عقائد الشيعة الإمامية >> الشيخ المفيد 

 

 

عقائد الشيخ المفيد قدس سره

زيارة القبور

 

- في زيارة القبور

- الفصول المختارة- الشيخ المفيد  ص 128، 132:

فصل: ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه، قال الشيخ: كان يختلف إلي حدث من أولاد الأنصار ويتعلم الكلام فقال لي يوما: اجتمعت البارحة مع الطبراني شيخ من الزيدية. فقال لي: أنتم يا معشر الإمامية حنبلية وأنتم تستهزؤون بالحنبلية، فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال: لان الحنبلية تعتمد على المنامات وأنتم كذلك، والحنبلية تدعي المعجزات لأكابرها وأنتم كذلك، والحنبلية ترى زيارة القبور والاعتكاف عندها وأنتم كذلك، فلم يكن عندي جواب أرتضيه، فما الجواب؟.

قال الشيخ أدام الله عزه: فقلت له: ارجع إليه فقل له: قد عرضت ما ألقيته إلي على فلان فقال لي: قل له إن كانت الإمامية حنبلية بما وصفت أيها الشيخ فالمسلمون بأجمعهم حنبلية والقرآن ناطق بصحة الحنبلية وصواب مذاهب أهلها، وذلك أن الله تعالى يقول: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}. فأثبت الله جل اسمه المنام وجعل له تأويلا عرفه أولياؤه عليهم السلام وأثبتته الأنبياء ودانت به خلفاؤهم وأتباعهم من المؤمنين واعتمدوه في علم ما يكون وأجروه مجرى الخبر مع اليقظة وكالعيان له. وقال سبحانه: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فنبأهما عليهم السلام بتأويله وذلك على تحقيق منه لحكم المنام، وكان سؤالهما له مع جهلهما بنبوته دليلا على أن المنامات حق عندهم، والتأويل لأكثرها صحيح إذا وافق معناها، وقال عز اسمه: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} ثم فسرها يوسف عليه السلام وكان الأمر كما قال. وقال تعالى في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فأثبتا عليهما السلام الرؤيا وأوجبا الحكم ولم يقل إسماعيل لأبيه عليه السلام يا أبت لا تسفك دمي برؤيا رأيتها فإن الرؤيا قد تكون من حديث النفس وأخلاط البدن وغلبة الطباع بعضها على بعض كما ذهبت إليه المعتزلة.

فقول الإمامية في هذا الباب ما نطق به القرآن، وقول هذا الشيخ هو قول الملأ من أصحاب الملك حيث قالوا: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ومع ذلك فإنا لسنا نثبت الأحكام الدينية من جهة المنامات وإنما نثبت من تأويلها ما جاء الأثر به عن ورثة الأنبياء عليهم السلام. فأما قولنا في المعجزات فهو كما قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. فضمن هذا القول تصحيح المنام إذ كان الوحي إليها في المنام، وضمن المعجز لها لعلمها بما كان قبل كونه. وقال سبحانه في قصة مريم عليها السلام: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}. فكان نطق المسيح عليه السلام معجزا لمريم عليها السلام إذ كان شاهدا ببراءة ساحتها. وأم موسى عليه السلام ومريم لم تكونا نبيين ولا مرسلين ولكنهما كانتا من عباد الله الصالحين. فعلى مذهب هذا الشيخ كتاب الله يصحح الحنبلية.

وأما زيارة القبور فقد أجمع المسلمون على وجوب زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله حتى رووا من حج ولم يزره متعمدا فقد جفاه صلى الله عليه وآله وثلم حجه بذلك الفعل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من سلم علي من عند قبري سمعته ومن سلم علي من بعيد بلغته سلام الله عليه ورحمته وبركاته" وقال صلى الله عليه وآله للحسن عليه السلام: "من زارك بعد موتك أو زار أباك أو زار أخاك فله الجنة". وقال أيضا في حديث له أوله مشروح في غير هذا الكتاب: "تزوركم طائفة من أمتي تريد به بري وصلتي فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف فأخذت بأعضادها فأنجيتها من أهواله وشدائده"، ولا خلاف بين الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فرغ من حجة الوداع لاذ بقبر قد درس فقعد عنده طويلا ثم استعبر فقيل له يا رسول الله ما هذا القبر؟ فقال: هذا قبر أمي آمنة بنت وهب سألت الله في زيارتها فأذن لي.

وقال صلى الله عليه وآله: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها". وقد كان أمر في حياته صلى الله عليه وآله بزيارة قبر حمزة عليه السلام وكان يلم به وبالشهداء، ولم تزل فاطمة عليها السلام بعد وفاته صلى الله عليه وآله تغدو إلى قبره وتروح والمسلمون يثابرون على زيارته وملازمة قبره صلى الله عليه وآله فان كان ما يذهب إليه الإمامية من زيارة مشاهد الأئمة عليهم السلام حنبلية وسخفا من الفعل، فالإسلام مبني على الحنبلية ورأس الحنبلية رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا قول متهافت جدا يدل على قلة دين قائله وضعف رأيه وبصيرته.

ثم قلت له: يجب أن تعلم أن الذي حكيت عنه قد حرف القول وقبحه ولم يأت به على وجهه، والذي نذهب إليه في الرؤيا أنها على أضرب:

فضرب منه يبشر الله به عباده ويحذرهم، وضرب تهويل من الشيطان وكذب يخطر ببال النائم، وضرب من غلبة الطباع بعضها على بعض، ولسنا نعتمد على المنامات كما حكاه لكننا نأنس بما نبشر به، ونتخوف مما نحذر منها ومن وصل إليه شيء من علمها عن ورثة الأنبياء عليهم السلام ميز بين حق تأويلها وباطله ومتى لم يصل إليه شيء من ذلك كان على الرجاء والخوف. وهذا يسقط ما لعله سيتعلق به في منامات الأنبياء عليهم السلام من أنها وحي لأن تلك مقطوع بصحتها وهذه مشكوك فيها مع أن منها أشياء قد اتفق ذوو العادات على معرفة تأويلها حتى لم يختلفوا فيه ووجدوه حسنا.

وهذا الشيخ لم يقصد بكلامه الإمامية ولكنه قصد الأمة ونصر البراهمة والملحدة، مع أني أعجب من هذه الحكاية عنه وأنا أعرفه يميل إلى مذهب أبي هاشم ويعظمه ويختاره، وأبو هاشم يقول في كتابه (المسالة في الإمامة): إن أبا بكر رأى في المنام كأن عليه ثوبا جديدا عليه رقمان ففسره على النبي صلى الله عليه وآله فقال له إن صدقت رؤياك تبشر بخير (فستخبر بولد ن خ) وتلي الخلافة سنتين، فلم يرض شيخه أبو هاشم أن أثبت المنامات حتى أوجب بها الخلافة وجعلها دلالة على الإمامة فيجب على قول هذا الشيخ الزيدي عند نفسه أن يكون أبو هاشم رئيس المعتزلة عنده حنبليا بل يكون عنده أبو بكر حنبليا بل رسول الله صلى الله عليه وآله لأنه صحح المنام وأوجب به الأحكام، وهذا من بهرج المقال.