عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي
ولنا في الكلام في ثبوته طريقان: أحدهما الاستدلال بالقرآن على صحة نبوته، والآخر الاستدلال بباقي معجزاته عليه السلام.
والاستدلال بالقرآن لا يتم إلا بعد بيان خمسة أشياء: أحدها ظهوره عليه السلام بمكة وادعاؤه لنبوة، وثانيها تحديه العرب بهذا القرآن وادعاؤه أن الله أنزل عليه وخصه به، وثالثها أنه لم يعارضوه في وقت من الأوقات، ورابعها أنهم لم يعارضوه للعجز، وخامسها أن هذا لتعذر خرق العادة.
فإذا ثبت ذلك دل على أن القرآن معجز، سواء كان معجزا خارقا للعادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه أو لأن الله تعالى صرفهم عن معارضته ولولا الصرف لعارضوا، وأي الأمرين ثبت ثبتت صحة نبوته عليه السلام، لأنه تعالى لا يصدق كذابا ولا يخرق العادة لبطل.
فأما الفصل الأول -وهو ظهوره صلى الله عليه وآله بمكة وادعاؤه النبوة- فمعلوم ضرورة لا ينكره عاقل سمع الأخبار.
وظهور هذا القرآن على يده أيضا معلوم مثل ذلك ضرورة، فالشك في أحدهما كالشك في الآخر.
وأما الذي يدل على أنه تحدى بهذا القرآن، فهو أن معنى التحدي أنه عليه السلام كان يدعي أن الله تعالى خصه بهذا القرآن وآياته وأن جبريل كان يهبط عليه فيه، وذلك معلوم ضرورة ولا يمكن أحد دفعه.
وهذا غاية التحدي في المعنى والبعث على إظهار معارضته إن كان مقدورا.
وأيضا فمعلوم أنه عليه السلام ادعى النبوة ودعا الناس كافة إلى الاقرار بنبوته والعمل بشرعه، ومن ادعى هذه المنزلة لا بد أن يحتج بأمر يجعله حجة على دعواه صحيحا كان أو فاسدا، لأنه لو عري دعواه من حجة أو شبهة لسارع الناس إلى تكذيبه وطالبوه بما يدل على صدق قوله، فلما لم يكن ذلك منهم دل على أنه احتج بهذا القرآن أو بما هذا القرآن أظهر منه.
وأيضا فآيات التحدي في القرآن ظاهرة، نحو قوله تعالى {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} وقوله {فأتوا بسورة من مثله} وفي موضع آخر {بسورة مثله} وقوله {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} وهذا صريح بالتحدي.
وأما الذي يعلم به أنه لم يعارض فهو أنه لو كان عورض لوجب أن ينقل، ولو نقل لعلم كما علم نفس القرآن، فلما لم يعلم دل على أنها لم تكن.
وإنما قلنا ذلك لأن كل أمر لو كان لوجب أن ينقل فإذا لم ينقل قطعنا على أنه لم يكن. وبهذا يعلم أنه ليس بين بغداد والبصرة بلد أكبر منهما وأنه ليس في الشريعة صلاة سادسة ولا حج إلى بيت بخراسان، لأنها لو كانت لوجب نقلها مع سلامة الأحوال.
وإنما قلنا كان يجب نقل المعارضة لو كانت لأن الدواعي كانت تتوفر إلى نقلها، لأنها لو كانت تكون هي الحجة دون القرآن، ونقل الحجة أولى من نقل الشبهة.
على أن الذي دعى إلى المعارضة داع إلى نقلها وإظهارها، والداعي لهم إلى ذلك طلب التخليص مما ألزموه من ترك أديانهم ومفارقة عاداتهم وبطلان الرياسات التي ألفوها، ولذلك نقلوا كلام مسيلمة والأسود العنسي وطليحة مع ركاكته وسخافته وبعده عن دخول الشبهة فيه، وكيف لم ينقل ما هو حجة في نفسه إذ فيه شبهة قوية.
ولا يمكن أن يدعى فيه الخوف فيه من أنصاره وأتباعه فمنع ذلك من معارضته، لأن الخوف لا يقتضي انقطاع النقل بالكلية وإنما يمنع من المظاهرة به والمجاهرة، فكان يجب أن ينقل على وجه الاستسرار كما نقل ما يدعيه من النص الجلي وغيره.
على أن كثرة المسلمين وكثرة أنصاره كانوا بعد الهجرة، فهلا عارضوه قبل ذلك بمكة. ثم لم لم يعارضوه ويظهروه في بلاد الكفر كالروم وبلاد الفرس والهند وغيرها، فإن الكفر فيها إلى يومنا هذا، وكيف لم يمنع الخوف من نقل هجائه وسبه ومنع نقل معارضته، والكلام في ذلك استوفيناه في شرح الجمل.
ولا يمكن أن يدعى وقوع المعارضة من واحد أو اثنين وأنه قيل فلم يسمع وذلك أنه إذا كانت المعارضة متعذرة على الفصحاء المعروفين والشعراء والخطباء المبرزين كفى ذلك في باب خرق العادة وثبوت كونه معجزا، إما بأن يكونوا مصروفين على مذهب من قال بالصرفة أو لأن القرآن فقط فصاحته خرق العادة. وأيهما كان وجب تساوي الكل فيه وأن أحدا لم يتمكن من المعارضة، وذلك يمنع من التجويز الذي سألوا عنه.
وإذا ثبت أنهم لم يعارضوه [فإنما يعلم أنهم لم يعارضوه] للعجز -لأن كل فعل لم يقع مع توفر الدواعي لفاعله وشدة تداعيه عليه- قطعنا على أنه لم يفعل للتعذر، ولذلك قطعنا على أن الجواهر والألوان ليست في مقدورنا مع علمنا بتوفر الدواعي إلى فعلها وانتفاء الموانع المعقولة، فيخرج من هذا أن نقطع على أن جهة ارتفاع ذلك للتعذر لا غير. [لأنا علمنا أن العرب تحدوا بالقرآن وتوفرت دواعيهم إلى معارضته ولم يكن هناك مانع فوجب القطع على أن ذلك للتعذر لا غير].
وكيف وقد علمناهم تكلفوا المشاق من بذل النفوس والأموال والحروب العظيمة التي أفنتهم طلبا لإبطال أمره، فلو كانت المعارضة مباينة لما تكلفوا ذلك لأن العاقل لا يترك الأمر السهل الذي يبلغ به الغرض ويفعل الأمر الشاق الذي لا يبلغ مع الغرض، ومتى فعل ذلك دل على أنه مختل العقل سفيه الرأي، والقوم لم يكونوا بهذه الصفة.
وليس لأحد أن يقول: إنهم اعتقدوا أن الحرب انجع من المعارضة فلذلك عدلوا إليها. وذلك أن النبي عليه السلام لم يدع النبوة فيهم بالغلبة والقهر وإنما ادعى معارضة مثل القرآن تتعذر عليهم وأنه المختص بذلك ولا ينفع مع ذلك الحرب لو غلبوا فكيف وهم كانوا أكثر الأوقات مغلوبين مقتولين مغلوبين وكان يجب مع هذا أن يقدموا المعارضة فإن أنجعت وإلا عدلوا إلى الحرب أو كان يجب أن يجمع بينهما فيكون أبلغ وأنجع، وفي عدولهم عنها دليل على أنهم كانوا عاجزين.
وليس لهم أيضا أن يدعوا أنهم التبس عليهم الحال فلم يعرفوا ما أراد بالتحدي من المعارضة بالمثلية، وذلك أنه لو كان كذلك لاستفهموه وقالوا له ما الذي تريد بذلك، فكيف وهم كانوا عارفين في تحدي بعضهم بعضا بالشعر والخطب وكيف التبس عليهم الأمر ههنا.
فإن قالوا: خافوا أن يلتبس الأمر فيظن قوم أنه ليس مثله. قيل: هذا هو المطلوب لن يختلف العقلاء فيه وطائفة يقولون إنه مثله وطائفة يقولون إنه ليس مثله، فيحصل الخلاف وتقع الشبهة، وذلك أولى من ترك المعارضة التي تقوى معها الشبهة بالعجز.
وليس لهم أن يقولوا: إنه لم تتوفر دواعيهم إلى ذلك. وذلك أن هذا باطل، وكيف لم تتوفر دواعيهم وهم تكلفوا من المشاق العظيمة من القتال وإنفاق الأموال ما هو معروف، والعاقل لا يتكلف ذلك فيما لا تتوفر دواعيه إلى إبطاله.
فإن قالوا: إنما لم يعارضوه لأن في كلامهم ما هو مثله أو مقارنة. قلنا: هذا غير مسلم، ولو سلم لما يقع، لأن التحدي إنما وقع لعجزهم عن معارضته في المستقبل لا بأنه ليس في كلامهم مثله، ولو كان في كلامهم مثله لكان ترك المعارضة في المستقبل أبلغ وأعظم في باب العجز.
فإن قيل: واطأه قوم من الفصحاء. قيل: هذا باطل، لأنه كان ينبغي أن يعارضه من لم يواطئه، فإنهم وإن كانوا أدون منهم في الفصاحة كانوا يقدرون على ما يقاربه، لأن التفات بين الفصحاء لا ينتهي إلى حد يخرق العادة.
على أن الفصحاء المعروفين والبلغاء المشتهرين في وقته كلهم كانوا منحرفين عنه، كالأعشى الكبير الذي هو في الطبقة الأولى ومن أشبهه مات على كفره، وكعب بن زهير أسلم في آخر الأمر وهو في الطبقة الثانية وكان من أعدى الناس له عليه السلام، ولبيد بن ربيعة والنابغة الجعدي من الطبقة الثالثة أسلما بعد زمان طويل، ومع هذا لم يحظيا في الاسلام بطائل.
على أنه لو كان ينبغي أن يوافقوه على ذلك ويقولون له الفصحاء المبرزون واطأوك ووافقوك، فإن الفصحاء في كل وقت لا يخفون على أهل الصناعة.
فإن قيل: لم لا يكون النبي عليه السلام أفصح العرب فلذلك تأتى منه القرآن وتعذر على غيره، أو تعمل ذلك في زمان طويل فلم يتمكنوا من معارضته في زمان قصير.
قيل: هذا لا يتوجه على من يقول بالصرفة، لأن القائلون بها يقولون إن مثل ذلك كان في كلامهم وخطبهم وإنما صرفوا عن معارضته في المستقبل، فلا معنى لكونه أفصح.
ومن قال جهة الاعجاز الفصاحة يقول كونه أفصح لا يمنع من أن يقارنوه أو يدانوه، وذلك هو المطلوب المعتاد بينهم في المعارضة، فإن جعلوه أفصح وإنه خرق العادة بفصاحته كفى ذلك لأهل الاعجاز.
على أن كونه أفصح لا يمنع من مساواته ومقارنته في قليل من الكلام الذي يتأتى به سورة قصيرة بذلك خرق العادة. ألا ترى أن المتقدمين من الشعراء وإن كانوا أفصح من المتأخرين لا يمنع أن يقع منهم البيت والبيتان من مثل فصاحة أولئك.
ثم لو كان الأمر على ما قالوه لوافقوه على ذلك وقالوا له أنت أفصحنا فلذلك تأتى منك ما تعذر علينا، فيكون في ذلك إبطال أمره وإن كان فيه اعتراف له بفضل لا يضرهم وإنما يضرهم السكوت عنه.
وقولهم: إنه تعمل. باطل، لأنه كان يجب أن يتعملوا مثله وإنما بقي ثلاثة وعشرين سنة بينهم يتحداهم وفي ذلك تكثير يمكن التعمل.
وإذا ثبت بهذه الجملة أن القرآن معجز لم يضرنا أن لا نعلم من أي جهة كان معجزا، لأنا إذا علمناه معجزا خارقا للعادة علمنا ثبوته ولو شككنا في جهة إعجازه لم يضرنا ذلك، غير أنا نومي إلى جملة من الكلام فيه:
كان المرتضى علي بن الحسين الموسوي رحمة الله عليه يختار أن جهة إعجازه الصرفة، وهي أن الله تعالى سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم.
وبذلك قال النظام وأبو إسحاق النصيبي أخيرا.
وقال قوم: جهة الاعجاز الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة من غير اعتبار النظم. ومنهم من اعتبر النظم والأسلوب مع الفصاحة، وهو الأقوى.
قال الفريقان: إذا ثبت أنه خارق للعادة بفصاحته دل على نبوته، لأنه إن كان فعل الله فهو دال على نبوته وإن كان من فعل النبي عليه السلام لم يتمكن من ذلك إلا بعلوم فيه خارق للعادة يدل على نبوته، فإذا قال إنه من فعل الله دون فعلي قطعنا على أنه من فعل الله لثبوت صدقه.
وقال قوم: هو معجز لاختصاصه بأسلوب مخصوص ليس في شيء من كلام العرب.
وقال قوم: تأليف القرآن ونظمه مستحيل من العباد كاستحالة الجواهر والألوان.
وقال قوم: كان معجزا لما فيه من العلم بالغائبات. وقال آخرون: كان معجزا لارتفاع الخلاف والتناقض فيه مع جريان العادة بأنه لا يخلو كلام طويل من ذلك.
وأقوى الأقوال عندي قول من قال إنما كان معجزا خارقا للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص دون الفصاحة بانفرادها ودون النظم بانفراده ودون الصرفة، وإن كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصرفة على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه الله من حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه.
والذي يدل على ما قلناه واخترناه أن التحدي معروف بين العرب بعضهم بعضا ويعتبرون في التحدي معارضة الكلام بمثله في نظمه ووصفه لأنهم لا يعارضون الخطب بالشعر ولا الشعر بالخطب والشعر لا يعارضه أيضا إلا بما كان يوافقه في الوزن والروي والقافية فلا يعارضون الطويل بالرجز ولا الرجز بالكامل ولا السريع بالمتقارب، وإنما يعارضون جميع أوصافه.
فإذا كان كذلك فقد ثبت أن القرآن جمع الفصاحة المفرطة والنظم الذي ليس في كلام العرب مثله، فإذا عجزوا عن معارضته فيجب أن يكون الاعتبار بهما.
فأما الذي يدل على اختصاصها بالفصاحة المفرطة فهو أن كل عاقل عرف شيئا من الفصاحة يعلم ذلك وإنما في القرآن من الفصاحة ما يزيد على كل فصيح وكيف لا يكون كذلك وقد وجدنا الطبقة الأولة قد شهدوا بذلك وطربوا له كالوليد ابن المغيرة والأعشى الكبير وكعب بن زهير ولبيد بن ربيعه والنابغة الجعدي، ودخل كثير منهم في الاسلام ككعب والنابغة ولبيد، وهم الأعشى بالدخول في الاسلام فمنعه من ذلك أبو جهل وفزعه وقال إنه يحرم عليك الأطيـبـين الزنا والخمر، فقال له: أما الزنا فلا حاجة لي فيه لأني كبرت وأما الخمر فلا صبر لي عنه وأنظر، فأتته المنية واخترم دون الإسلام.
والوليد بن المغيرة تحير حين سمعه فقال: سمعت الشعر وليس بشعر والرجز وليس برجز والخطب وليس بخطب وليس له اختلاج الكهنة فقالوا له: أنت شيخنا فإذا قلت هذا ضعف قلوبنا، ففكر وقال قولوا هو سحر معاندة وحسدا للنبي عليه السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية {ثم فكر وقدر * فقتل كيف قدر} إلى قوله {إن هذا إلا سحر يؤثر}.
فمن دفع فصاحة القرآن لم يكن في حيز من يكلم.
وأما اختصاصه بالنظم معلوم ضرورة لأنه مدرك مسموع وليس في شيء من كلام العرب ما يشبه نظمه من خطب ولا شعر على اختلاف أنواعه وصفاته، فاجتماع الأمرين منه لا يمكن دفعهما.
فإن قيل: لو كان القرآن خارقا للعادة بفصاحته لوجدنا الفرق بين كلام أفصح العرب وبينه كما وجدنا الفرق بين كلام شعراء المتقدمين وبين شعراء المحدثين الركيك وهما معتادان وكان ذلك أولى من حيث كان أحدهما معتادا والآخر خارقا للعادة. وإذا لم نجد ذلك دل على أنه ليس بخارق للعادة بفصاحته.
قلنا: هذا السؤال إنما يلزم من ادعى خرق العادة بفصاحته فقط دون من اعتبر الفصاحة والنظم وليس يمكن اجتماعهما في شيء من كلام العرب فيعلم كيفية الفصاحة والفرق بينهما.
فإن قيل: النظم مقدور لكل أحد وإنما الفصاحة هي المعتبرة.
قلنا: أول ما نقول أن النظم أيضا يحتاج إلى علم مخصوص ولذلك تختلف الأحوال فيه، فيتأتى من بعضهم الخطب ولا يتأتى منه الشعر والآخرون يتأتى منهم الشعر ولا يتأتى منهم الخطب، ولا يكفي في النظم مجرد القدرة ولم نجدهم نظموا شيئا مثل هذا القرآن، فمن أين لنا أنه كان يتأتى منهم. على أنه لو كان النظم مقدورا لم يمتنع أن يكونوا متى أرادوا الفصاحة المفرطة في هذا النظم لم يتأت منهم وإن تأتت منهم في الشعر والخطب.
ألا ترى أن في الناس من يكون أخطب الناس وأبلغهم فيها فإذا نظم الشعر كان ركيكا، وكذلك من قال الشعر البليغ الذي فيه الغاية لا يحسن أن يكتب كتابا فإذا تكلفه رك كلامه، ولذلك تفاضل الشعراء في أوزان الشعر: فمنهم من يقوى على الطويل دون الرجز، ومنهم من لا يتأتى منه غير الرجز ولو تكلف الطويل لرك كلامه.
والرجال المفرطون في الفصاحة معروفون كالعجاج ورؤبة وغيرهما وإن لم يكن لهما قصيد، وإن كان فلم يشبه الرجز ولا قاربه.
وإذا ثبت ذلك فليس في وجود كثير من كلام العرب ما يدل على أنهم لو تكلفوه بهذا النظم لكان مثله، لما عدلوا عن المعارضة وتعذرت عليهم إما لفقد علمهم بالنظم وإن كان فصيحا أو لعلمهم بأنهم لو تكلفوا ذلك لوقعوا دونه دل ذلك على أن القرآن خارق للعادة بمجموع الأمرين.
على أن اشتباه كثير من كلام العرب على الفصحاء لا يدل على أنه مثله، لأنه قد يشتبه الشيئان على أصحاب الصنائع وإن كان بينهما بون بعيد، كاللؤلئين الغاليين في الثمن والمشتبهين المنهرجين حتى أنه لا يدخل الشبه بينهما ويتم الأغلاط، وإن كان لا يشتبه عندهم لؤلؤة حقيرة مع مختلفة.
ومن الناس من قال: إن المطبوعين على الفصاحة الذين هم في الطبقة الأولى وجدوا الفرق بين فصيح كلام العرب وبين القرآن وإنما كابروا في ذلك، وكل من يجري مجراهم فهو مثلهم.
فأما من لم يبلغ تلك المنزلة فهو لا يعلم الفرق فربما قلد وأحسن الظن أو اعتقد اعتقادا ليس بعلم، فلا يمكن ادعاء العلم الضروري في ذلك، وعلم أنه لو كان وجه الاعجاز سلب العلوم لكانت العرب إذا سلبوا هذه العلوم خرجوا عن كمال العقل.
وبهذا أجبنا من قال لم لا يجوز أن يكون من تأتى منه الفعل المحكم معتقدا أو ظانا دون أن يكون عالما. بأن قلنا: ما لأجله تأتى الفعل المحكم هو أمر يلزم مع كمال العقل، فلا يخرج عنه إلا باختلال عقله.
والعلم بالفصاحة من هذا الباب، فلو سلبهم الله هذه العلوم لكانوا خرجوا من كمال العقل، ولو كان كذلك لظهر واشتهر وكان يكون أبلغ في باب الاعجاز من غيره.
ولما لم يعلم كونهم كذلك وأن العرب لم يتغير حالهم في حال من الأحوال دل ذلك على أنهم لم يسلبوا العلوم، وإذا لم يسلبوها وهم متمكنون من مثل هذا القرآن كان يجب أن يعارضوا، وقد بينا أن ذلك كان متعذرا منهم، فبطل هذا القول.
فإن قيل: هل لا جعل القرآن في غاية الفصاحة التي لا تشتبه على أحد ممن سمع. قلنا: المصلحة معتبرة في ذلك، ولو لزم ذلك للزم أن يقال المعتبر هو الصرف لم لم يجعل القرآن من أرك الكلام وأقله فصاحة فكان يكون أبلغ في باب الاعجاز. وليس يلزم في المعجز أن يبلغ الغاية القصوى.
ألا ترى أن الله تعالى لم يجب قريشا إلى جعل الصفا ذهبا والى إحياء عبد المطلب ونقل جبال تهامة من مواضعها وإلى تفجير الأرض لهم ينبوعا، لأن المصلحة معتبرة مع كونها خارقة للعادة وليس تكون المعجزات على قدر الأماني والشهوات.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون القرآن من فعل بعض الجن ألقوه إلى النبي صلى الله عليه وآله ليضل به الخلق، يمكنهم أن يدعوا أن فصاحة الجن ليس فصاحة العرب ولا أنه ليس لهم علم بكيفية هذا النظم المخصوص، لأنه لا طريق لكم إلى ذلك بل يكفي التجويز في هذا الباب، لأن معه لا يمكن القطع على أنه من فعل الله تعالى.
وأيضا فإن النبي يدعي أن ملكا نزل عليه بهذا القرآن، فلم لا يجوز أن يكون ذلك الملك كاذبا ولا يمكنهم ادعاء عصمة الملائكة، لأن ذلك معلوم بالسمع الذي لم يثبت بعد صحته، وعادة الملائكة أيضا في الفصاحة غير معلومة. قلنا: الجواب على هذا السؤال من وجوه:
أحدها - أنه لو طعن هذا السؤال في إعجاز القرآن لطعن في سائر المعجزات ولا يكون لنا طريق إلى العلم بصدق الصادق، لأنا متى قلنا أن ما يختص القديم بالقدرة عليه متى فعله على وجه يخرق العادة يكون دالا وكان لقائل أن يقول: لم لا يكون في عادة الجن إنه إذا قرب جسم من جسم ميت عاش، كما أجري العادة في الإنس إذا قربنا الحجر المغناطيس إلى الحديد جذبه، ومتى جوزنا ذلك لم يكن في إحياء الميت على مدعي النبوة دليل على صدقه، لأنه لا يأمن أن يكون بعض الجن نقل إليه ذلك الجسم وإحياء الله تعالى ذلك لمكان عادتهم.
فإن قيل: إحياء الله تعالى الميت عند تقريب الجسم بيننا وفي عادتنا خرق منه تعالى لعادتنا، فجرى مجرى تصديق الكذاب، وذلك لا يجوز عليه، وليس إذا جاز أن يفعل ذلك في عادة الجن بحيث لا نعلمه جاز أن يفعله في عادتنا، لأن فعله في عادتهم لا وجه لقبحه وفعله في عادتنا فيه وجه قبح لأنه استفساد.
وليس كذلك نقل الكلام، لأن الجني إذا نقل الكلام الذي لم تجر عادتنا بمثل فصاحته فنفس نقله خرق عادتنا وليس له تعالى في ذلك صنع، وإذا نقل الجسم المشار إليه فنفس نقله للجسم لم يخرق عادتنا، وإنما الخارق لها إحياء الميت عند تقريب الجسم، فالفرق بين الأمرين واضح.
قيل: السؤال لا يلزم من وجهين، وهذا الانفصال ليس بصحيح:
أحدهما- أن الجني إذا أحضر الجسم الذي أجرى الله عادتهم بإحياء الميت عنده فلا يخلو أن يحيي الميت عنده أو لا يحييه، فإن أحياه فهذا تجويز كونه كاذبا وأنه إنما أحياه لمكان عادتهم، وإن لم يحيه كان في ذلك خرق عادة الجن بفعل المعجز خرق عادتهم في رفع الإحياء عند هذا الجسم الذي كان يحييه عندهم بمجرى عادتهم، وفي ذلك تصديق الكذاب.
ولا جواب عن ذلك إلا بأن يقال: إنه استفساد يجب المنع منه كما نقوله في الجواب الآخر.
والوجه الثاني- أن القرآن إذا كان خارقا للعادة بفصاحته فإنما تأتى من الجني ذلك بأن يجدد الله تعالى له العلوم بالفصاحة حالا بعد حال، لأن العلوم لا تبقى، فيصير خلق هذه العلوم هو الخارق للعادة، وجرى ذلك مجرى ما يقول صاحب الصرفة في مواضع أن ثبت لو ادعى النبوة وجعل معجزه نقل الجبال أو طفر البحار لكان خلق القدر التي يتمكن من ذلك هو الخارق للعادة، وهو المعجز لا نفس النقل، لأن فعلنا لا يكون عنده دليلا على التصديق، وإنما يدل على التصديق ما يختص تعالى بالقدرة عليه.
ومتى رجع إلى أن قال: القرآن لم يخرق العادة بفصاحته. سقطت معارضته بسؤال الجن وصار الكلام في هل هو خرق العادة أو ليس بخارق لها، وقد مضى الكلام على صحة ذلك.
والجواب الثاني عن سؤال الجن أنه لو كان القرآن من فعل الجن لمنع الله تعالى منه، لأن ذلك مفسدة ولا يجوز التمكين من ذلك على الله تعالى. فإن قيل: إنما لا يجوز عليه تعالى أن يفعل نفس الاستفساد، وأما المنع من الاستفساد فلا يجب، ولو وجب ذلك لوجب أن يمنع تعالى كل شبهة من الممخرقين والمشعبذين من كل ما يدخل فيه الشبهة على الخلق، فالمنع من الشبهات وفعل القبائح مع التكليف لا يجب، وليس إذا لم يجز عليه تعالى الاستفساد لم يجز عليه التمكين منه، [كما إذا لم يجز عليه القبيح لم يجب عليه المنع منه]، وكان يلزم أن يمنع الله تعالى زرداشت وماني والحلاج وغيرهم من الممخرقين الذين فسد بهم خلق من الناس ولولاهم لما فسدوا إن وجب المنع من الاستفساد.
قلنا: الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن تمكين هؤلاء المذكورين من الفساد ليس باستفساد لأنه تمكين وتعريض الثواب أعظم من الثواب الذي عرضوا له مع عدم هؤلاء، فصار خلق هؤلاء وتمكينهم من الشبهات من تكليف أشق وتعريضا لثواب أعظم، فخرج بذلك من الاستفساد، لأن حد الاستفساد ما يقع عنده الفساد ولولاه لم يقع من غير أن يكون تمكينا، وهذا تمكين فخرج من الاستفساد.
وليس لأحد أن يقول: تمكين الجن من القاء القرآن إلينا تمكين وليس باستفساد. لأنا بينا أن ذلك يسد علينا الباب الموصل إلى الفرق بين الصادق والكاذب، وذلك باطل بالاتفاق.
والثاني: أن كل من فسد بدعاء إبليس وهؤلاء الممخرقين كان يفسد وإن لم يكن إبليس ولا أحد من هؤلاء، فلم يكن ذلك استفساد، كما يقول فيمن بطل عند متشابه القرآن وخلق إبليس وغيره.
ولا يمكن ادعاء العلم الضروري في خلافه لأن ذلك غير معلوم، ولا يمكن مثل ذلك في القاء الجن القرآن، لما بيناه من أن ذلك يؤدي إلى سد الطريق في الفرق بين الصادق والكاذب.
وهذا القدر كاف ههنا، فإن استيفاءه يطول به الكتاب، وقد أجبت عن سؤال الجن بأن قلت: بأن ذلك يؤدي إلى أن انشقاق القمر وطلوع الشمس من مغربها وقلع الجبال من أماكنها وطفر البحار العظام وفلق البحر لا يكون شيء من ذلك معجزا، لأن جنسه داخل تحت مقدور القدر، ولا يمتنع أن يكون جميع ذلك من فعل بعض الجن.
ومن ارتكب فقال جميع ذلك لا يدل على النبوة، كفاه ما فيه من الشناعة.
ومتى قالوا: حمل الأجسام العظيمة وقلع الجبال تحتاج إلى أن يكون من حمل ذلك على بنية كثيفة تحتمل القدر الكثير، لأن الأجسام المتخلخلة لا يحملها مثل قدر الفيل ولا تحمل النملة من القدر ما تحمل الجبال، ولو حصل من له بنية كثيفة لوجب أن يرى ولو رأي لعلم أنه ليس من فعل الله، فلا يكون [فيه] دلالة.
قيل: هذا أصل فيه نزاع، ففي الناس من قال يكفي في احتمال المحل القدرة أن يكون محل الحياة فقط، ومتى حصلت بنية الحياة جاز أن يوجد في البنية القدرة العظيمة، وليس ذلك بأبعد من جواز حلول الاعتمادات بقدر ما يوازى به الجبال في الذرة، فإن استبعاد أحدهما كاستبعاد الآخر، ولذلك تقلع الريح مع تخلخلها الأجسام الثقال وتقصم الأشجار الصلبة، وقد أهلك الله تعالى الأمم بالريح.
فإذا جاز ذلك في الاعتماد لم لا يجوز مثله في القدر، وإذا كان ذلك جائزا فسؤال الجن متوجه في هذه الأشياء، ولا مخلص من ذلك إلا بأن يقال: إن ذلك استفساد والله تعالى لا يمكن منه.
فأما من قال: إن القرآن جنسه ليس بمقدور كالجواهر والألوان. فقوله باطل، لأن جنس القرآن الحروف والأصوات، وذلك من مقدورنا، والكلام يكون كلاما بأن يوجد بعضها في أثر بعض، فالجنس مقدور وإنما يتعذر لفقد العلم في بعض المواضع.
فأما من قال: مجرد النظم هو المعجز. فقوله باطل، لأنا لو فرضنا وقوع مثل هذا الأسلوب -وهو في غاية السخف والركاكة- لما كان ذلك معارضة عند أحد من العقلاء.
والسبق إلى الأسلوب أيضا لا يكون معجزا كما لا يكون السبق إلى نظم الشعر وقول الخطب وغير ذلك من العلوم معجزا.
ومن قال: جهة إعجازه ما تضمنه من الإخبار بالغايبات. ليس بصحيح، لأن التحدي وقع بسورة غير معينة، وأكثر السور وخاصة القصار ليس فيها أخبار بالغايبات، فلو كان ذلك مراعى لعارضوا بما ليس فيها ذلك وكانوا معارضين وذلك باطل.
ومن قال: جهة الاعجاز ارتفاع الاختلاف والتناقض. فبعيد، لأن لقائل أن يقول: إن العاقل إذا تحفظ وتيقظ حتى لا يقع في كلامه تناقض لم يقع، فمن أين أنه خارق للعادة.
ولو جعل ذلك من فضائل القرآن ومراتبه لكان جيدا.
فأما معجزاته التي هي سوى القرآن كمجيء الشجرة حين قال لها أقبلي فأقبلت تخد الأرض خدا ثم قال لها ارجعي فرجعت، ومثل الميضاة وأنه وضع يده في الإناء فغار الماء من بين أصابعه حتى شربوا ورووا، ومثل إطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير، ومنها حنين الجذع الذي كان يستند إليه إذا خطب لما تحول إلى المنبر فلما جاء إليه والتزمه سكن، ومنها تسبيح الحصى في كفه وكلام الذراع وقولها له لا تأكلني فإني مسمومة، ومنها أنه لما استسقى فجاء المطر فشكوا إليه تهدم المنازل فقال حوالينا ولا علينا وأشار إلى السحاب فصار كالإكليل حول المدينة والشمس طالعة في المدينة، [ومنها انشقاق القمر وقد نطق القرآن به، ومنها شكوى البعير] ومنها قوله لأمير المؤمنين عليه السلام "تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين" وقوله له "إنك تقتل ذا الثدية" وقوله لعمار "تقتلك الفئة الباغية"
وغير ذلك من الآيات الباهرات التي هي معروفة مذكورة. وليس يمكن أن يقال: هذه الأخبار آحاد لا يعول على مثلها. لأن المسلمين تواتروها وأجمعوا على صحتها، ونحن وإن قلنا أنها لا تعلم ضرورة فهي معلومة بالاستدلال بالتواتر على ما يذهب إليه.
ولا يمكن أيضا ادعاء الحيل في ذلك، لأن كثيرا منها يستحيل ذلك فيه، كانشقاق القمر والاستسقاء وإطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير وخروج الماء من بين أصابعه وإخباره بالغائبات ومجيء الشجرة إليه ورجوعها عنه، لأن جميع ذلك لا تتم فيه الحيلة، وإنما يمكن الحيلة في الأجسام الخفيفة التي تحدث بالناقل ولا تتم في الشجرة العظيمة، وحنين الجذع لا يمكن أن يدعى كان لتجويف فيه دخله الريح، لأن مثل ذلك لا يخفى وكان لا يستكن بمجيء النبي إليه ويحن إذا فارقه بل كان يكون ذلك بحسب الريح.
فأما كلام الذراع قيل فيه وجهان: أحدهما أن الله تعالى نبأها تنبيه الحي وجعل له آلة النطق فتكلم بما سمع وكان ذلك خارقا للعادة، والآخر إن الله تعالى فعل فيه الكلام وأضافه إلى الذراع مجازا.
ومن قال: لو انشق القمر لرآه جميع الخلق. ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع أن يكون الناس في تلك الحال مشاغيل بالنوم وغيره، فإنه كان بالليل فلم يتفق لهم مراعاته، فإنه بقي ساعة ثم التأم.
وأيضا فلا يمتنع أن يكون هناك غيم حال بينه وبين جميع من لم يره ولا شاهده فلذلك لم يره الجميع. والله أعلم بذلك.