عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 77 - 83
وأما الكلام في اللطف (فيحتاج أن نبين أولا ما اللطف وما حقيقته) واللطف في عرف المتكلمين عبارة عما يدعو إلى فعل واجب أو يصرف عن قبيح، وهو على ضربين: أحدهما أن يقع عنده الواجب ولولاه لم يقع فيسمى توفيقا، والآخر ما يكون عنده أقرب إلى فعل الواجب أو ترك القبيح وإن لم يقع عنده الواجب ولا أن يقع القبيح فلا يوصف بأكثر من أنه لطف لا غير، وما كان المعلوم أنه يرتفع عنده القبيح ولولاه لم يرتفع يسمى عصمة، وإن كان عنده أقرب إلى أن لا يقع عنده القبيح سمي لطفا لا غير، واللطف منفصل من التمكين، ويوصف اللطف بأنه صلاح في الدين وأما ما يدعو إلى فعل قبيح فيقع عنده الصحيح قبيح ولولاه لما يقع يسمى مفسدة واستفساد.
واللطف إذا كان داعيا إلى الفعل أو صارفا فلا بد أن يكون بينه وبين ما هو لطف فيه مناسبة، ولا يلزم أن تكون تلك المناسبة معلومة تفصيلا. ويجب أن يكون اللطف معلوما على الوجه الذي هو لطف فيه، لأنه داع إلى الفعل، فهو كسائر الدواعي.
والمعتبر في الدواعي حال الداعي من علم أو ظن أو اعتقاد، ولذلك قد يعتقد أن في الشئ نفعا فيكون ذلك داعيا له إلى فعله وإن لم يكن فيه نفع. وإذا ثبت ذلك فلا يمتنع أن يدعوه إلى الفعل ما ليس بمدرك بعد أن يكون معلوما.
ويجب أن يكون اللطف متقدما للملطوف فيه ليصح أن يكون داعيا إليه وباعثا عليه، والداعي لا يكون إلا متقدما، وأقل ما يجب تقدمه وقت واحد، ويجوز تقدمه بأوقات بعد أن لا يكون منسيا قديما.
وربما كان في تقديمه فضل مزية، لأن رفق الوالد بولده في طلب العلم وحثه عليه بأوقات كثيرة ربما كان أدعى له إلى التعليم.
واللطف على ثلاثة أقسام: أحدها من فعل الله تعالى، والثاني من فعل من هو لطف له، والثالث من فعل غيرهما. فما هو من فعل الله تعالى على ضربين: أحدهما يقع بعد التكليف للفعل الذي هو لطف له فيوصف بأنه واجب، والثاني ما يقع مع التكليف للفعل الذي هو لطف فيه فلا يوصف بأنه واجب، لأن التكليف ما أوجبه ولم يتقدم له سبب وجوب لكن لا بد أن يفعل به لأنه كالوجه في حسن التكليف.
وأما ما كان من فعل المكلف فهو تابع لما هو لطف فيه، فإن كان واجبا فاللطف واجب وإن كان لطفا في فعل نفل فهو نفل. وإذا كان اللطف من فعل غيرهما فلا بد من أن يكون المعلوم من حاله أنه يفعل ذلك الفعل على الوجه الذي هو لطف في الوقت الذي هو لطف فيه ومتى لم يعلم ذلك لم يحسن التكليف الذي هذا الفعل لطف فيه.
هذا إذا لم يكن له بدل من فعل الله يقوم مقامه، فإن كان له بدل من فعل الله تعالى جاز التكليف لذلك الفعل إذا فعل الله تعالى ما يقوم مقامه. ولا يجب على الغير أن يفعل ما هو لطف للغير إلا إذا كان له في ذلك لطف، كما نقول في الأنبياء عليهم السلام أنه يجب عليهم تحمل الرسالة لما لهم في ذلك من اللطف دون مجرد ما يرجع إلى أممهم ولولا ذلك لما وجب عليهم الأداء.
واللطف على ثلاثة أقسام: أحدها: من فعل الله، فيجوز أن يكون له بدل، ولا مانع يمنع منه، فيكون مخيرا في ذلك.
والثاني: أن يكون من فعل المكلف نفسه، فإن كان له بدل وجب إعلامه ذلك، فيكون من باب التخيير كالكفارات الثلاث، ومتى لم يعلمه ذلك قطعنا على أنه لا بدل له من فعله ولا من فعل الله تعالى، لأنه لو كان له بدل من فعل الله لما وجب عليه الفعل على كل حال.
والثالث: ما كان من فعل غير الله وغير المكلف، فإن كان مع كونه لطفا لغيره لطفا له جاز أن يكون واجبا أو ندبا، وإن لم يكن فيه له لطف أصلا وإنما هو لطف للغير كان مباحا إلا أنه لا يحسن تكليف هذا إلا بعد أن يعلم أنه فعله.
فعلى هذا ذبح البهائم التي ليست نسكا ولا ندبا وإنما هو مباح فوجه حسنه أنه لطف لغير الذابح، وقيل وجه حسنه أن فيه عوضا للمذبوح ونفعا لغيره بأكله، وكلاهما جائزان. فعلى هذا الأفعال الشرعية ما هو واجب منها فوجه وجوبها كونها مصالح في الواجبات العقلية ويقبح تركها لأنها ترك لواجب، وما هو قبيح فوجه قبحها كونها مفسدة في الواجبات العقلية أو داعية إلى القبائح العقلية، ويجب تركها لأنه ترك لقبيح، وما هو مباح فلأنها مصالح لغير فاعلها على ما مضى القول فيه.
ومتى كانت المفسدة من فعله تعالى لم يحسن فعلها وإن كانت من فعل المكلف نفسه، ويجب أن يعلمه وجوب ترك ما هو مفسدة له، وإن كانت من فعل غيرهما لا يخلو المكلف من أن يكون قادرا على منعها أو لا يكون كذلك، فإن كان قادرا جاز أن نوجب عليه المنع منها وحسن تكليفه، [وإن لم يكن في مقدوره المنع منها] فإن كان المعلوم أن ذلك الغير لا يختارها حسن أيضا تكليفه، وإن لم يكن ذلك معلوما وجب عليه تعالى المنع منها أو إسقاط تكليف ما تلك المفسدة مفسدة فيه وإلا أدى إلى أن علة المكلف غير مزاحة.
فعلى هذا دعاء إبليس وإغواه الخلق هل هو مفسدة أم لا؟ قيل فيه شيئان: أحدهما أن كل من فسد بدعاء إبليس كان يفسد وإن لم يدعه فلم يكن حد المفسدة قائمة فيه، والثاني أن التكليف مع دعاء إبليس أشق والتعريض للثواب أكثر، فدخل ذلك في باب التمكين وخرج من باب المفسدة. وكلاهما جائزان.
والذي يدل على وجوب فعل اللطف هو أن أحدنا لو دعا غيره إلى طعامه وأحضر الطعام وغرضه نفع المدعو دون ما يعود إليه من مسرة أو غيرها، وعلم أو غلب على ظنه أنه متى تبسم في وجهة أو كلمه بكلام لطيف أو كتب إليه رقعة أو انفذ غلامه إليه وما أشبه ذلك مما لا مشقة عليه ولا حط له عن مرتبته حضر ومتى لم يفعل ذلك لم يحضر، وجب عليه أن يفعل ذلك ما لم يتغير داعيه عن حضور طعامه، ومتى لم يفعله استحق الذم من العقلاء كما يستحق لو غلق بابه في وجهة، فلهذا صار منع اللطف كمنع التمكين في القبح. وهذا يقتضي وجوب فعل اللطف عليه تعالى، ولأن العلة واحدة.
فإن قيل: كيف يجب على من دعا غيره إلى طعامه أن يلطف له وأصل دعائه له ليس بواجب وإنما هو تفضل. قيل: الأصل وإن كان تفضلا فهو سبب لوجوب التمكين ورفع الموانع كالإقدار والتمكين وغير ذلك، وإذا كان سبب وجوب اللطف يختص بالداعي إلى طعامه دون غيره فكذلك يجب أن يكون فعل المكلف يختص بالداعي إلى طعامه دون غيره، كما لا يجب على غير الداعي إلى طعامه التبسم في وجهه ولا غير ذلك من الأفعال المقوية لداعيه كما لا يجب تمكينه وإقداره.
وإنما شرطنا استمرار الإرادة لأنه يجوز على الواحد منا أن يبدو له من ذلك فيتغير داعيه، والقديم تعالى لا يجوز عليه البداء على حال. والعلم باستحقاق من منع اللطف الذم ضروري كالعلم باستحقاق من منع التمكين مثل ذلك.
فإن قيل: ما قولكم في الداعي إلى طعامه لو غلب في ظنه أنه لا يحضر طعامه إلا بعد أن يبذل له شطر ماله أو يقتل بعض أولاده وغير ذلك مما عليه فيه ضرر عظيم. قلنا: هذا أولا لا يطعن على ما نريده من وجوب اللطف على الله تعالى، لأن جميع ذلك لا يليق به، لأن كل ما يفعله تعالى يجري مجرى ما لا مشقة عليه فيه من التبسم وغيره، وإذا وجب التبسم وما جرى مجراه من فعلنا وجب جميع الألطاف من فعله، لأنها جارية مجراه من فعلنا لأنه لا مشقة عليه فيها.
ثم نقول: الواحد منا إذا كلف غيره حضور طعامه لا يخلو أن يكون غرضه نفع المدعو أو نفع نفسه وما يرجع إليه، فإن كان الأول وجب عليه من اللطف ما لا مشقة عليه فيه أو ما لا يعتد به من المشقة اليسيرة، ومتى كانت فيه مشقة عظيمة لم يجب. والمشاق معتبرة في وجوب الفعل أو حسنه فإن كان غرضه نفع نفسه وما يعود إليه وجب أن يقابل بين الضرر الداخل وبين الضرر عليه فيما يفعله لنفع ذلك الفعل ويدفع الأكثر بالأقل.
وأما المفسدة فهي ما يقع عندها الفساد ولولاه لم يقع، أو يكون أقرب إلى لفساد ولولاه لم يكن أقرب أو ينصرف عنده من الواجب أو يكون إلى الانصراف أقرب ولا يكون له حظ في التمكين. والعلم بقبح ما هذه صفته ضروري لا يلتفت إلى خلاف من يخالفه فيه.
فأما من لا لطف له -بأن يكون المعلوم من حاله أنه يطيع على حال أو يعصي- فإنه يحسن تكليفه لأنه متمكن من الفعل بسائر ضروب التمكنات، وليس في المعلوم ما يقوي داعيه فيجب فعله به، فينبغي أن يحسن تكليفه.
غير أنا علمنا بوجوب المعرفة ووجوب الرئاسة لجميع الخلق أنهما لطفان لجميعهم، ولولا السمع لكان يجوز أن يكون في المكلفين من يختار فعل الواجب والامتناع من القبح وإن لم تجب عليه المعرفة ولا نصيب له، لكن الإجماع مانع منه ومن تعلق لطفه بفعل قبيح في مقدوره تعالى.
[والصحيح أنه لا يحسن تكليفه، لأن هذا له لطف مراحم به علته، وإنما لم يحسن أن يفعله تعالى لأمر يرجع إلى حكمه، وفي الناس من أجازه وأجراه مجرى من لا لطف له]، والصحيح الأول. ومتى تعلق لطفه بفعل قبيح من مقدور غير الله فلا يحسن تكليفه أيضا، لأنه لا يحسن تكليف الغير ذلك الفعل لقبحه. وأما الأصلح في باب الدنيا فهو الأنفع إلا الذي لا يتعلق به لطف فإنه لا يجب على الله تعالى، لأنه لو وجب ذلك لأدى إلى وجوب ما لا يتناهى وذلك محال.
أو إلى أن لا ينفك القديم تعالى من الاخلال بالواجب وذلك فاسد. وإنما قلنا ذلك لأن النفع اللذة وهو تعالى يقدر من جنسهما على ما لا يتناهى فلو كان ذلك واجبا لأدى إلى ما قلناه، ولو قلنا هربا من ذلك أنه لا يقدر إلا على متناه أدى إلى القول بتناهي مقدورات الله، وذلك كفر. ولا يلزم على ذلك أن يكون اللطف في باب الدين مثل ذلك، لأن اللطف في باب الدين بحسب المعلوم، وليس يجب أن يكون المقدور منه ما لا نهاية له.
ولو فرضنا ذلك لقبح المكلف وإن كان ذلك بعيدا. وليس كذلك اللذة والنفع، لأنه يرجع إلى جنس المقدور فيجب أن يكون قادرا منه على ما لا نهاية له. ويدل أيضا على أن الأصلح في باب الدنيا غير واجب أنه لو كان واجبا لما استحق تعالى الشكر بفعلها، لأن من فعل واجبا كقضاء الدين ورد الوديعة لا يستحق الشكر وإنما يستحق الشكر بالتفضل المحض، ولو لم يستحق الشكر لما استحق العبادة لأنها كيفية في الشكر، وذلك خلاف الإجماع.
وهو تعالى وإن استحق الشكر على الثواب والعوض الواجبين، فلأن سبب الثواب التكليف وهو تفضل، وكذلك الآلام التي يستحق بها العوض تابعة للتكليف الذي هو تفضل.