عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

قرابة النبي ونساؤه وصحبه

 

 

- آباء رسول الله من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عز وجل موحدون له

- عم النبي أبو طالب مات مؤمنا

- آمنة بنت وهب كانت على التوحيد وأنها تحشر في جملة المؤمنين

- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 45، 46:

9- القول في آباء رسول الله صلى الله عليه وآله وأمه وعمه أبي طالب رحمه الله

واتفقت الإمامية على أن آباء رسول الله صلى الله عليه وآله من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب مؤمنون بالله عز وجل موحدون له. واحتجوا في ذلك بالقرآن والأخبار، قال الله عز وجل: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:"لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا".

وأجمعوا على أن عمه أبا طالب رحمه الله مات مؤمنا، وأن آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنها تحشر في جملة المؤمنين. وخالفهم على هذا القول جميع الفرق ممن سميناه بدء.

- آباء النبي إلى آدم كانوا موحدين على الإيمان بالله

- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد  ص 139:

قال أبو جعفر في آباء النبي صلى الله عليه وآله: اعتقادنا فيهم أنهم مسلمون.

قال الشيخ المفيد: آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم عليه السلام كانوا موحدين على الإيمان بالله، حسب ما ذكره أبو جعفر رحمه الله وعليه إجماع عصابة الحق. قال الله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} يريد به: تنقله في أصلاب الموحدين. وقال نبيه صلى الله عليه وآله "ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا" فدل على أن آباءه كلهم كانوا مؤمنين، إذ لو كان فيهم كافر لما استحق الوصف بالطهارة، لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فحكم على الكفار بالنجاسة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بطهارة آبائه كلهم ووصفهم بذلك، دل على أنهم كانوا مؤمنين.

- وجوه الصحابة ورؤساء المهاجرين وأعيان السابقين إلى الإيمان هم أمير المؤمنين وحمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ثم الطبقة التي تليهم كخباب وعمار وأبي ذر والمقداد وزيد بن حارثة ونظرائهم

- عائشة أمرت أباها بالصلاة بالناس عن نفسها دون النبي

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 201، 207:

مسألة: أخرى فإن قالوا: أفليس قدم رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر في حياته على جميع أهل بيته وأصحابه، حيث أمره أن يصلي بالناس في مرضه مع قوله عليه السلام "الصلاة عماد الدين"، وقوله عليه السلام: "إمامكم خياركم" وهذا أوضح دليل على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله، وفضله على جميع أمته؟!

جواب: قيل لهم: أما الظاهر المعروف فهو تأخير رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر عن الصلاة وصرفه عن ذلك المقام، وخروجه مستعجلا وهو من ضعف الجسم بالمرض على ما لا يتحرك معه العاقل إلا بالاضطرار، ولتدارك ما يخاف بفوته عظيم الضرر والفساد، حتى كان عزله عما كان تولاه من تلك الصلاة.

فأما تقدمه على الناس فكان بقول عائشة دون النبي صلى الله عليه وآله، وبذلك جاءت الأخبار وتواترت الأحاديث والآثار، ومن ادعى غير ذلك فعليه حجة البرهان والبيان.

فصل: على أننا لو صححنا حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله، وسلمنا لهم صدقها فيه تسليم جدل، وإن كانت الأدلة تبطله وتقضي بفساده من كل وجه، لما أوجب ما ادعوه من فضله على الجماعة، لأنهم مطبقون على أن النبي صلى الله عليه وآله صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري، ولم يوجب ذلك له فضلا عليه ولا غيره من المسلمين. ولا يختلفون أنه صلى الله عليه وآله أمر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان يؤمهم طول زمان إمارته في الصلاة عليهم، ولم يدل ذلك على فضله عليهم في الظاهر، ولا عند الله تعالى على حال من الأحوال. وهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأمته: "صلوا خلف كل بر وفاجر" وأباح لهم الصلاة خلف الفجار، وجوز بذلك إمامة إمام لهم في الصلاة منقوص مفضول، بل فاسق فاجر مرذول، بما تضمنه لفظ الخبر ومعناه، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.

فصل: ثم يقال لهم: قد اختلف المسلمون في تقديم النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر للصلاة. فقال المسمون السنة: إن عائشة أمرت بتقديمه عن النبي صلى الله عليه وآله. وقالت الشيعة: إنها أمرته بذلك عن نفسها دون النبي صلى الله عليه وآله، بلا اختلاف بينهم أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى المسجد وأبو بكر في الصلاة، فصلى تلك الصلاة، فلا يخلو أن يكون صلاها إماما لأبي بكر والجماعة، أو مأموما لأبي بكر مع الجماعة، أو مشاركا لأبي بكر في إمامتهم، وليس قسم رابع يدعى فنذكره على التقسيم.

فإن كان صلى الله عليه وآله صلاها إماما لأبي بكر والجماعة فقد صرفه بذلك عما أوجب فضله عندكم من إمامة القوم، وحطه عن الرتبة التي ظننتم حصوله فيها بالصلاة، وبطل ما اعتمدتموه من ذلك، ووجب له خلافه من النقص والخروج عن الفضل على التأبيد، إذا كان آخر أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله جار حكمها على التأبيد وإقامة الشريعة وعدم نسخها إلى أن تقوم الساعة، وهذا بين لا ريب فيه.

وإن كان صلى الله عليه وآله مأموما لأبي بكر فقد صرف إذن عن النبوة، وقدم عليه من أمره الله تعالى بالتأخير عنه، وفرض عليه غض الطرف عنده، ونسخ بذلك نبوته وما يجب له بها من إمامة الجماعة، والتقدم عليهم في الدين، وهذا ما لا يطلقه مسلم.

وإن كان النبي صلى الله عليه وآله إماما للجماعة مع أبي بكر على الاشتراك في إمامتهم، وكان ذلك آخر أعماله في الصلاة، فيجب أن يكون سنة، وأقل ما فيه جوازه وارتفاع البدعة منه، والإجماع منعقد على ضد ذلك، وفساد إمامة نفسين في الصلاة معا لجماعة من الناس، وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به القوم من صلاة أبي بكر، وما ادعوه له بها من الفضل على تسليم الخبر دون المنازعة فيه، فكيف وقد بينا سقوطه بما قدمناه.

فصل: على أن الخبر بصلاة أبي بكر وإن كان أصله من حديث عائشة ابنته خاصة على ما ذكروه، فإنه قد جاء عنها في التناقض والاختلاف وذلك شاهد بفساده على البيان: فروى أبو وائل، عن مسروق، عن عائشة، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا.

وروى إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة في حديث في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وآله صلى عن يسار أبي بكر قاعدا، وكان أبو بكر يصلي بالناس قائما.

وفي حديث وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أيضا، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه عن يمين أبي بكر جالسا، وصلى أبو بكر قائما بالناس.

وفي حديث عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله بحذاء أبي بكر جالسا، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر

 فتارة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إماما بأبي بكر، وتارة تقول: كان أبو بكر إماما، وتارة تقول: صلى عن يمين أبي بكر، وتارة تقول: صلى عن يساره، وتارة تقول: صلى بحذائه، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهر ما فيها من الاضطراب والاختلاف على بطلان الحديث، وتشهد بأنه موضوع.

على أن الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: "إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به، فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين" يبطل أيضا حديث صلاة أبي بكر، ويدل على اختلافه، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به، مع ترك المتمكن منه على فاعله، ومتى ثبت أوجب تضليل أبي بكر وتبديعه على الإقدام على خلاف النبي صلى الله عليه وآله. واستدلوا بمثل ذلك في رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كان هو المؤتم بأبي بكر، وفي كلا الأمرين بيان فساد الحديث مع ما في الوجه الأول من دليل فساده.

فصل: آخر مع أن الرواية قد جاءت من غير طريق عن عائشة أنها قالت: جاء بلال فأذن بالصلاة ورسول الله صلى الله عليه وآله مغمى عليه، فانتظرنا إفاقته وكاد الوقت يفوت، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلي بالناس.

وهذا صريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها ورأيها، دون أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وإذنه ورأيه ورسمه.

والذي يؤيد ذلك ويكشف عن صحته، الإجماع على أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج مبادرا معجلا بين يدي رجلين من أهل بيته حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه.

ثم الإجماع أيضا على قول النبي صلى الله عليه وآله حين أفاق لعائشة وحفصة: "إنكن كصويحبات يوسف عليه السلام"  ذما لهما على ما أفتنا به أمته، وإخبارا عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة أبيها بالناس، ولو كان هو صلى الله عليه وآله تقدم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال بينه وبين تمامها، ولا رجع باللوم على غيره فيها، وهذا ما لا خفاء به على ذوي الأبصار. وفي هذه المسألة كلام كثير، قد سبق أصحابنا رحمهم الله إلى استقصائه، وصنف أبو عيسى محمد بن هارون الوراق كتاب مفردا في معناه سماه كتاب (السقيفة) يكون نحو مائتي ورقة، لم يترك لغيره زيادة عليه فيما يوضح عن فساد قول الناصبة وشبههم التي اعتمدوها من الخبر بالصلاة، وأشار إلى كذبهم فيه، فلذلك عدلت عن الإطالة في ذكر البراهين على ما قدمت، واقتصرت على الاختصار، وإن كان فيما أثبته كفاية لذوي الأبصار، والحمد لله.

- انتفع النبي بمال خديجة بنت خويلد دون سواها

- الإفصاح - الشيخ المفيد  ص 209، 210:

مسألة أخرى: فإن قالوا: إن لأبي بكر من الإنفاق على رسول الله صلى الله عليه وآله والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي طالب عليه السلام، ولا لغيره من الصحابة، حتى جاء الخبر عنه صلى الله عليه وآله، أنه قال: "ما نفعنا مال كمال أبي بكر". وقال عليه السلام في موطن آخر: "ما أحد من الناس أعظم نفعا علينا حقا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة".

جواب: قيل لهم: قد تقدم لنا من القول فيما يدعى من إنفاق أبي بكر ما يدل المتأمل له على بطلان مقال أهل الخلاف، وإن كنا لم نبسط الكلام في معناه بعد، فإن أصل الحديث في ذلك عائشة، وهي التي ذكرته عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأضافته بغير حجة، وقد عرفت ما كان من خطأها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وارتكابها معصية الله تعالى في خلافه حتى نزل فيها وفي صاحبتها حفصة بنت عمر بن الخطاب: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. ثم الذي كان منها في أمر عثمان بن عفان حتى صارت أوكد الأسباب في خلعه، وقتله، فلما كان من أمره ما كان، وبايع الناس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حسدته على ذلك، وكرهت أمره، ورجعت عن ذم عثمان بن عفان إلى مدحه، وقذفت أمير المؤمنين عليه السلام بدمه، وخرجت من بيتها إلى البصرة إقداما على خلاف الله تعالى فيما أمرها به في كتابه، فألبت عليه ودعت إلى حربه، واجتهدت في سفك دمه واستئصال ذريته وشيعته، وأثارت من الفتنة ما بقي في الأمة ضررها في الدين إلى هذه الغاية. ومن كانت هذه حالها لم يوثق بها في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا آمنت على الأدغال في دين الله تعالى، لا سيما فيما تجربه نفعا إليها وشهادة بفضل متى صح لكان لها فيه الحظ الأوفر، وهذا ما لا يخفى على ذوي حجا...

فصل: على أنه لو كان لأبي بكر إنفاق على ما تدعيه الجهال، لوجب أن يكون له وجه معروف، وكان يكون ذلك لوجه ظاهر مشهور، كما اشتهرت صدقة أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه، وهو في الركوع حتى علم به الخاص، والعام، وشاعت نفقته بالليل والنهار والسر والإعلان، ونزول بها محكم القرآن، ولم تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه، حتى أجمعت عليها أمة الإسلام، وجاء بها صريح القول في البيان، واستفاض إطعام المسكين واليتيم والأسير، وورد الخبر به مفصلا في{هل أتى على الإنسان}.

فكان أقل ما يجب في ذلك أن يكون كشهرة نفقة عثمان بن عفان في جيش العسرة، حتى لم يختلف في ذلك من أهل العمل اثنان، ولما خالف الخبر في إنفاق أبي بكر ما ذكرناه، وكان مقصورا على ابنته خاصة، ويكفي في ما شرحناه، ومضافا إلى من في طريقه من أمثال الشعبي وأشباهه المعروفين بالعصبية لأبي بكر وعمر وعثمان، والتقرب إلى بني أمية بالكذب والتخرص والبهتان، مما يدل على فساده بلا ارتياب.

فصل: مع أن الله تعالى قد أخبر في ذلك بأنه المتولي عناء نبيه صلى الله عليه وآله عن سائر الناس، ورفع الحاجة عنه في الدين والدنيا إلى أحد من العباد، فقال تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}. فلو جاز أن يحتاج مع ذلك إلى نوال أحد من الناس لجاز أن يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى، ولما ثبت أنه غني في الهدى بالله وحده، ثبت أنه غني في الدنيا بالله تعالى دون الخلق كما بيناه.

فصل: على أنه لو كان فيما عدده الله تعالى من أشياء يتعدى الفضل إلى أحد من الناس، فالواجب أن تكون مختصة بآبائه عليهم السلام، وبعمه أبي طالب رحمه الله، وولده عليه السلام، وبزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ولم يكن لأبي بكر في ذلك حظ ولا نصيب على كل حال.

وذلك أن الله تعالى آوى يتمه بجده عبد المطلب، ثم بأبي طالب من بعده، فرباه وكفله صغيرا، ونصره وواساه ووقاه من أعدائه بنفسه وولده كبيرا، وأغناه بما رزقه الله من أموال آبائه رحمهم الله تعالى وتركاتهم وهم ملوك العرب، وأهل الثروة منهم واليسار بلا اختلاف، ثم ما أفاده من بعده في خروجه إلى الشام من الأموال، وما كان انتقل إليه من زوجته خديجة بنت خويلد.

وقد علم جميع أهل العلم ما كانت عليه من سعة الأحوال، وكان لها من جليل الأموال، وليس لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من سائر الناس سوى من سميناه سبب لشيء من ذلك، يتعدى به فضلهم إليه على ما بيناه، بل كانوا فقراء فأغناهم الله بنبيه صلى الله عليه وآله، وكانوا ضلالا فدعاهم إلى الهدى، ودلهم على الرشاد، وكانوا أذلة فتوصلوا بإظهار اتباع نبوته إلى الملك والسلطان.

وهب أن في هؤلاء المذكورين من كان له قبل الإسلام من المال ما ينسب به إلى اليسار، وفيهم من له شرف بقبيلة يبين به ممن عداه، هل لأحد من سامعي الأخبار وأهل العلم بالآثار ريب في فقر أبي بكر وسوء حاله في الجاهلية والإسلام، ورذالة قبيلته من قريش كلها، وظهور المسكنة في جمهورهم على الاتفاق؟.

ولو كان له من السعة ما يتمكن به من صلة رسول الله صلى الله عليه وآله والإنفاق عليه ونفعه بالمال، كما ادعاه الجاهلون، لأغنى أباه ببعضه عن النداء على مائدة عبد الله بن جدعان بأجرة على ذلك بما يقيم به رمقه، ويستر به عورته بين الناس، ولارتفع هو عن الخياطة وبيع الخلقان بباب بيت الله الحرام إلى مخالطة وجوه التجار، ولكان غنيا به في الجاهلية عن تعليم الصبيان ومقاساة الأطفال في ضرورته إلى ذلك لعدم ما يغنيه عنه ما وصفناه.

وهذا دليل على ضلال الناصبة فيما ادعوه له من الإنفاق للمال، وبرهان يوضح عن كذبهم فيما أضافوه إلى النبي صلى الله عليه وآله من مدحه على الإنفاق.

فصل آخر: مع أنه لو ثبت لأبي بكر نفقة مال على ما ظنه الجهال لكان خلو القرآن من مديح له على الإجماع وتواتر الأخبار، مع نزوله بالمدح على اليسير من ذوي الإنفاق، دليلا على أنه لم يكن لوجه الله تعالى، وأنه يعتمد بالسمعة والرياء، وكان فيه ضرب من النفاق.

وإذا ثبت أن الله تعالى عدل كريم لا ينوه بذكر اليسير من طاعاته، ويخفي الكثير، ولا يمدح الصغير، ويهمل الكبير، ففي خلو القرآن من ذكر إنفاق أبي بكر أو مدحه له بذكر الإنفاق على الشرط الذي وصفناه أوضح برهان على ما قدمناه.

ثم يقال لهم: قد علمت الكافة أن نفقات الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إنما كانت في السلاح والكراع ومعونة الجهاد وصلات فقراء المسلمين، وتزويد المرملين، ومعونة المساكين، ومواساة المهاجرين، وأن النبي صلى الله عليه وآله لم يسترفد أحدا منهم ولا استوصله، ولا جعل عليه قسما من مؤنته، ولا التمس منهم شيئا أهله وعشيرته، وقد حرم الله تعالى عليه وعلى أهل بيته أكل الصدقات، وأسقط عن كافتهم الأجر له على تبليغهم عن الله تعالى الرسالات، ونصب الحجج لهم وإقامة البينات، في دعائهم إلى الأعمال الصالحات، واستنقاذهم بلطفه من المهلكات، وإخراجهم بنور الحق عن الظلمات.

وكان صلى الله عليه وآله من أزهد الناس في الدنيا وزينتها، ولم يزل مخرجا لما في يديه من مواريث آبائه، وما أفاء الله تعالى من الغنائم والأنفال، وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه، وذوي الخلة من أتباعه حتى استدان من المال ما قضاه أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاته، وكان هو المنجز لعداته فأي وجه مع ما وصفناه من حاله صلى الله عليه وآله لإنفاق أبي بكر على ما ادعوه، لولا أن الناصبة لا تأنف من الجهل ولا تستحيي من العناد؟!.

فصل: مع أنا لا نجدهم يحيلون على وجه فيما يذكرونه من إنفاق أبي بكر، إلا على ما ادعوه من ابتياعه بلال بن حمامة من مواليه، وكانوا عزموا بعد الإيمان ليردوه عنه إلى الكفر والطغيان.

وهذا أيضا من دعاويهم الباطلة المتعرية من الحجج والبرهان، وهو راجع في أصله إلى عائشة، وقد تقدم من القول فيما ترويه وتضيفه إلى النبي صلى الله عليه وآله، ما يغني عن الزيادة فيه والتكرار.

ولو ثبت على غاية أمانيهم في الضلال لما كان مصححا لروايتهم مدح أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله، وإخباره بانتفاعه بنفقته عليه ومواساته بالمال، لأن بلالا لم يكن ولدا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا أخا ولا والدا، ولا قريبا ولا نسيبا، فيكون خلاصه من العذاب بمال أبي بكر نافعا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا مختصا به دون سائر أهل الإسلام.

ولو تعدى ما خص بلالا من الانتفاع بمال أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله، لموضع إيمانه برسالته، وإقراره بنبوته ولكونه في جملة أصحابه، لتعدى ذلك إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع ملائكة الله تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين، لأن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله يتضمن الإيمان بجميع النبيين والملائكة والمؤمنين والصديقين والشهداء والصالحي، وقد انكشف عن جهالات الناصبة وتجرئهم في بدعهم، وضعف بصائرهم، وسخافة عقولهم، ومن الله نسأل التوفيق.

فصل: على أن الثابت من الحديث في مدح النبي صلى الله عليه وآله خديجة بنت خويلد رضي الله عنها دون أبي بكر، والظاهر المشهور من انتفاع النبي صلى الله عليه وآله بمالها، يوضح عن صحته واختصاصها به دون من ادعى له بالبهتان، وقد اشترك في نقل الحديث الفريقان من الشيعة والحشوية، وجاء مستفيضا عن عائشة بنت أبي بكر على البيان. فروى عبد الله بن المبارك، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا ذكر خديجة أحسن الثناء عليها، فقلت له يوما: ما تذكر منها وقد أبدلك الله خيرا منها؟! فقال: "ما أبدلني الله خيرا منها، صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله الولد منها ولم يرزقني من غيرها" وهذا يدل على بطلان حديثها في مدح أبي بكر بالمواساة، ويوجب تخصيصها بذلك دونه، ويوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة أيضا من سبق أبي بكر جماعة الأمة إلى الإسلام، إذ فيه شهادة من الرسول صلى الله عليه وآله بتقدم إيمان خديجة رحمها الله على سائر الناس.

- في حكم خروج عائشة المرأة وزوجة النبي

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 79، 81:

المرأة والحجاب: ولا إلى النساء أيضا الدخول في شيء من ذلك على وجه من الوجوه إذ ليس عليهن جهاد ولا لهن أمر ولا نهي في البلاد والعباد مع ما خص به الله أزواج النبي في الحكم المضاد ولما صنعته هذه المرأة وتبينت فيه بالخلاف فيه للدين وقص الله تعالى في محكم التنزيل حيث يقول جل اسمه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} وفرض عليهن سبحانه التحصن والتجلبب ولا يتعرفن إلى أحد فجاء بضد ذلك من التبرج وهتك الحجاب وإطراح الجلباب وإظهار الصورة وإبداء الشخص والتهتك بين العامة فيما لا عذر لها فيه مع ما ارتكبته من قتال ولي الله الذي فرض عليها إعظامه وإجلاله وأوجب عليها طاعته وحرم عليها معصيته وسفكت فيما صنعت دماء المؤمنين وأثارت الفتنة التي شانت بها المسلمين وأنى يواطئ ذلك ما أمرها الرسول به في الحديث المشهور دخل ابن أم كلثوم وهو أعمى على النبي صلى الله عليه وآله فقال لها قبل دخوله ادخلي الخباء يا عائشة فاستتري به من هذا الرجل فقالت يا رسول الله إنه أعمى ولن يراني فقال صلى الله عليه وآله إن لم يراك فإنك ترينه.

وقال سبحانه فيما أدب به أصحاب نبيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا}. فبين الله عز اسمه أن خطاب المؤمنين من أصحابه لأزواج نبيه يؤذيه وإن الانبساط لهن يشق عليه ويؤلمه وصانهن لصيانته واحتراسه فنهى أن يأنس بهن أحد أو يسألهن متاعا إلا من وراء حجاب ونهى عن اللبث في بيته بعد نيل الحاجة من طعامه وغير ذلك لئلا يطول مقامهم فيه فتأنس أزواجه بهم أو يأنسون بكلامهن، فكيف هذا يوافق لما فعلته المرأة من مخالطتها للقوم ومسافرتها معهم وإطالة النجوى لهم وكونها بمحمل من لا يحتشم في خطاب ولا كلام ولا أمر ونهي ويؤنس بها في كل حال وتصير بذلك كأمير العسكر وقائد الجيش الذي لا يتمكن من الاستخفاء عن أصحابه بحال وإن هذا لعجيب عند من فكر فيه، والحكم بالعصيان لله عز وجل والإطراح والاستخفاف بنواهيه غير مشكل على كل ذي عقل ومن اشتبه عليه ضلالها فهو يعد من الأموات هذا مع قول الله عز وجل: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وعند كل ذي لب عرف الشرع ودان بالإسلام إن أزواج عثمان وبناته وبنات عمه من بني أمية الذين هم أمس رحما من عائشة لو كلفن ما تكلفن للقتال وإن كن عاصيات خارجات عن شريف الإسلام فما ظنك بالبعيدة نسبا النائية عنه عقلا ومذهبا المقرفة على قتله الساعية في دمه الداعية إلى خلعه المانعة عن نصرته وما الذي أحدثه بعد إنكارها عليه مما يوجب رجوعها عما كانت عليه معتقدة فهل تراه أحدث عملا صالحا بعد قتله أو أحياه الله لها فسألها نصرته أم أوحى الله إليها من باطن أمره ما كان مستورا عنها، كلا. لكن الأمر فيما قصدته من حرب أمير المؤمنين عليه السلام وتظاهرت عليه به من عداوته كان أظهر من أن تخفيه بالعلل والأباطيل وقد أجمع أهل النقل عنها على ما ذكرناه في باطن الأمر وأوضحناه في وجوه الحجاج وبيناه.

- عائشة استبشرت بقتل عثمان

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 85، 90:

عائشة تفرح وتحزن: وإن حكم المرأة لما ذكرناه ظاهر لذوي الاعتبار، وما أجمع على نقله رواة الآثار، ونقلة السير والأخبار أنه لما قتل عثمان بن عفان خرج البغاة إلى الآفاق فلما وصل بعضهم إلى مكة سمعت بذلك عائشة فاستبشرت بقتله وقالت قتلته أعماله إنه أحرق كتاب الله وأمات سنة رسول الله فقتله الله ومن بايع الناس؟ فقال لها الناعي لم أبرح المدينة حتى أخذ طلحة بن عبد الله نعاجا لعثمان وعمل مفاتيح لأبواب بيت المال ولا شك أن الناس قد بايعوه فقالت أي هذا الأصيبع وجدوك لها محسنا وبها كافيا ثم قالت شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي لأتوجه إلى منزلي فلما شدوا رحالها واستوت على مركبها سارت حتى بلغت (سرفا) موضع معروف بهذا الاسم لقيها إبراهيم بن عبيد بن أم كلاب فقالت ما الخبر؟ فقال قتل عثمان، قالت قتل نعثل؟ ثم قالت أخبرني عن قصته وكيف كان أمره؟ فقال لها أحاط الناس بالدار وبه ورأيت طلحة بن عبد الله قد غلب على الأمر واتخذ مفاتيح على بيوت الأموال والخزائن وتهيأ ليبايع له فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره وخرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر رحمه الله حتى أتوا عليا وهو في بيت سكن فيه فقالوا له بايعنا على الطاعة لك فتفكر ساعة فقال الأشتر يا علي أن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس.

قال وكان في الجماعة طلحة والزبير فظننت أن سيكون بين طلحة والزبير وعلي كلام قبل ذلك فقال الأشتر لطلحة قم يا طلحة فبايع ثم قم يا زبير فبايع فما تنتظران فقاما فبايعا وأنا أرى أيديهما على يد علي يصفقانهما ببيعته ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر فتكلم بكلام لا أحفظه إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر وبايعوه من الغد فلما كان اليوم الثالث خرجت ولا أعلم ما جرى بعدي.

فقالت يا أخا بني بكر أنت رأيت طلحة بايع عليا؟ فقلت إي والله رأيته بايعه وما قلت إلا رأيت طلحة والزبير أول من بايعه فقالت إنا لله أكره والله الرجل وغصب علي بن أبي طالب أمرهم وقتل خليفة الله مظلوما ردوا بغالي ردوا بغالي فرجعت إلى مكة.

قال وسرت معها فجعلت تسألني في المسير وجعلت أخبرها ما كان فقالت لي هذا بعهدي وما كنت أظن أن الناس يعدلون عن طلحة مع بلائه يوم أحد قلت فإن كان بالبلاء فصاحبه الذي بويع ذو بلاء وعناء فقالت يا أخا بني بكر لا تسلك غير هذا فإذا دخلت مكة وسألك الناس ما رد أم المؤمنين فقل القيام بدم عثمان والطلب به.

وجاءها يعلى بن منبه فقال لها قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين على قتله فقالت برأت إلى الله ممن قتله. قال الآن; ثم قال لها اظهري البراءة ثانيا من قاتله فخرجت إلى المسجد فجعلت تتبرء ممن قتل عثمان.

وهذا الخبر يصرح مضمونه عما ذكرناه من أنها لم تزل مقيمة على رأيها في استحلالها دم عثمان حتى بلغها أن أمير المؤمنين قد بويع وبايعه طلحة والزبير فقلبت الأمر وأظهرت ضد الذي كانت عليه من الرأي وأنه لو تم الأمر لطلحة لأقامت ما كانت عليه وإن طلحة والزبير كانا في الأول على عثمان وإنما رجعا عنه لما فاتهما مما كانا يأملانه من ذلك ولم يرجعا عنه لما أظهراه من بعد الندم على قتل عثمان والدعاء إلى قتله ولا رجعا عنه استبصارا بضلالة ما كانا يأملانه في ذلك وإن الذي ادعته الحشوية لهم من اجتهاد الرأي باطل ومنحل وإن دعوى المعتزلة في الشبهة عليهما فيما صارا إليه من خلاف أمير المؤمنين عليه السلام ليس بصحيح. بل الحق في ذلك ما ذهبت إليه الشيعة في تعمدها خلافه وأسباب ذلك العداوة له والشنئان مع الطمع في الدنيا والسعي في عاجلها والميل للتأمر على الناس والتملك لأمرهم وبسط اليد عليهم وإن الرجلين خاصة لما أيسا من نيل ما طمعا فيه من الأمر فوجدا الأمة لا تعدل بأمير المؤمنين أحدا وعرفا رأي المهاجرين والأنصار فمن أرادا الحظوة عنده بالبدار إلى بيعته وظنا بذلك شركاه في أمره فلما استويا بالحال من بعد وصح لهما رأيه عليه السلام وتحققا أنهما لا يليان معه أمرا فامتحنا ذلك مع ما غلب في ظنهما مما ذكرناه بأن صارا إليه بعد استقرار الأمر ببيعة المهاجرين والأنصار وبني هاشم وكافة الناس إلا من شذ من بطانة عثمان وكانوا على خفاء لأشخاصهم مخافة على دمائهم من أهل الإيمان فصارا إلى أمير المؤمنين فطلب منه طلحة ولاية العراق وطلب منه الزبير ولاية الشام فأمسك علي عن إجابتهما في شيء من ذلك فانصرفا وهما ساخطان وقد عرفا ما كان غلب في ظنهما قبل من رأيه عليه السلام فتركاه يومين أو ثلاثة أيام ثم صارا إليه واستأذنا عليه فأذن لهما وكان في علية داره فصعدا إليه وجلسا عنده بين يديه وقالا يا أمير المؤمنين قد عرفت حال هذه الأزمنة وما نحن فيه من الشدة وقد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا ونقضي به حقوقا علينا فقال عليه السلام قد عرفتما مالي (بينبع) فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر فقالا لا حاجة لنا في مالك (بينبع) فقال لهما ما أصنع؟ فقالا له أعطنا من بيت المال شيئا لنا فيه كفاية فقال سبحان الله وأي يد لي في بيت المال وذلك للمسلمين وأنا خازنهم وأمين لهم فإن شئتما رقيتما المنبر وسألتما ذلك ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت وأنى لي بذلك وهو لكافة المسلمين شاهدهم وغائبهم لكني أبدي لكما عذرا فقالا ما كنا بالذي نكلف ذلك ولو كلفناك لما أجابك المسلمون فقال لهما ما أصنع؟ قالا قد سمعنا ما عندك ثم نزلا من العلية وكان في أرض الدار خادمة لأمير المؤمنين سمعتهما يقولان والله ما بايعنا بقلوبنا وإن كنا بايعنا بألسنتنا فقال أمير المؤمنين عليه السلام {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فتركاه يومين آخرين وقد جائهما الخبر بإظهار عائشة بمكة ما أظهرته من كراهة أمره وكراهة من قتل عثمان والدعاء إلى نصره والطلب بدمه وأن عمال عثمان قد هربوا من الأمصار إلى مكة بما احتجبوه من أموال المسلمين ولخوفهم من أمير المؤمنين ومن معه من المهاجرين والأنصار وأن مروان بن الحكم بن عم عثمان ويعلى بن منبه خليفته وعامله كان باليمن وعبد الله بن عامر بن كريز ابن عمه وعامله على البصرة وقد اجتمعوا مع عائشة وهم يدبرون الأمر في الفتنة، فصار إلى أمير المؤمنين عليه السلام وتيمما وقت خلوته فلما دخلا عليه قالا يا أمير المؤمنين قد استأذناك للخروج في العمرة لأنا بعيدان العهد بها إئذن لنا فيها فقال والله ما تريدان العمرة ولكنكما تريدان الغدرة، وإنما تريدان البصرة فقالا اللهم غفرا ما نريد إلا العمرة فقال عليه السلام احلفا لي بالله العظيم إنكما لا تفسدان علي أمر المسلمين ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة فبذلا ألسنتهما بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك فلما خرجا من عنده لقيهما ابن عباس فقال لهما إذن لكما أمير المؤمنين؟ قالا نعم. فدخل على أمير المؤمنين فابتداه عليه السلام فقال يا ابن عباس أعندك الخبر قال قد رأيت طلحة والزبير فقال عليه السلام إنهما استأذناني في العمرة فأذنت لهما بعد أن استوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فسادا والله يا ابن عباس وإني أعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك وسيفسدان هذان الرجلان علي أمري ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري.

قال عبد الله بن عباس إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوما فلم أذنت لهما وهلا حبستهما وأوثقتهما بالحديد وكفيت المسلمين شرهما. فقال له صلى الله عليه وآله يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدأ وبالسيئة قبل الحسنة وأعاقب على الظنة والتهمة وأواخذ بالفعل قبل كونه، كلا والله لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل ولا ابتدأ بالفصل. يا ابن عباس إنني أذنت لهما وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما ولا يلقيان من الأمر مناهما وأن الله يأخذهما بظلمهما لي ونكثهما بيعتي وبغيهما علي.

وهذا الخبر والذي تقدم مع ما ذكرناه من وجودهما في أثر مصنفات أصحاب السيرة وقد أورده أبو مخنف لوط بن يحيى في كتابه الذي صنفه في حرب الجمل وجاء به الثقفي عن رجال الكوفيين، والشاميين، وغيرهم ولم يورد أحد من أصحاب الآثار نقيضه في معناه ولا ثبت ضده في فحواه، ومن تأمل ذلك علم أن القوم لم يكونوا فيما صنعوه على جميل طوية في الدين ولا للمسلمين، وإن الذي أظهروه من الطلب بدم عثمان إنما كان تشبيها وتلبيسا، على العامة والمستضعفين ولولا ما جعلوه من شعارهم بدعوى الانتصار بعثمان، والتظاهر بتظليم قاتليه وخاذليه والندم على ما فرط منهم فيه لما اختلف اثنان من العلماء وأتباعهم في صواب رأي المسلمين مما كان في عثمان وأنهم إنما اجتمعوا على خلعه وقتله باستحقاقه ذلك بالأحداث التي أحدثها في الدين ولكنهم ضلوا بما أظهروه وأفسدوا إفسادا عظيما بما أظهروه، ولم يثر المستضعفين في هذا الباب إلا لنأيهم عن معرفة الأخبار وتدبر الآثار واشتبه الأمر فيه على جماعة النظار بجهلهم بما أثبتناه في ذلك من الحديث، وبعدهم عن معرفة طرقه. ولعل جمهورهم لم يسمع بشيء منه فضلا عن تدبره وكل من ضل عن سبيل الحق إنما ضل بالتقليد، وحسن الظن بمن لا يحسب حسن الظن لله فيه واعتقاد فضل من قد خرج عنه بسوء الرأي، وطريق الإنصاف، فيما ذكرناه والنظر فيما وصفناه والتأمل لما أثبتناه من الأخبار فيه وشرحناه والرجوع إلى أهل السير وإلى اختلافهم في الآراء والمذهب وإلى كتبهم المصنفة في الفتن تعرف ذلك منهما ومن تدبر الأمر يجده على ما وصفناه والله ولي التوفيق.

- أم سلمة حذرت عائشة من الخروج لقتال أمير المؤمنين

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 126، 128:

أم سلمة تحذر عائشة: وبلغ أم سلمة اجتماع القوم وما خاضوا فيه فبكت حتى اخضل خمارها ثم أدنت ثيابها فلبستها ومشت إلى عائشة لتعظها وتصدها عن رأيها في مظاهرة أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة وتقعدها عن الخروج مع القوم فلما صارت إليها قالت إنك عدة رسول الله بين أمته وحجابك مضروب على حرمته وقد جمع القرآن ذيلك فلا تبدنيه وأملك خفرك فلا تضحيها الله الله من وراء هذه الآية قد علم رسول الله مكانك لو أراد أن يعهد إليك لفعل بل نهاك عن الفرط في البلاء وإن عمود الدين لا يقام بالنساء إن انثلم ولا يشعب بهن إن انصدع فصدع النساء غض الأطراف وحف الأعطاف وقصر الوهادة وضم الذيول وما كنت قائلة لو أن رسول الله عارضك ببعض الفلاة ناصة قلوصا من منهل إلى آخر قد هتكت صداقته وتركت عهدته أن يغير الله بك لهواك على رسول الله أتدرين والله لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحيت أن ألقى رسول  الله صلى الله عليه وآله هاتكة حجابا قد ستره علي اجعلي حصنك بيتك وقاعة البيت قبرك حتى تلقينه وأنت على ذلك أطوع ما تكوني له ما لزمتيه وانظري بنوع الدين ما حلت عنه. فقالت لها ما أعرفني بوعظك واقبلني لنصحك ولنعم المسير مسير فزعت إليه وأنا بين سائرة ومتأخرة فإن أقعد فمن غير جزع وإن أسير فإلى ما لا بد من الازدياد منه.

فلما رأت أم سلمة أن عائشة لا تمتنع عن الخروج عادت إلى مكانها وبعثت إلى رهط من المهاجر بن والأنصار قالت لهم لقد قتل عثمان بحضرتكم وكانا هذان الرجلان أعني طلحة والزبير يشيعان عليه كما رأيتم فلما قضى أمره بايعا عليا وقد خرجا الآن عليه زعما أنهما يطلبان بدم عثمان ويريدان أن يخرجا حبيسة رسول الله معهم وقد عهد إلى جميع نسائه عهدا واحدا أن يقرن في بيوتهن فإن كان مع عائشة عهد سوى ذلك تظهره وتخرجه إلينا نعرفه فاتقوا الله عباد الله فإنا نأمركم بتقوى الله والاعتصام بحبله والله ولي لنا ولكم.

فشق كثيرا على طلحة والزبير عند سماع هذا القول من أم سلمة ثم أنفذت أم سلمة إلى عائشة فقالت لها وقد وعظتك فلم تتعظي وقد كنت أعرف رأيك في عثمان وإنه لو طلب منك شربة ماء لمنعتيه ثم أنت اليوم تقولين إنه قتل مظلوما وتريدين أن تثيري لقتال أولى الناس بهذا الأمر قديما وحديثا فاتق الله حق تقاته ولا تعرضي لسخطه فأرسلت إليها عائشة أما ما كنت تعرفيه من رأيي في عثمان فقد كان ولا أجد مخرجا منه إلا الطلب بدمه وأما علي فإني آمره برد هذا الأمر شورى بين الناس فإن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف حتى يقضي الله ما هو قاض فأنفذت إليها أم سلمة أما أنا فغير واعظة لك من بعد ولا مكلمة لك جهدي وطاقتي والله إني لخائفة عليك البوار ثم النار والله ليخيبن ظنك ولينصرن الله ابن أبي طالب على من بغى وستعرفين عاقبة ما أقول والسلام.

- فرح حفصة بتضييق عائشة على أمير المؤمنين

- الجمل - الشيخ المفيد  ص 149، 150:

فرح حفصة: فصل: ولما بلغ عائشة نزول أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار كتبت إلى حفصة بنت عمر: أما بعد فلما نزلنا البصرة ونزل علي بذي قار والله داق عنقه كدق البيضة على الصفا أنه بمنزلة الأشقر، إن تقدم نحر وإن تأخر عقر فلما وصل الكتاب إلى حفصة استبشرت بذلك ودعت صبيان بني تيم وعدي وأعطت جواريها دفوفا وأمرتهن أن يضربن بالدفوف ويقلن ما الخبر ما الخبر علي كالأشقر بذي قار إن تقدم نحر وإن تأخر عقر، فبلغ أم سلمة (رض) اجتماع النسوة على ما اجتمعن عليه من سب أمير المؤمنين والمسرة بالكتاب الوارد عليهن من عائشة فبكت وقالت أعطوني ثيابي حتى أخرج إليهن وأوقع بهم.

أم كلثوم مع حفصة: فقالت أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام أنا أنوب عنك فإنني أعرف منك فلبست ثيابها وتنكرت وتخفرت واستصحبت جواريها متخفرات وجاءت حتى دخلت عليهن كأنها من النضارة فلما رأت إلى ما هن فيه من العبث والسفه كشفت نقابها وأبرزت لهن وجهها ثم قالت لحفصة إن تظاهرت أنت وأختك على أمير المؤمنين عليه السلام فقد تظاهرتما على أخيه رسول الله صلى الله عليه وآله من قبل فأنزل الله عز وجل فيكما ما أنزل والله من وراء حربكما وأظهرت حفصة خجلا وقالت إنهن فعلن هذا بجهل وفرقتهن في الحال.

- صلاة أبي بكر بالناس كانت بأمر عائشة ومن جهتها

- في قول النبي إنكن لصويحبات يوسف

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 124، 128:

فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضا، سئل عن صلاه أبي بكر بالناس هل كانت عن أمر النبي صلى الله عليه وآله أم عن غير أمره؟ فقال: الذي صح في ذلك وثبت أن عائشة قالت: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فكان الأمر بذلك من جهتها في ظاهر الحال، وادعى المخالفون أنها إنما أمرت بذلك عن النبي صلى الله عليه وآله ولم تثبت لهم هذه الدعوى بحجة يجب قبولها.

قال الشيخ أدام الله عزه: والدليل على أن الأمر كان مختصا بعائشة دون النبي صلى الله عليه وآله قول النبي لها عند إفاقته من غشيته وقد سمع صوت أبي بكر في المحراب: "إنكن لصويحبات يوسف" ومبادرته معجلا معتمدا على أمير المؤمنين عليه السلام والفضل بن العباس ورجلاه يخطان الأرض من الضعف حتى نحى أبا بكر عن المحراب، فلو كان عليه السلام هو الذي أمره بالصلاة لما رجع باللوم على أزواجه في ذلك ولا بادر وهو على الحال التي وصفناها حتى صرفه عن الصلاة، ولكان قد أقره حتى يقضي فرضه ويتم الصلاة وفي صرفه له وقوله لعائشة ما ذكرناه، دليل على صحة ما وصفناه.

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد تعلق القوم في تأويل قول النبي صلى الله عليه وآله "إنكن لصويحبات يوسف" بشيء يدل على جهلهم، فقالوا: إن لهذا القول من النبي صلى الله عليه وآله سببا معروفا وهو أنه صلى الله عليه وآله قال: قدموا أبا بكر، فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف فإن قام مقامك لم يملك العبرة فمر عمر أن يصلي بالناس. فقال النبي صلى الله عليه وآله لها عند خلافها عليه: "إنكن لصويحبات يوسف".

وقد كان اعترض علي بهذا الكلام شيخ من مشايخ أهل الحديث واعتمده. فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد اعترفت بخلاف عائشة للنبي صلى الله عليه وآله وردها عليه أمره حتى أنكر عليها ذلك، وفي الاعتراف به شهادة منك عليها بالمعصية لله عز وعلا ولرسوله وهذا أعظم مما تنكرونه على الشيعة من شهادتهم عليها بالمعصية بعد النبي صلى الله عليه وآله عند محاربتها لأمير المؤمنين عليه السلام.

والثاني أنه لا خلاف أن النبي صلى الله عليه وآله كان من أحكم الحكماء وأفصح الفصحاء ولم يكن يشبه الشيء بخلافه ويمثله بضده وإنما كان يضع المثل في موضعه فلا يخرم مما مثله به في معناه شيئا، ونحن نعلم أن صويحبات يوسف إنما عصين الله وخالفنه بأن أرادت كل واحدة منهن من يوسف عليه السلام ما أرادته الأخرى وفتنت به كما فتنت به صاحبتها، وبذلك نطق القرآن قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}.

فلو كانت عائشة دفعت الأمر عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام له ولم تفتتن بمحبة الرئاسة وعلو المنزلة، لكان النبي صلى الله عليه وآله في تشبيهها بصويحبات يوسف قد وضع المثل في غير موضعه وشبه الشيء بضده وخلافه ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن هذه الصفة ولا يجوز عليه النقص ويرتفع عن الجهل بحقيقة الأمثلة.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه ثبت أن التمثيل إنما وقع من النبي صلى الله عليه وآله لموضع خلاف المرأة له وتقدمها بالأمر لأبيها عليه لفتنتها بمحبة الاستطالة والرغبة في حوز الفضيلة بذلك والرئاسة على ما قدمناه.

قال الشيخ أدام الله عزه: وقد قالوا أيضا في مبادرة النبي صلى الله عليه وآله بالخروج إلى المسجد وصرف أبي بكر عن الصلاة إنما كان ذلك لان المسلمين كانوا متعلقي القلوب برسول الله صلى الله عليه وآله محزونين بتأخره عنهم فخشى عليه السلام أن يتأخر عنهم فيختلفوا ويرجف عليه منهم المرجفون، ولم يبادر إلى ما ذكرتموه من الإنكار لصلاة أبي بكر بالناس. فيقال لهم لو كان الأمر على ما وصفتموه لما نحى رسول الله بين أبا بكر عن المحراب، ولأمكنه الوصول إلى غرضه مع إتمام أبي بكر للصلاة بان كان عليه واله السلام يخرج إلى القوم عند فراغ أبي بكر من الصلاة فيشاهدونه على حال الاستقلال ويسرون بلقائه ويبطل ما يتخوفونه من أراجيفهم عليه، ولا يعزل الرجل عن صلاة قد أمره بإقامتها ليدل بذلك على أنه قد أحدث ما يوجب عزله أو يكشف عن حال مستحقة له كانت مستورة عن الأنام، لأجلها لم يصح أن يصلي بالناس أو يكون القول على ما قلناه من الله لم يكن عن أمره عليه السلام تلك الصلاة، أو كان عليه واله السلام لما خرج صلى خلفه كما فعل على أصولكم مع عبد الرحمان لما أدركه وهو في الصلاة فلم يعزله عن المقام وصلى عليه السلام خلفه مع المؤتمين به من الناس.

وقد علم العقلاء بالعادة الجارية أن الذي يقدم إنسانا في مقام يشرف به قدره ويعظم به منزلته لا يبادر بعد تقديمه بغير فصل إلى صرفه وحط تلك الرتبة التي كان جعلها له إلا لحادث يحدثه أو اعتراض أمر ظاهر يرفع الشبهة بظهوره من (غير ن خ) تغير حاله الموجبة لصرفه، وإن الفعل الذي وقع من النبي صلى الله عليه وآله في باب أبي بكر مع القول الذي اقترن إليه من التوبيخ لزوجته لا يكون من الحكماء إلا للنكير المحض، والدلالة على استدراك ما كان يفوت من الصلاح بالفعل لو لم يقع فيه ذلك البدار ومن أنكر ما وصفناه خرج من العرف والعادات.

وقد زعم قوم من أهل العناد أن النبي صلى الله عليه وآله لم يعزل أبا بكر عن الصلاة بخروجه إلى المسجد وأنه كان مع ذلك على إمامته في الصلاة، قلنا لهم فكان أبو بكر إماما للنبي صلى الله عليه وآله وكان الرسول مؤتما به في الحال؟ فقالوا بأجمعهم: لا.

قلنا لهم: أفكان شريكا للنبي صلى الله عليه وآله في إمامة الصلاة حتى كانا جميعا إمامين للمسلمين في تلك الصلاة؟ فقالوا أيضا: لا.

قلنا لهم: أفليس لما خرج النبي صلى الله عليه وآله كان هو إمام المسلمين في تلك الصلاة وصار أبو بكر بعد أن كان إمامهم فيها مؤتما كأحد الجماعة بالنبي صلى الله عليه وآله؟

قالوا: بلى، قلنا لهم: من لا يعقل أن هذا صرف له من المقام فليس يعقل شيئا على الوجوه والأسباب، وهذه الطائفة رحمك الله جهال جدا وأوباش غمار، ولعل معاندا منهم لا يبالي بما قال، يرتكب القول بأن أبا بكر كان باقيا على إمامته في الصلاة بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله.

فيقال له: هذا خروج من الإجماع، ومع أنه خروج من الإجماع فما معنى ما جاء به التواتر وحصل عليه الإطباق من أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس ثم الاختلاف في ابتدائه من حيث ابتدأ أبو بكر من القران أو من حيث انتهى من القران، ومع ذلك فإذا كان أبو بكر هو الإمام للنبي صلى الله عليه وآله في آخر صلاة صلاها عليه السلام فواجب أن يكون النبي صلى الله عليه وآله معزولا عن إمامة أمته ومصروفا عن النبوة لان الله تعالى أخره في آخر أيامه عن المقام وختم بذلك عمله في ملة الإسلام، وليس يشبه هذا ما يدعونه في صلاته خلف عبد الرحمان فإن ذلك وإن كان أيضا ظاهر الفساد فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ذلك بالناس وأخر عبد الرحمان عما كان قدمه فيه ولم يجب أن تثبت سنته بتقدمه عليه إذ أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله ينسخ بعضها بعضا فلا تثبت السنة منها إلا بما استقر، وآخر أفعاله عليه السلام سنة ثابتة إلى آخر الزمان.

- في إيمان أبي طالب

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 282، 286:

فصل: وسمعت الشيخ أدام الله عزه يقول: مما يدل على إيمان أبي طالب رضي الله عنه إخلاصه في الود لرسول الله صلى الله عليه وآله والنصرة له بقلبه ويده ولسانه وأمره ولديه عليا عليه السلام وجعفرا رضي الله عنه باتباعه، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله فيه عند وفاته: "وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم" فدعا له، وليس يجوز أن يدعو رسولي الله صلى الله عليه وآله بعد الموت لكافر ولا أن يسأل الله خيرا، ثم أمره عليا عليه السلام خاصة من بين أولاده الحاضرين بتغسيله وتكفينه وتوريته دون عقيل ابنه وقد كان حاضرا ودون طالب أيضا، ولم يكن من أولاده من قد آمن في تلك الحال إلا أمير المؤمنين عليه السلام وجعفر وكان جعفر غائبا في بلاد الحبشة فلم يحضر من أولاده مؤمن إلا أمير المؤمنين عليه السلام فأمره أن يتولى أمره دون من لم يكن على الإيمان، ولو كان رحمة الله عليه كافرا لما أمر ابنه المؤمن بتولية أمره ولكان الكافر أحق به.

مع أن الخبر قد ورد على الاستفاضة بان جبرئيل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله عند موت أبي طالب رضوان الله عليه فقال له: "يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك أخرج من مكة فقد مات ناصرك" وهذا يبرهن على إيمانه لتحققه بنصرة الرسول صلى الله عليه وآله وتقوية أمره.

ويدل على ذلك قوله رضوان الله عليه لعلي عليه السلام حين رآه يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله: "ما هذا يا بني"، فقال: "دين دعاني إليه ابن عمي" فقال له: "اتبعه فإنه لا يدعوك إلا إلى خير" فاعرف بصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وذلك حقيقة الإيمان ، وقوله رحمة الله عليه وقد مر على أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصلي عن يمين رسول الله ومعه جعفر ابنه فقال: "يا بني صل جناح ابن عمك" فصلى جعفر معه وتأخر أمير المؤمنين عليه السلام حتى صار هو وجعفر خلف رسول الله صلى الله عليه وآله فجاءت الرواية بأنها أول صلاة جماعة صليت في الإسلام، ثم أنشا أبو طالب يقول:

إن عليا وجعفرا ثقتي  *  عند ملم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا  *  يخذله من بني ذو حسب

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما  *  أخي لأمي من بينهم وأبي

فاعترف بنبوة النبي صلى الله عليه وآله اعترافا صريحا في قوله: "والله لا أخذل النبي" ولا فصل بين أن يصف رسول الله صلى الله عليه وآله بالنبوة في نظمه وبين أن يقر بذلك في نثر كلامه ويشهد عليه من حضره.

ومما يدل على ذلك أيضا قوله في قصيدته اللامية:

ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب  *  لدينا ولا يعني بقول إلا باطل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه  *  ثمال اليتامى عصمة للأرامـل

فشهد بتصديق رسول الله صلى الله عليه وآله شهادة ظاهرة لا تحتمل تأويلا ونفى عنه الكذب على كل وجه، وهذا هو حقيقة الإيمان ومنه قوله:

ألم تعلموا أن النبي محمدا  *  رسول أمين خط في سالف الكتب

وهذا إيمان لا شبهة فيه لشهادته له في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وقد روى أصحاب السير أن أبا طالب رضوان الله عليه لما حضرته الوفاة اجتمع إليه أهله فأنشأ يقول:

أوصي بنصر النبي الخير مشهده  *  عليا ابني وشيخ القوم عباسا

وحمزة الأسد الحامي حقيقتــه  *  وجعفرا أن يذودوا دونه الناسا

كونوا فداء لكم أمي وما ولدت  *  في نصر أحمد دون الناس أتراسا

فاقر للنبي صلى الله عليه وآله بالنبوة عند احتضاره، واعترف له بالرسالة قبل مماته، وهذا أمر يزيل الريب في إيمانه بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وآله وبتصديقه له وإسلامه.

ومنه قوله المشهور عنه بين أهل المعرفة، وأنت إذا التمسته وجدته في غير موضع من المصنفات، وقد ذكره الحسين بن بشر الآمدي في كتاب ملح القبائل:

أترجون أن نسخي بقتل محمد  *  ولم تختضب سمر العوالي من الدم

كذبتبم وبيت الله حتى تفرقوا  *  جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

وتقطع أرحام وتسبى حليلة  *  حليلا ويغشى محرم بعد محرم

وينهض قويم في الحديد إليكم  *  يذودون عن أحسابهم كل مجئرم

على ما أتى من بغيكم وضلالكم  *  وغشيانكم في أمرنا كل مأثم

بظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى  *  وأمرأتي من عند ذي العرش مبئرم

فلا تحسبونا مسلميه ومثله  *  إذا كان في قوم فليس بمسلم

فهذى معاذير و تقدمة لكم  *  لئلا يكون الحرب قبل التقدم

وهذا أيضا صريح في الإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله كالذي قبله على ما بيناه، وقد قال في قصيدته اللامية ما يدل على ما وصفناه في إخلاصه في النصرة حيث يقول:

كذبتم وبيت الله نسلم أحمدا  *  ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع دونه  *  ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فان تعلقوا بما يؤثر عنه من قوله لرسول الله صلى الله عليه وآله:

والله لا وصلوا إليك بجمعهم  *  حتى أغيب في آل تراب دفينا

فامض ابن أخ فما عليك غضاضة  *  وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح  *  ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

لولا المخافة أن تكون معرة  *  لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فقالوا: هذا الشعر يتضمن أنه لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وآله ولم يسمح له بالإسلام والاتباع خوف المعرة والتسفيه فكيف يكون مؤمنا مع ذلك؟ فإنه يقال لهم : إن أبا طالب رحمه الله لم يمتنع من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله في الباطن والإقرار بحقه من طريق الديانة، وإنما امتنع من إظهار ذلك لئلا تسفهه قريش وتذهب رئاسته ويخرج منها من كان متبعا له عن طاعته وتنخرق هيبته عندهم فلا يسمع له قول ولا يمتثل له أمر، فيحول ذلك بينه وبين مراده من نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يتمكن من غرضه في الذب عنه فاستتر الإيمان وأظهر منه ما كان يمكنه إظهاره على وجه الاستصلاح ليصل بذلك إلى بناء الإسلام وقوام الدعوة واستقامة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وكان في ذلك كمؤمني أهل الكهف الذين أبطنوا الإيمان وأظهروا ضده للتقية والاستصلاح فأتاهم الله أجرهم مرتين، والدليل على ما ذكرناه في أمر أبي طالب رحمه الله قوله في هذا الشعر بعينه: ودعوتني وزعمت أنك ناصح ولقد صدقت وكنت ثم أمينا فشهد بصدقه واعترف بنبوته وأقر بنصحه وهذا محض الإيمان على ما قدمناه.

- في تزويج رسول الله ابنتيه من عثمان

- المسائل السروية- الشيخ المفيد  ص 92:

فصل: زواج بنات الرسول صلى الله عليه وآله

وليس ذلك بأعجب من قول لوط عليه السلام كما حكى الله تعالى عنه: {هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فدعاهم إلى العقد عليهم لبناته وهم كفار ضلال قد أذن الله تعالى في هلاكهم. وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وآله ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام، أحدهما: عتبة بن أبي لهب، والآخر: أبو العاص بن الربيع. فلما بعث صلى الله عليه وآله فرق بينهما وبين ابنتيه. فمات عتبة على الكفر، وأسلم أبو العاص بعد إبانة الإسلام، فردها عليه بالنكاح الأول. ولم يكن صلى الله عليه وآله في حال من الأحوال مواليا لأهل الكفر، وقد زوج من تبرأ من دينه، وهو معاد له في الله عز وجل. وهاتان البنتان هما اللتان تزوجهما عثمان بن عفان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص، وإنما زوجه النبي صلى الله عليه وآله على ظاهر الإسلام، ثم إنه تغير بعد ذلك، ولم يكن على النبي صلى الله عليه وآله تبعة فيما يحدث في العاقبة. هذا على قول بعض أصحابنا. وعلى قول فريق آخر: إنه زوجه على الظاهر، وكان باطنة مستورا عنه. وليس بمنكر أن يستر الله عن نبيه نفاق كثير من المنافقين، وقد قال سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ} فلا ينكر أن يكون في أهل مكة كذلك، والنكاح على الظاهر دون الباطن، على ما بيناه للرسول خصوصية، ويمكن أن يكون الله تعالى قد أباحه مناكحة من ظاهره الإسلام وإن علم من باطنه النفاق، وخصه بذلك ورخص له فيه كما خصه في أن يجمع بين أكثر من أربع حرائر في النكاح، وأباحه أن ينكح بغير مهر، ولم يحظر عليه المواصلة في الصيام ولا في الصلاة بعد قيامه من النوم بغير وضوء، وأشباه ذلك مما خص به وحظر على غيره من عامة الناس. فهذه الأجوبة الثلاثة عن تزويج النبي عليه وآله الصلاة والسلام لعثمان، وكل واحد منها كاف بنفسه، مستغن عما سواه. والله الموفق للصواب.