عقائد الشيعة الإمامية | الشيخ المفيد | المقنعة

 

المقنعة

للشيخ المفيد

 

محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المتوفى 413 ه‍. ق

 

 

 

كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود

 

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والجهاد في الدين

قال الله عز وجل: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ". فمدحهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما مدحهم بالإيمان بالله تعالى، وهذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال تعالى فيما حض به على الأمر بالمعروف، وقد ذكر لقمان الحكيم ووصيته لابنه: " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ". وروي عن النبي صلى الله عليه وآله: أنه قال: لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر. فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت الأحياء. في كلام هذا ختامه. وقال الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام لقوم من أصحابه: إنه قد حق لي أن آخذ البرئ منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك، وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه، ولا تهجرونه، ولا تؤذونه حتى يتركه. فأوجب عليهم إنكار المنكر، وتوعدهم على تركه بما حذرهم منه، فالواجب على أهل الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان وشرط الصلاح. فإذا تمكن الإنسان من إنكار المنكر بيده ولسانه، وأمن في الحال ومستقبلها من الخوف بذلك على النفس والدين والمؤمنين، وجب عليه الإنكار بالقلب واليد واللسان. وإن عجز عن ذلك، أو خاف في الحال أو المستقبل من فساد بالإنكار باليد، اقتصر فيه على القلب واللسان. وإن خاف من الإنكار باللسان اقتصر على الإنكار بالقلب الذي لا يسع أحدا تركه على كل حال. ولانكار باليد يكون بما دون القتل والجراح - كما يكون بهما - وعلى الإنسان دفع المنكر بذلك في كل حال يغلب في ظنه زوال المنكر به. وليس له القتل والجراح إلا بإذن سلطان الزمان المنصوب لتدبير الأنام. فإن فقد الإذن بذلك لم يكن له من العمل في الإنكار إلا بما يقع بالقلب واللسان - من المواعظ بتقبيح المنكر، والبيان عما يستحق عليه من العقاب، والتخويف بذلك، وذكر الوعيد عليه - وباليد ما لم يؤد العمل بها إلى سفك الدماء، وما تولد من ذلك من إخافة المؤمنين على أنفسهم، والفساد في الدين. فإن خاف الإنسان من الإنكار باليد ذلك لم يتعرض له. وإن خاف بإنكار اللسان أيضا ما ذكرناه أمسك عن الإنكار به، واقتصر على إنكاره بالقلب. فأما إقامة الحدود: فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام، ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان. فمن تمكن من إقامتها على ولده وعبده، ولم يخف من سلطان الجور إضرارا به على ذلك، فليقمها. ومن خاف من الظالمين اعتراضا عليه في إقامتها، أو خاف ضررا بذلك على نفسه، أو على الدين، فقد سقط عنه فرضها. وكذلك إن استطاع إقامة الحدود على من يليه من قومه، وأمن بوائق الظالمين في ذلك، فقد لزمه إقامة الحدود عليهم، فليقطع سارقهم، ويجلد زانيهم، ويقتل قاتلهم. وهذا فرض متعين على من نصبه المتغلب لذلك على ظاهر خلافته له أو الإمارة من قبله على قوم من رعيته، فيلزمه إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار ومن يستحق ذلك من الفجار، ويجب على إخوانه من المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم ما لم يتجاوز حدا من حدود الإيمان، أو يكون مطيعا في معصية الله تعالى من نصبه من سلطان الضلال. فإن كان على وفاق للظالمين في شئ يخالف الله تعالى به لم يجز لأحد من المؤمنين معونته فيه، وجاز لهم معونته بما يكون به مطيعا لله تعالى من إقامة حد، وإنفاذ حكم على حسب ما تقتضيه الشريعة دون ما خالفها من أحكام أهل الضلال. وللفقهاء من شيعة الأئمة عليهم السلام أن يجمعوا بإخوانهم في الصلوات الخمس، وصلوات الأعياد، والاستسقاء، والكسوف، والخسوف، إذا تمكنوا من ذلك، وأمنوا فيه من معرة أهل الفساد. ولهم أن يقضوا بينهم بالحق، ويصلحوا بين المختلفين في الدعاوى عند عدم البينات، ويفعلوا جميع ما جعل إلى القضاة في الإسلام، لأن الأئمة عليهم السلام قد فوضوا إليهم ذلك عند تمكنهم منه بما ثبت عنهم فيه من الأخبار، وصح به النقل عند أهل المعرفة به من الآثار. وليس لأحد من فقهاء الحق، ولا من نصبه سلطان الجور منهم للحكم، أن يقضي في الناس بخلاف الحكم الثابت عن آل محمد عليهم السلام، إلا أن يضطر إلى ذلك، للتقية، والخوف على الدين والنفس. ومهما اضطر إليه في التقية فجائز له إلا سفك دماء أهل الإيمان، فإنه لا يجوز له على حال اضطرار، ولا اختيار، ولا على وجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب. ومن ولي ولاية من قبل الظالمين، فاضطر إلى إنفاذ حكم على رسم لهم لا يجوز في الدين مع الاختيار، فالتقية توسع عليه ذلك فيما قد رسمه غيره من الناس، ولا يجوز له استينافه على الابتداء. ولا يجوز له إنفاذ رسم باطل مع الاختيار على حال ولا تقية في الدماء خاصة على ما ذكرناه، وبينا القول فيه، وأكدناه. ولا يجوز لأحد أن يختار النظر من قبل الفاسقين في شئ من تدبير العباد والبلاد إلا بشرط بذل الجهد منه في معونة أهل الإيمان، والصيانة لهم من الأسواء، وإخراج الخمس من جميع ما يستفيده بالولاية من الأموال وغيرها من سائر الأعراض. ومن تأمر على الناس من أهل الحق بتمكين ظالم له، وكان أميرا من قبله في ظاهر الحال، فإنما هو أمير في الحقيقة من قبل صاحب الأمر - الذي سوغه ذلك، وأذن له فيه - دون المتغلب من أهل الضلال. وإذا تمكن الناظر من قبل أهل الضلال على ظاهر الحال من إقامة الحدود على الفجار، وإيقاع الضرر المستحق على أهل الخلاف، فليجتهد في إنفاذ ذلك فيهم، فإنه من أعظم الجهاد. ومن لم يصلح للولاية على الناس لجهل بالأحكام، أو عجز عن القيام بما يسند إليه من أمور الناس، فلا يحل له التعرض لذلك والتكلف له، فإن تكلفه فهو عاص غير مأذون له فيه من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولايات. ومهما فعله في تلك الولاية فإنه مأخوذ به، محاسب عليه، ومطالب فيه بما جناه، إلا أن يتفق له عفو من الله تعالى، وصفح عما ارتكبه من الخلاف له، وغفران لما أتاه.