عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 83 - 89
وأما الكلام في الآلام فيقع من وجوه: أحدها في إثباتها: والكلام في ذلك ظاهر لا نتشاغل به، لأن المعلوم ضرورة الأمر الذي يتألم به الحي ويدركه مع نفار طبعه عنه، فدفع ذلك مكابرة. وإنما الكلام يقع في حسنه أو قبحه، لأن في الناس من قال الآلام كلها قبيحة وهم الثنوية والمجوس.
ومن قال إن فيها ما هو حسن اختلفوا فمنهم من قال لا وجه لحسنها إلا الاستحقاق وهم التناسخية والبكرية.
والصحيح أن في الآلام ما هو حسن وفيها ما هو قبيح، فما يقبح منها يقبح لوجوه ثلاثة: أحدها لكونه ظلما، وثانيها أن يكون مفسدة، وثالثها أن يكون عبثا. وما عداه يكون حسنا.
وإن شئت قلت: الآلام لم تحسن إلا لنفع يوفى عليه أو دفع ضرر أعظم منه أو الاستحقاق أو يكون واقعا على وجه المدافعة، فمتى خلا من ذلك أجمع كان قبيحا. فأما الظلم فهو الضرر الذي لا يقع فيه وفاء عليه ولا دفع ضرر أعظم منه ولا يكون مستحقا ولا حاصلا على وجه المدافعة سواء كانت هذه الوجوه معلومة أو مظنونة.
والذي يدل على أن الألم يحسن إذا كان فيه نفع يوفى عليه ما نعلمه ضرورة من حسن إخراج ما يملكه من المتاع والعقار بعوض إذا غلب في ظنونا أن النفع بالعوض أكثر منه، وإنما حسن تفويت المنافع بما يخرجه لأجل النفع الذي يحصل بالعوض لا يختلف العقلاء في حسن ذلك.
ووجه حسن هذا الألم هو علمه بماله فيه من النفع أو ظنه دون حصول النفع فيه، بدلالة أنه لو كان فيه نفع ولم يعلم أن فيه نفعا ولا ظنه لما حسن منه تحمل هذا الألم، وإذا علم ذلك أو ظنه حسن، فعلم أن وجه حسنه ما قلناه.
ولا يلزم أن يكون الظلم حسنا لما فيه من العوض، لأنا نعتبر أن يكون النفع موفيا عليه ويكون مقصودا، أو ما هو في مقابلة الظلم إنما يفعله الله ويأخذه من الظالم على وجه الانتصاف لا يكون موفيا عليه بل بحسب الألم.
وأيضا فالظالم لم يقصد نفع المظلوم، فلم يحصل القصد أيضا.
وأيضا فالمعلوم ضرورة حسن تحمل ألم الأسفار طلبا للأرباح وتحمل المشاق في طلب العلم لمكان حصول العلم، فعلم أن تحمل الألم يحسن للنفع.
وأما الذي يدل على أن الألم يحسن لدفع ضرر أعظم منه ما نعلمه ضرورة من حسن عدونا على الشوك هربا من السبع أو النار أو خوفا من وقوع حائط وما أشبه ذلك، ويحسن منا شرب الدواء الكريه دفعا للأمراض والخلاص منها، ويحسن الفصد وقطع الأعضاء خوفا من السراية إلى النفس.
ووجه حسن جميع ذلك ظن دفع الضرر الموفي عليه، لأن العلم باندفاع الضرر ليس يكاد يحصل في موضع، لكن إذا حصل الحسن مع الظن فمع العلم أولى وأحسن.
وأما الذي يدل على أن الألم يحسن الاستحقاق فهو ما نعلمه ضرورة من حسن ذم المسئ على إساءته وإن غمه ذلك وآلمه واستضر به، والعلم بحسن ذلك مع تعريه من نفع أو دفع ضرر يوجب أنه حسن للاستحقاق لا غير.
وقد قيل في ذلك أيضا أنه يحسن المطالبة بتقضي الدين وإن أضر ذلك بمن عليه الدين وغمه، وإنما حسن ذلك للاستحقاق. ولقائل أن يجعل وجه ذلك ما يقدمه من الانتفاع بالدين، فجرى ذلك مجرى تقدم الأجرة على الأعمال الشاقة.
وأيضا فلو كان حسن الاستحقاق لما حسن أن يبتدئ الإنسان بإيصاله إلى نفسه، كما لا يحسن أن يعاقب نفسه.
وأيضا فإنه خال من استحقاق وإهانة، وذلك واجب في العقاب. وإنما قلنا أنه متى وقع على وجه المدافعة كان حسنا، لأنه معلوم أن من دافع غيره عن نفسه فوقع به من جهته ضرر لم يقصده بل قصد المدافعة فقط لا يستحق به عوضها على المؤلم ولا يكون بذلك ظالما.
ولا يمكن أن يقال: إن ذلك مستحق، لأن من قصد إيلام غيره ولم يؤلمه لا يستحق العقاب عليه.
وأيضا فلو كان مستحقا لقارنه استحقاق وإهانة وجاز أن يقصده، وكل ذلك يدل على أنه لم يكن مستحقا.
ولا يمكن أن يقال: وجه حسنه ما فيه من العوض، لأنه تعالى لما حسن ذلك في عقولنا ضمن العوض كما ضمن لما أباح لنا ذبح البهائم بالشرع، لأنه لو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يكون من لا يعرف أن الله ضمن العوض لا يعرف حسن المدافعة، كما أن من لا يعرف الشرع لم يعرف حسن ذبح البهائم. والمعلوم خلافة.
وأيضا كان يجب أن يحسن أن يقصد إيلامه ولا يقصد دفعه، كما يجوز أن [يقصد ذبح البهيمة، وقد علمنا أنه لا يحسن أن] يقصده.
وإنما قلنا أن الألم يقبح لكونه عبثا، لأن العبث ما لا غرض فيه أو لا غرض مثله فيه، والألم يكون عبثا إذا فعل لنفع يمكن الوصول إليه من دون الألم ولا غرض له فيه زائدا على ذلك بدل على قبح ذلك أنا نعلم أنه يقبح من أحدنا أن يواطئ غيره ويوافقه على أن يضربه لعوض يدفعه إليه يرضى بمثله في تحمل ذلك الضرب، لأنه بالعوض خرج من كونه ظلما، وإنما قبح لأنه لا غرض فيه حكمي. وأما الألم إذا كان فيه مفسدة فمعلوم قبحه ضرورة لا شبهة فيه، ولا يجوز أن يكون الألم قبيحا لكونه ألما على ما قالت الثنوية، لما بيناه من أن ههنا آلاما حسنة للنفع ولدفع الضرر والاستحقاق، فبطل قولهم.
ولا يجوز أن يقبح الألم لكونه ضررا، لأنه لو كان كذلك لقبح العقاب لأن فيه ضررا لقبح العقاب، وقد علمنا حسنه لكونه مستحقا.
ومن قال العقاب ليس بضرر كان مكابرا. والألم إذا كان فيه نفع يوفى عليه أو دفع ضرر أعظم منه لا يكون ضررا، ومن قال إنه ضرر فقد أخطأ، لأنه يلزم أن يكون من خدش جلد غيره بإخراجه من العرق وتخليصه من الهلاك أن يكون مضرا به، وهذا معلوم خلافه. ولو كان العقاب لا يسمى ضررا لما جاز أن يقال في الله تعالى أنه ضار، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك، والقديم تعالى لا يحسن أن يفعل الألم إلا للنفع أو الاستحقاق لا غير، فأما لدفع الضرر فلا يجوز.
والظن لا يجوز عليه لأنه عالم لنفسه.
وإنما قلنا ذلك لأن من شرط حسن الألم لدفع الضرر أن يكون ذلك الضرر لا يمكنه دفعه إلا بإدخال بعض الآلام عليه، والقديم تعالى يقدر على دفع كل ضرر من غير أن يدخل عليه ألما، فلم يحسن لذلك.
والصحيح أن القديم تعالى لا يفعل ألما لا في المكلفين ولا في غيرهم في دار التكليف إلا إذا كان فيه غرض يخرجه من كونه ظلما أو عوض يخرجه من كونه عبثا، ولا يجوز أن يفعل الألم لمجرد العوض، لأن مثل العوض يحسن الابتداء به ولا يجوز أن يفعله لأجل العوض.
ويفارق ذلك الثواب، لأن الثواب يستحق على وجه من التعظيم والاجلال ولا يحسن الابتداء بمثله، وليس كذلك العوض لأنه مجرد المنافع. ولذلك لا يحسن منا أن نستأجر غيرنا لينقل الماء من نهر إلى نهر ولا عوض لنا فيه غير إيصال الأجرة إليه، وكذلك لا يحسن أن يوافقه على أن يضربه [ويعطيه عوضا من ضربه] لا لغرض غير إيصال العوض إليه، ومعلوم ضرورة قبح ذلك.
وليس لأحد أن يقول: الاستحقاق له مزية على التفضل في الشاهد فجاز أن يفعل لذلك الألم، لأن الاستحقاق إنما يكون له مزية في الشاهد لما يلحق المتفضل عليه من الآنفة وإن تميز المتفضل عليه بذلك أو يلحقه بعض الغضاضة، ولذلك يختلف باختلاف أحوال المتفضل من جلاله وعظم قدره، وكل ذلك مفقود مع الله تعالى، فلا مزية للاستحقاق على التفضل من جهته.
فأما من قال الألم لا يحسن إلا للاستحقاق من البكرية والتناسخية، حتى قالت البكرية أن الأطفال والبهائم لا تألم أصلا لما رأت أنها غير مكلفة، وقالت التناسخية أنه قد كان لهم فيما مضى زمان تكليف، فما ينالهم من الآلام في هذا الوقت فباستحقاقهم لما عصوا في ذلك الوقت.
والذي يدل على فساد قول الفريقين ما قدمناه من أنه يحسن الآلام للمنافع الموفية عليها ولدفع ضرر أعظم منها، وذلك يبطل قول الفريقين على كل حال.
ويبطل قول البكرية أيضا ما نعلمه ضرورة أنا كنا نتألم في حال الطفولة بالأمراض والجراحات والدماميل التي لا يقدر عليها غير الله تعالى، فمن دفع ذلك كان مكابرا. وأيضا فإنا نعلم أن البهيمة تجوع وتعطش فتتألم بذلك، وذلك من فعل الله تعالى.
على أن ما نعلمه ضرورة من هرب البهيمة من الآلام والضرب، يبطل قول من قال إنهم لا يألمون.
ومما يبطل مذهب التناسخية أن من شرط ما نفعل من الآلام المستحقة أن يقارنها استخفاف وإهانة، ومعلوم قبح ذلك بالبهائم والأطفال، ومن استحسن ذلك كان جاهلا مكابرا للعقول.
وأيضا فالأنبياء تألم بالآلام، ولا يجوز أن يكونوا مستحقين للعقاب لا قبل النبوة ولا بعدها، لقيام الدليل على عصمتهم. وأيضا فلو كان ذلك مستحقا لوجب أن يذكر تلك الأحوال مع التذكر الشديد وإنهم عصوا فيها، لأن العاقل لا يجوز أن ينسى مثل ذلك مع قوة التذكر، وإن نسي بعضه فلا يجوز أن ينسى جميعه، ولو جاز أن ينسى بعض العقلاء ذلك لم يجز أن ينساه جميعهم، ولو جاز أن ينسى كذلك لجاز أن ينسى أحدنا أنه ولي ولاية في بلد بعينه سنين كثيرة وكثر فيه أعوانه وأتباعه ورزق فيه أولادا لكنه نسي، وذلك تجاهل وطول المدة كقصرها، ولهذا نقول: إن أهل الجنة لا بد أن يذكروا أحوال الدنيا أو أكثرها، وما يتخلل بين ذلك من زوال العقل ليس بأكثر مما يتخلل بين ذلك بالنوم المزيل للعقل وأنواع الأمراض المزيلة للعقل، والزمان الطويل في هذا الباب كالزمان القصير.
وليس لهم أن يقولوا كان زمان التكليف يسيرا. ألا ترى أن من دخل ساعة من النهار بلدا لا فيلة ورأى أفيلة وخرج منها وطالت مدته لا يجوز أن ينسى ذلك ولا يذكره مع شدة تذكره.
على أن هذا المذهب يؤدي إلى قبح التكليف الذي لم يتقدمه تكليف آخر لا بد أن يكون فيه مشقة وإلا لم يصح التكليف، فبأي شيء استحقت تلك المشقة فلا بد من المناقضة أو القول بتكليفات لا نهاية لها، وكل ذلك باطل.