عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ المفيد / مصادر الشيخ المفيد

 

 

- رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4 ص 11 : -

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلاته على سيدنا محمد وآله الطاهرين . وبعد :


سأل بعض الخالفين فقال : ما السبب الموجب لا ستتار امام الزمان عليه السلام وغيبته التي قد طالت مدتها وامتدت بها الايام ، ثم قال : فان قلتم : ان سبب ذلك صعوبة الزمان عليه بكثرة اعدائه وخوفه منهم على نفسه ، قيل لكم : فقد كان الزمان الاول

على ابائه عليهم السلام اصعب ، واعداؤهم فيما مضى اكثر ، وخوفهم على نفسهم اشد واكثر ، ولم يستتروا مع ذلك ولاغابوا عن اشياعهم ، بل كانوا ظاهرين حتى أتاهم اليقين ، وهذا يبطل اعتلالكم في غيبة صاحب الزمان عنكم واستتاره فيما ذكرتموه ، وسألتك ادام الله عزك .


الجواب عن ذلك :

الجواب وبالله التوفيق : ان اختلاف حالتي صاحب الزمان وابائه عليه وعليهم السلام فيما يقتضيه استتاره اليوم وظهوره ، إذ ذاك يقضي بطلان ما

- ج 4 ص 12 -

توهمه الخصم وادعاه من سهولة هذا الزمان على صاحب الامر عليه السلام وصعوبته على ابائه عليهم السلام فيما سلف ، وقلة خوفه اليوم وكثرة خوف ابائه فيما سلف ، وذلك انه لم يكن احد من ابائه عليهم السلام كلف القيام بالسيف مع ظهوره ،

ولا الزم بترك التقية ، ولا الزم الدعاء إلى نفسه حسبما كلفه امام زماننا ، هذا بشرط ظهوره عليه السلام ، وكان من مضى من أبائه صلوات الله عليهم قد ابيحوا التقية من اعدائهم ، والمخالطة لهم ، والحضور في مجالسهم واذاعو ا تحريم اشهار السيوف على انفسهم ، وخطر الدعوة إليها .


واشاروا إلى منتظر يكون في اخر الزمان منهم يكشف الله به الغمة ، ويحيي ويهدي به الامة ، لاتسعه التقية ، عند ظهوره ينادي باسمه في السماء الملائكة الكرام ، ويدعوا إلى بيعته جبرئيل وميكائيل في الانام ، وتظهر قبله امارات القيامة في الارض والسماء ، ويحيا عند ظهوره اموات ، وتروع ايات قيامه ونهوضه بالامر الابصار .


فلما ظهر ذلك عن السلف الصالح من ابائه عليهم السلام ، وتحقق ذلك عند سلطان كل زمان وملك كل اوان ، وعلموا انهم لا يتدينون بالقيام بالسيف ، ولا يرون الدعاء إلى مثله على احد من اهل الخلاف ، وان دينهم الذى يتقربون به إلى الله عزوجل

التقية ، وكف السيد ، وحفظ اللسان ، والتوفر على العبادات ، والانقطاع إلى الله عزوجل بالاعمال الصالحات ، امنوهم على انفسهم مطمئنين بذلك إلى ما يدبرونه من شأنهم ، ويحققونه من دياناتهم ، وكفوا بذلك عن الظهورو الا نتشار ، واستغنو ا به عن التغيب والاستتار .


ولما كان امام هذا الزمان عليه السلام هو المشار إليه بسل السيف من اول الدهر في تقادم الايام المذكورة ، والجهاد لاعداء الله عند ظهوره ، ورفع التقية عن

- ج 4 ص 12 -

اوليائه ، والزامه لهم بالجهاد ، وانه المهدي الذي يظهر الله به الحق ، ويبيد بسيفه الضلال ، وكان المعلوم انه لا يقوم بالسيف الا مع وجود الا نصار واجتماع الحفدة والاعوان ، ولم يكن انصاره عليه السلام عند وجوده متهيئين إلى هذا الوقت

موجودين ، ولا على نصرته مجمعين ، ولاكان في الارض من شيعته طرا من يصلح للجهاد وان كانوا يصلحون لنقل الاثار وحفظ الاحكام والدعاء له بحصول التمكن من ذلك إلى الله عزوجل ، لزمته التقية ، ووجب فرضها عليه كما فرضت على

ابائه عليهم السلام ، لانه لو ظهر بغير اعوان لالقى بيده إلى التهلكة ، ولو ابدى شخصه للاعداء لم يألوا جهدا في ايقاع الضرر به ، واستئصال شيعته ، واراقة دمائهم على الاستحلال ، فيكون في ذلك اعظم الفساد في الدين والدنيا ، ويخرج به عليه السلام عن احكام الدين وتدبير الحكماء .


ولما ثبت عصمته ، وجب استتاره حتى يعلم يقينا - لاشك فيه - حضور الاعوان له ، واجتماع الانصار ، وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف ، ويعلم تمكنه من اقامة الحدود ، وتنفيذ الاحكام ، وإذا كان الامر على ما بيناه سقط ما ظنه

المخالف من مناقضة اصحابنا الامامية فيما يعتقدونه من علة ظهور السلف من ائمة الهدى عليهم السلام وغيبة صاحب زماننا هذا عليه التحية والرضوان وافضل الرحمة والسلام والصلاة .

وبان مما ذكرناه فرق ما بين حاله واحوالهم فيما جوز لهم الظهور ، واوجب حليه الاستتار .


( فصل ) ثم يقال لهذا الخصم : اليس النبي صلى الله عليه والله قد اقام بمكة ثلاثة عشر سنة يدعو الناس إلى الله تعالى ولايرى سل السيف ولا الجهاد ، ويصبر

- ج 4 ص 14 -

على التكذيب له والشتم والضرب وصنوف الاذى ، حتى انتهى امره الي ان القوا على ظهره صلى الله عليه والله وهو راكع السلى ( 1 ) وكانوا يرضخون قدميه بالاحجار ، ويلقاه السفيه من اهل مكه فيشتمه في وجهه ويحثو فيه التراب ، ويضيق

عليه احيانا ، ويبلغ اعداؤه في الاذى بضروب النكال ، وعذبوا اصحابه ا نواع العذاب ، وفتنوا كثير ا منهم حتى رجعوا عن الاسلام ، وكان المسلمون يسألونه الاذن لهم في سل السيف ومباينة الاعداء فيمنعهم عن ذلك ، ويكفهم ، ويأمرهم بالصبر على الاذى .


وروي : ان عمر بن الخطاب لما اظهر الاسلام سل سيفه بمكة وقال : لا يعبد الله سرا ، فزجره رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك . وقال له عبد الرحمن بن عوف الزهري : لو تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله لاخذ كل رجل بيده رجلين إلى جنب رجل منهم فقتله . فنهاه النبي صلى الله عليه وآله عما قال ( 2 ) .
 

  * هامش *  
 

 1 - السلى : الجلف الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن امه ملفوفا فيه ، وقيل : هو في الماشية السلى ، وفي الناس المشيمة .
لسان العرب
14 : 396 2 - في نسخة " ق " : ونفوا .

 2 - تروي كتب التأريخ ان عمر بن الخطاب عندما اعلن عن اسلامه شهر سيفه وقاتل قريشا رغم تأكيد النبي صلى الله عليه والله له ولاصحابه بضرورة التكتم في اسلامهم وعلم الاصطدام مع قريش ، والغريب في الامر ان عمر اعرض عن ذلك الامر صفحا وكانه

يريد ان يظهر للناس وللمسلمين بانه اجرأ المسلمين ، واعزهم شأنا ، والاغرب من ذلك انه امتنع عن مراجعة قريش بعد ذلك عند توجه رسول الله صلى الله عليه ر الله نحو مكة عام الحديبية زائرا لا يريد =>

 

 

- ج 4 ص 15 -

ولم يزل ذلك حاله الي ان طلب من النجاشي - وهو ملك الحبشة - ان يخفر اصحابه من قريش ثم اخرجهم إليه واستتر عليه وآله السلام خائفا على دمه في الشعب ثلاث سنين ، ثم هرب من مكة بعد موت عمه ابي طالب مستخفيا بهربه ، واقام في

الغار ثلاثة ايام ثم هاجر عليه وآله والسلام إلى المدينة ورأى النهي منه للقيام واستنفر اصحابه وهم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر ، ولقى بهم الف رجل من اهل بدر ، ورفع التقية عن نفسه إذ ذاك .

ثم حضر المدينة متوجها إلى العمرة ، فبايع تحت الشجرة بيعة الرضوان على ، الموت ، ثم بدا له عليه وآله السلام فصالح قريشا و رجع عن العمرة ونحر هديه في مكانه ، وبدا له من القتال ، وكتب بينه وبين قريش كتابا سألوه فيه محو ( بسم الله

الرحمن الرحيم ) فأجابهم إلى ذلك ، و دعوا إلى محو اسمه من النبوة في الكتاب لاطلاعهم إلى ذلك ، فاقترحوا عليه ان يرد رجلا مسلما إليهم حتى يرجع إلى الكفر أو يتركوه فأجابهم إلى ذلك هذا وقد ظهر عليهم في الحرب ( 3 )
 

  * هامش *  
 

=> قتالا واراد ان يبعث من يبلغ اشراف قريش ذلك ، حيث قال ( وكما ذكرته المصادر المتعددة ) : يا رسول الله انني اخاف قريشا على نفسي . . . انظر : السيرة النبوية ( لابن كثير ) 2 : 32 و 3 : 318 ، السيرة النبوية ( لابن هشام ) 1 : 374 ،

الكامل في التاريخ ( لابن الاثير ) 2 : 86 ، تفسير القرأن العظيم ( لابن كثير ) 4 : 200 ، التفسير الكبير ( للرازي ) 26 : 54

 3 - خرج رسول الله صلى الله عليه وآله في ذي القعدة من عام ست هجرية معتمرا لا يريد حربا ، وقد استنفر العرب ومن حوله من اهل البوادي من الاعراب ليخرجوا معه وساق معه الهدي واحرم بالعمرة ليعلم الجميع انه انما خرج زائرا لهذا البيت .وعندما بلغ عسفان لقيه بسر ( أو بشر ) بن سفيان الكعبي واخبره بخروج قريش ( * )

 

 

- ج 4 ص 16 -

فإذا قال الخصم : بلى ولابد من ذلك ان كان من اهل العلم والمعرفة بالاخبار .

قيل له : فلم لم يقاتل بمكة وما باله صبر على الاذى ، ولم منع اصحابه عن الجهاد وقد بذلوا انفسهم في نصرة الاسلام ، وما الذي اضطره إلى الاستجارة بالنجاشي واخراج اصحابه من مكة إلى بلاد الحبشة . خوفا على دمائهم من الاعداء ، وما الذي

دعاه إلى القتال حين خذله اصحابه وتثاقلوا عليه فقاتل بهم مع قلة عددهم ، وكيف لم يقاتل بالحديبية مع كثرة انصاره وبيعتهم له على الموت ، وما وجه اختلاف افعاله في هذه الاحوال ؟ فما كان في ذلك جوابكم فهو جوابنا في ظهور السلف من أباء صاحب الزمان واستتار . وغيبته فلا تجدون من ذلك مهربا .

 

والحمد لله المستعان ،
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا .
 

  * هامش *  
 

واستعدادهم لمنازلة المملمين ومنعهم من دخول مكة ، فاضطر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى تغيير مسيره نحر الحديبية ، فلما رأت قريش تحول مسير المسلمن ركضوا راجعين نحو مكة . وبعد ذلك ارسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله رسلهم لترى لاي امر قدم

وما هي بغينه ، واراد صلى الله عليه وآله ان يوضح الامر لسادات قريش في مكة فطلب من عمر الذهاب لكنه امتنع من ذلك خوفا من قريش ، فارسل بدله عثمان بن ابي عفان إلى ابي سفيان ، فاحتبسته قريش عن العودة ، وشاع ان قريش قتلته ، عندها دعا رسول الله صلى

الله عليه وآله إلى قتال القوم ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فانزل الله فيها قرأنا . الا ان قريش بعثت سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في طلب الصلع فصالحهم .

انظر : تأريخ الطبري 2 : 620 ، السيرة النبوية ( لابن كثير ) 3 : 312 ،
السيرة النبوية
( لابن هشام ) 3 : 321 ، التفسير العظيم ( لابن كثير ) 4 : 200 ( * )