عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني
وكتب إلى عبد الله بن عامر: أن أندب إلى أهل البصرة نسخة كتابه إلى أهل الشام فجمع عبد الله بن عامر الناس فقرأ كتابه عليهم، فقامت خطباء من أهل البصرة يحضونه على نصر عثمان والمسير إليه فيهم: مجاشع بن مسعود السلمي، وكان أول من تكلم وهو يومئذ سيد قيس بالبصرة، وقام أيضا قيس بن الهيثم السلمي، فخطب وحض الناس على نصر عثمان، فسارع الناس إلى ذلك، فاستعمل عليهم عبد الله بن عامر مجاشع بن مسعود فسار بهم حتى إذا نزل الناس الربذة ونزلت مقدمته عند صرار ناحية من المدينة أتاهم قتل عثمان . وقال البلاذري: وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بن كريز ومعاوية بن أبي سفيان يعلمهما أن أهل البغي والعدوان من أهل العراق ومصر والمدينة قد أحاطوا بداره فليس يرضيهم بزعمهم شئ دون قتله أو يخلع السربال الذي سربله الله إياه، ويأمرهما بإغاثته برجال ذوي نجدة وبأس ورأي، لعل الله أن يدفع بهم عنه بأس يكيده و يريده، وكان رسوله إلى ابن عامر جبير بن مطعم، وإلى معاوية المسور بن مخرمة الزهري، فأما ابن عامر فوجه إليه مجاشع بن مسعود السلمي في خمس مائة أعطاهم خمس مائة خمس مائة درهم، وكان فيمن ندب مع مجاشع زفر بن الحارث على مائة رجل، وأما معاوية فبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري في ألف فارس، فقدم حبيب أمامه يزيد بن أسد البجلي جد خالد بن عبد الله بن يزيد القسري من بجيلة، وبلغ أهل مصر ومن معهم ممن حاصر عثمان ما كتب به إلى ابن عامر ومعاوية فزادهم ذلك شدة عليه وجدا في حصاره وحرصا على معاجلته بالقتل . أخرج الطبري وغيره وقالوا: كتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإن الله عز وجل بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغ عن الله ما أمره به ثم مضى وقد قضى الذي عليه وخلف فينا كتابه فيه حلاله وحرامه، وبيان الأمور / صفحة 192 / التي قدر فأمضاها على ما أحب العباد وكرهوا، فكان الخليفة أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملأ من الأمة، ثم أجمع أهل الشورى عن ملأ منهم ومن الناس على غير طالب مني ولا محبة، فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون، تابعا غير مستتبع، متبعا غير مبتدع، مقتديا غير متكلف، فلما انتهت الأمور، وانتكث الشر بأهله، بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها، فصبرت لهم نفسي و كففتها عنهم منذ سنين، وأنا أرى وأسمع، فازدادوا على الله عز وجل جرأة حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون، فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق . فأتى الكتاب أهل الأمصار فخرجوا على الصعبة والذلول، فبعث معاوية حبيب ابن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن خديج السكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو . الحديث . ومن حضر الموسم سنة 35 ذكر ابن قتيبة قال: كثب عثمان كتابا بعثه مع نافع طريف إلى أهل مكة و من حضر الموسم يستغيثهم فوافى به نافع يوم عرفة بمكة وابن عباس يخطب وهو يومئذ على الناس كان قد استعمله عثمان على الموسم فقام نافع ففتح الكتاب فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى من حضر الحج من المسلمين . أما بعد: فإني كتبت إليكم كتابي هذا وأنا محصور أشرب من بئر القصور، ولا آكل من الطعام ما يكفيني، خيفة أن تنفد ذخيرتي فأموت جوعا أنا ومن معي، لا أدعى إلى توبة أقبلها، ولا تسمع مني حجة أقولها، فأنشد الله رجلا من المسلمين بلغه كتابي إلا قدم علي فأخذ الحق في ومنعني من الظلم والباطل .
/ صفحة 193 / قال: ثم ابن عباس فأتم خطبته ولم يعرض لشئ به شأنه . قال الأميني: هذا ما يمكننا أن نؤمن به من كتاب عثمان إلى الحضور في الموسم وهناك كتاب مفصل إلى الحاج ينسب إليه يتضمن آيا من الحكم والموعظة الحسنة يطفح عن جوانبه الورع الشديد في دين الله، والأخذ بالكتاب والسنة، والاحتذاء بسيرة الشيخين، يبعد جدا عن نفسيات عثمان وعما عرفته الأمة من تاريخ حياته، والكتاب أخرجه الطبري في تاريخه 5 140 - 143 وراق الدكتور طه حسين ما وجد فيه من المعاني الراقية والجمل الرائقة، والفصول القيمة فذكره في ملحق كتابه " الفتنة الكبرى " ص 227 - 231 ذاهلا عن أن الكتاب لم يرو إلا من طريق ابن أبي سبرة القرشي العامري المدني الوضاع الكذاب السابق ذكره في سلسلة الوضاعين في الجزء الخامس، قال الواقدي: كان كثير الحديث وليس بحجة، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: كان يضع الحديث . قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بشئ كان يضع الحديث ويكذب، وعن ابن معين ليس حديثه بشئ، ضعيف الحديث، وقال ابن المديني: كان ضعيفا في الحديث، وقال مرة: كان منكر الحديث . وقال الجوزجاني: يضعف حديثه . وقال البخاري: ضعيف . وقال مرة: منكر الحديث . وقال النسائي: متروك الحديث . وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ وهو في جملة من يضع الحديث . وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به . وقال الحاكم أبو عبد الله: يروي الموضوعات عن الاثبات (1) . لقد تضمنت هذه الكتب أشياء هي كافية في إثارة عواطف المؤمنين على من كتبها ولو لم يكن له سابقة سوء غيرها . منها: قوله عن المهاجرين والأنصار وليس في المدينة غيرهم: إن أهل المدينة قد كفروا، واخلفوا الطاعة، ونكثوا البيعة . وقوله: فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد . وهو يريد أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، المشهود لهم جمعاء بالعدالة عند قاطبة أهل السنة، ولقد صعدوا وصوبوا في إثبات ذلك بما لا مزيد عليه عندهم، ولا يزالون يحتجون بأقوالهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع تاريخ الخطيب 14: 367 - 372، تهذيب التهذيب 12: 27 .
/ صفحة 194 / وما يؤثر عنهم من قول أو عمل في أحكام الدين، كما يحتجون بما يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السنة، ثقة بإيمانهم، وطمأنينة بعدالتهم، ويرون أنهم لا ينبسون ببنت شفة ولا يخطون في أمر الدين خطوة إلا بأثر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسموع أن منقول: أو مشاهدة عمل منه صلى الله عليه وآله وسلم يطابق ما يرتأونه أو يعملون به، فهل على مؤمن هذا شأنه قذف أثقل عليه من هذا ؟ أو تشويه أمس بكرامته من ذلك ؟ ولعمر الحق أن من يغض عن مثله فلا يستثيره خلو عن العاطفة الدينية، خلو عن الحماس الاسلامي، خلو عن الشهامة المبدئية، خلو عن الغيرة على الحق، خلو وخلو . ولذلك اشتدت الصحابة عليه بعد وقوفهم على هذا وأمثاله . ثم إنه ليس لأحد طاعة مفترضة على أعناق المسلمين بعد الله ورسوله إلا إمام حق يعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والمتجمهرون على عثمان وهم الصحابة أجمع كانوا يرون أنه تخطاهما، وأن ما كان ينوء به من فعل أو قول قد عديا الحق منهما، فأي طاعة واجبة والحال هذه وحسبان القوم كما ذكرناه حتى يؤاخذوا على الخلف ؟ . والبيعة إنما لزمت إن كان صاحبها باقيا على ما بويع عليه، والقوم إنما بايعوه على متابعة الكتاب والسنة والمضي على سيرة الشيخين، وبطبع الحال أنها تنتكث عند نكوص صاحبها عن الشروط، وهو الذي نقمه المسلمون على خليفتهم، فلا موجب لمؤاخذتهم أو منابذتهم، وهاهنا رأى المسلمون أن الرجل زاد ضغثا على أبالة، فهو على أحداثه الممقوتة طفق يستثير الجنود عليهم، ويعرضهم على القتل والنهب، فتداركوا الأمر فأوردوه حياض المنية قبل أن يجلب إليهم البلية، وتلافوا الأمر قبل أن يمسهم الشر، وما بالهم لا تستثيرهم تلكم القذائف ؟ وهم يرون أنهم هم الذين آووا ونصروا ولم يألوا جهدا في جهاد الكفار حتى ضرب الدين بجرانه، فمن العجيب والحالة هذه أن يشبهوا بالأحزاب والكفرة يوم أحد . (ومنها) تلونه في باب التوبة التي تظاهر بها على صهوة المنبر بملأ من الصحابة، وسجل ذلك بكتاب شهد عليه عدة من أعيان الأمة وفي مقدمهم سيدنا أمير المؤمنين علي عليه السلام، وكتب ذلك إلى الأمصار النائية كما تقدم في صفحة 171 و / صفحة 195 / هو في كل ذلك يعترف بالخطيئة ويلتزم بالإقلاع عنها، لكنه سرعان ما نكث التوبة وأبطل المواثيق المؤكدة بكتبه هذه، إذ حسب أن من يكتب إليهم سينفرون إليه مقانب وكتائب وهم أولياءه ومواليه، فنفى عنه المآثم التي شهد عليها أهل المدينة بل وأهل الأمصار من خيرة الأمة، وهو يريد أن يقلب عليهم ظهر المجن، فيؤاخذ وينتقم وكأنه نسي ذلك كله حتى قال: في كتابه إلى أهل مكة: لا أدعى إلى توبة أقبلها، ولا تسمع مني حجة أقولها: يقول له المحامي عن المدنيين: أو لم تدع أيها الخليفة إلى التوبة فتبت على الأعواد وعلى رؤس الاشهاد مرة بعد أخرى ؟ لكنهم وجدوك لا تقر على قرار، ولا تستمر على مبدء، وشاهدوك تتلون تلون الحرباء (1) فجزموا بأن التوبة لا تردعك عن الأحداث، وأن النزوع لا يزعك عن الخطايا، وجئت تماطل القوم بذلك كله حتى يوافيك جيوشك فتهلك الحرث والنسل، وتمكن من أهل دار الهجرة مثل يزيد بن كرز الذي يقول: لو دخلت المدينة وعثمان حي ما تركت بها محتلما إلا قتلته . الخ، عرف القوم أيها الخليفة نواياك السيئة فيهم، وعرفوا انحرافك عن الطريقة المثلى بإبعاد مروان إياك عنها كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يخاطبك: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك ؟ وإن مثلك مثل الظعينة يقاد حيث يسار به (2) فنهضوا للدفع عنهم وعن بيضة الاسلام من قبل أن يقعوا بين الناب والمخلب، فوقع ما وقع وكان أمر الله قدرا مقدورا . ولنا هاهنا مناقشة أخرى في حساب الخليفة فنقول له: ما بالك تكر رأيها الخليفة قولك عن الخلافة: إنها رداء الله الذي كساني . أو إنها قميص سربلنيه الله . أو ما يماثل ذلك ؟ تطفح به كتبك أو يطفو على خطبتك، ويلوكها فمك بين كلمك، كأنك قد حفظتها كلمة ناجعة لدينك ودنياك، واتخذتها وردا لك كأنك تحاذر في تركها النسيان غير أنه عزب عنك محاسبة من تخاطبهم بها إياك، فما جواب قومك إن قالوا لك ؟ متى سربلك الله بهذا القميص ؟ وقد مات من سربلك، وانقلب عليك بعد قبل موته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحرباء: ضرب من الزحافات تتلون في الشمس ألوانا مختلفة، يضرب بها المثل في المنقلب (2) راجع ما مر في صفحة 174، 175 من هذا الجزء .
/ صفحة 196 / وعددته لذلك منافقا، وأوصى أن لا تصلي عليه أنت، وكان يقول لعلي أمير المؤمنين خذ سيفك وآخذ سيفي إنه قد خالف ما أعطاني، وكان يحث الناس عليك ويقول: عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه، وحلف أن لا يكلمك أبدا، وقد دخلت عليه عائدا في مرضه فتحول إلى الحائط ولم يكلمك (1) وهاجرك إلى آخر نفس لفظه . وتبعه على خلافك الباقون من أهل الشورى . وكلنا نحسب أن نصب الخليفة لا يجب على الله سبحانه إن كنا مقتفين أثر الشيخين وإنما هو مفوض إلى الأمة تختار عليها من شاءت، وإن حدنا في ذلك من قول الله تعالى: وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة (2) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (3) وعن نصوص النبي الأعظم وقد مر شطر منها في غضون أجزاء كتابنا هذا . فهل ترى أيها الخليفة أنه كان يجب على الله سبحانه أن يمضي خيرة الأمة ؟ أكان في رأي الجليل إعواز في تقييض الإمام بنفسه حتى ينتظر في ذلك مشتبك آراء الأمة أو مرتبك أهوائهم فيمضي ما ارتأوه ؟ وبهذه المناسبة تنسب ذلك السربال إليه، لا أضنك أيها الخليفة يسعك أن تقرر ما استفهمناه، غير أن آخر دعواك بعد العجز عن الجواب: لا أنزع قميصا ألبسنيه الله . وعلى كل لقد أوقفنا موقف الحيرة في أمر هذا السريال ومن حاكه والنول الذي حيك عليه، فقد وجدنا أول الخلفاء تسربله بانتخاب غير دستوري بانتخاب جر الويلات على الأمة حتى اليوم، بانتخاب سود صحيفة التاريخ وشوه سمعة السلف، وقد تقمصه ابن أبي قحافة وهو يعلم أن في الأمة من محله من الخلافة محل القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير، كما قاله مولانا أمير المؤمنين ثم مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده، فيا عجبا يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته (4) فتقمصه الثاني بالنص ممن قبله وهو يعلم أن في الأمة من هو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع ما مر في هذا الجزء من حديث عبد الرحمن بن عوف ص 86 - 91 . (2) سورة القصص: 67 . (3) سورة الأحزاب: 36 . (4) راجع ما أسلفناه في الجزء السابع ص 81 ط 2 .
/ صفحة 197 / أولى منه كما قال مولانا أمير المؤمنين (1) وسربلك إياه أيها الخليفة عبد الرحمن بن عوف وفي لسانه قوله لعلي: بايع وإلا ضربت عنقك، ولم يكن مع أحد يومئذ سيف غيره، فخرج علي مغضبا فلحقه أصحاب الشورى قائلين: بايع وإلا جاهدناك (2) . فأي من هذه السرابيل منسوج بيد الحق حتى يصح عزوه إليه سبحانه ؟ ولهذا البحث ذيول ضافية حولها أبحاث مترامية الأطراف، حول خلافة الخلفاء من بني أمية وغيرهم يشبه بعضها بعضا، ولعلك في غنى عن التبسط في ذلك والاسترسال حول توثبهم على عرش الإمامة . نعم: الخلافة التي يصح فيها أن يقال: إنها سربال من الله سبحانه، هي التي قيض صاحبها المولى جلت قدرته، وبلغ عنه نبيه الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، هي التي أخبر به النبي الأعظم به أول يومه فقال: إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء (3) فهي إمرة إلهية لا تتم إلا بالنص وليس لصاحبها أن ينزعها، هي التي قرنت بولاية الله ورسوله في قوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا (4) وهي التي أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة (5) وشتان بينها وبين رجال الانتخاب وإن كان دستوريا ؟ . وأما ما ارتآه المتجمهرون وعبثت به الميول والشهوات، فهي سلطة عادية يفوز بها المتغلبون، وبيد الأمة حلها وعقدها، والغاية منها عند من يحذو حذو الخليفة في جملة من الصولات كلائة الثغور، واقتصاص القاتل، وقطع المتلصص، إلى آخر ما مر تفصيله في الجزء السابع صفحة 131 - 151 ط 2 وليس في عهدة المتسلق على عرشه تبليغ الأحكام، وترويض النفوس، وتهذيب الأخلاق، وتعليم الملكات الفاضلة، وتربية الملأ في عالم النشو والارتقاء، فإن تلكم الغايات في تلكم السلطات تحصل بمن هو خلو عن ذلك كله كما شوهد فيمن فاز بها عن غير نص إلهي . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) يأتي حديثه بلفظه . (2) الأنساب للبلاذري 5: 22 . (3) مر حديثه في الجزء السابع ص 134 ط 2 . (4) راجع ما مضى في الجزء الثاني ص 47، والجزء الثالث ص 155 - 167 ط 2 . (5) راجع الجزء الأول من كتابنا هذا ص 230 - 239 ط 2 .
/ صفحة 198 / أخرج ابن سعد في طبقاته 5: 25 ط ليدن من طريق أبي حفصة مولى مروان قال: خرج مروان بن الحكم يومئذ يرتجز ويقول: من يبارز ؟ فبرز إليه عروة بن شييم بن البياع الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخر لوجهه فقام إليه عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي بسكين معه ليقطع رأسه فقامت إليه أمه التي أرضعته وهي فاطمة الثقفية وهي جدة إبراهيم بن العربي صاحب اليمامة فقالت: إن كنت تريد قتله ؟ فقد قتله، فما تصنع بلحمه أن تبضعه ؟ فاستحى عبيد بن رفاعة منها فتركه . وروى عن عياش بن عباس قال: حدثني من حضر ابن البياع يومئذ يبارز مروان بن الحكم: فكأني أنظر إلى قبائه قد أدخل طرفيه في منطقته وتحت القباء الدرع، فضرب مروان على فقاه ضربة فقطع علابي رقبته ووقع لوجهه فأرادوا أن يذففوا عليه فقيل: تبضعون اللحم ؟ فترك . وأخرج البلاذري من طريق خالد بن حرب قال: لجأ بنو أمية يوم قتل عثمان إلى أم حبيبة (1) فجعلت آل العاص وآل أبي العاص وآل أسيد في كندوج (2) وجعلت سائرهم في مكان آخر، ونظر معاوية يوما إلى عمرو بن سعيد يختال في مشيته فقال: بأبي وأمي أم حبيبة، ما كان أعلمها بهذا الحي حين جعلتك في كندوج ؟ . قال: ومشى الناس إلى عثمان وتسلقوا عليه من دار بني حزم الأنصاري، فقاتل دونه ثلاثة من قريش: عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود (3) . عبد الله بن عوف ابن السباق (4) . وعبد الله (5) بن عبد الرحمن بن العوام، وكان عبد الله بن عبد الرحمن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله . (2) كندوج: شبه المخزن في البيت . (3) قال ابن الأثير في أسد الغابة 3: 273، قتل يوم الجمل أو يوم الدار وقال ابن حجر في الإصابة 2: 381: قتل يوم الدار . (4) هو عبد الله بن أبي مرة " أبي ميسرة " العبدري قتل مع عثمان كما في الاستيعاب 2: 3، و الإصابة 2: 367 . (5) ذكر أبو عمر في الاستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة عبد الرحمن، وابن حجر في الإصابة 2: 415: إنه ممن قتل يوم الدار .
/ صفحة 199 / ابن العوام يقول: يا عباد الله ! بيننا وبينكم كتاب الله . فشد عليه عبد الرحمن بن عبد الله الجمحي وهو يقول: لأضربــــــــن اليوم بالقرضاب بقيــــة الكــــفار والأحــــــزاب ضرب امرئ ليس بذي ارتياب أأنـــــت تدعــــونا إلى الكتاب؟ نبذته في سائر الأحقاب فقتله، وشد جماعة من الناس على عبد الله بن وهب بن زمعة، وعبد الله بن عوف ابن السباق، فقتلوهما في جانب الدار . جاء مالك الأشتر حتى انتهى إلى عثمان فلم ير عنده أحدا فرجع فقال له مسلم بن كريب القابضي من همدان: أيا أشتر ! دعوتنا إلى قتل رجل فأجبناك حتى إذا نظرت إليه نكصت عنه على عقبيك . فقال له الأشتر: لله أبوك أما تراه ليس له مانع ولا عنه وازع ؟ فلما ذهب لينصرف قال ناتل مولى عثمان: واثكلاه هذا والله الأشتر الذي سعر البلاد كلها على أمير المؤمنين، قتلني الله إن لم أقتله . فشد في أثره فصاح به عمرو بن عبيد الحارثي من همدان: وراءك الرجل يا أشتر ! فالتفت الأشتر إلى ناتل فضربه بالسيف فأطار يده اليسرى ونادى الأشتر: يا عمرو بن عبيد إليك الرجل فاتبع عمرو ناتلا فقتله . وقال مروان في يوم الدار: ومـــا قلت يوم الدار للقوم: حاجزوا رويدا ولا اختاروا الحياة على القتل ولكنــــني قــــد قــــلت للقـوم: قاتلوا بأسيافكــــم لا يــــوصلن إلــى الكهل وفي رواية أبي مخنف: تهيأ مروان وعدة معه للقتال فنهاهم عثمان فلم يقبلوا منه وحملوا على من دخل الدار فأخرجوهم . ورمي عثمان بالحجارة من دار بني حزم بن زيد الأنصاري ونادوا: لسنا نرميك، الله يرميك، فقال: لو رماني الله لم يخطأني، و شد المغيرة بن الأخنس بالسيف وهو يقول: قد علمت جارية عطبول لهــــا وشـاح ولها جديل أني لمن حاربت ذو تنكيل فشد عليه رفاعة بن رافع وهو يقول: قــد علمت خود صحوب للذيل ترخي قرونا مثل أذناب الخيل / صفحة 200 / أن لقرني في الوغى مني الويل فضربه على رأسه بالسيف فقتله . ويقال: بل قتله رجل من عرض الناس، وخرج مروان بن الحكم وهو يقول: قد علمت ذات القرون الميل والــــكف والأنامل الطفول أني أروع أول الرعــــــيل ثم ضرب عن يمينه وشماله فحمل عليه الحجاج بن غزية وهو يقول: قد علمت بيضاء حسناء الطلل واضحــة الليتين قعساء الكفل أني غــــداة الروع مقدام بطل فضربه على عنقه بالسيف فلم يقطع سيفه وخر مروان لوجهه وجاءت فاطمة بنت شريك الأنصارية من بلي - وهي أم إبراهيم بن عربي الكناني الذي كان عبد الملك ابن مروان ولاه اليمامة وهي التي كانت ربت مروان - فقامت على رأسه ثم أمرت به فحمل، وادخل بيتا فيه كنه (1) وشد عامر بن بكير الكناني وهو بدري على سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية فضربه بالسيف على رأسه، وقامت نائلة بنت الفرافصة على رأسه ثم احتملته فأدخلته بيتا وأغلقت بابه (2) . وفي رواية الطبري من طريق أبي حفصة مولى مروان: لما حصر عثمان رضي الله عنه شمرت معه بنو أمية، ودخل معه مروان الدار فكنت معه في الدار، فأنا والله أنشبت القتال بين الناس رميت من فوق الدار رجلا من أسلم فقتلته وهو نيار الأسلمي فنشب القتال، ثم نزلت فاقتتل الناس على الباب، فأرسلوا إلى عثمان أن أمكنا من قاتله قال: والله ما أعرف له قاتلا فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران، فلما أصبحوا غدوا فأول من طلع علينا كنانة بن عتاب في يده شعلة من نار على ظهر سطوحنا قد فتح له من دار آل حزم، ثم دخلت الشعل على أثره تنضح بالنفط فقاتلناهم ساعة على الخشب وقد اضطرم الخشب، فأسمع عثمان يقول لأصحابه: ما بعد الحريق شئ قد احترق الخشب واحترقت الأبواب ومن كانت لي عليه طاعة فليمسك داره، ثم قال لمروان: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) كنة بالضم: جناح يخرج من الحائط . والسقيفة تشرع فوق باب الدار: وقيل: هو مخدع أو رف يشرع في البيت . (2) الأنساب 5: 78 - 81 .
/ صفحة 201 / اجلس فلا تخرج . فعصاه مروان فقال: والله لا تقتل ولا يخلص إليك وأنا أسمع الصوت ثم خرج إلى الناس فقلت: ما لمولاي مترك . فخرجت معه أذب عنه ونحن قليل فأسمع مروان يقول: قد علمت ذات القرون الميل والكــــف والأنامـــل الطفول أنــــي أروع أول الــــرعـيل بفــــاره مثــــل قــــطا الشليل وقال أبو بكر بن الحارث: كأني أنظر إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي وهو مسند ظهره إلى مسجد نبي الله صلى الله عليه وسلم وعثمان محصور فخرج مروان فقال: من يبارز ؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان بن عروة (1): قم إلى هذا الرجل . فقام إليه غلام شاب طوال فأخذ رفيف الدرع فغرزه في منطقته فأعور له عن ساقه فأهوى له مروان وضربه ابن عروة على عنقه، فكأني أنظر إليه حين استدار وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عليه (إلى آخر ما مر عن ابن سعد) . ومن طريق حسين بن عيسى عن أبيه قال: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار عثمان رضي الله عنه، وأبى إلا الإقامة على أمره، وأرسل إلى حشمه وخاصته فجمعهم فقام رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: نيار بن عياض وكان شيخا كبيرا فنادى: يا عثمان ! فأشرف عليه من أعلى داره فناشده الله وذكره الله لما اعتزلهم، فبينا هو يراجعه الكلام إذا رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم، وزعموا أن الذي رماه كثير بن الصلت الكندي، فقالوا لعثمان عند ذلك: إدفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به . فقال: لم أكن لأقتل رجلا نصرني وأنتم تريدون قتلي، فلما رأوا ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه، وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة، وخرج سعيد بن العاص في عصابة، وخرج المغيرة بن الأخنس الثقفي في عصابة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان الذي حداهم على القتال أنه بلغهم أن مددا من أهل البصرة قد نزلوا صرارا وهي من المدينة على ليلة، وأن أهل الشام قد توجهوا مقبلين فقاتلوهم قتالا شديدا على باب الدار فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزا: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) لعل الصحيح: عروة بن شييم البياع الليثي كما جاء في رواية الطبري في تاريخه 5، 133 ومر في ص 198 من رواية ابن سعد في طبقاته .
/ صفحة 202 / قد علمت جـــارية عطبول لهــــا وشــاح ولها حجول أني بنصل السيف خنشليل فحمل عليه عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو يقول: إن تك بالسيف كما تقول فاثبت لقرن ماجد يصول بمشــــرفي حده مصقول فضربه عبد الله فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري ثم الزرقي على مروان ابن الحكم فضربه فصرعه فنزع عنه وهو يرى أنه قد قتله، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات وانهزم القوم حتى لجأوا إلى القصر فاعتصموا ببابه فاقتلوا عليه قتالا شديدا فقتل في المعركة على الباب زياد بن نعيم الفهري (1) في ناس من أصحاب عثمان فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو بن حزم الأنصاري باب داره وهو إلى جنب دار عثمان بن عفان ثم نادى الناس، فأقبلوا عليهم من داره فقاتلوهم في جوف الدار حتى انهزموا وخلي لهم عن باب الدار فخرجوا هرابا في طريق المدينة، وبقي عثمان في أناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه وقتل عثمان رضي الله عنه (2) . وفر خالد بن عقبة بن أبي معيط أخو الوليد يوم الدار، وإليه أشار عبد الرحمن ابن سيحان (3) بقوله: يلومونني إن جلت في الدار حاسرا وقــد مر منها خالد وهو دارع (4) فــــإن كــــان نـادى دعوة فسمعتها فشــلت يدي واستك مني المسامع فقال خالد: لعــــمري لقــــد أبصــــرتهم فتــركتهم بعينك إذ ممشاك في الدار واسع (5) وقال أبو عمر: قتل المغيرة بن الأخنس يوم الدار مع عثمان رحمه الله وله يوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) عده من قتلى يوم الدار أبو عمر في الاستيعاب وابن حجر في الإصابة . (2) تاريخ الطبري 5: 122 - 125 الكامل لابن الأثير 3: 73، 74 . (3) كذا في الأنساب وفي الاستيعاب والإصابة: أزهر بن سحبان . (4) في الأنساب للبلاذري: يلومونني في الدار إن غبت عنهم وقـــد فــــر عنهم خالد وهو دارع (5) الأنساب 5: 117، الاستيعاب 1: 155، الإصابة 1: 103، 410 .
/ صفحة 203 / الدار أخبار كثيرة، ومنها: إنه قال لعثمان حين أحرقوا بابه: والله لا قال الناس عنا إنا خذلناك وخرج بسيفه وهو يقول: لما تهدمت الأبواب واحـــترقت يممـــت منهن بابا غير محترق حقــــا أقــــول لعــــبد الله آمره إن لم تقاتل لدى عثمان فانطلق والله لا أتـركه ما دام بي رمق حتــى يزايل بين الراس والعنق هــو الإمام فلست اليوم خاذله إن الفــرار علي اليوم كالسرق وحمل على الناس فضربه رجل على ساقه فقطعها ثم قتله . فقال رجل من بني زهرة لطلحة بن عبيد الله: قتل المغيرة بن الأخنس فقال: قتل سيد حلفاء قريش . راجع " الاستيعاب " ترجمة المغيرة . وقال ابن كثير في تاريخه 7: 188: ومن أعيان من قتل من أصحاب عثمان زياد ابن نعيم الفهري، والمغيرة بن الأخنس بن شريق، ونيار بن عبد الله الأسلمي، في أناس وقت المعركة . قال الأميني: لقد حدتني إلى سرد هذه الأحاديث الدلالة بها منضمة إلى ما سبقها من الأخبار على أنه لم يكن مع عثمان من يدافع عنه غير الأمويين ومواليهم وحثالة ممن كان ينسج على نولهم تجاه هياج المهاجرين والأنصار فقتل من أولئك من قتل، وضم إليه كندوج أم حبيبة آخرين، وتفرق شذاذ منهم هاربين في أزقة المدينة، فلم يبق إلا الرجل نفسه وأهله حتى انتهت إليه نوبة القتل من دون أي مدافع عنه، فتحفظ على هذا فإنه سوف ينفعك فيما يأتي من البحث عن سلسلة الموضوعات . (لفت نظر) عد نيار بن عبد الله بن أصحاب عثمان كما فعله ابن كثير غلط فاحش دعاه إليه حبه إكثار عدد المدافعين عن الخليفة المقتولين دونه، وقد عرفت أنه كان شيخا كبيرا حضر ذلك الموقف للنصيحة والموعظة الحسنة لعثمان فقتله مولى مروان بسهم، فشب به القتال، وطولب عثمان بقاتله ليقتص منه وامتنع عن دفعه فهاج بذلك غضب الأنصار عليه .
/ صفحة 204 /
إنا لله وإنا إليه راجعون أخرج الطبري في تاريخه وغيره من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال: أشرف عثمان على الناس وهو محصور وقد أحاطوا بالدار من كل ناحية فقال: أنشدكم بالله عز وجل هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يخير لكم وأن يجمعكم على خيركم ؟ فما ظنكم بالله ؟ أتقولونه لم يستجب لهم وهنتم على الله سبحانه ؟ وأنتم يومئذ أهل حقه من خلقه، وجميع أموركم لم تتفرق . أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبال من ولاه ؟ والدين يومئذ يعبد به الله ولم يتفرق أهله فتوكلوا، أو تخذلوا وتعاقبوا، أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة ؟ وإنما كابرتم مكابرة، فوكل الله الأمة إذا عصته، لم تشاوروا في الإمام، ولم يجتهدوا في موضع كراهته، أم تقولون: لم يدر الله ما عاقبة أمري ؟ فكنت في بعض أمري محسنا ولأهل الدين رضى فما أحدثت بعد في أمري ما يسخط الله وتسخطون مما لم يعلم الله سبحانه يوم اختارني وسربلني سربال كرامته، وأنشدكم بالله هل تعلمون لي من سابقة خير و سلف خير قدمه الله لي، وأشهدنيه من حقه وجهاد عدوه ؟ حق على كل من جاء من بعدي أن يعرفوا لي فضلها، فمهلا لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه أو كفر بعد إسلامه، أو قتل نفسا بغير نفس فيقتل بها، فإنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لم يرفعه الله عنكم إلى يوم القيامة ولا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني لم تصلوا من بعدي جميعا أبدا، ولم تقتسموا بعدي فئ جميعا أبدا، ولن يرفع الله عنكم الاختلاف أبدا . قالوا له: أما ما ذكرت من استخارة الله عز وجل الناس بعد عمر رضي الله عنه فيمن يولون عليهم ثم ولوك بعد استخارة الله، فإن كل ما صنع الله الخيرة، ولكن الله سبحانه جعل أمرك بلية ابتلى بها عباده . وأما ما ذكرت من قدمك وسبقك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك قد كنت ذا قدم / صفحة 205 / وسلف وكنت أهلا للولاية ولكن بدلت بعد ذلك وأحدثت ما قد علمت . وأما ما ذكرت مما يصيبنا إن نحن قتلناك من البلاء فإنه لا ينبغي ترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاما قابلا . وأما قولك: إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت: قتل من سعى في الأرض فسادا، وقتل من بغى ثم قاتل على بغيه، و قتل من حال دون شئ من الحق ومنعه ثم قاتل دونه وكابر عليه، وقد بغيت، ومنعت للحق وحلت دونه وكابرت عليه، تأبى أن تقيد من نفسك من ظلمت عمدا، وتمسكت بالإمارة علينا، وقد جرت في حكمك وقسمك، فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليه وأن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون بغير أمرك فإنما يقاتلون لتمسكك بالإمارة فلو أنك خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال دونك . قال البلاذري وغيره: لما بلغ أهل مصر ومن معهم ممن حاصر عثمان ما كتب به إلى ابن عامر ومعاوية فزادهم ذلك شدة عليه وجدا في حصاره وحرصا على معاجلته بالقتل . وكان طلحة قد استولى على أمر الناس في الحصار، وأمرهم بمنع من يدخل عليه والخروج من عنده، وأن يدخل إليه الماء، وأتت أم حبيبة بنت أبي سفيان بادواة وقد اشتد عليه الحصار فمنعوها من الدخول فقالت: إنه كان المتولي لوصايانا وأمر أيتامنا وأنا أريد مناظرته في ذلك، فأذنوا لها فأعطته الأدواة . وقال جبير بن مطعم: حصر عثمان حتى كان لا يشرب إلا من فقير في داره فدخلت على علي فقلت: أرضيت بهذا أن يحصر ابن عمتك حتى والله ما يشرب إلا من فقير في داره ؟ فقال: سبحان الله أو قد بلغوا به هذه الحال ؟ قلت: نعم، فعمد إلى روايا ماء فأدخلها إليه فسقاه . ولما وقعت الواقعة، وقام القتال، وقتل في المعركة زياد بن نعيم الفهري في ناس من أصحاب عثمان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو بن حزم الأنصاري باب داره وهو إلى جنب دار عثمان بن عفان ثم نادى الناس فأقبلوا عليهم من داره فقاتلوهم في جوف الدار حتى انهزموا وخلي لهم عن باب الدار فخرجوا هرابا في طرق المدينة و بقي عثمان في أناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه وقتل عثمان رضي الله عنه / صفحة 206 / أخرج ابن سعد والطبري من طريق عبد الرحمن بن محمد قال: إن محمد بن أبي بكر تسور على عثمان من دار عمرو بن حزم ومعه كنانة بن بشر بن عتاب، وسودان ابن حمران، وعمرو بن الحمق، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف سورة البقرة فتقدمهم محمد بن أبي بكر فأخذ بلحية عثمان فقال: قد أخزاك الله يا نعثل ! فقال عثمان: لست بنعثل، ولكن عبد الله وأمير المؤمنين . فقال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان و فلان . فقال عثمان: يا ابن أخي ! دع عنك لحيتي، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه فقال محمد: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك . فقال عثمان: أستنصر الله عليك و أستعين به ثم طعن جبينه بمشقص (1) في يده . وفي لفظ البلاذري: تناول عثمان المصحف ووضعه في حجره وقال: عباد الله ! لكم ما فيه، والعتبى مما تكرهون، أللهم اشهد، فقال محمد بن أبي بكر: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، ثم رفع جماعة قداح كانت في يده فوجأ بها في خششائه (2) حتى وقعت في أوداجه فحزت ولم تقطع، فقال: عباد الله ! لا تقتلوني فتندموا و تختلفوا . وفي لفظ ابن كثير: جاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا فأخذ بلحيته فعال بها حتى سمعت وقع أضراسه فقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، و ما أغنت عنك كتبك . وفي لفظ ابن عساكر: قال محمد بن أبي بكر: على أي دين أنت يا نعثل ؟ قال: على دين الاسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين . قال: غيرت كتاب الله . فقال: كتاب الله بيني وبينكم . فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل، وشحطه بيده من البيت إلى باب الدار وهو يقول: يا ابن أخي ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي . قال ابن سعد والطبري: ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه ثم علاه السيف حتى قتله . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المشقص: نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض . (2) الخششاء: العظم الدقيق العاري من الشعر الناتئ خلف الأذن .
/ صفحة 207 / وفي رواية ابن أبي عون: ضرب كنانة بن بشر التجيبي جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخر لجنبه، قال الوليد بن عقبة أو غيره: عــــلاه بالعــــمود أخـــــو تجيب فأوهى الرأس منه والجبينا (1) وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فإني طعنتهن لله، وأما ست فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه . وأقبل عمير بن ضابئ عليه فكسر ضلعا من أضلاعه، وفي الإصابة: لما قتل عثمان وثب عمير بن ضابئ عليه فكسر ضلعين من أضلاعه . وقال المسعودي: وكان فيمن مال عليه عمير بن ضابئ البرجمي وخضخص بسيفه بطنه . وسيوافيك حديث آخر عنه لدة هذا . وفي لفظ الطبري وابن عبد ربه وابن كثير: ضربوه على رأسه ثلاث ضربات، و طعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم وقد أثخنوه وبه حياة وهم يريدون قطع رأسه فألقت نائلة وابنة شبيبة بن ربيعة زوجتاه بنفسهما عليه، فقال ابن عديس: اتركوه . فتركوه ووطئتا وطئا شديدا . وفي لفظ ابن كثير: في رواية: إن الغافقي بن حرب تقدم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في فيه . وذكر البلاذري من طريق الحسن عن وثاب وكان مع عثمان يوم الدار وأصابته طعنتان كأنهما كيتان قال: بعثني عثمان فدعوت الأشتر له فقال: يا أشتر ! ما يريد الناس مني ؟ قال: يخيرونك أن تخلع لهم أمرهم، أو تقص من نفسك وإلا فهم قاتلوك . قال: أما الخلع فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله، وأما القصاص فوالله لقد علمت أن صاحبي كانا يعاقبان، وما يقوم بدني للقصاص، وأما قتلي فوالله لئن قتلتموني لا تتحابون بعدي أبدا ولا تقاتلون عدوا جميعا أبدا . وقال وثاب: أصابتني جراحة فأنا أنزف مرة وأقوم مرة، فقال لي عثمان: هل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) من المستغرب جدا أن أبا عمر ابن عبد البر ذكر هذا البيت في " الاستيعاب " في ترجمة مولانا أمير المؤمنين بعد ذكر قتله وقال: قال شاعرهم: عـــــلاه بالعمود أخو تجوب فأوحى الراس منه والجبينا
/ صفحة 208 / عندك وضوء ؟ قلت: نعم فتوضأ ثم أخذ المصحف فتحرم به من الفسقة فبينا هو كذلك إذ جاء رويجل كأنه ذئب فاطلع ثم رجع، فقلنا لقد ردهم أمر ونهاهم، فدخل محمد بن أبي بكر حتى جثى على ركبتيه، وكان عثمان حسن اللحية، فجعل يهزها حتى سمع نقيض أضراسه ثم قال: ما أغنى عنك معاوية، ما أغنى عنك ابن عامر، فقال: يا ابن أخي ! مهلا فوالله ما كان أبوك ليجلس مني هذا المجلس، قال: فأشعره وتعاونوا عليه فقتلوه . وأخرج من طريق ابن سيرين قال: جاء ابن بديل إلى عثمان - وكان بينهما شحناء - ومعه السيف وهو يقول: لأقتلنه، فقالت له جارية عثمان: لأنت أهون على الله من ذلك، فدخل على عثمان فضربه ضربة لا أدري ما أخذت منه . راجع طبقات ابن سعد ط ليدن 3: 51، أنساب البلاذري 5: 72، 82، 83 92، 97، 98، الإمامة والسياسة 1: 39، تاريخ الطبري 5: 125، 131، 132، العقد الفريد 2: 270، مروج الذهب 1، 442، الاستيعاب 2: 477، 478، تاريخ ابن عساكر 4: 372، الكامل لابن الأثير 3: 72، 75، شرح ابن أبي الحديد 1: 166، 168، تاريخ ابن خلدون 2: 401، تاريخ أبي الفدا ج 1: 170، تاريخ ابن كثير 7، 184، 185، 187، 188، حياة الحيوان للدميري 1: 54، مجمع الزوائد 7: 232، تاريخ الخميس 2: 263، السيرة الحلبية 2، 85، الإصابة 2: 215، إزالة الخفاء 2: 239 - 242 . أخرج الطبري من طريق أبي بشير العابدي قال: نبذ عثمان رضي الله عنه ثلاثة أيام لا يدفن، ثم أن حكيم بن حزام القرشي ثم أحد بني أسد بن عبد العزى، وجبير ابن مطعم كلما عليا في دفنه وطلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك، ففعل وأذن لهم علي، فلما سمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وهم يريدون به حائطا بالمدينة يقال له: حش كوكب (1) كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما خرج به على الناس رجموا سريره وهموا بطرحه، فبلغ ذلك عليا، فأرسل إليهم يعزم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) قال أبو عمر في " الاستيعاب " وياقوت في " المعجم " والمحب الطبري في " الرياض ": كوكب رجل من الأنصار، والحش: البستان .
/ صفحة 209 / عليهم ليكفن عنه، ففعلوا فانطلق به حتى دفن رضي الله عنه في حش كوكب، فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به إلى البقيع، فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين . ومن طريق أبي كرب - وكان عاملا على بيت مال عثمان - قال: دفن عثمان رضي الله عنه بين المغرب والعتمة ولم يشهد جنازته إلا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه، وأخذ الناس الحجارة وقالوا: نعثل نعثل، وكادت ترجم، فقالوا: الحائط الحائط، فدفن في حائط خارجا . ومن طريق عبد الله بن ساعدة قال: لبث عثمان بعد ما قاتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة: حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم ابن حذيفة . فلما وضع ليصلى عليه جاء نفر من الصحابة يمنعونهم الصلاة عليه فيهم: أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، وأبو حية المازني في عدة ومنعوهم أن يدفن بالبقيع فقال أبو جهم: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته، فقالوا: لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبدا، فدفنوه في حش كوكب، فلما ملكت بنو أمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع، فهو اليوم مقبرة بني أمية . ومن طريق عبد الله بن موسى المخزومي قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أرادوا حز رأسه فوقعت عليه نائلة وأم البنين فمنعهم وصحن وضربن الوجوه وخرقن ثيابهن، فقال ابن عديس: اتركوه، فأخرج عثمان ولم يغسل إلى البقيع، وأرادوا أن يصلوا عليه في موضع الجنائز فأبت الأنصار، وأقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوع على باب فنزا عليه فكسر ضلعا من أضلاعه وقال: سجنت ضابئا حتى مات في السجن . وأخرج ابن سعد والطبري من طريق مالك بن أبي عامر قال: كنت أحد حملة عثمان رضي الله عنه حين قتل، حملناه على باب وأن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به، وإن بنا من الخوف لأمرا عظيما حتى واريناه في قبره في حش كوكب . وأخرج البلاذري من رواية أبي مخنف: إن عثمان رضي الله عنه قتل يوم الجمعة فترك في داره قتيلا، فجاء جبير بن مطعم، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومسور بن مخرمة الزهري، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي ليصلوا عليه ويجنوه، فجاء رجال من الأنصار / صفحة 210 / فقالوا: لا ندعكم تصلون عليه، فقال أبو الجهم: ألا تدعونا نصلي عليه ؟ فقد صلت عليه الملائكة، فقال الحجاج بن غزية: إن كنت كاذب فأدخلك الله مدخله، قال: نعم حشرني الله معه، قال ابن غزية: إن الله حاشرك معه ومع الشيطان، والله إن ترك إلحاقك، به لخطأ وعجز . فسكت أبو الجهم، ثم إن القوم أغفلوا أمر عثمان وشغلوا عنه، فعاد هؤلاء النفر فصلوا عليه ودفنوه، وأمهم جبير بن مطعم وحملت أم البنين بنت عيينة بن حصن امرأة عثمان لهم السراج، وحمل على باب صغير من جريد قد خرجت عنه رجلاه وأخرج حديث منع الصلاة عليه أبو عمر في " الاستيعاب " من طريق هشام بن عروة عن أبيه . وقال: إنه لقيهم قوم من الأنصار فقاتلوهم حتى طرحوه، ثم توطأ عمير بن ضابئ بن الحارث بن أرطاة التميمي ثم البرجمي بطنه، وجعل يقول: ما رأيت كافرا ألين بطنا منه، وكان أشد الناس على عثمان، فكان يقول يومئذ: أرني ضابئا، أحي لي ضابئا ليرى ما عليه عثمان من الحال . وقال ابن قتيبة في الشعر والشعراء ص 128: جاء عمير بن ضابئ حتى رفسه برجله . قال البلاذري: ودفن عثمان في حش كوكب وهو نخل لرجل قديم يقال له: كوكب، ثم أقبل الناس حين دفن إلى علي فبايعوه وأرادوا دفن عثمان بالبقيع فمنعهم من ذلك قوم فيهم أسلم بن بجرة الساعدي، ويقال: جبلة بن عمرو الساعدي، وقال ابن دأب: صلى عليه مسور بن مخرمة . وقال المدائني عن الوقاضي عن الزهري: امتنعوا من دفن عثمان فوقفت أم حبيبة بباب المسجد ثم قالت: لتخلن بيننا وبين دفن هذا الرجل أو لأكشفن ستر رسول الله فخلوا بينهم وبين دفنه . وأخرج من طريق أبي الزناد قال: خرجت نائلة امرأة عثمان ليلة دفن ومعها سراج وقد شقت جيبها وهي تصيح: واعثماناه، وأمير المؤمنيناه، فقال لها جبير بن مطعم: أطفئي السراج فقد ترين من الباب، فأطفأت السراج وانتهوا إلى البقيع، فصلى عليه جبير وخلفه حكيم بن حزام، وأبو جهم، ونيار بن مكرم، ونائلة وأم البنين امرأتاه ونزل في حفرته نيار وأبو جهم وجبير، وكان حكيم والامرأتان يدلونه على الرجال / صفحة 211 / حتى قبر وبني عليه وغموا قبره وتفرقوا . وفي لفظ أبي عمر: فلما دفنوه غيبوا قبره، وذكره السمهودي في وفاء الوفاء 2: 99 من طريق ابن شبة عن الزهري . وأخرج ابن الجوزي والمحب الطبري والهيثمي من طريق عبد الله بن فروخ قال: شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه ولم يغسل . وقال المحب: خرجه البخاري والبغوي في معجمه . وذكر ابن الأثير في " الكامل " وابن أبي الحديد في الشرح أنه لم يغسل وكفن في ثيابه . وأخرج أبو عمر في " الاستيعاب " من طريق مالك قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه ألقي على المزبلة ثلاثة أيام فلما كان من الليل أتاه اثنا عشر رجلا (1) فيهم حويطب ابن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وعبد الله بن الزبير فاحتملوه فلما صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قوم من بني مازن: والله لئن دفنتموه ههنا لنخبرن الناس غدا . فاحتملوه وكان على باب وأن رأسه على الباب ليقول: طق طق، حتى صاروا به إلى حش كوكب فاحتفروا له وكانت عائشة بنت عثمان رضي الله عنهما معها مصباح في جرة، فلما أخرجوه ليدفنوه صاحت فقال لها ابن الزبير: والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي في عيناك . فسكتت فدفن . وذكره المحب الطبري في " الرياض " نقلا عن القلعي، وذكر عن الخجندي أنه أقام في حش كوكب ثلاثا مطروحا لا يصلى عليه . وذكر الصفدي في تمام المتون ص 79 عن مالك أن عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام . وقال اليعقوبي: أقام ثلاثا لم يدفن وحضر دفنه حكيم، وجبير، وحويطب، و عمرو بن عثمان ابنه، ودفن ليلا في موضع يعرف بحش كوكب، وصلى عليه هؤلاء الأربعة وقيل: لم يصل عليه، وقيل: أحد الأربعة صلى عليه، فدفن بغير صلاة . وقال ابن قتيبة: ذكروا أن عبد الرحمن بن الأزهر قال: لم أكن دخلت في شئ من أمر عثمان لا عليه ولا له، فإني مجالس بفناء داري ليلا بعد ما قتل عثمان بليلة إذ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أحاديث الباب مطلقة على أن الذين تولوا اجنانه كانوا أربعة . وقال المحب الطبري وقد قيل: إن الذين تولوا تجهيزه كانوا خمسة أو ستة . أربعة رجال وامرأتان نائلة وأم البنين .
/ صفحة 212 / جاءني المنذر بن الزبير فقال إن أخي يدعوك فقمت إليه فقال لي: إنا أردنا أن ندفن عثمان فهل لك ؟ قلت: والله ما دخلت في شئ من شأنه وما أريد ذلك، فانصرفت عنه ثم اتبعته، فإذا هو في نفر فيهم جبير بن مطعم، وأبو الجهم، والمسور، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير فاحتملوه على باب وأن رأسه ليقول: طق طق، فوضعوه في موضع الجنائز فقام إليهم رجال من الأنصار فقالوا لهم: لا والله لا تصلون عليه، فقال أبو الجهم: ألا تدعون نصلي عليه ؟ فقد صلى الله تعالى عليه وملائكته . فقال له رجل منهم: إن كنت كاذبا فأدخلك الله مدخله، فقال له: حشرني الله معه فقال له: إن الله حاشرك مع الشياطين، والله إن تركناكم به لعجز منا . فقال القوم لأبي الجهم: اسكت عنهم وكف فسكت، فاحتملوه ثم انطلقوا مسرعين كأني اسمع وقع رأسه على اللوح حتى وضعوه في أدنى البقيع فأتاهم جبلة بن عمرو الساعدي من الأنصار فقال: لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله ولا نترككم تصلون عليه، فقال أبو الجهم: انطلقوا بنا إن لم نصل عليه فقد صلى الله عليه، فخرجوا ومعهم عائشة بنت عثمان معها مصباح في حق حتى إذا أتوا به جسر (1) كوكب حفروا له حفرة ثم قاموا يصلون عليه وأمهم جبير بن مطعم، ثم دلوه في حفرته فلما رأته ابنته صاحت فقال ابن الزبير: والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي في عينيك فدفنوه، ولم يلحدوه بلبن وحثوا عليه التراب حثوا . وقال ياقوت الحموي: لما قتل عثمان ألقي في حش كوكب ثم دفن في جنبه . وذكر ابن كثير بعض ما أسلفناه نقلا عن البلاذري فقال: ثم أخرجوا بعبدي عثمان اللذين قتلا في الدار وهما: صبيح ونجيح رضي الله عنهما فدفنا إلى جانبه بحش كوكب، وقيل: إن الخوارج لم يمكنوا من دفنهما، بل جروهما بأرجلهما حتى ألقوهما بالبلاط (2) فأكلتهما الكلاب، وقد اعتنى معاوية في أيام إمارته بقبر عثمان، ورفع الجدار بينه وبين البقيع وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله . وذكر الحلبي في السيرة عن ابن ماجشون عن مالك: إن عثمان بعد قتله ألقي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) كذا في النسخة، والصحيح: حش. (2) البلاط من الأرض: وجهها، أو منتهى الصلب منها. وفي لفظ الحلبي كما يأتي: التلال ولعله الصحيح .
/ صفحة 213 / على المزبلة ثلاثة أيام، وقيل، أغلق عليه بابه بعد قتله ثلاثة أيام، لا يستطيع أحد أن يدفنه (إلى آخر ما مر من حديث مالك) ولما دفنوه عفوا قبره خوفا عليه أن ينبش، وأما غلاماه اللذان قتلا معه فجروهما برجليها وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب . وذكر ابن أبي الحديد وابن الأثير والدميري أنه أقام ثلاثة أيام لم يدفن ولم يصل عليه، وقيل لم يغسل ولم يكفن، وقيل: صلى عليه جبير بن مطعم ودفن ليلا . وذكر السمهودي في وفاء الوفا عن عثمان بن محمد الأخنسي عن أم حكيمة قالت: كنت مع الأربعة الذين دفنوا عثمان بن عفان: جبير، حكيم، أبو جهم، نيار الأسلمي وحملوه على باب اسمع قرع رأسه على الباب كأنه دباة ويقول: دب دب . حتى جاؤا به حش كوكب فدفن به ثم هدم عليه الجدار وصلي عليه هناك . طبقات ابن سعد ط ليدن 3: 55: أنساب البلاذري 83، 86، 99، الإمامة والسياسة 1: 40، تاريخ الطبري 5: 143، 144، تاريخ اليعقوبي 2: 153، الاستيعاب 2: 478، 479 صفة الصفوة 1: 117، الكامل لابن الأثير 3: 76، الرياض النضرة 2: 131، 132، معجم البلدان 3: 281، شرح ابن أبي الحديد 1: 168، تاريخ ابن كثير 7: 190، 191، حياة الحيوان للدميري 1: 54، وفاء الوفا للسمهودي 2: 99، السيرة الحلبية 2: 85، تاريخ الخميس 2: 265 . وقال الشاعر المفلق أحمد شوقي بك في دول العرب ص 49 : من لقــــتيل بالسفا (1) مكفن مــــرت بــــه ثلاثــــة لم يدفن تعــــرضه نــــوادبا أرامــــــله ويشفـــق النعش ويأبى حامله قد حيل بين الأرض وابن آدما ونــــوزعـــت دار البقاء قادما قال الأميني: إن هاهنا صحيفة غامضة أقف تجاهها موقف السادر لا تطاوعني النفس على الركون إلى أي من شقي الاحتمال الذين يخالجان في الصدر، وذلك أن ما ارتكب من الخليفة في التضييق عليه وقتله بتلكم الصور المشددة، ثم ما نيل منه بعد القتل من المنع عن تجهيزه وتغسيله ودفنه والصلاة عليه والوقيعة فيه بالسباب المقذع وتحقيره برمي جنازته بالحجارة وكسر بعض أضلاعه، يستدعي إما فسق الصحابة أجمع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) السفا: الغبار .
/ صفحة 214 / فإنهم كانوا بين مباشر لهاتيك الأحوال، وبين خاذل للمودى به، وبين مؤلب عليه، إلى مثبط عنه، إلى راض بما فعلوا، إلى محبذ لتلكم الأهوال، وكان يرن في مسامعهم قوله تعالى: لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . وقوله تعالى: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا . وقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . وما جاء في ذلك من السنة أكثر، وما يؤثر عن نبي العظمة صلى الله عليه وآله وسلم من وجوب دفن موتى المؤمنين وتغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم، وإن حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا، فالقوم إن كانوا متعمدين في مخالفة هذه النصوص ؟ فهم فساق إن لم نقل إنهم مراق عن الدين بخروجهم على الإمام المفترض طاعته . أو أن هذه الأحوال تستدعي انحراف الخليفة عن الطريقة المثلى ؟ وأن القوم اعتقدوا بخروجه عن مصاديق تلكم الأوامر والمناهي المؤكدة التي تطابق عليها الكتاب والسنة . وليس من السهل الهين البخوع إلى أي من طرفي الترديد ؟ أما الصحابة فكلهم عدول عند القوم يركن إليهم ويحتج بأقوالهم وأفعالهم ويوثق بإيمانهم، وقد كهربتهم صحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأخرج درن نفوسهم، وكان في المعمعة منهم بقايا العشرة المبشرة كطلحة والزبير، ولطلحة خاصة فظاظات حول ذلك الجلاد، إلى أناس آخرين من ذوي المآثر نظراء عمار بن ياسر، ومالك الأشتر، وعبد الله بن بديل، وكان بين ظهرانيهم إمام المسلمين أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو المرموق يومئذ للخلافة، وقد انثنت إليه الخناصر، والأمة أطوع له من الظل لذيه . أفتراه والحالة هذه سكت عن تلكم الفظايع وهو مطل عليها من كثب وهو أعلم الناس بنواميس الشريعة، وأهداهم إلى طريقها المهيع، وهو يعلم أن من المحظور ارتكابها ؟ لا ها الله . أو أنه عليه السلام أخذ الحياد في ذلك المأزق الحرج وهو مستبيح للحياد أو لما يعملون به ؟ أنا لا أدري . وليس من المستطاع القول بأن معظم الصحابة ما كانوا عالمين بتلكم الوقايع، أو أنهم ما كانوا يحسبون أن الأمر يبلغ ذلك المبلغ، أو أنهم كانوا غير راضين بهاتيك الأحدوثة، فإن الواقعة ما كانت مباغتة ولا غيلة حتى يعزب عن أحد علمها، فإن / صفحة 215 / الحوار استدام أكثر من شهرين، وطيلة هذه المدة لم يكن للمتجمهرين طلبة من الخليفة إلا الاقلاع عن أحداثه، أو التنازل عن عرش الخلافة، وكانوا يهددونه بالقتل إن لم يخضع لإحدى الطلبتين، وكانت نعرات القوم في ذلك تتموج بها الفضاء، وعقيرة عثمان في التوبة تارة وعدم التنازل أخرى وتخويفهم بمغبات القتل ثالثة تتسرب في فجوات الجو، فلو كان معظم الصحابة منحازين عن ذلك الرأي لكان في وسعهم تفريق الجمع بالقهر أو الموعظة، لكن بالرغم عما يزعم عليهم لم يؤثر عن أحد منهم ما يثبت ذلك أو يقربه، وما أسلفناه من الأحاديث الجمة النامة عن معتقدات الصحابة في الخليفة وفي التوثب عليه تفند هذه المزعمة الفارغة، إن لم نقل أنها تثبت ما يعلمه الكل من الإجماع على مقت الخليفة والتصافق على ما نقموا عليه والرضا بما نيل منه، حتى أن أحدا لم يرو عنه أنه ساءه نداء قاتله حين طاف بالمدينة ثلاثا قائلا: أنا قاتل نعثل (1) . وأما ثاني الاحتمالين فمن المستعصب أن يبلغ سوء الظن بالخليفة هذا المدى، وإن كانت الصحابة جزموا بذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغايب، وقد أوقفناك على قول السيدة عائشة: اقتلوا نعثلا قتله الله وقد كفر . وقولها لمروان: وددت والله أنه في غرارة من غرائري هذه وأني طوقت حمله حتى ألقيه في البحر . وقولها لابن عباس: إياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية . وقول عبد الرحمن بن عوف للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، إنه قد خالف ما أعطاني . وقوله: عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه . وقوله له: لله علي أن لا أكلمك أبدا . وقول طلحة لمجمع بن جارية لما قال له: أظنكم والله قاتليه: (فإن قتل فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل) . وقد مر أن طلحة كان أشد الناس على عثمان في قتله يوم الدار، وقتل دون دمه وقول الزبير: اقتلوه فقد بدل دينكم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الاستيعاب 2: 478 .
/ صفحة 216 / وقوله: إن عثمان لجيفة على الصراط غدا . وقول عمار يوم صفين: امضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله . وقوله: ما تركت في نفسي حزة أهم إلي من أن لا نكون نبشنا عثمان من قبره ثم أحرقناه بالنار . وقوله: أراد أن يغير ديننا فقتلناه . وقوله: والله إن كان إلا ظالما لنفسه الحاكم بغير ما أنزل الله . وقوله: إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالاحسان . وقول حجر بن عدي وأصحابه: هو أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق . وقول عبد الرحمن العنزي: هو أول من فتح أبواب الظلم، وارتج أبواب الحق . وقول هاشم المرقال: إنما قتله أصحاب محمد وقراء الناس حين أحدث أحداثا و خالف حكم الكتاب، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين، وأولى بالنظر في أمور المسلمين وقول عمرو بن العاص: أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها، إن كنت لأحرض عليه حتى إني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل . وقوله له: ركبت بهذه الأمة نهابير من الأمور فركبوها منك، وملت بهم فمالوا بك، اعدل أو اعتزل . وقوله: أنا عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع . وقول سعد بن أبي وقاص: إنه قتل بسيف سلته عائشة، وصقله طلحة، وسمه ابن أبي طالب، وسكت الزبير وأشار بيده، وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه .. إلخ . وقول جهجاه الغفاري: قم يا نعثل ! فأنزل عن هذا المنبر، ندرعك عباءة، ولنطرحك في الجامعة، ولنحملك على شارف من الإبل ثم نطرحك في جبل الدخان . وقول مالك الأشتر: إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره . وقول عمرو بن زرارة: إن عثمان قد ترك الحق وهو يعرفه .. الخ . وقول الحجاج بن غزية الأنصاري: والله لو لم يبق من عمره إلا بين الظهر والعصر / صفحة 217 / لتقربنا إلى الله بدمه . وقول قيس بن سعد الأنصاري: أول الناس كان فيه " قتل عثمان " قياما عشيرتي ولهم أسوة . وقول جبلة بن عمرو الأنصاري: يا نعثل ! والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار . وقوله وقد سئل الكف عن عثمان: والله لا ألقى الله غدا فأقول: إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل . وقول محمد بن أبي بكر له: على أي دين أنت يا نعثل ؟ غيرت كتاب الله . وقوله له: الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . وقول الصحابة مجيبين لقوله: لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: إنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت، قتل من سعى في الأرض فسادا، وقتل من بغى ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شئ من الحق ومنعه ثم قاتل دون وكابر عليه، وقد بغيت، ومنعت الحق، وحلت دونه وكابرت عليه .. الخ . وقول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث من أبيات مرت ج 8: 288 . وشبهته كسرى وقد كان مثله شبيها بكـسرى هديه وضرائبه إلى كلمات آخرين محكمات وأخر متشابهات، يشبه بعضها بعضا . إن في هذا المأزق الحرج لا بد لنا من ركوب إحدى الصعبتين، والحكم هي الفطرة السليمة مهما دار الأمر بين تخطئة إنسان واحد محتف بالأحداث، وبين تضليل آلاف مؤلفة فيهم الأئمة والعلماء والحكماء والصالحون وقد ورد في فضلهم ما ورد كما نرتأيه نحن، أو أن كلهم عدول يحتج بأقوالهم وأفعالهم كما يحبسه أهل السنة، وإن كان في البين اجتهاد كما يحسبونه في أمثال المقام فهو في الطرفين، والتحكم بإصابة إنسان واحد وخطأ تلك الأمة الكبيرة في اجتهادها، تهور بحت، وتمحل لا يصار إليه، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين . |