عقائد الشيعة الإمامية | الشيخ المفيد | المقنعة

 

المقنعة

للشيخ المفيد

 

محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المتوفى 413 ه‍. ق

 

 

 

كتاب الحدود والآداب

 

[ 1 ] باب حدود الزنا

والزنا الموجب للحد هو وطء من حرم الله، تعالى وطأه من النساء بغير عقد مشروع إذا كان الوطئ في الفرج دون ما سواه. ولا يجب الحد إلا بإقرار من الفاعل، أو بينة عادلة بشهادة أربعة رجال عدول، يشهدون بالرؤية للفرج في الفرج على التحقيق. فإن شهد أربعة شهود على رجل بالزنا، ولم يشهدوا بالرؤية - على ما بيناه - وجب على كل واحد منهم حد المفتري - ثمانون جلدة - و لم يجب على المشهود عليه حد بذلك. فإن شهدوا عليه بما عاينوه من اجتماع في إزار، و التصاق جسم بجسم، وما أشبه ذلك، ولم يشهدوا عليه بالزنا، قبلت شهادتهم، ووجب على الرجل والمرأة التعزير حسب ما يراه الإمام من عشر جلدات إلى تسع وتسعين جلدة. ولا يبلغ التعزير في هذا الباب حد الزنا المختص به في شريعة الإسلام. وإن اختلفت الشهود في الرؤية بطلت شهادتهم. فإن كانت وقعت بالزنا جلدوا الحد. وإن كانت وقعت بغيره - مما ذكرناه - وجب عليهم التأديب. فإن تفرقوا في الشهادة بالزنا، ولم يأتوا بها مجتمعين في وقت واحد في مكان واحد، جلدوا حد المفتري. ولا يقبل في الزنا واللواط ولا شئ مما يوجب الحدود شهادات النساء. ولا يقبل في ذلك إلا شهادات الرجال العدول البالغين. وإذا أقر الإنسان على نفسه بالزنا أربع مرات على اختيار منه للإقرار وجب عليه الحد. وإن أقر مرة أو مرتين أو ثلاثا لم يجب عليه حد بهذا الإقرار، وللإمام أن يؤدبه بإقراره على نفسه حسب ما يراه، اللهم إلا أن يقر على نفسه بالزنا بامرأة بعينها، فيلتمس حقها منه لقذفه إياها، فعليه جلد ثمانين، حد الفرية. وإذا قامت البينة على رجل حر مسلم بالزنا، أو أقر بذلك على نفسه - كما ذكرناه - وكان محصنا، وجب عليه جلد مائة، ثم يترك حتى يبرأ جلده، ثم تحفر له حفيرة إلى صدره، ثم يرجم بعد ذلك. فإن فر من البئر وقت الرجم، وكان عليه شهود بالزنا، رد إليها، ورجم حتى يموت. وإن فر منها، ولم يكن عليه شهود، و إنما أخذ بإقراره ترك، ولم يرد، لأن فراره رجوع عن الإقرار، وهو أعلم بنفسه. وإذا أريد رجم المحصن على الزنا بدأ الحاكم برجمه إن كان الحد وجب عليه بإقرار منه، ثم رجمه بعد ذلك الناس. فإن كان الحد وجب عليه بالشهود بدأ برجمه الشهود، ليتولوا منه ما وجب بشهادتهم عليه. وإن كان المحدود على الزنا غير محصن جلد مائة جلدة من أشد الجلد بالسياط، ويجلد قائما في ثيابه التي وجد فيها زانيا، ويضرب بدنه كله، ويبقى فرجه، ولا يضرب على رأسه ووجهه. وإن وجد عريانا في حال الزنا جلد عريانا بعد أن يستر فرجه. فإن مات في الحد فلا دية له، ولا قود. والمحصن الذي يجب عليه الجلد، ثم الرجم، هو الذي له زوجة، أو ملك يمين يستغنى بها عن غيرها، ويتمكن من وطئها. فإن كانت زوجته مريضة لا يصل إليها بنكاح، أو صغيرة لا يوطأ مثلها، أو محبوسة، أو غائبة، لم يكن محصنا بها، ومتى زنى وجب عليه الجلد دون الرجم على ما قدمناه. ولسنا نعتبر في الإحصان الحرة دون الأمة، والمسلمة دون الذمية. ونكاح المتعة لا يحصن بالأثر الصحيح عن أئمة آل محمد عليهم السلام. وهو يجري في ظاهر الحال مجرى نكاح الغائب عن زوجته، لأنه نكاح مشترط بأيام معلومات وأوقات محدودات، وليس هو على الدوام، فربما تخلل الأيام فيه والأوقات المشترطة من الزمان ما يمنع صاحبه من الاستغناء به عما سواه، كما تمنع الغيبة صاحبها من الاستغناء، فيخرج بذلك عن الإحصان. والله أعلم. ومن أقر بفجور بامرأة في عجزها، أو شهد عليه بذلك أربعة شهود، وجب عليه من الحد ما يجب على من أقر بفجور، بامرأة في قبلها، أو شهد عليه الشهود بذلك، لا يختلف حكمه في الأمرين جميعا، والحد فيهما على السواء. فإن أقر بأنه فجر بامرأة فوطأها دون الموضعين، أو شهد عليه بذلك - على ما قدمناه - لم يجب عليه حد الزاني، لكنه يعزر بما يراه الإمام، أو خليفته المنصوب لذلك في الناس. ومن زنى، وهو غير محصن، فجلد، ثم عاد إلى الزنا مرة أخرى جلد، وكذلك إن عاد ثالثة، فإن عاد رابعة بعد جلدة ثلاث مرات قتل وإن كان غير محصن. فالإمام مخير في قتله بالرجم أو بالسيف حسب ما يراه. والحكم على المرأة إذا زنت كالحكم على الرجل سواء: متى أقرت أربع مرات بالزنا، أو شهد عليها أربعة رجال عدول جلدت، ثم رجمت إن كانت من الإحصان على ما ذكرناه. وإن لم تكن محصنة جلدت مائة جلدة كما بيناه. وتقتل في الرابعة بعد حدها على الزنا ثلاث مرات. ومن زنى، وهو غير محصن، فلم يحد، لعدم بينة عليه بذلك، أو توبة منه قبل القدرة عليه، ثم عاد عشر مرات أو أكثر من ذلك، لم يقتل عند الظفر به، بل يقام عليه الحد بالجلد، وإنما يقتل في الرابعة إذا فعل الزنا فيها، وقد أقيم عليه الحد ثلاث مرات حسب ما شرحناه. ومن زنى، وتاب قبل أن تقوم الشهادة عليه بالزنى، درأت عنه التوبة الحد. فإن تاب بعد قيام الشهادة عليه كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحد عليه حسب ما يراه من المصلحة في ذلك له ولأهل الإسلام. فإن لم يتب لم يجز العفو عنه في الحد بحال. ومن زنى، ولم تقم عليه بينة بذلك، فأقر به عند الإمام، ليقيم عليه الحد، ويطهره بذلك من الآثام، كان محسنا مأجورا. فإن قتله الحد، أو لم يقتله، فقد أدى ما عليه، وتبرع بما يستحق به الثواب. فإن ستر على نفسه، وتاب فيما بينه وبين الله عز وجل، ولم يبد صفحته للإمام، كان أفضل له وأعظم ثوابا، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من أتى منكم شيئا مما يوجب عليه حدا أو عقابا فليستتر بظل الله عز وجل، ويتوب إليه فيما بينه وبينه، فإنه أقرب إلى الله عز وجل من إظهاره ما ستر عليه، ولا يبد أحدكم صفحته بالذنوب، فإنه من أبدى صفحته لإقامة الحد عليه هلك، ولم يصبر على الحق فيه. وإذا زنى الذمي بالمسلمة ضربت عنقه، وأقيم على المسلمة الحد: إن كانت محصنة جلدت، ثم رجمت. وإن كانت غير محصنة جلدت مائة جلدة. ومن زنى بذات محرم له، كعمته، أو خالته، أو بنت أخيه، أو بنت أخته، ضربت عنقه، محصنا كان، أو غير محصن. وكذلك الحكم فيمن زنى بأمه، أو ابنته، أو أخته. والإثم له في ذلك أعظم، والعقوبة له أشد. ومن عقد على واحدة ممن سميناه، وهو يعرف رحمه منها، ثم وطأها، ضربت عنقه، وكان حكمه حكم الواطي لهن بغير عقد، بل وطؤهن بالعقد الباطل أعظم في المأثم، لأنه بالعقد مخالف للشرع، محتقب لعظيم الوزر، مستخف بالدين، متلاعب بأحكام رب العالمين، وبالوطئ على أعظم ما يكون من الفجور، وارتكاب المحظور، فهو جامع بين عظائم موبقات، وأوزار مثقلات، وقبائح مهلكات. وإذا وطئ من غير عقد لذات محرم منه فقد أتى بالإثم بعض ما أتاه الجامع بين العقد والفعل، كما ذكرناه. وهذا بضد ما ذهب إليه شيطان الناصبة، المكنى بأبي حنيفة، و زعم: أن من عقد على أمه، أو أخته، أو ابنته، وهو يعرفهن، ولا يجهل الرحم بينه وبينهن، ثم وطأهن، سقط عنه الحد، لموضع الشبهة زعم بالعقد. فجعل تعاظم الذنب مسقطا للعقاب، والاستخفاف بالشرع شبهة تبطل حدود الجنايات، وهذا هدم للإسلام. ومن غصب امرأة على نفسها، ووطأها مكرها لها، ضربت عنقه، محصنا كان، أو غير محصن. وإذا زنى اليهودي باليهودية أو النصرانية كان الإمام مخيرا بين إقامة الحد عليه بما تقتضيه شريعة الإسلام في أهله وبين تسليمه إلى أهل دينه أو دين المرأة، ليقيموا فيه حدود فعله عندهم. ومن زنى بأمة غيره حد كما يحد إذا زنى بالحرة، وتحد الأمة: تجلد خمسين سوطا. وحد العبد كحد الأمة: خمسون جلدة. وإذا زنى العبد أو الأمة، فأقيم عليهما الحد، ثم عاد إلى الزنى، أقيم عليهما الحد، فإن زنيا ثماني مرات بعد إقامة الحد عليهما سبع مرات قتلا في الثامنة بالسيف، وإن شاء الإمام قتلهما بالرجم، كما ذكرنا ذلك في باب الأحرار. ومن زنى بصبية حد، ولم تحد الصبية، لكنها تؤدب بما تنزجر به عن مثل ذلك الفعال. والمرأة إذا مكنت الصبي من وطئها بغير نكاح أقيم عليها الحد، ولم يقم على الصبي، لكنه يؤدب على ما ذكرناه. والمجنونة إذا فجر بها العاقل حد، ولم تحد هي. والمجنون إذا زنى أقيم عليه الحد، فجلد إن كان بكرا، وجلد ورجم إن كان محصنا. وليس حكمه حكم المجنونة، لأنه يقصد إلى الفعل بالشهوة، والمجنونة ربما كان الفعل بها، وهي مغلوبة. والمرأة العاقلة إذا أمكنت المجنون من نفسها ففجر بها حدت أيضا، وحد كما بيناه. والمسلم إذا زنى بالذمية حد على ذلك، وحدت أيضا. وإن شاء الإمام دفعها إلى أهل دينها، ليحكموا بما عندهم في شريعتهم. ومن عقد على امرأة، وهي في عدة من زوجها مع العلم بذلك، ثم وطأها، حد حد الزاني وتحد المرأة أيضا، ولا يلتفت إلى إنكارها العلم بتحريم ذلك إن أنكرته، وتجلد إن كانت في عدة ليس للزوج عليها فيها رجعة، وترجم إن كانت في عدة للزوج عليها فيها رجعة. والمكاتب إذا زنى جلد بحساب ما عتق منه بالأداء وحساب ما بقي عليه من الرق. وكذلك حكم المكاتبة إذا زنت. والمدبر رق، وأحكامه أحكام العبيد. وإذا زنى الرجل، وقد أملك بامرأة، وكان زناه قبل أن يدخل بها، جزت ناصيته، وجلد مائة جلدة، ونفي عن المصر حولا كاملا. وإن زنت المرأة، وهي مملكة قبل أن يدخل بها الزوج، جلدت مائة جلدة، وليس عليها جز ولا نفي. ويجلد الرجل في الزنى وغيره قائما. وتضرب المرأة في ثيابها، وهي جالسة قد ربطت في شئ يصونها، لئلا تنتهك، فتبدو عورتها. وإذا وجب على المرأة رجم حفر لها بئر إلى صدرها - كما يحفر للرجل - ثم تدفن فيها إلى وسطها، وترجم. هذا إن كان عليها شهود بالزنى. وإن كانت مقرة بلا شهود لم تدفن، وتركت - كما يترك الرجل - فإن خرجت هاربة لم ترد. وإذا أراد الإمام أو خليفته جلد الزانيين نادى بحضور جلدهما، فإذا أجتمع الناس جلدهما بمحضر منهم، لينزجر من يشاهدهما عن مثل ما أتياه، ويكونا عبرة لغيرهما، وموعظة لمن سواهما. قال الله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ". ولا ينبغي أن يحضر الجلد على الزناة إلا خيار الناس. ولا يرجمهم من في جنبه حد لله تعالى. وإذا زنى الرجل بجارية أبيه جلد الحد. وإن زنى الأب بجارية ابنه أو ابنته لم يجلد، لكنه يعزر بحسب ما يراه السلطان. ويجلد الزاني بجارية زوجته، كما يجلد إذا زنى بجارية الأجنبي من الناس. وإذا اشترك نفسان في ملك جارية، ثم وطأها أحدهما، جلد نصف الحد. ومن وطئ جارية في المغنم قبل أن يقسم عزره الإمام بحسب ما يراه من تأديبه، وقومها عليه، وأسقط من قيمتها سهمه، وقسم الباقي بين المسلمين. ولا يجوز إقامة الحدود على الجناة في أرض العدو وبلاده، مخافة أن يحملهم ذلك على اللحوق بالمشركين. ولا يقام الحد في البرد الشديد حتى تحمى الشمس، ولا في الحر الشديد وقت الهواجر، لئلا تتلف نفس المحدود. وإذا زنت المرأة، فحملت، وشربت دواء، فأسقطت، أقيم عليها حد الزنى، وعزرها الحاكم على جنايتها بسقوط الحمل حسب ما يراه في الحال من المصلحة لها ولغيرها من التأديب. وإذا زنت المرأة، وهي حامل، حبست حتى تضع حملها، وتخرج من مرض نفاسها، ثم يقام عليها الحد بعد ذلك. ومن زنى في شهر الصيام نهارا أقيم عليه الحد، وعوقب زيادة عليه، لانتهاكه حرمة شهر رمضان، وألزم الكفارة بالإفطار. وإن زنى ليلا كان عليه الحد والتعزير، ولم تكن عليه كفارة الإفطار. وكذلك الحكم في شارب الخمر في شهر رمضان، وكل من فعل شيئا من المخطورات، إن كان عليه فيه حد أقيم عليه وعزر، لانتهاكه حرمة شهر الصيام. ومن زنى في حرم الله و حرم رسوله عليه السلام أو في حرم إمام حد للزنى، وعزر، لانتهاكه حرمة حرم الله وأولياءه. وكذلك من فعل شيئا يوجب عليه حدا في مسجد أو موضع عبادة وجب عليه مع الحد التعزير. ويغلظ عقاب من أتى مخطورا في ليالي الجمع وأيامها، وليالي العبادات وأيامها، كليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر ويومه، ويوم سبعة وعشرين من رجب، وخمسة وعشرين من ذي القعدة، وليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول ويومه، وليلة الغدير ويومه، وليلة عاشوراء ويومه. ولا تقام الحدود في الحرم إلا على من انتهك حرماته بفعل ما يوجب عليه الحد فيه. ولا تقام الحدود في المساجد ولا في مشاهد الأئمة عليهم السلام. ومن فعل في المساجد أو المشاهد ما يوجب إقامة الحد عليه أقيم عليه الحد خارجا منها، ولم تقم عليه الحدود فيها إن شاء الله. وإذا فجر ذمي بمسلمة كان حده القتل. فإن أسلم عند إقامة الحد عليه قبل إسلامه، وأمضى فيه الحد بضرب عنقه، ولم يمنع إظهاره الإسلام من قتله، فإن كان قد أسلم فيما بينه وبين الله عز وجل فسيعوضه على قتله بأكثر مما ناله من الألم به، ويدخله الجنة بإسلامه. وإن كان إنما أراد دفع الحد عنه بإظهار خلاف ما يبطن من الكفر لم ينفعه ذلك، وأقيم حد الله تعالى عليه وإن رغم أنفه، وبطلت حيلته في دفع العقاب عنه. وإذا أقر الإنسان على نفسه بالزنى بامرأة بعينها، وكانت المرأة منكرة لدعواه عليها، أقيم عليه حدان: حد للقذف، وحد للزنى. وكذلك إن ادعت امرأة: أن إنسانا بعينه فجر بها، وأنكر ذلك الإنسان دعواها، أقيم عليها حدان للقذف والزنى، اللهم إلا أن يصدق كل واحد منهما صاحبه فيما ادعاه عليه، أو تقوم البينة بذلك، فيجب عليه الحد إذ ذاك حسب ما ذكرناه. وإذا زنى السكران أقيم عليه حدان - حد السكر، وحد الزنى - ولم يسقط عنه حد الزنى لسكره. وإذا قتل بما يكون الصاحي متعمدا به القتل في حكم الشرع حكم عليه بالعمد، وأقيم حد الله تعالى فيه، ولم يسقط عنه لسكره. ويحد الأعمى إذا زنى، ولا يقبل له عذر لعماه. وإذا ادعى: أنه اشتبه الأمر عليه، فظن أن التي وطأها زوجته، لم يسقط ذلك عنه الحد، لأنه قد كان ينبغي له أن يتحرز، ويتحفظ من الفجور، ولا يقدم على غير يقين. وقد روى أن امرأة تشبهت لرجل بجاريته، واضطجعت على فراشه ليلا، فظنها زوجته فوطأها من غير تحرز، فرفع خبره إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فأمر بإقامة الحد عليه سرا، وإقامة الحد عليها جهرا. والعقود الفاسدة تدرء الحدود إذا كانت مما يدخل في صحتها الشبهات. فأما العقود على ذوات الأرحام المحرمات في نص القرآن والسنة الظاهرة على الإجماع، وعلى ذوات العدد من النساء، فإنها لا تسقط حدا، لارتفاع الشبهة في فسادها عند جميع أهل الإسلام. ولا يحد من ادعى الزوجية إلا أن تقوم عليه بينة بخلاف دعواه. ولا حد مع الاضطرار والإجبار. وإنما تجب الحدود بالأفعال المحظورة على الاختيار. وإذا زنى السقيم، فخيف من تلف نفسه بضرب السياط، جمع له بعدد الحد من أجزاء السياط - وهو مائة جزء - ثم ضرب بها ضربة واحدة لا تبلغ بها تلف النفس. فإن كان ممن يجب عليه الرجم رجم وإن كان سقيما، لأن الغرض في الرجم إتلاف الأنفس بما اقترفته من الآثام. ومن افتض جارية بإصبعه ضرب من ثلاثين سوطا إلى ثمانين، عقوبة على ما جناه، وألزم صداق المرأة لذهابه بعذرتها. وإذا اجتمع على الإنسان ثلاثة حدود، كشرب الخمر والسرق والزنى، بدئ بحد الخمر، ثم بحد السرق، ثم بحد الزنى إن شاء الله.

 

[ 2 ] باب الحد في اللواط

واللواط هو الفجور بالذكران. وهو على ضربين أحدهما: إيقاع الفعل فيما سوى الدبر من الفخذين ففيه جلد مائة للفاعل والمفعول به إذا كانا عاقلين بالغين، ولا يراعى في جلدهما عدم الإحصان ولا وجوده - كما يراعى ذلك في الزنى - بل حدهما الجلد على هذا الفعل دون ما سواه. والثاني الإيلاج في الدبر ففيه القتل سواء كان المتفاعلان على الإحصان أو على غير الإحصان. ولا يجب حد اللواط إلا بإقرار، أو شهادة أربعة رجال مسلمين عدول بالرؤية للفعال. فإن شهد الأربعة على رؤيتهما في إزار واحد مجردين من الثياب، ولم يشهدوا برؤية الفعال، كان على الاثنين الجلد دون الحد - تعزيرا، وتأديبا - من عشرة أسواط إلى تسعة وتسعين سوطا بحسب ما يراه الحاكم من عقابهما في الحال، وبحسب التهمة لهما، والظن بهما السيئات. وإن شهدوا برؤية الفعال دون الإيقاب كان على كل واحد منها جلد مائة كما ذكرناه. فإن شهدوا برؤية الإيقاب، وعاينوا الفعل، كالميل في المكحلة، كان الحد هو القتل على ما قدمناه. والإمام مخير في القتل بين أن يستعمل فيه السيف فيضرب عنق المحدود، وبين أن يلقى عليه جدارا يتلف نفسه تحته، أو يلقيه من فوق جدار يكون هلاكه بذلك الإلقاء، أو يرميه بالأحجار حتى يموت، بذلك ثبت الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام. وإذا تلوط الرجل بصبي لم يبلغ الحلم أقيم على الرجل الحد، وأدب الصبي بما ينزجر به عن التمكين من نفسه لذلك الفعال. وإن وقع هذا الفعل بين صبيين لم يبلغا الحلم أدبا، ولم يبلغ في أدبهما الحد الواجب على الرجال. وإذا لاط المجنون حد - كما يحد في الزنى - لما تقدم به الذكر من حصول القصد منه إلى ذلك بالشهوة والاختيار. ولا يحد المجنون إذا ليط به - كما لا تحد المجنونة إذا زنى بها - لجواز أن يكونا مغلوبين في الحال بالجنة، ومسلوبي الاختيار. وإذا تلوط الذمي بالمسلم قتل الذمي على كل حال، وحد المسلم بما ذكرنا الحكم فيه، وفصلناه. وإذا لاط الذمي بالذمي كان الإمام بالخيار: إن شاء أقام عليهما حدود الإسلام، وإن شاء دفعهما إلى أهل دينهما، ليقيموا عليهما من الحد ما توجبه ملتهما في الأحكام. وإذا لاط المسلم بغلام، فأوقبه، ولم يقم عليه بينة بذلك ولا كان منه فيه إقرار فيقام فيه الحد بالقتل، ثم تاب من ذلك، أو لم يتب، حرم عليه بما فعله بالغلام نكاح أخته وابنته وأمه بعد ذلك، ولم تحل واحدة منهن له باستيناف عقد النكاح على حال. وهذا قد مضى فيما سلف، وأعدناه في هذا المكان للتأكيد والبيان. وإذا لاط رجل بعبده، وذكر العبد: أنه كان مكرها، صدق، ودرئ عنه الحد، وأقيم على السيد ما يوجبه حكم الإسلام من حد الفعال. وإذا تاب اللوطي قبل قيام البينة عليه بفعله عند السلطان سقط عنه الحد، ودرأت التوبة عنه العقاب. وكذلك إن تاب المفعول به فلا حد عليه وعقاب. وإن أحدثا التوبة بعد قيام البينة عليهما بالفعال كان السلطان بالخيار في العفو عنهما أو العقاب لهما، حسب ما يراه في الحال من التدبير والصلاح. فإن لم تظهر منهما توبة لم يجز إسقاط الحد عنهما مع التمكن منه والاختيار.

 

[ 3 ] باب الحد في السحق

وإذا قامت البينة على امرأتين بأنهما وجدتا في إزار واحد مجردتين من الثياب، وليس بينهما رحم يبيحهما ذلك، جلدت كل واحدة منهما دون الحد من عشر جلدات إلى تسع وتسعين جلدة. فإن قامت البينة عليهما بالسحق جلدت كل واحدة منهما مائة جلدة - حد الزانية والزاني - محصنتين كانتا أو على غير إحصان. فإن قامت البينة عليهما بتكرر هذا الفعال منهما، ولم يكن منهما توبة منه، وكانتا فيه على الإصرار، كان للإمام قتلهما، كما أن له ذلك في حد اللواط. فإن تابتا قبل قيام البينة عليهما بذلك سقط عنهما الحد والعقاب. وإن تابتا بعد قيام البينة عليهما كان الإمام في العفو عنهما والعقاب لهما بالخيار على ما قدمناه في باب الزنى واللواط. فإن لم تظهر منهما التوبة قبل قيام البينة ولا بعدها وجب عليهما الحد، ولم يسقط مع التمكن منه والاختيار. ويجب حد السحق واللواط بالإقرار - كما يجب حد الزنى بذلك - ولا يجب حتى يكون الإقرار به مع الاختيار أربع مرات، كما يجب حد الزنى بإقرار أربع مرات. والبينة فيه بشهادة أربعة رجال عدول من أهل الإسلام، كما تكون البينة في الزنى واللواط على ما ذكرناه. وإذا كان السحق بين امرأة وصبية كان الحد على المرأة دون الصبية، وكان على الصبية التعزير، كما ذكرناه في باب الزنى واللواط. فإن كان بين صبيتين لم يكن عليهما حد كامل، وأدبتا بحسب ما يراه السلطان. وإن كان بين مجنونتين حدت الفاعلة دون المفعول بها. وإن كان بين مجنونة وعاقلة فالحكم فيه ما تقدم: تحد الفاعلة دون المفعول بها، لما ذكرناه فيما سلف من الاعتلال. وإذا كان السحق بين المرأة وجاريتها فادعت الجارية إكراها من السيدة لها درئ عنها الحد، وحدت السيدة بما ذكرناه.

 

[ 4 ] باب الحد في نكاح البهائم والاستمناء بالأيدي ونكاح الأموات

ومن نكح بهيمة وجب عليه التعزير بما دون الحد في الزنى واللواط، ويغرم ثمن البهيمة لصاحبها. فإن كانت البهيمة مما يقع عليها الذكاة - كالشاة، والبقرة، والبعير، وحمر الوحش، والغزلان - ذبحت، وحرقت بالنار، لئلا يأكل من لحمها أحد من الناس. وليس ذبحها وتحريقها على وجه العقاب، لأنها مما لا تستحق العقاب، لكنه لدفع العار عن صاحبها بوجودها، ومنع الناس من أكل لحمها بعد الذبح لها، لما يحصل بها من التنجيس بفاحش الفعال. وإن كانت مما لا يقع عليها الذكاة - كالدواب، والحمر الأهلية، والبغال، وأشباه ذلك - أخرجت من البلد الذي كان الفعل بها فيه إلى بلد آخر لا يعرف أهله ما فعل بها ولا ما كان، لتزول الشنعة بها عن صاحبها والفاعل أيضا، ولا يعيرا بها في الناس. وإن كانت البهيمة ملكا للفاعل بها ذبحت إن كانت مما تقع عليها الذكاة، وحرقت بعد ذلك بالنار، كما يفعل بما لا يملكه من ذلك. وإن كانت مما لا تقع عليه الذكاة أخرجت إلى بلد آخر، وبيعت هناك، وتصدق بثمنها، ولم يعط صاحبها شيئا منه، عقوبة له على ما جناه، ورجاء لتكفير ذنبه بذلك بالصدقة عنه بثمنها على المساكين والفقراء. وإن كانت البهيمة لغير الفاعل بها أغرم لصاحبها ثمنها، وكان الحكم فيه ما ذكرناه، من ذبح ما تقع عليه الذكاة وتحريقه بالنار، ليزول أثره من الناس، وإخراج ما لا تقع عليه الذكاة إلى بلد آخر ليباع فيه، ويتصدق بثمنه على الفقراء. ومن نكح امرأة ميتة كان الحكم عليه الحكم في ناكح الحية سواء، وتغلظ عقوبته، لجرأته على الله عز وجل في انتهاك محارمه، والاستخفاف بما عظم فيه الزجر ووعظ به العباد، اللهم إلا أن يكون الميتة زوجة توفيت في حباله، أو أمة في ملكه، فلا يحد حد الزاني، بل يعاقبه الإمام بما يراه مردعا له عما أتاه. وكذلك حكم المتلوط بالأموات من الذكران، وعقابه في الدنيا والآخرة أعظم من عقاب فاعل ذلك بالأحياء. والبينة على ناكح البهيمة شهادة رجلين مسلمين عدلين. وكذلك في الموتى. والفرق بين ذلك وبين ما يوجب الحد في الزنى واللواط بالأحياء: أن الحد في فعلهما يتوجه على نفسين، وهو حدان، لكل واحد منهما حد، وليس في نكاح البهيمة والأموات أكثر من حد واحد لنفس واحدة. وإذا استمنى الرجل بيده - وهو أن يعبث بذكره حتى يمني - كان عليه التعزير، وتضرب يده التي فعل بها ذلك، ولا ينتهى في تعزيره بالضرب إلى الحد في الفجور. وقد روي: أن رجلا استمنى على عهد أمير المؤمنين عليه السلام، فرفع خبره إليه، فأمر بضرب يده بالدرة حتى احمرت، ثم سئل عنه أمتأهل هو أم عزب؟ فعرف أنه عزب، فأمره بالنكاح، فأخبره بعدم الطول إليه بالفقر، فاستتابه مما فعل، وزوجه، وجعل مهر المرأة من بيت المال. والشهادة على المستمني تقوم برجلين مسلمين عدلين، كما قدمنا ذكره. ولا تقبل في ذلك شهادة النساء.

 

[ 5 ] باب الحد في القيادة والجمع بين أهل الفجور

ومن قامت عليه البينة بالجمع بين النساء والرجال أو الرجال والغلمان للفجور كان على السلطان أن يجلده خمسا وسبعين جلدة، ويحلق رأسه، ويشهره في البلد الذي يفعل ذلك فيه. وتجلد المرأة إذا جمعت بين أهل الفجور لفعلها كذلك، لكنه لا يحلق رأسها، ولا تشهر، كشهرة الرجال. فإن عاد المجلود على ذلك بعد العقاب عليه جلد، كما جلد أول مرة، ونفي عن المصر الذي هو فيه إلى غيره. ومن رمى إنسانا بالقيادة، أو نبزه بها من غير بينة عليه بذلك، عزر بالأدب، وزجر عن أذى الناس بالقبيح.

 

[ 6 ] باب الحد في الفرية، والسب، والتعريض بذلك، والتصريح والشهادة بالزور

ومن افترى على رجل حر مسلم فقذفه بالزنى كان عليه الحد في ذلك ثمانون جلدة، ولا يضرب كالضرب في الزنى، بل يكون أخف من ذلك وأقل إيلاما منه، وكذلك إن قذف امرأة حرة مسلمة بالزنى فحده ثمانون جلدة. ولا يجوز للسلطان العفو عن هذا الحد، سواء تاب القاذف ورجع عن فريته، أو لم يتب. فإن عفا المقذوف عنه سقط الحد عن القاذف بعفوه عنه. ولا يجب الحد في القذف إلا ببينة عادلة - والبينة شهادة رجلين مسلمين عدلين - أو بإقرار من القاذف به مرتين. ومن قذف مسلما لم تقبل له شهادة بعد القذف إلا أن تظهر توبته بتكذيبه نفسه في المقام الذي قذف فيه. ومن قذف عبدا أو ذميا بالزنى وجب عليه التعزير بما دون الحد. والقذف باللواط كالقذف بالزنى، والحد فيهما سواء. ومن قذف عبدا مسلما، أو أمة مسلمة، أو قذف ذميا بالزنى واللواط، لم يحد لذلك، لكنه يضرب تأديبا بحسب ما يراه السلطان. وإذا قذف الذمي مسلما، أو عرض به، كان دمه بذلك هدرا على كل حال. والعبد والأمة إذا قذفا الحر المسلم جلدا حد الفرية، ثمانين سوطا. وإذا تقاذف العبيد والإماء وجب عليهم التعزير دون الحد على الكمال. وإذا قال القائل لغيره: " يا زان " فهو قاذف له. وكذلك إن قال له: " يا لوطي ". وإن قال له: " قد زنيت " كان مثل ذلك في القذف. وإن قال له: " قد لطت " فهو قاذف له باللواط. وإذا قال الإنسان للحر المسلم: " قد زنيت بفلانة "، وكانت المرأة حرة مسلمة، وجب عليه حدان: حد لقدفه الرجل، وحد لقذفه المرأة. وكذلك إن قال له: " قد لطت بفلان " فعليه لهما حدان. فإن كانت المرأة المقذوفة ذمية أو أمة، وكان المقذوف باللواط ذميا أو عبدا، كان على القاذف حد لقذفه الحر، وتعزير لقذفه الذمي أو الرق. وكذلك إن قال له: " زنيت بفلانة " وكانت صبية، أو " لطت بفلان "، وكان فلان صبيا، كان عليه حد واحد للبالغ، وتعزير لقذفه الصبي. وإذا قذفت المرأة الرجل أو المرأة فعليها من حد القذف ما على الرجل، ثمانون جلدة. وإذا قال الإنسان للحر المسلم: " يا ابن الزانية "، وكانت الأم المقذوفة بالزنى حية، فلها المطالبة بحقها في إقامة الحد عليه بقذفها، ولها العفو. وإن كانت ميتة كان لابنها المطالبة بحقها في إقامة الحد على قاذفها، وكان إليه العفو عن ذلك. وكذلك إذا قال: " يا ابن الزاني "، وكان الأب حيا، فالحق له. وإن كان ميتا قام الابن مقامه. فإن قال له: " زنت بك أمك " كان له الحق في حده، سواء كانت أمه حية أو ميتة. وإذا قال: " يا ابن الزانيين " فقد وجب عليه حدان لفريته على نفسين. فإن كان أبواه حيين فالحق لهما. وإن كانا ميتين فله المطالبة عنهما بإقامة حدين على القاذف، وهما مأة وستون جلدة. وقول القائل لغيره: " يا ولد زنى " مثل قوله: " زنت بك أمك " في القذف سواء. فإن قال له: " يا أخا الزانية "، أو " أختك زانية " وكانت أخته حية، فالحق لها في الحد والعفو عنه. وإن كانت ميتة ناب عنها في المطالبة بحقها. فإن قذف ابنته كان الحق له، سواء كانت البنت حية أو ميتة، إلا أن تسبقه بالعفو عنه، وهي مالكة لأمرها بالبلوغ وكمال العقل، فلا يكون له عليه حق في حده. فإن قذف زوجته فقال له: " يا زوج الزانية " أو " زوجتك زانية "، وكانت الزوجة حية، فالحق لها. وإن كانت ميتة فالحق لورثتها. وليس للزوج حق في الحد على ذلك. وقذف عمة الإنسان وخالته وقراباته كقذف أخواته، فإن كن أحياء فهن بالخيار بين المطالبة بحقوقهن أو العفو. وإن كن موتى طالب عنهن أولى الناس بهن من ذوي الأرحام. ومن قال لرجل: " أبوك لائط، أو أخوك، أو ابنك، أو فلان قرابتك " فالحق لهم إن كانوا أحياء. وإن كانوا موتى قام أولى الناس بهم من ذوي أرحامهم مقامهم في المطالبة بالحق عنهم. والقذف بالزنى واللواط يوجب الحد على القاذف بهما، بأي لسان كان به قاذفا، وبأي لغة قذف وافترى. وفي التعريض بالقذف دون التصريح به التعزير دون الحد. وإذا تواضع أهل بلد أو لغة على لفظ يفيد مفاد القذف بالزنى واللواط على التصريح، فاستعمله إنسان منهم، كان قاذفا، ووجب عليه الحد به، كما يجب بالقذف الصريح في اللغة واللسان. وإذا قال الإنسان لغيره: " يا قرنان "، وكان هذا اللفظ موضوعا بين أهل الوقت أو الناحية على قذف الزوجة بالزنى، حكم عليه بما يحكم على من قال لصاحبه: " زوجتك زانية ". وكذلك إذا قال له: " يا ديوث ". وإذا قال له: " يا كشخان "، وقصد بذلك على عرفه رمي أخته بالزنى، كان قاذفا، ووجب عليه الحد، كما يجب عليه إذا قال له: " أختك زانية ". فإن تلفظ بهذه الألفاظ من لا يعرف التواضع عليها لما ذكرناه، وكانت عنده موضوعة لغير ذلك من الأعراض، لم يكن بها قاذفا، ولم يجب عليه بها حد المفتري، ولكن ينظر في معناها عنده على عادته، فإن كان جميلا لم يكن بذلك عليه تبعة، وإن كان قبيحا لاحقا بالسباب الذي لا يفيد القذف بالزنى واللواط عزر عليها، وأدب تأديبا يردعه عن العود إلى أذى المسلمين. ومن قذف المسلمين بشئ من القبائح سوى الزنى واللواط - من سرق وخيانة وشرب خمر وأشباه ذلك - فإنه لا يوجب حد الفرية بالزنى واللواط، ولكن يوجب التعزير والأدب بحسب ما يراه السلطان. وقول القائل لصاحبه: " أنت ولد حرام " أو " ولد خبث " أو " حملت بك أمك في حيضها "، لا يوجب حد الفرية بالزنى، لكنه يوجب الأدب الموجع، والتعزير المردع. وشاهد الزور يجب عليه العقاب بما دون حد القذف، وينبغي للسلطان أن يشهره في المصر ليعرفه الناس بذلك، فلا يسمع منه قول، ولا يلتفت إليه في شهادة، ويحذره المسلمون. وقول القائل للمسلم: " أنت خسيس " أو " وضيع " أو " رقيع " أو " نذل أو " ساقط " أو " نجس " أو " رجس " أو " كلب " أو " خنزير " أو " مسخ " وما أشبه ذلك يوجب التعزير، والتأديب، وليس فيه حد محدود. فإن كان المقول له ذلك مستحقا للاستخفاف، لضلاله عن الحق، لم يجب على القائل له تأديب، وكان باستخفافه به مأجورا. ومن قال لغيره: " يا فاسق " وهو على ظاهر الإسلام والعدالة، وجب عليه أليم التأديب. فإن قال ذلك له، وهو على ظاهر الفسق، فقد صدق عليه، وأجر في الاستخفاف به. وإذا قال له: " يا كافر " وهو على ظاهر الإيمان، ضرب ضربا وجيعا، تعزيرا له بخطائه على ما قال. فإن كان المقول له جاحدا لفريضة عامة من فرائض الإسلام فقد أحسن المكفر له، وأجر بالشهادة عليه بترك الإيمان. وإذا واجه الإنسان غيره بكلام يحتمل السب له، ويحتمل غيره من المعاني والأعراض، كان عليه الأدب بذلك، إلا أن يعفو عنه الإنسان المخاطب، كما قدمناه. ومن عير إنسانا بشئ من بلاء الله عز وجل، أو أظهر عنه ما هو مستور من البلاء، وجب عليه بذلك التأديب وإن كان محقا فيما قال، لأذاه المسلمين بما يولمهم من الكلام، فإن كان المعير بذلك ضالا كافرا مخالفا لأهل الإيمان لم يستحق المعير له به أدبا على حال. وإذا قذف الإنسان جماعة بلفظ واحد فقال لهم - وهو حاضرون -: " يا زناة " أو " يا لاطة "، أو قال: " الجماعة الفلانية لاطة، أو زناة "، فقد وجب عليه لكل واحد منهم حد. فإن جاؤوا به مجتمعين حد لهم حدا واحدا، وناب ذلك عن حقوق جماعتهم عليه. وإن جاؤوا به متفرقين حد لكل واحد منهم حدا. وكذلك إن سبهم بغير الزنى واللواط مما يوجب السب به التعزير، فجاؤوا به مجتمعين، عزر لجماعتهم بتعزير واحد. وإن جاؤوا به متفرقين عزر لكل واحد منهم تعزيرا على حدته. والشهادة فيما يوجب التعزير - كالشهادة فيما يوجب حد الفرية - تقوم برجلين مسلمين عدلين. والإقرار فيما يوجب ذلك مرتان على ما قدمناه. وكل شئ يؤذي المسلمين من الكلام دون القذف بالزنى واللواط ففيه أدب وتعزير على ما يراه سلطان الإسلام. وقد روي: أن رجلا قال لآخر: " إنني احتلمت البارحة في منامي بأمك " فاستعدى عليه إلى أمير المؤمنين عليه السلام وطلب إقامة الحد عليه، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إن شئت ضربت لك ظله، ولكني أحسن أدبه، لئلا يعود بعدها إلى أذى المسلمين. ثم أوجعه ضربا على سبيل التعزير. ولم يرد أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: " إن شئت ضربت لك ظله " أن ضرب الظل واجب، أو شئ ينتفع به، وإنما أراد أن الحلم لا يجب به حد، وحلم النائم في البطلان كضرب الظل الذي لا يصل ألمه إلى الإنسان. فنبهه عليه السلام على تجاهله بالتماس الحدود على الحلم في المنام، وضرب له في فهم ما أراد تفهيمه إياه هذا المثال. وإذا قذف ذمي ذميا بالزنى واللواط، وترافعا إلى سلطان الإسلام، أدب القاذف، ولم يحده كحد قاذف أهل الإسلام. فإن تساب أهل الذمة بما سوى القذف بالزنى واللواط مما يوجب فعله الحدود أدبوا على ذلك، كما يؤدب أهل الإسلام. فإن تسابوا بالكفر والضلال، أو تنابزوا بالألقاب، أو عير بعضهم بعضا بالبلاء، لم يؤدب أحد منهم على ذلك، إلا أن يثمر فسادا في البلاد فيدبر أمرهم حينئذ بما يمنع من الفساد. وإذا قامت البينة على إنسان بأنه اغتاب مسلما، أو نبزه بلقب مكروه، أدب على ذلك بما دون الحد. وإذا تساب الصبيان أدبوا على ذلك بما يردعهم من بعد عن السباب.

 

[ 7 ] باب الحد في السكر

وشرب المسكر والفقاع وأكل المخطور من الطعام والخمرة المحرمة بنص القرآن هي الشراب من العنب إذا بلغ من الشدة إلى حد يسكر الإنسان من شرب الكثير منه، سواء كان نيا مشمسا، أو مطبوخا، لا يختلف في استحقاق سمة الخمر عند أهل اللسان. قال الله عز وجل: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ". فوصفها تعالى بالنجاسة - وهي الرجاسة - وأضافها إلى أعمال الشيطان الملعون على أفعاله التي نهى عنها المؤمنين، وأمر باجتنابها أمرا على الوجوب، وكان ذلك مفيدا للنهي عنها بما يقتضي فيها التحريم. ثم أخبر " سبحانه " عن وخيم شربها وسوء عاقبتها، تأكيدا لتحريمها، فقال: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ". فمن شرب الخمر ممن هو على ظاهر الملة مستحلا لشربها خرج عن ملة الإسلام، وحل دمه بذلك، إلا أن يتوب قبل قيام الحد عليه، ويراجع الإيمان. ومن شربها محرما لذلك وجب عليه الحد ثمانون جلدة، كحد المفتري على السواء، إلا أن شارب الخمر يجلد عريانا على ظهره وكتفيه، والقاذف يجلد بثيابه جلدا دون جلد شارب الخمر. ولا يقبل في الشهادة على شرب الخمر أقل من شهادة رجلين مسلمين عدلين. والشهادة بقيها توجب الحد، كما توجبه الشهادة بشربها. والحد على من شرب منها قطرة واحدة كالحد على من شرب منها عشرين رطلا إلى أكثر من ذلك، لا يختلف في وجوبه ومقداره. ولا يحل لأحد أن يأكل طعاما فيه شئ من الخمر، سواء كان مطبوخا، أو غير مطبوخ. ولا يحل الاصطباغ بالخمر، ولا تناول دواء عجن بالخمر. ومن أكل طعاما فيه خمر أو دواء، أو اصطبغ به، جلد حد شارب الخمر ثمانين جلدة. وكل شراب مسكر فهو حرام، سواء كان من التمر، أو الزبيب، أو العسل، أو الحنطة، أو الشعير، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: كل مسكر خمر وكل خمر حرام. فمن شرب شيئا من المسكر سوى الخمرة بعينها وجب عليه الحد، كما يجب على شاربها، كما ذكرناه من اشتراكها في المعنى والاسم. وحد السكر من الشراب تغير العقل. وعلامة ذلك: أن يستقبح الإنسان ما يستحسنه في حال الصحو، ويستحسن ما يستقبحه فيها. فإن كان معروفا بالهدى والسكون في حال صحوه، فانحرف مع الشراب، وخرج من اللهو والبذلة إلى ما لا يعتاد منه في حال الصحو من غير تكلف لذلك، فهو سكران. ويجلد شارب الفقاع، كما يجلد شارب المسكر مما عددناه. وليست العلة في تحريم الفقاع علة تحريم المسكر، لأنه لا يولد الإسكار، وإنما حرم لأنه يفسد المزاج، ويورث موت الفجأة بظاهر الاعتبار، أو لما يعلمه الله تعالى من الفساد بشربه، كما يعلم من الفساد بشرب الدم وأكل الميتة وإن لم يكن بذلك سكر على حال. ولا ينبغي لمسلم أن يجالس شراب الخمور وسائر المسكرات في أحوال شربهم لذلك. ولا يجلس على الموائد التي تشرب عليها الخمور و شئ مما عددناه. ومن فعل ذلك مختارا وجب عليه التأديب بحسب ما يراه السلطان. ويجلد العبد في شرب الخمر والمسكر ثمانين جلدة، كما يجلد الحر المسلم سواء. وليس لأهل الذمة مجاهرة المسلمين بشرب الخمور والمسكر من الشراب. فإن فعلوا ذلك حدوا فيه كحدود أهل الإسلام. ومن استحل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير ممن هو مولود على فطرة الإسلام فقد ارتد بذلك عن الدين، ووجب عليه القتل بإجماع المسلمين. ومن تناول شيئا من ذلك على التحريم وجب عليه العقاب بالتعزير. فإن تاب بعد العقاب لم يكن عليه عهدة فيما مضى. وإن عاود إلى المخطور منه عوقب إلى أن يرعوي عنه. فإن استدام لأكل الميتة أو لحم الخنزير بعد الأدب عليه، ولم ينجع ذلك فيه، قتل، ليكون عبرة ينزجر بها أهل الضلال، ويمنع بها الجهال من الإهمال. وشارب الخمر إذا حد عليها مرتين، وعاد إلى شربها، قتل في الثالثة. ويحد شارب الخمر وجميع الأشربة المسكرة وشارب الفقاع عند إقرارهم بذلك، أو قيام البينة به عليهم، لا يؤخر ذلك. ولا يحد السكران من الأشربة المخطورة حتى يفيق. وسكره بينة عليه بشرب المحظور، ولا يرتقب بذلك إقرار منه في حال صحوه به، ولا شهادة من غيره عليه. ومن كان على ظاهر الملة، ثم استحل بيع الخمور، والأشربة المسكرة، والميتة، والدم ولحم الخنزير، والتجارة في ذلك، استتيب منه. فإن تاب وراجع الحق لم يكن عليه سبيل. وإن أقام على استحلال ذلك كان بحكم المرتد عن الدين الذي يجب عليه القتل، كوجوبه على المرتدين. ومن أكل الربوا بعد الحجة عليه في تحريمه عوقب على ذلك حتى يتوب منه، فإن استحله، وأقام عليه، ضربت عنقه. ومن اتجر في السموم القاتلة عوقب على ذلك، ومنع منه. فإن لم يمتنع، وأقام على بيعها، وعرف بذلك، ضربت عنقه. ويعزر آكل الجري، والمارماهي، والزمار، ومسوخ السمك كلها، وآكل مسوخ البر، وسباع الطير، وآكل الطحال من الأنعام، والقضيب، والأنثيين، ويؤدب على ذلك، ويستتاب منه. فإن عاد إليه عوقب حتى يتوب. فإن استحل شيئا من ذلك، وعاند الحق في التدين به، حل دمه لإمام المسلمين.

 

[ 8 ] باب الحد في السرق والخيانة والخلسة ونبش القبور والخنق والفساد في الأرضين

ومن سرق من حرز ربع دينار، أو ما قيمته ربع دينار، وجب عليه القطع. ولا يجب القطع إلا بشهادة رجلين مسلمين عدلين على الإنسان بأنه سرق من حرز ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار، أو بإقرار من حر عاقل بذلك مرتين. ويقطع السارق من أصول أصابع كفه اليمنى، ويترك له الراحة والإبهام، ويؤخذ منه ما سرق إن كان موجودا، فيرد على صاحبه، فإن كان قد أحدث فيه حدثا طولب بأرشه، وإن كان قد استهلكه أغرم قيمته. فإن سرق ثانية من حرز ما قيمته ربع دينار فصاعدا قطعت رجله اليسرى من أصل الساق، وترك له مؤخر القدم، ليعتمد عليه عند قيامه في الصلاة. فإن سرق ثالثة بعد قطع رجله اليسرى، وكانت سرقته من حرز ما قيمته ربع دينار، خلد في الحبس إلى أن يموت، أو يرى الإمام صلاحا منه وتوبة وإقلاعا، ويعلم أن في إطلاقه صلاحا، فلا بأس أن يخلي سبيله إذا كان الأمر على ما وصفناه. فإن سرق من الحبس من حرز ما قيمته ربع دينار ضربت عنقه. ولا يقبل إقرار العبد على نفسه بالسرق، ولا بالقتل، لأنه مقر بذلك على مال غيره، ليتلفه. فإن شهد عليه بالقتل أو السرق شهود حسب ذكرناه أقيمت الحدود عليه بالشهود دون الإقرار. وتقطع المرأة إذا سرقت كما يقطع الرجل سواء. والحكم عليها إذا تتابع سرقها كالحكم على الرجل فيما وصفناه. وإذا سرق الصبي أدب، ولم يقطع، وعزره الإمام بحسب ما يراه. ولا قطع على الرجل في سرقة مال ولده. ويقطع الولد إذا سرق مال والده. وتقطع المرأة إذا سرقت مال زوجها من حرز دونها. ويقطع الزوج إذا سرق مال زوجته المحرز عنه. ولا يقطع العبد إذا سرق من سيده، لكنه يعاقب بالتأديب. ولا يقطع السيد إذا سرق من عبده، ولا يؤدب على ذلك بعقاب. ولا يقطع المسلم إذا سرق من مال الغنيمة، لأن له فيه قسطا. ويقطع الكافر إذا سرق منه شيئا. وحد السرق على الذمي كحد المسلم فيه. ولا قطع على من سرق شيئا من الثمار في البساتين، ويقطع من سرق منها ما قيمته ربع دينار بعد إحرازها في البيوت. ومن سرق شيئا من جيب إنسان أو من كمه، وكان مقداره ربع دينار فصاعدا، قطع إن كان الكم أو الجيب باطنين، وإن كانا ظاهرين استرجع منه، وعزر، ولم يقطع. ولا يقطع السارق من الحمامات والخانات والمساجد، لأنها ليست بأحراز، إلا أن يكون الشئ محرزا في الحمام أو الخان، أو المسجد بشد، أو قفل، أو دفن، فيقطع إن كان قدره ربع دينار. ومن سرق حيوانا من حرز قيمته ربع دينار فصاعدا قطع. ولا يقطع الغريم إذا سرق مقدار حقه من غريمة، للشبهة في توصله إلى حقه بذلك. وإذا اشترك نفسان في سرقة شئ، من حرز، وكان قيمة الشئ ربع دينار فصاعدا، قطعا. فإن انفرد كل واحد منهما بسرقة بعضه دون بعض لم يقطعا، وأدبا بالتعزير. وفي الخيانة والخلسة العقوبة بما دون الحد. ويقطع النباش إذا سرق من الأكفان ما قيمته ربع دينار، كما يقطع غيره من السراق إذا سرقوا من الأحراز. وإذا عرف الإنسان بنبش القبور وكان قد فات السلطان ثلاث مرات، كان الحاكم فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء عاقبه، وقطعه، والأمر في ذلك إليه يعمل فيه بحسب ما يراه أزجر للعصاة، وأردع للجناة. وأهل الدغارة إذا جردوا السلاح في دار الإسلام، وأخذوا الأموال، كان الإمام مخيرا فيهم: إن شاء قتلهم بالسيف، وإن شاء صلبهم حتى يموتوا، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن شاء نفاهم عن المصر إلى غيره، ووكل بهم من ينفيهم عنه إلى ما سواه حتى لا يستقر بهم مكان إلا وهم منفيون عنه مبعدون إلى أن تظهر منهم التوبة والصلاح. فإن قتلوا النفوس مع إشهارهم السلاح وجب قتلهم على كل حال بالسيف أو الصلب حتى يموتوا، ولم يتركوا على وجه الأرض أحياء. والخناق يجب عليه القتل، ويسترجع منه ما أخذه من الناس، فيرد عليهم. فإن لم يوجد معه أغرم قيمته. وكذلك كل مفسد إذا أخذ مال غيره استرجع منه. فإن كان قد استهلكه أغرم قيمته لأربابه، إلا أن يعفوا عنه. فذلك لهم ليس عليهم فيه اعتراض. ومن بنج غيره، أو أسكره بشئ احتال عليه في شربه منه أو أكله، ثم أخذ ماله، عوقب على ذلك بما يراه الإمام من التعزير، واسترجع منه ما أخذه لصاحبه. فإن جنى البنج على الإنسان أو المسكر من الشراب جناية، لزمه أرشها بحسب ما يجب فيها لنقصان الجسم أو العقل أو الحواس. والمحتال على أموال الناس بالمكر والخديعة يغرم ما أتلفه، ويعاقب بما يردعه عن مثل ذلك في مستقبل الأحوال، ويشهره السلطان بالنكال، ليحذر منه الناس. والمدلس في الأموال والسلع حكمه حكم المحتال حسب ما بيناه.