عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ المظفر
|
|
عقيدتنا في زيارة القبور
ومما امتازت به الإمامية العناية بزيارة القبور (قبور النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام) وتشييدها وإقامة العمارات الضخمة عليها، ولأجلها يضحون بكل غال ورخيص عن إيمان وطيب نفس. ومرد كل ذلك إلى وصايا الأئمة، وحثهم شيعتهم على الزيارة، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى، باعتبار أنها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة، وباعتبار أن هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء الانقطاع إلى الله تعالى. وجعلوها أيضا من تمام الوفاء بعهود الأئمة، (إذ أن لكل إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته، وأن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة). وفي زيارة القبور من الفوائد الدينية والاجتماعية ما تستحق العناية من أئمتنا، فإنها في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبة بين الأئمة وأوليائهم، وتجدد في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل الحق - تجمع في مواسمها أشتات المسلمين المتفرقين على صعيد واحد، ليتعارفوا ويتآلفوا، ثم تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله تعالى والانقطاع إليه وطاعة أوامره، وتلقنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسية الإسلام والرسالة المحمدية، وما يجب على المسلم من الخلق العالي الرصين والخضوع إلى مدبر الكائنات وشكر آلائه ونعمه، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الأدعية المأثورة التي تقدم الكلام عليها، بل بعضها يشتمل على أبلغ الأدعية وأسماها كزيارة (أمين الله) وهي الزيارة المروية عن الإمام زين العابدين عليه السلام حينما زار قبر جده أمير المؤمنين عليه السلام كما تفهم هذه الزيارات المأثورة مواقف الأئمة عليهم السلام وتضحياتهم في سبيل نصرة الحق وإعلاء كلمة الدين وتجردهم لطاعة الله تعالى، وقد وردت بأسلوب عربي جزل، وفصاحة عالية، وعبارات سهلة يفهمها الخاصة والعامة، وهي محتوية على أسمى معاني التوحيد ودقائقه والدعاء والابتهال إليه تعالى. فهي بحق من أرقى الأدب الديني بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والأدعية المأثورة عنهم، إذ أودعت فيها خلاصة معارف الأئمة عليهم السلام فيما يتعلق بهذه الشئون الدينية والتهذيبية. ثم إن في آداب أداء الزيارة أيضا من التعليم والارشاد ما يؤكد من تحقيق تلك المعاني الدينية السامية، من نحو رفع معنوية المسلم وتنمية روح العطف على الفقير، وحمله على حسن العشرة والسلوك والتحبب إلى مخالطة الناس. فإن من آدابها ما ينبغي أن يصنع قبل البدء بالدخول في (المرقد المطهر) وزيارته. ومنها ما ينبغي أن يصنع في أثناء الزيارة وفيما بعد الزيارة. ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب للتنبيه على مقاصدها التي قلناها: 1 - من آدابها أن يغتسل الزائر قبل الشروع بالزيارة ويتطهر، وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحة، وهي أن ينظف الانسان بدنه من الأوساخ ليقيه من كثير من الأمراض والأدواء، ولئلا يتأفف من روائحه الناس وأن يطهر نفسه من الرذائل. وقد ورد في المأثور أن يدعو الزائر بعد الانتهاء من الغسل لغرض تنبيهه على تلكم الأهداف العالية فيقول: (اللهم اجعل لي نورا وطهورا وحرزا كافيا من كل داء وسقم ومن كل آفة وعاهة، وطهر به قلبي وجوارحي وعظامي ولحمي ودمي وشعري وبشري ومخي وعظمي وما أقلت الأرض مني، واجعل لي شاهدا يوم حاجتي وفقري وفاقتي). 2 - أن يلبس أحسن وأنظف ما عنده من الثياب، فإن في الأناقة في الملبس في المواسم العامة ما يحبب الناس بعضهم إلى بعض ويقرب بينهم ويزيد في عزة النفوس والشعور بأهمية الموسم الذي يشترك فيه. ومما ينبغي أن نلفت النظر إليه في هذا التعليم أنه لم يفرض فيه أن يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم، بل يلبس أحسن ما يتمكن عليه. إذ ليس كل أحد يستطيع ذلك وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة فقد جمع هذا الأدب بين ما ينبغي من الأناقة وبين رعاية الفقير وضعيف الحال. 3 - أن يتطيب ما وسعه الطيب. وفائدته كفائدة أدب لبس أحسن الثياب. 4 - أن يتصدق على الفقراء بما يعن له أن يتصدق به. ومن المعلوم فائدة التصديق في مثل هذه المواسم، فإن في معاونة المعوزين وتنمية روح العطف عليهم. 5 - أن يمشي على سكينة ووقار غاضا من بصره. وواضح ما في هذا من توقير للحرم والزيارة وتعظيم للمزور وتوجه إلى الله تعالى وانقطاع إليه، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور وعدم إساءة بعضهم إلى بعض. 6 - أن يكبر بقول: " الله أكبر " ويكرر ذلك ما شاء. وقد تحدد في بعض الزيارات إلى أن تبلغ المائة. وفي ذلك فائدة إشعار النفس بعظمة الله وأنه لا شئ أكبر منه. وأن الزيارة ليست إلا لعبادة الله وتعظيمه وتقديسه في إحياء شعائر الله وتأييد دينه. 7 - وبعد الفراغ من الزيارة للنبي أو الإمام يصلي ركعتين على الأقل، تطوعا وعبادة لله تعالى ليشكره على توفيقه إياه، ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور. وفي الدعاء المأثور الذي يدعو به الزائر بعد هذه الصلاة ما يفهم الزائر، إن صلاته وعمله إنما هو لله وحده وإنه لا يعبد سواه، وليست الزيارة إلا نوع التقرب إليه تعالى زلفى، إذ يقول: "اللهم لك صليت ولك ركعت ولك سجدت وحدك لا شريك لك، لأنه لا تكون الصلاة والركوع والسجود إلا لك، لأنك أنت الله لا إله إلا أنت. اللهم صل على محمد وآل محمد، وتقبل مني زيارتي وأعطني سؤلي بمحمد وآله الطاهرين". وفي هذا النوع من الأدب ما يوضح لمن يريد أن يفهم الحقيقة عن مقاصد الأئمة وشيعتهم تبعا لهم في زيارة القبور، وما يلقم المتجاهلين حجرا حينما يزعمون أنها عندهم من نوع عبادة القبور والتقرب إليها والشرك بالله. وأغلب الظن إن غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة الإمامية من الفوائد الاجتماعية الدينية في مواسم الزيارات، إذ أصبحت شوكة في أعين أعداء آل بيت محمد، وإلا فما نظنهم يجهلون حقيقة مقاصد آل البيت فيها. حاشا أولئك الذين أخلصوا لله نياتهم وتجردوا له في عباداتهم، وبذلوا مهجهم في نصرة دينه أن يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله. 8 - ومن آداب الزيارة: أن يلزم للزائر حسن الصحبة لمن يصحبه وقلة الكلام إلا بخير، وكثرة ذكر الله، والخشوع وكثرة الصلاة والصلاة على محمد وآل محمد، وأن يغض من بصره، وأن يعدو إلى أهل الحاجة من إخوانه إذا رأى منقطعا، والمواساة لهم، والورع عما نهى عنه وعن الخصومة وكثرة الإيمان والجدال الذي فيه الإيمان. ثم أنه ليست حقيقة الزيارة إلا السلام على النبي أو الإمام باعتبار أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فهم يسمعون الكلام ويردون الجواب: ويكفي أن يقول فيها مثلا: "السلام عليك يا رسول الله" غير أن الأولى أن يقرأ فيها المأثور الوارد من الزيارات عن آل البيت، لما فيها -كما ذكرنا- من المقاصد العالية والفوائد الدينية، مع بلاغتها وفصاحتها، ومع ما فيها من الأدعية العالية التي يتجه بها الانسان إلى الله تعالى وحده.
|
|