعلى هذا ما حاله في التنقل في الهياكل إلا كالتنقل في الأماكن، فكما يجب العلم بحمل أحوال المنتقل عن بلد إلى أخر فكذلك يجب ما قلناه.
العوض: هو النفع المستحق العري من تعظيم وتبجيل. وليس بدائم، لأنه لو كان من حقه الدوام لكان شرطا في حسنه، وقد علمنا حسن الألم لنفع منقطع، وجهة استحقاقه على المحدث كون ما يستحق به ظلما من فعله أو واقعا عند فعله، كالآلام الواقعة من الكحل. وهو على ضربين: أحدهما يصح نقله كالأموال، وما لا يصح ذلك فيه كالآلام والغموم على السب وفوت المنافع. فعوض الأول يصح التخلص بإيصاله إلى مستحقه أو استحلاله لصحة قبضه واستيفائه، والثاني يقف على الانتصاف منه تعالى في الآخرة لتعذر القبض فيه والاستيفاء. وجهات استحقاق العوض عليه تعالى من وجوه أربعة: أحدها: لألم يفعله للطف به كالآلام المبتدأة في الأطفال والبالغين، وما يفعله عند التعريض منا للحر والبرد، لعلمنا بحسن ذلك، ولو كان العوض على من طرح غيره في الثلج لكان قبيحا مع كونه فعلا له سبحانه، وإنما يقبح التعريض. وثانيها: ما يفعل بأمره، كالضحايا وحدود الامتحان. وثالثها: ما يفعل بإباحته، كذبح الحيوان وركوب البهائم والحمل عليها واستخدام الرقيق. ورابعها: ما يفعل بإلجائه. وجهة استحقاق العوض من الوجه الأول قد بيناه، ومن الوجوه الثلاثة: علمنا بحسن ما يقع من الألم بأمره وإباحته وإلجائه، فلولا أنه سبحانه تكفل بالعوض عنه لقبح، كسائر ما نفعله من الألم بغيرنا. ويجوز تعجيل ما يمكن ذلك فيه في الدنيا، لأنه لا صفة له تمنع من تعجيله، وما لا تعجيل منه لا بد من فعله في الآخرة لمستحقه من العقلاء وغيرهم. ولا يجوز في حكمته سبحانه تمكين غيره من الظلم إلا مع إمكان الانتصاف منه في حال الاستحقاق، لأن تبقيته أو تكفل العوض عنه تفضل عليه يجوز منعه، والانتصاف واجب، ولا يجوز تعلقه به. والصحيح حسن تمكين من علم أنه يستحق من الأعراض بمقدار ما يستحق عليه في المستقبل، أو يتكفل القديم سبحانه عنه العوض، لأن الانتصاف للمظلوم وإيصاله إلى ما يستحقه من الأعواض ممكن مع كل واحد من الأمرين، كإمكانه مع ثبوت العوض في حال الظلم، ولا مانع من قبح ولا غيره.
الكلام في الآجال عبارة، ومعنى: فالعبارة: الأجل، وهو: الوقت، لأن أجل الذين وقت استحقاقه، والوقت هو الحادث الذي تعلق به حدوث غيره إذا كان معلوما، والموقت هو الحادث المتعلق بالوقت إذا لم يكن معلوما، كطلوع الشمس هو وقت لقدوم زيد إذا كان المخاطب يعلم طلوعها، لأنه حادث معلوم تعلق به حادث غير معلوم. فإذا صح هذا فأجل الموت أو القتل وقت حدوثهما، ولو جاز أن يطلق على حدوث موت أو قتل أجلان لجاز عليه أن يطلق عليه وقتان، وتقدير بقائه لو لم يمت أو يقتل لا يجوز له أن يوصف بأن له أجلان، لأن ما لم يحدث فيه موت ولا قتل لا يوصف بذلك بالتقدير، كما لا يكون ما لم يقع فيه موت ولا قتل وقتا للموت ولا قتل. والمعنى: هل كان يجوز بقاء من مات أو قتل أكثر مما مضى أم لا ؟ وهذا ينقسم: إن أريد كونه مقدورا فذلك صحيح، لكونه سبحانه قادرا لنفسه، فالامتناع منه كفر. وإن أريد العلم بوقوعه وحصوله فمحال، لأنه سبحانه عالم لنفسه، فلو كان يعلم أن هذا الميت أو المقتول يعيش أكثر مما مضى لعاش إليه ولم يمت ولم يقتل في هذه الحال، وفي اختصاص موته أو قتله بها دليل على أنه المعلوم الذي لا يتقدر غيره، وكونه معلوما لا يوجب وقوعه ولا يحيل تعلق القدرة بخلافه، لأن العلم يتعلق بالشئ على ما هو به، ولا يجعله كذلك، لأنا نعلم جمادا وحيوانا ومؤمنا وكافرا، فلا يجوز انقلاب ما علمناه وإن كنا لم نوجب شيئا منه.
الرزق: ما صح الانتفاع به ولا يكن لأحد المنع منه، بدليل إطلاق هذه العبارة فيمن تكاملت له هذه الشروط. والملك: ما قدر الحق على التصرف فيه ولم يجز منعه، بدليل صحة هذا الإطلاق على من تكاملت له هذه الصفات كمالك الدار والدراهم. والحرام لا يكون رزقا لمن قبضه، لأن الله تعالى أباح الانتفاع بالرزق بقوله تعالى: (كلوا واشربوا من زرق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، ومدح على الإنفاق منه، فقال سبحانه: ( ومما رزقناهم ينفقون )، وكونه حراما ينافي ذلك. ولأنه لا يخلو أن تكون سمة الرزق مختصة بما ذكرنا، أو بما يصح الانتفاع به فقط، وكونها مختصة بما قلناه يمنع من وصف الحرام بالرزق، واختصاصها بما يصح الانتفاع به يقتضي كون أموال الغير وأملاكهم وأزواجهم والخمر ولحم الخنزير أرزاقا، لصحة الانتفاع بالجميع، وذلك فاسد، فثبت اختصاص سمته بما قلناه. والرازق هو: من فعل الرزق أو سببه أو مكن منه على جهة التفضل والقصد، بدليل وصف من تكاملت هذه الشروط له رازقا، ولا يوصف البائع ولا قاضي الدين ولا المورث بأنه رازق. وإذا وجب هذا لجميع ما ينتفع به الحي منا من غير منع، يوصف بأنه تعالى الرازق له، لأنه الموجد للأجسام وما فيها من أجناس الملذوذات، والممكن من تناولها، والمرغب في إيصالها، والمبيح لها، وإن وصل الحي إلى شئ منها بفعله أو من جهة غيره، لاختصاص ذلك بما هو الخالق والمبيح والمقدر على تناوله وإيصاله والمرغب فيه وخالق الشهوة لمتناوله. ويجوز وصف من أوصل إلى غيره تفضلا بأنه رازق له مجازا، وقد وصفهم بذلك سبحانه فقال: ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم )، ولأنه قد تفضل بما يصح الانتفاع به، وقد كان له أن لا يفعل، ولهذا يستحق به الشكر.
الكلام في الأسعار عبارة، ومعنى: فالعبارة: ما السعر ؟ وهو: تقدير البدل فيما تباع به الأشياء، بدليل صحة هذه العبارة على تقدير البدل دون البدل والمبدل منه، لأن قولنا: الحنطة قفيزان بدرهم، لا يكون القفيزان ولا الدرهم سعرا على حال. وتنقسم العبارة إلى رخص، وغلاء: فالرخص: هو انحطاط السعر عما جرت العادة به في وقت ومكان مخصوصين، بدليل صحة إطلاق الرخص مع تكامل هذه الأوصاف. واعتبرنا الوقت والمكان، لأن اختلاف المكان أو الوقت يمنع من إطلاق الرخص، ولذلك لا يوصف الثلج وقت سقوطه من السماء بالرخص ولا في محله، وإنما يوصف بذلك فيما نأى عن محله من الجبال في زمان الحر إذا زاد على المعهود. والغلاء هو: زيادة السعر على ما جرت به العادة في وقت ومكان مخصوصين، بدليل ما قدمناه. والمعنى: إلى من يضاف الرخص والغلاء ؟ وذلك مختص بمن فعل سببهما ؟ فإن كان الرخص لتكثير أجناس المبيعات، أو إماتة الخلق، أو تقليل شهواتهم للشئ الرخيص، فهو مضاف إليه سبحانه، لوقوف ذلك على فعله. وإن كان الرخص مسببا عن العباد يجبر الناس على بيع الأمتعة، أو يدل بما يملكونه من كثيرها بالثمن اليسير، فالرخص مضاف إليهم، لوقوعه عند أفعالهم. والغلاء إن كان حادثا للجدب والقحط، أو تكثير الخلق، أو تقوية شهواتهم، فمضاف إليه سبحانه. وإن كان لاحتكار الظلمة، أو إخافة السبل ومنع المسافرة، فمضاف إلى من فعل ذلك دونه تعالى. ولذلك يجب شكره سبحانه على الوجهين الأولين، ويذم أو يمدح من سبب الغلاء أو الرخص من العباد.