عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ الطوسي
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 189 - 196
يجب أن يكون الإمام معصوما من القبائح والاخلال بالواجبات، لأنه لو لم يكن كذلك لكانت علة الحاجة قائمة فيه إلى إمام آخر، لأن الناس إنما احتاجوا إلى إمام لكونهم غير معصومين، ومحال أن تكون العلة حاصلة والحاجة مرتفعة، لأن ذلك نقص العلة.
ولو احتاج إلى إمام لكان الكلام فيه كالكلام في الإمام الأول، وذلك يؤدي إلى وجود أئمة لا نهاية لهم أو الانتهاء إلى إمام معصوم ليس من ورائه إمام، وهو المطلوب.
وإنما قلنا "أن علة الحاجة هي ارتفاع العصمة" لأن الذي دلنا على الحاجة [دلنا على جهة الحاجة. ألا ترى أن دليلنا] في وجوب الرئاسة هو أن الفساد تقل عند وجوده وانبساط سلطانه وتكثر الصلاح، وذلك لا يكون إلا ممن ليس بمعصوم لأنهم لو كانوا معصومين لكان الصلاح شاملا أبدا والفساد مرتفعا، فلم يحتج إلى رئيس يعلل ذلك.
فبان أن علة الحاجة هي ارتفاع العصمة ويجب أن تكون مرتفعة عن الإمام وإلا أدى إلى ما بينا فساده.
وليس يلزم على ذلك عصمة الأمراء والحكام وإن كانوا رؤساء، لأنهم إذا لم يكونوا معصومين فلهم رئيس معصوم، وقد أشرنا إليه فلم ينتقض علينا.
والإمام لا إمام له ولا رئيس فوق رياسته، فلذلك وجب أن يكون معصوما.
فإن قالوا: الأمة أيضا من وراء الإمام متى أخطأ عزلته وأقامت غيره مقامه.
قلنا: هذا باطل، لأن علة الحاجة إلى الرئيس ليست هي وقوع الخطأ بل هي جواز الخطأ عليهم، ولو كان العلة وقوع الخطأ لكان من لم يقع منه الخطأ لا يحتاج إلى إمام، وذلك خلاف الإجماع.
ثم على ما قالوه كان يجب أن تكون الأمة إمام الإمام، وذلك خلاف الإجماع.
ومع هذا فلا يجوز أن يكون الشيء يحتاج إلى غيره في وقت يحتاج ذلك الغير إليه بعينه، لأن ذلك يؤدي إلى حاجة الشيء إلى نفسه، وذلك لا يجوز.
وكل علة تدعى في الحاجة إلى الإمام من قيامه بأمر الأمة وتولية الأمراء والقضاة والجهاد وقبض الأخماس والزكوات وغير ذلك، فإن جميع ذلك تابع للشرع وكان يجوز أن يخلو التكليف العقلي من جميع ذلك مع ثبوت الحاجة إلى إمام، للعلة التي قدمناها.
فإن قيل: لو كانت علة الحاجة ارتفاع العصمة وجب أن يكون من هو معصوم لا يحتاج إلى إمام يكون لطفا له في ارتفاع القبيح من جهة وإن احتاج إليه لعلة أخرى غيرها من أخذ معالم الدين عنه وغير ذلك، كما نقوله في من هو أهل للإمامة في زمن إمام قبله أنه يجب أن يكون معصوما وله إمام، لما قلناه من العلة لا لتقليل القبيح أو ارتفاعه من جهته.
ويجب أن يكون الإمام أفضل من كل واحد من رعيته في كونه أكثر ثوابا عند الله وفي الفضل الظاهر، يدل على كونه أكثر ثوابا ما بيناه من وجوب عصمته وإذا ثبتت عصمته فكل من أوجب العصمة له قطع على كونه أكثر ثوابا، لأن أحدا لا يفرق بين المسلمين.
وأيضا فالإمام يستحق من التعظيم والتبجيل وعلو المنزلة في الدين ما لا يستحقه أحد من رعيته، وهذا الضرب من التعظيم والتبجيل لا يجوز أن تفضلا، بدلالة أنه لا يجوز فعله بالبهائم والأطفال، وإذا وجب أن يكون مستحقا دل على أنه أكثر ثوابا لأن التعظيم ينبي عنه.
فإذا ثبتت عصمته على ما قدمناه قطعنا على حصول هذه المنزلة عند الله من غير شرط، بخلاف ما شرطه في تعظيم بعضنا لبعض.
وأيضا فقد دللنا على أن الإمام حجة في الشرع، فوجب أن يكون أكثر رعيته ثوابا كالنبي صلى الله عليه وآله، فإنه إنما وجب ذلك فيه لكونه حجة في الشرع.
وأما الذي يدل على أنه يجب أن يكون أفضل في الظاهر ما نعلمه ضرورة من قبح تقديم المفضول على الفاضل.
ألا ترى أنه يقبح من ملك حكيم أن يجعل رئيسا في الخط على مثل ابن مقلة ونظرائه من يكتب خطوط الصبيان والبقالين ويجعل رئيسا في الفقه على مثل أبي حنيفة والشافعي وغيرهما.
والعلم بقبح ذلك ضروري لا يختلف العقلاء فيه، ولا علة لذلك إلا أنه تقديم المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه.
وإذا كان الله تعالى هو الناصب للإمام يجب أن لا ينصب إلا من هو أفضل في ظننا وعلمنا.
وإنما قلنا "إنه يجب أن يكون أفضل فيما هو إمام فيه" لأنه يجوز أن يكون في رعيته من هو أفضل منه فيما ليس هو إمام فيه ككثير من الصنائع والمهن وغير ذلك، والمعتبر كونه أفضل فيما هو إمام فيه.
وبذلك نجيب من قال: إن النبي صلى الله عليه وآله قدم عمرو بن العاص على فضلاء الصحابة وقدم زيدا على جعفر [ وهو أفضل منه وقدم خالدا أيضا على جعفر ] 1 ). وذلك أن كل هؤلاء إنما قدموا في سياسة الحرب وتدبير الجيوش وهم أفضل في ذلك ممن قدموا عليه، وإن كانوا أولئك أفضل في خصال دينية أو دنياوية، فسقط الاعتراض.
ولا يجوز تقديم المفضول على الفاضل لعلة وعارض، لأن تقديمه عليه وجه قبح، ومع حصول وجه القبح لا يحسن ذلك كما لا يحسن الظلم، وإن عرض فيه وجه من وجوه الحسن - ككونه نفعا للغير- لأن مع كونه ظلما -وهو وجه القبح- لا يحسن على حال.
ولو جاز أن يحسن ذلك لعلة لجاز أن يحسن تقديم الفاسق المتهتك على أهل الستر والصلاح، وتقديم الكافر على المؤمن لمثل ما قالوه، وذلك باطل.
ويجب أن يكون الإمام عالما بتدبير ما هو إمام فيه من سياسة رعيته والنظر في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل.
ويجب أن يكون أيضا بعد الشرع عالما بجميع الشريعة، لكونه حاكما في جميعها.
يدل على ذلك أنه لا يحسن من حكيم من حكماء الملوك أن يولي وزارته والنظر في مملكته من لا يحسنها أو لا يحسن أكثر من ذلك، ومتى فعل ذلك كان مضيعا لمملكته واستحق الذم من العقلاء.
وكذلك لا يحسن من أحدنا أن يوكل انسانا على النظر في أمر ضيعته وأهله وولده وتدبير أموره من لا يعرف شيئا منها أو أكثرها، ومتى فعل ذلك ذموه العقلاء وقالوا له: ضيعت أمر أهلك وضيعتك والتولية في هذا الباب.
بخلاف التكليف، لأن أحدا يحسن منه أن يعرض ولده ليعلم العلوم وإن لم يحسنها ولا يحسن منه أن يجعله رئيسا فيها وهو لا يحسنها. فبان الفرق بينهما.
ولا يلزم إذا قلنا أنه يجب أن يكون عالما بما أسند إليه، أن يكون عالما بما ليس هو إماما فيه كالصنائع وغير ذلك، لأنه ليس هو رئيسا فيها.
ومتى وقع فيها تنازع من أهلها ففرضه الرجوع إلى أهل الخبرة والحكم بما يقولونه.
وكل من ولي ولاية صغرت أو كبرت كالقضاء والإمارة والجباية وغير ذلك فإنه يجب أن يكون عالما فيما أسند إليه ولا يجب أن يكون عالما بما ليس بمستند إليه، لأن من ولي القضاء لا يلزم أن يكون عالما بسياسة الجند، ومن ولي الأمارة لا يلزم أن يكون عالما بالأحكام، وهكذا جميع الولايات، ولا يلزم أيضا أن يكون عالما بصدق الشهود والمقرين على أنفسهم، لأنه إنما جعل إماما في الحكم بالظاهر دون الباطن.
وإنما يجب أن يكون الإمام عالما بما أسند إليه في حال كونه إماما، فأما قبل ذلك فلا يجب أن يكون عالما.
ولا يلزم أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام عالما بجميع الشرع في حياة النبي صلى الله عليه وآله، أو الحسن والحسين عليهما السلام عالمين بجميع ذلك في حياة أبيهما، بل إنما يأخذ المؤهل للإمامة العلم ممن قبله شيئا بعد شيء ليتكامل عند آخر نفس من الإمام المتقدم عليه بما أسند إليه.
ولو جاز أن يعلم الإمام كثيرا من الأحكام ويستفتي العلماء لجاز أن لا يعلم شيئا منها ويستفتيهم، وإلا فما الفرق.
والمخالف يعتبر أن يكون من أهل الاجتهاد.
ويدل أيضا على كونه عالما بجميع الشرع، أنا قد دللنا على كونه حافظا للشرع، فلو لم يكن عالما بجميعه لجوزنا أن يكون وقع فيه خلل من الناقلين أو تركوا بعض ما ليس الإمام عالما به، فيؤدي إلى أن لا يتصل بنا ما هو مصلحة، ولا تنزاح علتنا في التكليف لذلك، وذلك باطل بالاتفاق.
ويجب أن يكون الإمام أشجع رعيته، لأنه فيهم والمنظور إليه، فلو لم يكن أشجع لجاز أن ينهزم فينهزم بانهزامه المسلمون، فيكون فيه بوار المسلمين والاسلام، فإذا يجب أن يكون أشجعهم وأربطهم جأشا وأثبتهم قلبا.
غير أن هذا يجب مع فرض العباد بالجهاد، فأما إن لم يكن متعبدا بالجهاد فلا يجب مع فرض ذلك.
ويجب أن يكون الإمام أعقل رعيته، والمراد بالأعقل أجودهم رأيا و أعلمهم بالسياسة.
ويجب أن يكون على صورة غير منهرة ولا مشينة، ولا يلزم أن يكون أحسن الناس وجها.
ويجب أن يكون منصوصا عليه، لما قدمناه من وجوب عصمته.
ولما كانت العصمة لا تدرك حسا ولا مشاهدة ولا استدلالا ولا تجربة ولا يعلمها إلا الله تعالى، وجب أن ينص عليه ويبينه من غيره على لسان نبي، أن المعجز لا بد أن يظهر على يده علما معجزا عليه بينة من غيره.
غير أن المعجز لا بد أن يستند إلى نص متقدم، لأن الإمام لا يعلم أنه إمام إلا ينص عليه نبي، فإذا نص عليه النبي أو ادعى هو الإمامة جاز أن يظهر الله تعالى على يده علما معجزا، كما نقوله في صاحب الزمان إذا ظهر، فصار النص هو الأصل.
فإن قيل: هلا جاز أن يكلف الله تعالى الأمة اختيار الإمام إذا علم الله تعالى أن اختيارهم لا يقع إلا على معصوم، فيحسن تكليفهم ذلك.
قلنا: لا يعتبر بالعلم في ذلك، لأن علمه تعالى بأنهم لا يختارون إلا المعصوم لا يكفي في حسن هذا التكليف، لأنه إذا لم يكن طريقا إلى الفرق بين المعصوم وغيره وكلفوا اختيار المعصوم كان في ذلك تكليف لما لا دليل عليه، وهو تكليف ما لا يطاق الذي بينا قبحه.
ويلزم على ذلك اختيار الأنبياء واختيار الشرائع إذا علم الله تعالى أنه لا يقع اختيارهم إلا على نبي وعلى ما وهو مصلحة لهم، ويلزم حسن تكليف الإخبار عن الغائبات إذا علم أنهم يخبرون بالصدق، وذلك باطل.
ومن ارتكب حسن ذلك كموسى بن عمران عليه السلام، قيل له: لم لا يكلف الله تعالى اعتقاد معرفته ولم ينصب عليه دليلا إذا علم أنه يتفق لهم معرفته من غير دليل.
ويلزم حسن تكليف الإخبار عن المستقبل وإن لم يتعلق بالشرائع، ومعلوم قبح ذلك ضرورة.
فإن قيل: لو نص الله تعالى على صفة وقال من كان عليها فاعلموا أنه معصوم لكان يجوز أن يكلف الاختيار لمن تلك صفته.
قلنا: يجوز ذلك إذا كان هناك طريق إلى معرفة تلك الصفة، لأن هذا نص على الجملة، والنص على الصفة يجري مجرى النص على الغير، ولأجل هذا نص الله تعالى في الشرعيات على صفات الأفعال دون أعيان الأفعال، وكان ذلك جائزا لأن العلة تنزاح به.
فعلى هذا لو كلف الله تعالى الأمة أن يختاروا من ظاهره العدالة ثم قال لهم إن كان كذلك كان معصوما، والأمارات على العدالة ظاهرة منصوبة معلومة بالعادة، فإن ذلك جائز، كما جاز تكليفنا تنفيذ الحكم عند شهادة الشهادتين إذا ظننا عدالتهم ويكون تنفيذ الحكم معلوما وإن كانت العدالة مظنونة، وكذلك كون المختار معصوما يكون معلوما إذا اخترنا من ظاهره العدالة، وذلك لا ينافي النص والمعجز.
ويمكن مثل هذا الترتيب في اعتبار كثرة الثواب وكونه أفضل عند الله تعالى، لأنه لا يعلم ذلك إلا الله كالعصمة فلا بد أن ينص عليه أو يظهر معجزا.
ويمكن أن يعرف أعيان الأئمة بضرب من التقسيم، بأن يقول إذا ثبت وجوب الإمامة والأمة في ذلك بين أقوال ثلاثة مثلا فيفسد القسمين منها فيعلم صحة القسم الآخر على ما سنبينه في أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة من بعده، ولا يحتاج مع ذلك إلى نص ولا معجز.
غير أن هذا إنما إذا كانت الأحوال على ما هي عليه في شرعنا، ويمكن أن يقال قول من قال بإمامة من ثبتت إمامته لا بد أن يستند إلى دليل، لأنه لا بد أن يكون صادرا عن دليل، فهو إما أن يكون نصا أو معجزا، فقد عاد الأمر إلى ما قلناه.
فإن قيل: كيف تدعون وجوب النص أو المعجز، ومعلوم أن الصحابة لما حاجوا في الإمامة فكل طلبه من جهة الاختيار ولم يقل أحد أنه لا تثبت الإمامة إلا بالنص أو المعجز.
قيل: لم نسلم ذلك بل نحن نبين أنهم اختلفوا في نفس الاختيار أيضا فيما بعد، ولو سلمنا لكان إنكارهم واختلافهم في غير المختار، ويحتمل أن يكون إنكارا لنفس الاختيار ويحتمل أن يكون لغيره، وإذا احتمل أمرين سقط السؤال.