-
رسل الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمة من خلفائه بعد
الوفاة ينقلون من تحت التراب فيسكنون بأجسامهم وأرواحهم جنة الله تعالى
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 72، 73:
49 - القول في
احتمال الرسل والأنبياء والأئمة الآلام وأحوالهم بعد الممات
وأقول: إن رسل
الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمة من خلفائه محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام،
وتحدث لهم اللذات، وتنمي أجسامهم بالأغذية، وتنقص على مرور الزمان، ويحل بهم الموت
ويجوز عليهم الفناء، وعلى هذا القول إجماع أهل التوحيد. وقد خالفنا فيه المنتمون
إلى التفويض وطبقات الغلاة.
وأما أحوالهم بعد
الوفاة فإنهم ينقلون من تحت التراب فيسكنون بأجسامهم وأرواحهم جنة الله تعالى،
فيكونون فيها أحياء يتنعمون إلى يوم الممات، يستبشرون بمن يلحق بهم من صالحي أممهم
وشيعتهم، ويلقونه بالكرامات وينتظرون من يرد عليهم من أمثال السابقين من ذوي
الديانات.
وإن رسول الله
صلى الله عليه وآله والأئمة من عترته خاصة لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم
في دار الدنيا بإعلام الله تعالى لهم ذلك حالا بعد حال، ويسمعون كلام المناجي لهم
في مشاهدهم المكرمة العظام بلطيفة من لطائف الله تعالى بينهم بها من جمهور العباد،
وتبلغهم المناجاة من بعد كما جاءت به الرواية، وهذا مذهب فقهاء الإمامية كافة وحملة
الآثار منهم، ولست أعرف فيه لمتكلميهم من قبل مقالا، وبلغني عن بني نوبخت رحمهم
الله خلاف فيه، ولقيت جماعة من المقصرين عن المعرفة ممن ينتمي إلى الإمامة أيضا
يأبونه، وقد قال الله تعالى فيما يدل على الجملة: {وَلاَ
تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ
قُتِلُواْ
فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتًا
بَلْ
أَحْيَاء
عِندَ
رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ
*
فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ
اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ
لَمْ
يَلْحَقُواْ بِهِم
مِّنْ
خَلْفِهِمْ
أَلاَّ
خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ
وَلاَ
هُمْ
يَحْزَنُونَ} وما يتلو هذا من الكلام. وقال في قصة مؤمن آل فرعون: {قِيلَ
ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي
رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:"من سلم علي عند قبري سمعته، ومن سلم
علي من بعيد بلغته سلام الله عليه ورحمة الله وبركاته". ثم الأخبار في تفصيل ما
ذكرناه من الجمل عن أئمة آل محمد صلى الله عليه وآله بما وصفناه نصا ولفظا أكثر،
وليس هذا الكتاب موضع ذكرها فكنت أوردها على التفصيل والبيان.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 73،74:
50 - القول في
رؤية المحتضرين رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام عند
الوفاة
هذا باب قد أجمع
عليه أهل الإمامة، وتواتر الخبر به عن الصادقين من الأئمة عليهم السلام، وجاء عن
أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال للحارث الهمداني رحمه الله:
يا حار همدان من يمت يرني *
من مؤمن أو منافق قبلا
يعرفني طرفـه وأعرفــه *
بعينه واسمه وما فعلا
في أبيات مشهورة،
وفيه يقول إسماعيل بن محمد السيد رحمه الله:
ويراه المحضور حين تكون * الروح بين
اللهاة والحلقوم
ومتى ما يشاء أخرج للناس * فتدمي
وجوههم بالكلوم
غير أني أقول فيه
إن معنى رؤية المحتضر لهما عليهما السلام هو العلم بثمرة ولايتهما، أو الشك فيهما
والعداوة لهما، أو التقصير في حقوقهما على اليقين بعلامات يجدها في نفسه وأمارات
ومشاهدة أحوال ومعاينة مدركات لا يرتاب معها بما ذكرناه، دون رؤية البصر لأعيانهما
ومشاهدة النواظر لأجسادهما باتصال الشعاع، وقد قال الله: {فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ}، وإنما أراد جل
شانه بالرؤية هيهنا معرفة ثمرة الأعمال على اليقين الذي لا يشوبه ارتياب. وقال
سبحانه: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ}. ولقاء الله تعالى هو لقاء جزائه على الأعمال وعلى هذا القول محققو النظر
من الإمامية، وقد خالفهم فيه جماعة من حشويتهم، وزعموا أن المحتضر يرى نبيه ووليه
ببصره كما يشاهد المرئيات وإنهما يحضران مكانه ويجاورانه بأجسامهما في المكان.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 75:
51 - القول في
رؤية المحتضر الملائكة
والقول عندي في
ذلك كالقول في رؤيته لرسول الله وأمير المؤمنين عليهما السلام، وجائز أن يراهم
ببصره بأن يزيد الله تعالى في شعاعه ما يدرك به أجسامهم الشفافة الرقيقة، ولا يجوز
مثل ذلك في رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام لاختلاف بين
أجسامهما وأجسام الملائكة في التركيبات، وهذا مذهب جماعة من متكلمي الإمامية ومن
المعتزلة البلخي وجماعة من أهل بغداد.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 75،76:
52 - القول في
أحوال المكلفين من رعايا الأئمة عليهم السلام بعد الوفاة
أقول: إنهم أربع
طبقات: طبقة يحييهم الله ويسكنهم مع أوليائهم في الجنان، وطبقة يحيون ويلحقون
بأئمتهم في محل الهوان، وطبقة أقف فيهم وأجوز حياتهم وأجوز كونهم على حال الأموات،
وطبقة لا يحيون بعد الموت حتى النشور والمآب.
فأما الطبقة
المنعمة فهم المستبصرون في المعارف المتمحصون للطاعات، وأما المعذبة فهم المعاندون
للحق المسرفون في اقتراف السيئات، وأما المشكوك في حياتهم وبقائهم مع الأموات فهم
الفاسقون من أهل المعرفة والصلوة الذين اقترفوا الآثام على التحريم لها للشهوة دون
العناد والاستحلال، وسوفوا التوبة منها فاخترموا دون ذلك فهؤلاء جائز من الله عز
وجل اسمه رفع الموت عنهم لتعذيبهم في البرزخ على ما اكتسبوه من الأجرام وتطهيرهم
بذلك منها قبل الحشر ليردوا القيامة على الأمان من نار جهنم ويدخلوا بطاعتهم
الجنان، وجائز تأخير حياتهم إلى يوم الحساب لعقابهم هناك أو العفو عنهم كما يشاء
الله عز وجل وأمرهم في هذين القسمين مطوي عن العباد.
وأما الطبقة
الرابعة فهم المقصرون عن الغاية في المعارف عن غير عناد والمستضعفون من سائر الناس،
وهذا القول على الشرح الذي أثبت هو مذهب نقلة الآثار من الإمامية وطريقه السمع
وصحيح الأخبار وليس لمتكلميهم من قبل فيه مذهب مذكور.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 76، 77:
53 - القول في
نزول الملكين على أصحاب القبور ومساءلتهما عن الاعتقاد
وأقول: إن ذلك
صحيح وعليه إجماع الشيعة وأصحاب الحديث، وتفسير مجمله أن الله تعالى ينزل على من
يريد تنعيمه بعد الموت ملكين اسمهما (مبشر) و (بشير) فيسألان عن ربه جلت عظمته وعن
نبيه ووليه فيجيبهما بالحق الذي فارق الدنيا على اعتقاده والصواب، ويكون الغرض في
مساءلتهما استخراج العلامة بما يستحقه من النعيم فيجدانها منه في الجواب.
وينزل جل جلاله
على من يريد تعذيبه في البرزخ ملكين اسماهما (ناكر) و (نكير) فيوكلهما بعذابه،
ويكون الغرض من مساءلتهما له استخراج علامة استحقاقه من العذاب بما يظهر من جوابه
من التلجلج عن الحق أو الخبر عن سوء الاعتقاد أو إبلاسه وعجزه عن الجواب.
وليس ينزل
الملكان من أصحاب القبور إلا على من ذكرناه، ولا يتوجه سؤالهما منهم إلا إلى
الأحياء جد الموت لما وصفناه، وهذا هو مذهب حملة الأخبار من الإمامية ولهم فيما
سطرت منه آثار وليس لمتكلميهم من قبل فيه مقال عرفته فاحكيه على النظام.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 77:
54 - القول في
تنعيم أصحاب القبور وتعذيبهم، وعلى أي شيء يكون الثواب لهم والعقاب، ومن أي وجه يصل
إليهم ذلك، وكيف تكون صورهم في تلك الأحوال؟
وأقول: إن الله
تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا ينعم مؤمنيهم فيها ويعذب كفارهم فيها
وفساقهم فيها، دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون تتفرق وتندرس وتبلى على
مرور الأوقات وينالهم ذلك في غير أماكنهم من القبور، وهذا يستمر على مذهبي في
النفس، ومعنى الإنسان المكلف عندي هو الشيء المحدث القائم بنفسه الخارج عن صفات
الجواهر والأعراض، ومعي به روايات عن الصادقين من آل محمد صلى الله عليه وآله، ولست
أعرف لمتكلم من الإمامية قبلي فيه مذهبا فأحكيه، ولا أعلم بيني وبين فقهاء الإمامية
وأصحاب الحديث فيه اختلافا.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 125:
136 - القول في تعذيب الميت ببكاء الحي عليه
وأقول: إن هذا جور لا يجوز في عدل الله تعالى وحكمته، وإنما الخبر فيه أن
النبي صلى الله عليه وآله مر بيهودي قد مات وأهله يبكون عليه، فقال إنهم يبكون عليه
وإنه ليعذب ولم يقل إنه معذب من أجل بكائهم عليه. وهذا مذهب أهل العدل كافة ويخالف
فيه أهل القدر والإجبار.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 131، 132:
149 - القول في العلم والألم هل يصح حلولهما في الأموات أم لا؟
وأقول: إن ذلك مستحيل غير جايز، والعلم باستحالته يقرب من بداية العقول، ولو
جاز وجود ميت عالم آلم لجاز وجوده قادرا ملتذا مختارا، ولو صح ذلك لم يوجد فرق بين
الحي والميت، ولما استحال وجود متحرك ساكن وأبيض أسود وحي ميت، وهذا كله محال ظاهر
الفساد، وعلى هذا المذهب إجماع أهل النظر على اختلاف مذاهبهم وقد شذ عن القول به
شاذون نسبوا بشذوذهم عنه إلى السفسطة والتجاهل.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 79، 93:
فصل: في النفوس والأرواح
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله: اعتقادنا في النفوس أنها هي الأرواح، وأنها
الخلق الأول، وأنها خلقت للبقاء، وأنها في الأرض غريبة، وفي الأبدان مسجونة.
قال الشيخ أبو عبد الله: كلام أبي جعفر في النفس والروح على مذهب الحدس دون
التحقيق، ولو اقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في
باب يضيق عنه سلوكه.
[قال الشيخ أبو عبد الله: النفس عبارة] عن معان: أحدها: ذات الشيء، والثاني
الدم السائل، والثالث: النفس الذي هو الهواء، والرابع: الهوى وميل الطبع.
فأما شاهد المعنى الأول، فهو قولهم: هذا نفس الشيء أي: ذاته وعينه، وشاهد
الثاني قولهم: كل ما كانت [له نفس] سائلة فحكمه كذا وكذا، وشاهد الثالث قولهم: فلان
هلكت نفسه، إذا انقطع نفسه ولم يبق في جسمه هواء يخرج من جوانبه، وشاهد الرابع قول
الله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ
لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} يعني: الهوى داع إلى القبيح، وقد يعبر بالنفس عن
النقم، قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ} يريد به: نقمه وعقابه.
فصل: [قال الشيخ المفيد: وأما الروح] فعبارة عن معان: أحدها: الحياة،
والثاني القرآن، والثالث: ملك من ملائكة الله تعالى، والرابع: جبرئيل عليه السلام.
فشاهد الأول قولهم: كل ذي روح فحكمه كذا وكذا، يريدون: كل ذي حياة، وقولهم
في من مات: قد خرجت منه الروح، يعنون به الحياة، وقولهم في الجنين صورة لم تلجه
الروح، يريدون: لم تلجه الحياة. وشاهد
الثاني قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا
مِّنْ أَمْرِنَا} يعني به: القرآن. وشاهد الثالث قوله تعالى: {يَوْمَ
يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ} الآية. وشاهد الرابع قوله تعالى: {قُلْ
نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} يعني: جبرئيل عليه السلام.
فأما ما ذكره الشيخ أبو جعفر ورواه: أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد بألفي
عام؟ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فهو حديث من أحاديث الآحاد وخبر
من طرق الأفراد، وله وجه غير ما ظنه من لا علم له بحقائق الأشياء، وهو أن الله
تعالى خلق الملائكة قبل البشر بألفي عام، فما تعارف منها قبل خلق البشر ائتلف عند
خلق البشر، وما لم يتعارف منها إذ ذاك اختلف بعد خلق البشر، وليس الأمر كما ظنه
أصحاب التناسخ ودخلت الشبهة فيه على حشوية الشيعة فتوهموا أن الذوات الفعالة
المأمورة والمنهية كانت مخلوقة في الذر تتعارف وتعقل وتفهم وتنطق، ثم خلق الله لها
أجسادا من بعد ذلك فركبها فيها، ولو كان ذلك كذلك لكنا نعرف نحن ما كنا عليه، وإذا
ذكرنا به ذكرناه ولا يخفى علينا الحال فيه، ألا ترى أن من نشأ ببلد من البلاد فأقام
فيه حولا ثم انتقل إلى غيره لم يذهب عنه علم ذلك وإن خفي عليه لسهوه عنه فذكر به
ذكره، ولولا أن الأمر كذلك لجاز أن يولد إنسان منا ببغداد وينشأ بها ويقيم عشرين
سنة فيها ثم ينتقل إلى مصر آخر فينسى حاله ببغداد ولا يذكر منها شيئا، وإن ذكر به
وعدد عليه علامات حاله ومكانه ونشوئه أنكرها، وهذا ما لا يذهب إليه عاقل، وكذا ما
كان ينبغي لمن لا معرفة له بحقائق الأمور أن يتكلم فيها على خبط عشواء. والذي صرح
به أبو جعفر رحمه الله في معنى الروح والنفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم
أنه قولهم فالجناية بذلك على نفسه وعلى غيره عظيمة.
فأما ما ذكره من أن الأنفس باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضاد ألفاظ القرآن.
قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا
فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} والذي حكاه من ذلك وتوهمه هو مذهب كثير من
الفلاسفة الملحدين الذين زعموا أن الأنفس لا يلحقها الكون والفساد، وأنها باقية،
وإنما تفنى وتفسد الأجسام المركبة، وإلى هذا ذهب بعض أصحاب التناسخ، وزعموا أن
الأنفس لم تزل تتكرر في الصور والهياكل لم تحدث ولم تفن ولن تعدم، وأنها باقية غير
فانية، وهذا من أخبث قول وأبعده من الصواب، وبما دونه في الشناعة والفساد شنع به
الناصبة على الشيعة ونسبوهم إلى الزندقة، ولو عرف مثبته ما فيه لما تعرض له، لكن
أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلة فطنة يمرون على وجوههم فيما
سمعوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون
ما يدخل عليهم في إثباتها، ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها.
والذي ثبت من الحديث في هذا الباب أن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين:
منها ما ينقل إلى الثواب والعقاب، ومنها ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب.
وقد روي عن الصادق عليه السلام ما ذكرناه في هذا المعنى وبيناه، فسئل عمن
مات في هذه الدار أين تكون روحه؟ فقال عليه السلام: من مات وهو ماحض للإيمان محضا
أو ماحض للكفر محضا نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة، وجوزي بأعماله إلى يوم
القيامة، فإذا بعث الله من في القبور أنشأ جسمه ورد روحه إلى جسده وحشره ليوفيه
أعماله، فالمؤمن تنتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة، فيجعل في جنة من جنان
الله يتنعم فيها إلى يوم المآب، والكافر تنتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه فتجعل
في نار فيعذب بها إلى يوم القيامة، وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى: {قِيلَ
ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي
رَبِّي} وشاهد ما ذكرناه في الكافر
قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ} فأخبر سبحانه أن مؤمنا قال بعد موته وقد ادخل الجنة: يا ليت قومي يعلمون،
وأخبر أن كافرا يعذب بعد موته غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة يخلد في النار.
والضرب الآخر: من يلهى عنه وتعدم نفسه عند فساد جسمه، فلا يشعر بشيء حتى
يبعث، وهو من لم يمحض الإيمان محضا، ولا الكفر محضا.
وقد بين الله تعالى ذلك عند قوله: {إِذْ
يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} فبين أن قوما عند الحشر لا
يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن بعضهم أن ذلك كان عشرا، ويظن بعضهم أن ذلك
كان يوما، وليس يجوز أن يكون ذلك عن وصف من عذب إلى بعثه أو نعم إلى بعثه، لأن من
لم يزل منعما أو معذبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به، ولا يلتبس عليه الأمر في
بقائه بعد وفاته.
وقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إنما يسأل في قبره من محض
الإيمان محضا أو محض الكفر محضا، فأما ما سوى هذين فإنه يلهى عنه.
وقال في الرجعة: إنما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان محضا
أو محض الكفر محضا، فأما ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب.
وقد اختلف أصحابنا رضي الله عنهم فيمن ينعم ويعذب بعد موته، فقال بعضهم:
المعذب والمنعم هو الروح التي توجه إليها الأمر والنهي والتكليف، وسموها (جوهرا).
وقال آخرون: بل الروح الحياة، جعلت في جسد كجسده في دار الدنيا، وكلا
الأمرين يجوزان في العقل، والأظهر عندي قول من قال إنها الجوهر المخاطب، وهو الذي
يسميه الفلاسفة (البسيط).
وقد جاء في الحديث أن الأنبياء صلوات الله عليهم خاصة والأئمة عليهم السلام
من بعدهم ينقلون بأجسادهم وأرواحهم من الأرض إلى السماء، فيتنعمون في أجسادهم التي
كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا. وهذا خاص بحجج الله تعالى دون من سواهم من الناس.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن
صلى علي من بعيد بلغته، وقال صلى الله عليه وآله: من صلى علي مرة صليت عليه عشرا،
ومن صلى علي عشرا صليت عليه مائة، فليكثر امرؤ منكم الصلاة علي أو فليقل. فبين أنه
صلى الله عليه وآله بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه، ولا يكون كذلك إلا وهو
حي عند الله تعالى، وكذلك أئمة الهدى عليهم السلام يسمعون سلام المسلم عليهم من
قرب، ويبلغهم سلامه من بعد، وبذلك جاءت الآثار الصادقة عنهم عليهم السلام. وقد قال
الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء} الآية.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه وقف على قليب بدر فقال للمشركين الذين
قتلوا يومئذ وقد القوا في القليب: لقد كنتم جيران سوء لرسول الله، أخرجتموه من
منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدتم
ما وعدكم ربكم حقا؟ فقال له عمر يا رسول الله، ما خطابك لهام قد صديت؟ فقال له: مه
يا ابن الخطاب! فوالله ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة
بمقامع الحديد إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه ركب بعد انفصال الأمر من
حرب البصرة فصار يتخلل بين الصفوف حتى مر على كعب بن سورة وكان هذا قاضي البصرة
ولاه إياها عمر بن الخطاب، فأقام بها قاضيا بين أهلها زمن عمر وعثمان، فلما وقعت
الفتنة بالبصرة علق في عنقه مصحفا وخرج بأهله وولده يقاتل أمير المؤمنين، فقتلوا
بأجمعهم فوقف عليه أمير المؤمنين عليه السلام وهو صريع بين القتلى، فقال: أجلسوا
كعب بن سورة، فأجلس بين نفسين، وقال له: يا كعب بن سورة، قد وجدت ما وعدني ربي حقا،
فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا كعبا. وسار قليلا فمر بطلحة بن عبد الله
صريعا، فقال: أجلسوا طلحة، فأجلسوه، فقال: يا طلحة، قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل
وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال: أضجعوا طلحة، فقال له رجل من أصحابه: يا أمير
المؤمنين، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال: مه يا رجل، فوالله لقد سمعا كلامي
كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله. وهذا من الأخبار الدالة على
أن بعض من يموت ترد إليه روحه لتنعيمه أو لتعذيبه، وليس ذلك بعام في كل من يموت، بل
هو على ما بيناه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 94، 97:
فصل: فيما وصف به الشيخ أبو جعفر الموت قال أبو جعفر: باب الموت، قيل لأمير
المؤمنين... إلى آخره.
قال الشيخ أبو عبد الله: ترجم الباب بالموت وذكر غيره، وقد كان ينبغي أن
يذكر حقيقة الموت أو يترجم الباب بمال الموت وعاقبة الأموات، فالموت، هو يضاد
الحياة، يبطل معه النمو ويستحيل معه الإحساس، وهو محل الحياة فينفيها، وهو من فعل
الله تعالى وليس لأحد فيه صنع ولا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.
قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ} فأضاف الإحياء [إلى نفسه، وأضاف الإماتة إليها].
وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فالحياة ما كان بها النمو
والإحساس وتصح معها القدرة والعلم، والموت ما استحال معه النمو والإحساس ولم تصح
معه القدرة والعلم، وفعل الله تعالى الموت بالإحياء لينقلهم من دار العمل والامتحان
إلى دار الجزاء والمكافأة، وليس يميت الله عبدا من عبيده إلا وإماتته أصلح له من
بقائه، ولا يحييه إلا وحياته أصلح له من موته، وكل ما يفعله الله تعالى بخلقه فهو
أصلح لهم وأصوب في التدبير.
وقد يمتحن الله تعالى كثيرا من خلقه بالآلام الشديدة قبل الموت، ويعفي آخرين
من ذلك، وقد يكون الألم المتقدم للموت [ضربا من] العقوبة لمن حل به، ويكون استصلاحا
له ولغيره، ويعقبه نفعا عظيما، وعوضا كثيرا، وليس كل من صعب عليه خروج نفسه كان
بذلك معاقبا، ولا كل من سهل عليه الأمر في ذلك كان به مكرما مثابا.
وقد ورد الخبر بأن الآلام التي تتقدم الموت تكون كفارات لذنوب المؤمنين،
وتكون عقابا للكافرين، وتكون الراحة قبل الموت استدراجا للكافرين، وضربا من ثواب
المؤمنين. وهذا أمر مغيب عن الخلق، لم يظهر الله تعالى أحدا من خلقه على إرادته فيه
تنبيها له، حتى يتميز له حال الامتحان من حال العقاب، وحال الثواب من حال
الاستدراج، وتغليظا للمحنة ليتم التدبير الحكيم في الخلق.
فأما ما ذكره أبو جعفر من أحوال الموتى بعد وفاتهم، فقد جاءت الآثار به على
التفصيل.
وقد أورد بعض ما جاء في ذلك إلا أنه ليس مما ترجم به الباب في شيء، والموت
على كل حال أحد بشارات المؤمن، إذ كان أول طرقه إلى محل النعيم، وبه يصل ثواب
الأعمال الجميلة في الدنيا، وهو أول شدة تلحق الكافر من شدائد العذاب، وأول طرقه
إلى حلول العقاب، إذ كان الله تعالى جعل الجزاء على الأعمال بعده وصيره سببا لنقله
من دار التكليف إلى دار الجزاء، وحال المؤمن بعد موته أحسن من حاله قبله، وحال
الكافر بعد مماته أسوء من حاله قبله، إذ المؤمن صائر إلى جزائه بعد مماته، والكافر
صائر إلى جزائه بعد مماته.
وقد جاء في الحديث عن آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أنهم قالوا:
الدنيا سجن المؤمن، والقبر بيته، والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر، والقبر سجنه،
والنار مأواه.
وروي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: الخير كله بعد الموت، والشر كله بعد
الموت. ولا حاجة بنا مع نص القرآن بالعواقب إلى الأخبار، [ومع شاهد] العقول إلى
الأحاديث.
وقد ذكر الله تعالى جزاء الصالحين فبينه، وذكر عقاب الفاسقين ففضله، وفي
بيان الله سبحانه وتفصيله غنى عما سواه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 98، 102:
فصل: في المسألة في القبر
قال أبو جعفر اعتقادنا في المسألة في القبر أنها حق.
قال أبو عبد الله الشيخ المفيد رضي الله عنه: الذي ذكره أبو جعفر غير مفيد
لما تصدق الحاجة إليه في المسألة والغرض منها، والذي يجب أن يذكر في هذا المعنى ما
أنا مثبته إن شاء الله تعالى.
جاءت الآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله أن الملائكة تنزل على
المقبورين فتسألهم عن أديانهم، وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة، فمنها أن ملكين لله
تعالى يقال لهما: ناكر ونكير، ينزلان على الميت فيسألانه عن ربه ونبيه ودينه
وإمامه، فإن أجاب بالحق سلموه إلى ملائكة النعيم، وإن ارتج عليه سلموه إلى ملائكة
العذاب.
وقيل في بعض الأخبار: إن اسمي الملكين اللذين ينزلان على الكافر: ناكر
ونكير، واسمي الملكين اللذين ينزلان على المؤمن: مبشر وبشير، وقيل: إنه إنما سمي
ملكا الكافر ناكرا ونكيرا، لأنه ينكر الحق وينكر ما يأتيانه به ويكرهه، وسمي ملكا
المؤمن مبشرا وبشيرا، لأنهما يبشرانه بالنعيم، ويبشرانه من الله تعالى بالرضا
والثواب المقيم. وإن هذين الاسمين ليسا بلقب لهما، وإنهما عبارة عن فعلهما.
وهذه أمور يتقارب بعضها من بعض ولا تستحيل معانيها، والله سبحانه أعلم
بحقيقة الأمر فيها، وقد قلنا فيما سلف أنه إنما ينزل الملكان على من محض الإيمان
محضا أو محض الكفر محضا، ومن سوى هذين فيلهى عنه، وبينا أن الخبر جاء بذلك، فمن
جهته قلنا فيه ما ذكرناه.
فصل: وليس ينزل الملكان إلا على حي، ولا يسألان إلا من يفهم المسألة ويعرف
معناها، وهذا يدل على أن الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمسألة، ويديم حياته
لنعيم إن كان يستحقه، أو لعذاب إن كان يستحقه. نعوذ بالله من سخطه، ونسأله التوفيق
لما يرضيه برحمته.
والغرض من نزول الملكين ومساءلتهما العبد أن الله تعالى يوكل بالعبد بعد
موته ملائكة النعيم أو ملائكة العذاب، وليس للملائكة طريق إلى علم ما يستحقه العبد
إلا بإعلام الله تعالى ذلك لهم، فالملكان اللذان ينزلان على العبد أحدهما من ملائكة
النعيم والآخر من ملائكة العذاب، فإذا هبطا لما وكلا به استفهما حال العبد
بالمسألة، فإن أجاب بما يستحق به النعيم قام بذلك ملك النعيم وعرج عنه ملك العذاب،
وإن ظهرت فيه علامة استحقاقه العذاب، وكل به ملك العذاب وعرج عنه ملك النعيم.
وقد قيل: إن الملائكة الموكلين بالنعيم والعذاب. غير الملكين الموكلين
بالمسألة، وإنما يعرف ملائكة النعيم وملائكة العذاب ما يستحقه العبد من جهة ملكي
المسألة، فإذا سألا العبد وظهر منه ما يستحق به الجزاء تولى منه ذلك ملائكة الجزاء
وعرج ملكا المسألة إلى مكانهما من السماء. وهذا كله جائز، ولسنا نقطع بأحد دون
صاحبه، إذ الأخبار فيه متكافئة والعبارة لنا في معنى ما ذكرناه الوقف والتجويز.
فصل: وإنما وكل الله تعالى ملائكة المسألة وملائكة العذاب والنعيم بالخلق
تعبدا لهم بذلك، كما وكل الكتبة من الملائكة بحفظ أعمال الخلق وكتبها ونسخها ورفعها
تعبدا لهم بذلك، وكما تعبد طائفة من الملائكة بحفظ بني آدم، وطائفة منهم بإهلاك
الأمم، وطائفة بحمل العرش، وطائفة بالطواف حول البيت المعمور، وطائفة بالتسبيح،
وطائفة بالاستغفار للمؤمنين، وطائفة بتنعيم أهل الجنة، وطائفة بتعذيب أهل النار
[والتعبد لهم] بذلك ليثيبهم عليها. ولم يتعبد الله الملائكة بذلك عبثا كما لم يتعبد
البشر والجن بما تعبدهم به لعبا، بل تعبد الكل للجزاء، وما تقتضيه الحكمة من
تعريفهم نفسه تعالى والتزامهم شكر النعمة عليهم.
وقد كان الله تعالى قادرا على أن يفعل العذاب بمستحقه من غير واسطة، وينعم
المطيع من غير واسطة، لكنه سبحانه علق ذلك على الوسائط لما ذكرناه وبينا وجه الحكمة
فيه ووصفناه، وطريق مسألة الملكين الأموات بعد خروجهم من الدنيا بالوفاة هو السمع،
وطريق العلم برد الحياة إليهم عند المسألة هو العقل، إذ لا يصح مسألة الأموات
واستخبار الجماد.
وإنما يحسن الكلام للحي العاقل لما يكلم به، وتقريره وإلزامه بما يقدر عليه،
مع أنه قد جاء في الخبر أن كل مسائل ترد إليه الحياة عند مساءلته ليفهم ما يقال له،
فالخبر بذلك يؤكد ما في العقل، ولو لم يرد بذلك خبر لكفى حجة العقل فيه على ما
بيناه.
- المسائل
السروية- الشيخ المفيد ص 62:
المسألة الخامسة:
عذاب القبر ما قوله أدام الله تأييده في عذاب القبر وكيفته؟ ومتى يكون؟ وهل ترد
الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر، أو يكون بين
النفختين؟.
الجواب: الجواب
عن هذا السؤال قد تقدم في المسألة التي سبقت هذه المسالة. والكلام في عذاب القبر
طريقه السمع دون العقل. وقد ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام أنهم قالوا: "ليس يعذب
في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر، ولا ينعم كل ماض لسبيله،
وإنما ينعم منهم من محض الإيمان محضا، فأما سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم".
وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصة. فعلى ما جاء به الأثر من ذلك
يكون الحكم ما ذكرناه.
وأما كيفية عذاب
الكافر في قبره، ونعيم المؤمن فيه، فإن الأثر أيضا قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح
المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا، في جنة من جنانه، ينعمه فيها إلى يوم الساعة،
فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي بلي في التراب وتمزق، ثم أعاده إليه وحشره إلى
الموقف، وأمر به إلى جنة الخلد، فلا يزال منعما ببقاء الله عز وجل. غير أن جسده
الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل يعدل طباعه ويحسن صورته فلا يهرم
مع تعديل الطباع، ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب. والكافر يجعل في قالب كقالبه في
الدنيا، في محل عذاب يعاقب به، ونار يعذب بها حتى الساعة، ثم ينشأ جسده الذي فارقه
في القبر، ويعاد إليه، ثم يعذب به في الآخرة عذاب الأبد، ويركب أيضا جسده تركيبا لا
يفنى معه. وقد قال الله عز وجل: {النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. وقال في قصة الشهداء:
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وهذا قد مضى فيما تقدم. فدل على أن العذاب والثواب يكون قبل القيامة
وبعدها، والخبر وارد بأنه يكون مع فراق الروح الجسد في الدنيا.
والروح هاهنا
عبارة عن انفعال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة التي يصح معها العلم
والقدرة، لأن هذه الحياة عرض لا يبقى، ولا يصح عليه الإعادة. فهذا ما عول عليه أهل
النقل، وجاء به الخبر على ما بيناه.