عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ المظفر
|
|
عقيدتنا في الرجعة
إن الذي تذهب إليه الإمامية أخذا بما جاء عن آل البيت عليهم السلام أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعز فريقا ويذل فريقا آخر، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون:
"قَالُوا
رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ". والقول بالرجعة يعد عند أهل السنة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها، وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يعدون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها. ويبدو أنهم يعدونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنع به عليهم. ولا شك في أن هذا من نوع التهويلات التي تتخذها الطوائف الإسلامية فيما غبر ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضده. ولا نرى في الواقع ما يبرر هذا التهويل، لأن الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد ولا في عقيدة النبوة، بل يؤكد صحة العقيدتين، إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله تعالى كالبعث والنشر، وهي من الأمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة لنبينا محمد وآل بيته صلى الله عليه وعليهم وهي عينا معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح عليه السلام، بل أبلغ هنا لأنها بعد أن يصبح الأموات رميما "قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ". وأما من طعن في الرجعة باعتبار أنها من التناسخ الباطل، فلأنه لم يفرق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني، والرجعة من نوع المعاد الجسماني، فإن معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الأول، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني، فإن معناه رجوع نفس البدن الأول بمشخصاته النفسية فكذلك الرجعة. وإذا كانت الرجعة تناسخا فإن إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام كان تناسخا، وإذا كانت الرجعة تناسخا كان البعث والمعاد الجسماني تناسخا. إذن، لم يبق إلا أن يناقش في الرجعة من جهتين (الأولى) أنها مستحيلة الوقوع (الثانية) كذب الأحاديث الواردة فيها. وعلى تقدير صحة المناقشتين فإنه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هو لها خصوم الشيعة. وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين هي من الأمور المستحيلة أو التي لم يثبت فيها نص صحيح، ولكنها لم توجب تكفيرا وخروجا عن الإسلام، ولذلك أمثلة كثيرة: منها الاعتقاد بجواز سهو النبي أو عصيانه، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن. ومنها القول بالوعيد، ومنها الاعتقاد بأن النبي لم ينص على خليفة من بعده. على أن هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحة، أما أن الرجعة مستحيلة فقد قلنا أنها من نوع البعث والمعاد الجسماني غير أنها بعث موقوت في الدنيا، والدليل على إمكان البعث دليل على إمكانها. ولا سبب لاستغرابها إلا أنها أمر غير معهود لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا، ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقربها إلى اعترافنا أو يبعدها وخيال الانسان لا يسهل عليه أن يتقبل تصديق ما لم يألفه، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول "مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" فيقال له: " يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ". نعم في مثل ذلك، مما لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته أو نتخيل عدم وجود الدليل، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الإلهي، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الأموات كمعجزة عيسى عليه السلام في إحياء الموتى "وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ" وكقوله تعالى "أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ" والآية المتقدمة "قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ..." فإنه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، وإن تكلف بعض المفسرين في تأويلها بما لا يروي الغليل ولا يحقق معنى الآية. وأما المناقشة الثانية، وهي دعوى أن الحديث فيها موضوع، فإنه لا وجه لها لأن الرجعة من الأمور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الأخبار المتواترة. وبعد هذا، أفلا تعجب من كاتب شهير يدعي المعرفة مثل أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) إذ يقول: "فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة"، فأنا أقول له على مدعاه: فاليهودية أيضا ظهرت في القرآن بالرجعة، كما تقدم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدمة. ونزيده فنقول: والحقيقة أنه لا بد أن تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من المعتقدات والأحكام الإسلامية لأن النبي الأكرم جاء مصدقا لما بين يديه من الشرائع السماوية وإن نسخ بعض أحكامها، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الإسلامية ليس عيبا في الإسلام، على تقدير أن الرجعة من الآراء اليهودية كما يدعيه هذا الكاتب. وعلى كل حال فالرجعة ليست من الأصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها، وإنما اعتقادنا بها كان تبعا للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت عليهم السلام الذين ندين بعصمتهم من الكذب، وهي من الأمور الغيبية التي أخبروا عنها، ولا يمتنع وقوعها.
روي عن صادق آل البيت عليه السلام في الأثر الصحيح: " التقية ديني ودين آبائي " و " من لا تقية له لا دين له ". وكذلك هي، لقد كانت شعارا لآل البيت عليهم السلام، دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم وحقنا لدمائهم، واستصلاحا لحال المسلمين وجمعا لكلمتهم، ولما لشعثهم. وما زالت سمة تعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأمم وكل إنسان إذا أحس بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي في مواضع الخطر. وهذا أمر تقضيه فطرة العقول ومن المعلوم أن الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة أو أمة أخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية بمكاتمة المخالفين لهم وترك مظاهرتهم وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا. ولهذا السبب امتازوا (بالتقية) وعرفوا بها دون سواهم. وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية. وليست هي بواجبة على كل حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للاسلام، وجهاد في سبيله، فإنه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعز النفوس. وقد تحرم التقية في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة أو رواجا للباطل، أو فسادا في الدين، أو ضررا بالغا على المسلمين بإضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم. وعلى كل حال ليس معنى التقية عند الإمامية أنها تجعل منهم جمعية سرية لغاية الهدم والتخريب، كما يريد أن يصورها بعض أعدائهم غير المتورعين في إدراك الأمور على وجهها، ولا يكلفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا. كما أنه ليس معناها أنها تجعل الدين وأحكامه سرا من الأسرار لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به، كيف وكتب الإمامية ومؤلفاتهم فيما يخص الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحد الذي ينتظر من أية أمة تدين بدينها. بلى ! إن عقيدتنا في التقية قد استغلها من أراد التشنيع على الإمامية، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم، وكأنهم كان لا يشفى غليلهم إلا أن تقدم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الأمويين والعباسيين، بله العثمانيين. وإذا كان طعن من أراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية، فإنا نقول له: أولا: أننا متبعون لأئمتنا عليهم السلام ونحن نهتدي بهداهم، وهم أمرونا بها وفرضوها علينا وقت الحاجة، وهي عندهم من الدين وقد سمعت قول الصادق عليه السلام: "من لا تقية له لا دين له". وثانيا: قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ذلك قوله تعالى:"إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ" وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفا من أعداء الإسلام، وقوله تعالى: "إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً"، وقوله تعالى: "وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ".
|
|