عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني
بيعة يزيد في الشام وقتل الحسن السبط دونها لما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق بإحضار منه وكان فيهم الأحنف بن قيس دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري فقال له: إذا جلست على المنبر وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذني للقيام فإذا أذنت لك فاحمد الله تعالى واذكر " يزيد " وقل فيه الذي يحق له عليك من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة وحسن القضاء ، ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدقوا قوله ويدعوه إلى يزيد . ثم خطب معاوية فتكلم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد فقال معاوية: أين الأحنف ؟ فأجابه ، قال: ألا تتكلم ؟ فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين ، إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، و يزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين ! فاعرف من تسند إليه الأمر من يدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ولا ينظر لك وأنت انظر للجماعة واعلم باستقامة الطاعة ، إن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا . فغضب الضحاك فقام الثانية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين إن أهل النفاق من أهل العراق ، مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، وألفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا إبليس لهم ربا ، واتخذهم إبليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين ! في نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه ؟ هيهات ولا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق ! على المناصحة لإمامكم وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، ويربحوا من الآجل .
/ صفحة 232 / ثم قام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين ! إنا قد فررنا (1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت إنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فإن تف فأنت أهل الوفاء ، وإن تعذر تعلم والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم في ذلك خبر من - السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب إلى أهل العراق من علي . ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فأثنى على يزيد وحث معاوية إلى بيعته فقام معاوية فقال: أيها الناس: إن لإبليس من الناس إخوانا وخلانا ، بهم يستعد وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أوجفوا ، وإن استغني عنهم أرجفوا ، ثم يلقحون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، أن لووا عروة أمر حنفوا ، وإن دعوا إلى غي أسرفوا ، وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث أصولهم كاجتثاث أصول الفقع (2) فأولى لأولئك ثم أولى ، فإنا قد قدمنا وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر . (3) فدعا معاوية الضحاك فولاه الكوفة ، ودعا عبد الرحمن فولاه الجزيرة . ثم قام الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين ! أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ، ومدخله ومخرجه ، فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تشاور الناس فيه ، وإن كنت تعلم منه غير ذلك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) فر عن الأمر: بحث عنه . (2) الفقع بالفتح والكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة . (3) النذر: الانذار . قال تعالى: فكيف كان عذابي ونذر .
/ صفحة 233 / فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين ، وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير (1) . قال الأميني: لما حس معاوية بدء إعرابه عما رامه من البيعة ليزيد أن الفئة الصالحة من الأمة قط لا تخبت إلى تلك البيعة الوبيلة ما دامت للحسن السبط الزكي سلام الله عليه باقية من الحياة ، على أنه أعطى الإمام مواثيق مؤكدة ليكون له الأمر من بعده ، وليس له أن يعهد إلى أي أحد ، فرأى توطيد السبل لجروه في قتل ذلك الإمام الطاهر ، وجعل ما عهد له تحت قدميه ، قال أبو الفرج: أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيئ أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس إليهما سما فماتا منه (2) . وسيوافيك تفصيل القول في أن معاوية هو الذي قتل الحسن السبط سلام الله عليه .
عبد الرحمن بن خالد (3) في بيعة " يزيد " خطب معاوية أهل الشام وقال لهم: يا أهل الشام إنه كبرت سني وقرب أجلي وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم ، وإنما أنا رجل منكم فرؤا رأيكم . فاصفقوا واجتمعوا وقالوا: رضينا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فشق ذلك على معاوية وأسرها في نفسه ، ثم إن عبد الرحمن مرض فأمر معاوية طبيبا عنده يهوديا يقال له: ابن أثال . وكان عنده مكينا ، أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها ، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات ، ثم دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا هو وغلام له فرصدا ذلك اليهودي فخرج ليلا من عند معاوية فهجم عليه ومعه قوم هربوا عنه فقتله المهاجر . وفي الأغاني: إنه قتله خالد بن المهاجر فأخذ وأتي به معاوية فقال له: لا جزاك الله من زائر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإمامة والسياسة 1 ، 138 - 142 . (2) مقاتل الطالبين ص 29 . (3) أدرك النبي صلى الله عليه وآله قال أبو عمر في الاستيعاب: كان من فرسان قريش وشجعانهم كان له فضل وهدى حسن وكرم إلا أنه كان منحرفا عن علي عليه السلام . وقال ابن حجر في الإصابة: كان عظيم القدر عند أهل الشام .
/ صفحة 234 / خيرا قتلت طبيبي . قال: قتلت المأمور وبقي الآمر (1) . قال أبو عمر بعد ذكر القصة: وقصته هذه مشهورة عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها ، ذكرها عمر بن شبه في أخبار المدينة وذكرها غيره . قال الأميني: وقعت هذه القصة سنة 46 وهي السنة الثانية من هاجسة بيعة يزيد ...
سعيد بن عثمان سنة خمس وخمسين سأل سعيد بن عثمان معاوية أن يستعمله على خراسان فقال: إن بها عبيد الله بن زياد (2) فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى ، فما شكرت بلاءه ولا جازيته بآلائه ، وقدمت علي هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له ووالله لأنا خير منه أبا وأما ونفسا . فقال معاوية: أما بلاء أبيك فقد يحق علي الجزاء به ، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور: ولست بلائم لنفسي في التشمير ، وأما فضل أبيك على أبيه فأبوك والله خير مني وأقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما فضل أمك على أمه فما ينكر امرأة من قريش خير من امرأة من كلب ، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ! ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره وقد عتب عليك لي فأعتبه (3) . وفي لفظ ابن قتيبة: فلما قدم معاوية الشام أتاه سعيد بن عثمان بن عفان ، وكان شيطان قريش ولسانها قال: يا أمير المؤمنين ! على م تبايع ليزيد وتتركني ؟ فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه ، وأمي خير من أمه ، وأنا خير منه ، وإنك إنما نلت ما أنت فيه بأبي . فضحك معاوية وقال: يا ابن أخي أما قولك: إن أباك خير من أبيه . فيوم من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الاستيعاب ترجمة عبد الرحمن: ، الأغاني 15: 13: تاريخ الطبري 6: 128 واللفظ لأبي عمر . (2) سار إلى خراسان في أخريات سنة 53 وأقام بها سنتين كما رواه الطبري في تاريخه 6: 166 ، 167 . (3) تاريخ الطبري 6: 171 ، تاريخ ابن كثير 8: 79 ، 80 .
/ صفحة 235 / عثمان خير من معاوية . وأما قولك: إن أمك خير من أمه ففضل قرشية على كلبية فضل بين . وأما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنما هو الملك يؤتيه الله من يشاء ، قتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاصي وقامت فيه بنو حرب ، فنحن أعظم بذلك منة عليك ، و أما تكون خيرا من يزيد فوالله ما أحب أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد ، ولكن دعني من هذا القول وسلني أعطك . فقال سعيد بن عثمان بن عفان: يا أمير المؤمنين ! لا يعدم يزيد مزكيا ما دمت له ، وما كنت لأرضى ببعض حقي دون بعض ، فإذا أبيت فاعطني مما أعطاك الله . فقال معاوية: لك خراسان ؟ قال سعيد: وما خراسان ؟ قال: إنها لك طعمة وصلة رحم . فخرج راضيا وهو يقول: ذكرت أمير المـــؤمنين وفضله * فقلت: جزاه الله خيرا بما وصل وقـــــد سبقـــت مني إليه بوادر * من القول فيه آية العقل والزلل فعـــــاد أميــر المؤمنين بفضله * وقـــــد كان فيه قبل عودته ميل وقال: خراسان لك اليوم طعمة * فجوزي أمير المؤمنين بما فعل فلــــو كان عثمان الغداة مكانه * لــما نالني من ملكه فوق ما بذل فلما انتهى قوله إلى معاوية أمر يزيد أن يزوده وأمر إليه بخلعة وشيعه فرسخا (1) . قال ابن عساكر في تاريخه 6: 155: كان أهل المدينة يحبون سعيدا ويكرهون يزيد ، فقدم على معاوية فقال له: يا ابن أخي ما شيئ يقوله أهل المدينة ؟ قال: ما يقولون ؟ قال: قولهم: والله لا ينـــــالها يـــــزيد * حتى يعض هامه الحديد إن الأمير بعـــــده سعيد قال: ما تنكر من ذلك يا معاوية ؟ ! والله إن أبي لخير من أبي يزيد ، ولأمي خير من أمه ، ولأنا خير منه ، ولقد استعملناك فما عزلناك بعد ، ووصلناك فما قطعناك ، ثم صار في يديك ما قد ترى فحلاتنا عنه أجمع . فقال له: أما قولك . الحديث . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإمامة والسياسة 1: 157 .
/ صفحة 236 / وقال: حكى الحسن بن رشيق قصة سعيد مع معاوية بأطول مما مر - ثم ذكر حكاية ابن رشيق - وفيها: فولاه معاوية خراسان وأجازه بمائة ألف درهم .
كتب معاوية إلى مروان بن الحكم: إني قد كبرت سني ، ودق عظمي ، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي ، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدي ، وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك ، فأعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردون عليك . فقام مروان في الناس فأخبرهم به فقال الناس: أصاب ووفق ، وقد أجبنا أن يتخير لنا فلا يألو . فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد إليه الجواب يذكر " يزيد " فقام مروان فيهم وقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل وقد استخلف ابنه يزيد بعده فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان ! وكذب معاوية ، ما الخيار أردتما لأمة محمد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل . فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: والذي قال لوالديه اف لكما . الآية ، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب وقالت: يا مروان ! يا مروان ! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرآن كذبت والله ما هو به و لكنه فلان بن فلان ، ولكنك أنت فضض من لعنة نبي الله (1) وقام الحسين بن علي فأنكر ذلك ، وفعل مثله ابن عمر ، وابن الزبير ، فكتب مروان بذلك إلى معاوية ، وكان معاوية قد كتب إلى عماله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة ، و الأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة ، فقال محمد بن عمرو لمعاوية: إن كل راع مسؤل عن رعيته فانظر من تولي أمر أمة محمد فأخذ معاوية بهر (2) حتى جعل يتنفس في يوم شات ثم وصله وصرفه . وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد فدخل عليه فلما خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك ؟ قال: رأيت شبابا ونشاطا وجلدا ومزاحا ، ثم إن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع ما أسلفناه في الجزء الثامن ص 252 ، 253 ط 1 . (2) البهر: انقطاع النفس من الاعياء .
/ صفحة 237 / معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري: لما اجتمع الوفود عنده إني متكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثني عليها. فلما جلس معاوية للناس تكلم فعظم أمر الاسلام وحرمة الخلافة وحقها وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض ببيعته فعارضه الضحاك ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين ! إنه لا بد للناس من وال بعدك وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء ، وأصلح للدهماء ، وآمن للسبل ، وخيرا في العاقبة ، والأيام عوج رواجع والله كل يوم هو في شأن ، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته على ما علمت ، وهو من أفضلنا علما وحلما وأبعدنا رأيا ، فوله عهدك ، واجعله لنا علما بعدك ، ومفزعا نلجأ إليه ، ونسكن في ظله ، وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك ، ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية ، فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد ، ومن أبى فهذا وأشار إلى سيفه ، فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء . وتكلم من حضر من الوفود فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر ؟ فقال: نخافكم إن صدقنا ، ونخاف الله إن كذبنا ، وأنت أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله و مخرجه ، فإن كنت تعلمه لله تعالى وللأمة رضا فلا تشاور فيه ، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة ، وإنما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا . وقام رجل من أهل الشام فقال: ما ندري ما تقول هذه المعدية العراقية ، وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف . فتفرق الناس يحكون قول الأحنف ، وكان معاوية يعطي المقارب ، ويداري المباعد ويلطف به ، حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه (1) . صورة أخرى : قالوا: ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلا يسيرا أن بايع ليزيد بالشام ، وكتب بيعته إلى الآفاق ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد ، ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة يبايعوا ليزيد . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) العقد الفريد 2: 302 - 304 ، الكامل لابن الأثير 3: 214 - 216 .
/ صفحة 238 / فلما قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش فكتب لمعاوية: إن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك فأرني رأيك . فلما بلغ معاوية كتاب مروان عرف ذلك من قبله فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله ، ويخبره أنه قد ولى المدينة سعيد بن العاص ، فلما بلغ مروان كتاب معاوية أقبل مغاضبا في أهل بيته وناس كثير من قومه حتى نزل بأخواله بني كنانة فشكا إليهم وأخبرهم بالذي كان من رأيه في أمر معاوية وفي عزله و استخلافه يزيد ابنه عن غير مشاورة مبادرة له ، فقالوا: نحن نبلك في يدك ، وسيفك في قرابك ، فمن رميته بنا أصبناه ، ومن ضربته قطعناه ، الرأي رأيك ، ونحن طوع يمينك . ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير ممن كان معه من قومه وأهل بيته حتى نزل دمشق فخرج حتى أتى سدة معاوية وقد أذن للناس ، فلما نظر الحاجب إلى كثرة من معه من قومه وأهل بيته منعه من الدخول ، فوثبوا إليه فضربوا وجهه حتى خلى عن الباب ، ثم دخل مروان ودخلوا معه حتى إذا كان معاوية بحيث تناله يده ، قال بعد التسليم عليه بالخلافة: إن الله عظيم خطره ، لا يقدر قادر قدره ، خلق من خلقه عبادا جعلهم لدعائم دينه أوتادا ، هم رقباؤه على البلاد ، وخلفاؤه على العباد ، أسفر بهم الظلم وألف بهم الدين ، وشدد بهم اليقين ، ومنح بهم الظفر ، ووضع بهم من استكبر ، فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زماننا ، وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا ، وعلى من خالف عنا أعوانا ، يشد بنا العضد ، ويقام منا الأود ، ونستشار في القضية ، ونستأمر في أمر الرعية ، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستخيرة ، ذات وجوه مستديرة ، تفتح بأزمة الضلال ، وتجلس بأسوأ الرجال ، يؤكل جزورها ونمق أحلابها ، فما لنا لا نستأمر في رضاعها ونحن فطامها وأولاد فطامها ؟ وأيم الله لولا عهود مؤكدة ومواثيق معقدة لأقمت أود وليها ، فأقم الأمر يا بن أبي سفيان واهدأ من تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك في قومك نظرا وإن لهم على مناوأتك وزرا . فغضب معاوية من كلامه غضبا شديدا ثم كظم غيظه بحلمه وأخذ بيد مروان ثم قال: إن الله قد جعل لكل شيئ أصلا ، وجعل لكل خير أهلا ، ثم جعلك في الكرم مني محتدا والعزيز مني والدا ، اخترت من قروم قادة ، ، ثم استللت سيد سادة ، فأنت / صفحة 239 / ابن ينابيع الكرام (1) ، فمرحبا بك وأهلا من ابن عم ، ذكرت خلفاء مفقودين شهداء صديقين ، كانوا كما نعت ، وكنت لهم كما ذكرت ، وقد أصبحنا في أمور مستخيرة ذات وجوه مستديرة ، وبك والله يا بن العم نرجو استقامة أودها ، وذلولة صعوبتها ، وسفور ظلمتها ، حتى يتطأطأ جسيمها ، ويركب بك عظيمها ، فأنت نظير أمير المؤمنين بعده وفي كل شيئ عضده ، وإليك بعد عهده ، فقد وليتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وأنا مجيز وفدك ، ومحسن رفدك ، وعلى أمير المؤمنين غناك ، والنزول عند رضاك . فكان أول ما رزق ألف دينار في كل هلال ، وفرض له في أهل بيته مائة مائة .
إن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة ويكتب إليه بمن سارع ممن لم يسارع ، فلما أتى سعيد بن العاص الكتاب دعا الناس إلى البيعة ليزيد وأظهر الغلظة ، وأخذهم بالعزم والشدة ، وسطا بكل من أبطأ عن ذلك ، فأبطأ الناس عنها إلا اليسير لا سيما بني هاشم فإنه لم يجبه منهم أحد ، وكان ابن الزبير من أشد الناس إنكارا لذلك ، وردا له ، فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية: أما بعد: فإنك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين وأن أكتب إليك بمن سارع ممن أبطأ ، وإني أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء لا سيما أهل البيت من بني هاشم ، فإنه لم يجبني منهم أحد ، وبلغني عنهم ما أكره ، وأما الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبير ، ولست أقوى عليهم إلا بالخيل والرجال ، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك ، والسلام ، فكتب معاوية إلى عبد الله بن العباس ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وإلى عبد الله بن جعفر ، والحسين بن علي رضي الله عنهم كتبا وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها وكتب إلى سعيد بن العاص: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) قايس بين هذه الإطرائات الفارغة المكذوبة وبين قوله صلى الله عليه وآله لذلك الطريد بن الطريد الوزغ بن الوزغ ، اللعين بن اللعين . ونحن لو أعطينا لمعاوية حق المقام لقلنا: مكره أخوك لا بطل .
/ صفحة 240 / أما بعد: فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إبطاء الناس عن البيعة ولا سيما بني هاشم وما ذكر ابن الزبير ، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبا فسلمها إليهم وتنجز جواباتها وابعث بها حتى أرى في ذلك رأيي ، ولتشد عزيمتك ، ولتصلب شكيمتك ، و تحسن نيتك ، وعليك بالرفق ، وإياك والخرق ، فإن الرفق رشد ، والخرق نكد ، وانظر حسينا خاصة فلا يناله منك مكروه ، فإن له قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة ، وهو ليث عرين ، ولست آمنك أن تشاوره أن لا تقوى عليه . فأما من يرد مع السباع إذا وردت ، ويكنس إذا كنست فذلك عبد الله بن الزبير ، فاحذره أشد الحذر ، ولا قوة إلا بالله ، وأنا قادم عليك إن شاء الله . والسلام (1) . قال الأميني: يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم . نعم: والحق أن للحسين و لأبيه وأخيه قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة إلا معاوية وأذنابه الذين قلبوا عليهم ظهر المجن بعد هذا الاعتراف الذي جحدوا به واستيقنته أنفسهم ، بعد أن حليت الأيام لهم درتها ، فضيعوا تلك القرابة ، وأنكروا ذلك الحق العظيم ، وقطعوا رحما ماسة إن كان بين الطلقاء وسادات الأمة رحم . هيهـات لا قربت قربى ولا رحم * يوما إذا أقصت الأخلاق والشيم كــــــانت مودة سلمان له رحما * ولم يكن بين نوح وابنه رحم(2)
كتاب معاوية إلى الحسين عليه السلام أما بعد: فقد انتهت إلي منك أمور لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطي بيعته من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع إلى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون . فكتب إليه الحسين رضي الله عنه: أما بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور لم تكن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 144 - 146 . (2) من قصيدة للأمير أبي فراس الشهيرة .
/ صفحة 241 / تظنني بها رغبة بي عنها . وإن الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله تعالى ، وأما ما ذكرت إنه رقى إليك عني فإنما رقاه الملاقون المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردت حربا ولا خلافا ، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلين ، حزب الظالم ، وأعوان الشيطان الرجيم . إلى آخر الكتاب(1) . كتاب معاوية إلى عبد الله بن جعفر: كتب إلى عبد الله: أما بعد: فقد عرفت أثرتي إياك على من سواك ، وحسن رأيي فيك وفي أهل بيتك ، وقد أتاني عنك ما أكره ، فإن بايعت تشكر ، وإن تأب تجبر ، والسلام . فكتب إليه عبد الله بن جعفر: أما بعد: فقد جاءني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من أثرتك إياي على من سواي ، فإن تفعل فبحظك أصبت ، وإن تأب فبنفسك قصرت ، وأما ما ذكرت من جبرك إياي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الاسلام حتى أدخلناكما كارهين غير طائعين ؟ والسلام . الإمامة والسياسة 1: 147 ، 148 . وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير: رأيت كرام الناس إن كف عنهم * بحــلم رأوا فضلا لمن قد تحلما ولا سيــــما إن كان عفوا بقدرة * فـــذلك أحـــرى أن يجل ويعظما ولســـــت بـذي لؤم فتعذر بالذي * أتيتـه من أخلاق من كان ألوما ولكن غــــشا لست تعرف غيره * وقـد غش قبل اليوم إبليس آدما فـــــما غـش إلا نفسه في فعاله * فــأصبح ملعونا وقد كان مكرما وإني لأخـــــشى أن أنالك بالذي * أردت فيجزي الله من كان أظلما فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية: ألا سمـــــــع الله الــــذي أنا عبده * فأخزى إله الناس من كان أظلما وأجــــرى على الله العظيم بحلمه * وأســـــرعهم في الموبقات تقحما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) مر بتمامه في هذا الجزء صفحة 160 .
/ صفحة 242 / أغـــــرك أن قـــــالوا: حـــليم بعزة * وليـــــس بـــــذي حــلم ولكن تحلما ولو رمت ما أن قد عزمت وجدتني * هـــــزبر عـــرين يترك القرن أكتما وأقســـــم لـــــولا بيعــة لك لم أكن * لأنقـــــضها لـــــم تنج منــي مسلما الإمامة والسياسة 1: 147 ، 148 .
حج معاوية في سنة 50 ، واعتمر في رجب سنة 56 وكان في كلا السفرين يسعى وراء بيعة يزيد ، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقية الصحابة ووجوه الأمة ، غير أن المؤرخين خلطوا أخبار الرحلتين بعضها ببعض وما فصلوها تفصيلا . الرحلة الأولى : قال ابن قتيبة: قالوا: استخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين فتلقاه الناس فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس ، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر فلما جلسوا تكلم معاوية فقال: الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله . أما بعد: فإني قد كبر سني ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما ، على حسن رأيي فيهما وشديد محبتي لهما ، فردوا على أمير المؤمنين خيرا يرحمكم الله . فتكلم عبد الله بن العباس فقال: الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد . أما بعد: فإنك قد تكلمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه وتقدست
/ صفحة 243 / أسماؤه اختار محمدا صلى الله عليه وسلم لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذ اختاره الله لها فإنه إنما اختار محمدا بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم . فقام عبد الله بن جعفر فقال: الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه ، نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا لم يتخذ صاحبه ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم . أما بعد: فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ؟ فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . وإن أخذ فيها بسنة رسول الله ؟ فأولوا رسول الله ، وإن أخذ بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول ؟ و أيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه ، لحقه وصدقه ، ولأطيع الله ، وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ! فإنك قد صرت راعيا ونحن الرعية ، فانظر لرعيتك ، فإنك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي . وتركك أن تحضرهما ، فوالله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، وأستغفر الله لي ولكم . فتكلم عبد الله بن الزبير فقال: الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله . وأن محمدا عبده ورسوله . أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية ، وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء ، وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية ! وأنصف من نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي خلف حسنا وحسينا ، وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ! وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك . فتكلم عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله الذي أكرمنا بدينه وشرفنا بنبيه صلى الله عليه وسلم: أما بعد: فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك / صفحة 244 / كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى ، إلا أن الخلافة ليست شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ، ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، من كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش ، فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئا . فتكلم معاوية فقال: قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ، لأنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولى الناس أبا بكر وعمر ، من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله . ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد ، ولم يقطع عنهم شيئا من صلاتهم وأعطياتهم ، ثم انصرف راجعا إلى الشام ، وسكت عن البيعة ، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين . الإمامة والسياسة 1: 142 - 144 ، جمهرة الخطب 2: 233 - 236 . قال الأميني: لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلم به عبد الرحمن ، ذكره ابن حجر في الإصابة 2: 408 قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد ، فكلمه الحسين ابن علي ، وابن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له عبد الرحمن: أهرقلية ؟ كلما مات قيصر كان قيصر مكانه ، لا نفعل والله أبدا . صورة أخرى : من محاورة الرحلة الأولى قدم معاوية المدينة حاجا (1) فلما أن دنى من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راكب وماش ، وخرج النساء والصبيان ، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في القوت والقرب ، فلان لمن كافحه ، وفاوض العامة بمحادثته ، وتألفهم جهده مقاربة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) من المتسالم عليه أن معاوية حج في سنة خمسين .
/ صفحة 245 / ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس ، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به أهل المدينة: ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحب لمطالعتكم حتى انطوى البعيد ، ولان الخشن ، وحق لجار رسول الله أن يتاق إليه . فرد عليه القوم: بنفسك ودارك ومهاجرك أما إن لك منهم كأشفاق الحميم البر والحفي . حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن علي وعبد الله بن عباس فقال معاوية: مرحبا بابن بنت رسول الله ، وابن صنو أبيه . ثم انحرف إلى الناس فقال: هذان شيخا بني عبد مناف . وأقبل عليهما بوجهه وحديثه فرحب وقرب وجعل يواجه هذا مرة ، ويضاحك هذا أخرى . حتى ورد المدينة ، فلما خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل ، فانصرفا عنه ، فمال الحسين إلى منزله ، ومضى عبد الله بن عباس إلى المسجد ، فدخله ، وأقبل معاوية ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أم المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحد وعندها مولاها ذكوان فقالت عائشة: يا معاوية ! أكنت تأمن أن اقعد لك رجلا فأقتلك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر ؟ فقال معاوية: ما كنت لتفعلين ذلك . قالت: لم ؟ قال: لأني في بيت أمن ، بيت رسول الله . ثم أن عائشة حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أبا بكر وعمر ، وحضته على الاقتداء بهما والاتباع لأثرهما ، ثم صمتت ، قال: فلم يخطب معاوية وخاف أن يبلغ ما بلغت فارتجل الحديث ارتجالا ثم قال: أنت والله يا أم المؤمنين ! العالمة بالله وبرسوله دللتنا على الحق ، وحضضتنا على حظ أنفسنا ، وأنت أهل لأن يطاع أمرك ، ويسمع قولك ، وإن أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم ؟ وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم ، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم ؟ ! فلما سمعت ذلك عائشة علمت أنه سيمضي على أمره فقالت: أما ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتق الله في هؤلاء الرهط ، ولا تعجل فيهم ، فعلهم لا يصنعون إلا ما أحببت . ثم قام معاوية فلما قام قالت عائشة: يا معاوية ! قتلت حجرا وأصحابه العابدين المجتهدين . فقال معاوية: دعي هذا ، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك ؟ قالت: صالح . قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا .
/ صفحة 246 / ثم خرج ومعه ذكوان فاتكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول: تالله إن رأيت كاليوم قط خطيبا أبلغ من عائشة بعد رسول الله ، ثم مضى حتى أتى منزله ، فأرسل إلى الحسين بن علي فخلا به فقال له: يا بن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم ، يا بن أخي ! فما أربك إلى الخلاف ، قال الحسين: أرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلا منهم ، وألا تكن عجلت علي بأمر . قال: نعم . فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا ، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلا بالطريق فقال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان ؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئا . ثم أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي فما أربك إلى الخلاف ، قال: فأرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلا منهم ، وأن لا تكن عجلت علي بأمر . قال: وتفعل ؟ قال: نعم . فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا . فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به فكلمه بكلام هو ألين من صاحبيه ، وقال: إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضان لا راعي لها (1) وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف ، قال ابن عمر: هل لك في أمر تحقن به الدماء ، وتدرك به حاجتك ؟ ! فقال معاوية: وددت ذلك . فقال ابن عمر: تبرز سريرك ثم أجئ فأبايعك على أني أدخل فيما اجتمعت عليه الأمة ، فوالله لو أن الأمة اجتمعت على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة . قال: وتفعل ؟ قال: نعم ثم خرج . وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فخلا به قال: بأي يد أو رجل تقدم على معصيتي ؟ فقال عبد الرحمن: أرجو أن يكون ذلك خيرا لي . فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلك . فقال: لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا ، ولأدخلك في الآخرة النار . ثم خرج . بقي معاوية يومه ذلك يعطي الخواص . ويدني بذمة الناس ، فلما كان صبيحة اليوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أتصدق أن محمدا صلى الله عليه وآله ترك أمته كالضان لا راعي لها ولم يرض بذلك معاوية ؟ ! حاشا نبي الرحمة عن أن يدع الأمة كما يحسبون ، غير أنهم نبذوا وصيته وراء ظهورهم ، وجروا الويلات على الأمة حتى اليوم .
/ صفحة 247 / الثاني أمر بفراش فوضع له وسويت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله ، ثم خرج وعليه حلة يمانية وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه وقد تغلف وتعطر فقعد على سريره وأجلس كتابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب ، ثم أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عباس فسبق ابن عباس فلما دخل وسلم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليا ثم قال: يا بن عباس لقد وفر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه السلام . فقال ابن عباس: نعم أصلح الله أمير المؤمنين ، وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكل أوفر . فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجاوبة ، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع ، حتى أقبل الحسين بن علي فلما رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه فدخل الحسين وسلم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثم سكت ، ثم ابتدأ معاوية فقال: أما بعد: فالحمد لله ولي النعم ، ومنزل النقم ، وأشهد أن لا إله إلا الله المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا ، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فأدى عن الله وصدع بأمره ، وصبر عن الأذى في جنبه ، حتى أوضح دين الله ، وأعز أولياءه ، و قمع المشركين ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخر له زهادة واختيارا لله ، وأنفة واقتدارا على الصبر ، بغيا لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طول ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعا ، وما أعلم منه فوق ما تعلمان ، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ، ولم الصدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين ، وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن ، والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب ، وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدم على الصديق والفاروق ودونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين / صفحة 248 / يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنة مذكورة ، فقادهم الرجل بإمرة ، وجمع بهم صلاتهم ، وحفظ عليهم فيئهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فمهلا بني عبد المطلب فأنا وأنتم شعبا نفع وجد ، وما زلت أرجو الانصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما ، فردا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، واستغفر الله لي ولكما . كلمة الإمام السبط: فتيسر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك ، فأنا المراد: ونصيبي في التهمة أوفر . فأمسك ابن عباس فقام الحسين فحمد الله و صلى على الرسول ثم قال: أما بعد: يا معاوية ! فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ البيعة ، وهيهات هيهات يا معاوية ! فضح الصبح فحمة الدجى ، وظهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل ، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على مواقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصرا ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدر باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا ، و لقد لعمر الله أورثنا الرسول عليه السلام ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فأذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان إلى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم: كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية ! من طريق كان قصدها / صفحة 249 / لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول ، وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله فقال صلى الله عليه وسلم: لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب ؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، و تتخطاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه ، و تشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، وأستغفر الله لي ولكم . فنظر معاوية إلى ابن عباس فقال: ما هذا يا بن عباس ؟ ولما عندك أدهى وأمر . فقال ابن عباس: لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، فاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين . فقال معاوية: أعود الحلم التحلم ، وخيره التحلم عن الأهل ، انصرفا في حفظ الله . ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله بن الزبير فجلسوا ، فحمد الله وأثني عليه معاوية ثم قال: يا عبد الله بن عمر ! قد كنت تحدثنا إنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة ، وإن لك الدنيا وما فيها ، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين ، وتسعى في تفريق ملأهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم ، وقد وكد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم . ثم سكت . فتكلم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال: أما بعد: يا معاوية ! قد كان قبلك خلفاء ، وكان لهم بنون ، ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك ، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا ، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم ، وإن تحذرني أن أشق عصا المسلمين ، وأفزق ملاهم ، واسفك دماءهم ، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله ، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد .
/ صفحة 250 / فقال معاوية: يرحمك الله ، ليس عندك خلاف ، ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر فقال له عبد الرحمن: إنك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد ، والذي نفسي بيده لتجعلنها شورى أو لأعيدها جذعة ، ثم قام ليخرج فتعلق معاوية بطرف ردائه ثم قال: على رسلك ، أللهم اكفنيه بما شئت ، لا تظهرن لأهل الشام . فإني أخشى عليك منهم . ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر ، ثم قال له. أنت ثعلب رواغ كلما خرجت من جحر انجحرت في آخر ، أنت ألبت هذين الرجلين ، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه . فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد ؟ أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع ؟ أنطيعك ؟ ! أم نطعيه ؟ ! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها ، وبايع ليزيد ، فنحن نبايعه . فكثر كلامه وكلام ابن الزبير حتى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلا قاتلا نفسك ، ولكأني بك قد تخبطت في الحبالة . ثم أمرهم بالانصراف واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج ثم خرج فأمر المنادي أن ينادي في الناس: أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعد هؤلاء (1) حول المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر يزيد فضله وقراءته القرآن ثم قال: يا أهل المدينة ! لقد هممت بيعة يزيد وما تركت قرية ولا مدرة إلا بعثت إليها بيعته فبايع الناس جميعا وسلموا وأخرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه ، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله ، والله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له . فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أبا وأما ونفسا فقال معاوية كأنك تريد نفسك ؟ فقال الحسين: نعم أصلحك الله . فقال معاوية: إذا أخبرك ، أما قولك خير منه أما فلعمري أمك خير من أمه ، ولو لم يكن إلا أنها امرأة من قريش لكان لنساء قريش أفضلهن ، فكيف وهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم فاطمة في دينها و سابقتها ، فأمك لعمر الله خير من أمه . وأما أبوك فقد حاكم أباه إلي الله فقضى لأبيه على أبيك . فقال الحسين: حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل . فقال معاوية: و أما ما ذكرت من إنك خير من يزيد نفسا فيزيد والله خير لأمة محمد منك. فقال الحسين: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) يعني المتخلفين عن بيعة يزيد .
/ صفحة 251 / هذا هو الإفك والزور ، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير مني ؟ فقال معاوية: مهلا عن شتم ابن عمك فإنك لو ذكرت عنده بسوء لم يشتمك . ثم التفت معاوية إلى الناس وقال: أيها الناس قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يستخلف أحدا ، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر ، وكانت بيعته بيعة هدى فعمل بكتاب الله وسنة نبيه ، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين ، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله ، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر ، كل ذلك يصنعون نظرا للمسلمين ، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ونظرا لهم بعين الانصاف (1) . رحلة معاوية الثانية وبيعة يزيد فيها : قال ابن الأثير: فلما بايعه أهل العراق والشام سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس فلما دناه من المدينة لقيه الحسين بن علي أول الناس فلما نظر إليه قال: لا مرحبا ولا أهلا ، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه ، قال: مهلا فإني والله لست بأهل لهذه المقالة . قال: بلى ولشر منها ، ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحبا ولا أهلا ، خب ضب تلعة ، يدخل رأسه ، ويضرب بذنبه ، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ، ويدق ظهره ، نحياه عني . فضرب وجه راحلته . ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له معاوية: لا أهلا ولا مرحبا شيخ قد خرف وذهب عقله ، ثم أمر فضرب وجه راحلته ، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبون فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها ، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: من أحق منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه ؟ ! وما أظن قوما بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتث أصولهم ، وقد أنذرت إن أغنت النذر . ثم أنشد متمثلا : قــــد كنت حذرتك آل المصطلق * وقلت: يا عمرو أطعني وانطلق إنـــــك إن كلفتـــــني ما لم أطق * ســـاءك ما سرك مني من خلق دونك ما استسقيته فاحس وذق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإمامة والسياسة 1: 149 - 155 ، تاريخ الطبري 6: 170 واللفظ لابن قتيبة .
/ صفحة 252 / ثم دخل على عائشة وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه فقال: لأقتلنهم إن لم يبايعوا . فشكاهم إليها فوعظته وقالت له: بلغني إنك تتهددهم بالقتل ؟ فقال: يا أم المؤمنين ! هم أعز من ذلك ، ولكني بايعت ليزيد وبايعه غيرهم ، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت ؟ قالت: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله . قال: أفعل . وكان في قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلا يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت - تعني أخاها محمدا - فقال لها: كلا يا أم المؤمنين ! إني في بيت أمن . قالت: أجل . ومكث بالمدينة ما شاء الله . ثم خرج إلى مكة فلقيه الناس فقال أولئك النفر: نتلقاه فلعله قد ندم على ما كان منه . فلقوه ببطن مر فكان أول من لقيه الحسين فقال له معاوية: مرحبا وأهلا يا ابن رسول الله ! وسيد شباب المسلمين . فأمر له بدابة فركب وسايره ، ثم فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة فكانوا أول داخل وآخر خارج ، ولا يمضي يوم إلا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئا حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبكم وما صنعه إلا لما يريد فأعدوا له جوابا . فاتفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيكم ، وصلتي لأرحامكم ، وحملي ما كان منكم ، ويزيد أخوكم وابن عمكم و أردت أن تقدموه باسم الخلافة ، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضكم في شيئ من ذلك . فسكتوا ، فقال: ألا تجيبون ؟ مرتين ، ثم أقبل على ابن الزبير فقال: هات لعمري إنك خطيبهم ، فقال: نعم نخيرك بين ثلاث خصال قال: أعرضهن . قال: تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كما صنع أبو بكر ، أو كما صنع عمر ، قال معاوية: ما صنعوا ؟ قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أحدا فارتضى الناس أبا بكر قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف . قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه ، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه . قال معاوية: هل عندك غير هذا ؟ قال: لا . ثم قال: فأنتم ؟ قالوا: قولنا قوله . قال: فإني قد أحببت أن أتقدم إليكم إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب منكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رؤس الناس فأحمل ذلك وأصفح ، وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي / صفحة 253 / هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه ، فلا يبقين رجل إلا على نفسه . ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما . ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يفضى إلا عن مشورتهم وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله . فبايع الناس وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر ، ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة ، فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم إنكم لا تبايعون فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم ؟ قالوا: والله ما فعلنا . فقالوا: ما منعكم أن تردوا على الرجل ؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل . وبايعه أهل المدينة ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عباس فقال له: ما بالك جفوتنا ؟ قال: إن صاحبكم - يعني الحسين عليه السلام - لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه . فقال: يا معاوية ! إني لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثم أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك . قال: يا أبا العباس تعطون وترضون وترادون (1) . وجاء في لفظ ابن قتيبة: إن معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهبا إلى منزله وأمر من حرسه وشرطته قوما أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم: الحسين بن علي ! وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الرحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال: إني خارج العشية إلى أهل الشام فأخبرهم: إن هؤلاء النفر قد بايعوا وسلموا ، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدقني أو يكذبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه . فحذر القوم ذلك ، فلما كان العشي خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدثهم وقد ألبسهم الحلل ، فألبس ابن عمر حلة حمراء ، وألبس الحسين حلة صفراء ، وألبس عبد الله بن عباس حلة خضراء ، وألبس ابن الزبير حلة يمانية ، ثم خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم - أي القوم - وإنهم بايعوا ، فقال: يا أهل الشام ! إن هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين ، وقد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) العقد الفريد 2: 302 - 304 ، الكامل لابن الأثير 3: 21 - 218 ، ذيل الأمالي ص 177 ، جمهرة الرسائل 2: 69 واللفظ لابن الأثير .
/ صفحة 254 / بايعوا وسلموا ذلك ، والقوم سكوت لم يتكلموا شيئا حذر القتل ، فوثب أناس من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين ! إن كان رابك منهم ريب فحل بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم . فقال معاوية: سبحان الله ما أحل دماء قريش عندكم يا أهل الشام ؟ لا أسمع لهم ذكرا بسوء فإنهم بايعوا وسلموا ، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم ، ثم ارتحل معاوية راجعا إلى مكة وقد أعطى الناس أعطياتهم ، وأجزل العطاء ، وأخرج إلى كل قبيلة جوائزها وأعطياتها ، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء ، فخرج عبد الله ابن عباس في أثره حتى لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول: من بالباب ؟ فيقال: عبد الله بن عباس فلم يأذن لأحد ، فلما استيقظ قال: من بالباب ؟ فقيل: عبد الله بن عباس فدعا بدابته فأدخلت إليه ثم خرج راكبا فوثب إليه عبد الله بن عباس فأخذ بلجام البغلة ثم قال: أين تذهب ؟ قال: إلى مكة . قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا ؟ فأوما إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم . قال ابن عباس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد ، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي ، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا . فقال معاوية: لستم كغيركم ، لا والله لا أعطيكم درهما حتى يبايع صاحبكم ، فقال ابن عباس: أما والله لئن لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام ثم لأقولن ما تعلم ، والله لأتركنهم عليك خوارج . فقال معاوية: لا بل أعطيكم جوائزكم ، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعا إلى الشام . الإمامة والسياسة 1: 156 . قال الأميني: إن المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جد عليم أنها تمت برواعد الارهاب ، وبوارق التطميع ، وعوامل البهت والافتراء ، فيرى معاوية يتوعد هذا ، ويقتل ذاك ، ويولي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له ، ويدر من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة ، وفي القوم من لا يؤثر فيه شيئ من ذلك كله ، غير أنه لا رأي لمن لا يطاع ، لكن إمام الهدى ، وسبط النبوة ، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كله مصحرا بالحقيقة ، ومصارحا بالحق ، وداحضا للباطل مع كل تلكم الحنادس المدلهمة ، أصغت إليه أذن أم لا ، وصغى إلى قيله أحد أو أعرض ، فقام بواجب الموقف رافعا عقيرته بما تستدعيه الحالة ، ويوجبه النظر في صالح المسلمين / صفحة 255 / ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى من وافقه في شيئ من الأمر ، ولا ما أعده لهم من - التوعيد والإرجاف بهم ، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم ، حتى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزا للخزاية وشية العار ، ولقي الحسين عليه السلام ربه وقد أدى ما عليه ، رمزا للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر ، نعم: لقي الحسين عليه السلام ربه وهو ضحية تلك البيعة ، - بيعة يزيد - كما لقي أخوه الحسن ربه مسموما من جراء تلكم البيعة الملعونة التي جرت الويلات على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستتبعت هدم الكعبة ، والاغارة على دار الهجرة يوم الحرة وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوءة ، وأعظمها رزايا مشهد الطف التي استأصلت شأفة أهل بيت الرحمة صلوات الله عليهم ، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب ، وتندب النوادب ، وقرحت الجفون ، وأسكبت المدامع ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . نعم: تمت تلك البيعة المشومة مع فقدان أي جدارة وحنكة في يزيد ، تأهله لتسنم عرش الخلافة على ما تردى به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور ، ومباشرة الفجور ، ومنادمة القيان ذوات المعازف ، ومحارشة الكلاب ، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية ، وقد عرفته الناس بذلك كله منذ أولياته وعرفه به أناس آخرون ، وحسبك شهادة وفد بعثه أهل المدينة إلى يزيد وفيهم: عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي ، والمنذر بن الزبير ، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم ، وأحسن إليهم ، وأعظمهم جوائزهم ، وشاهدوا أفعاله ، ثم انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلا المنذر ، فلما قدم الوفد المدينة قاموا فيهم ، فأظهروا شتم يزيد وعتبه وقالوا: إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب - الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الحراب ، وهم اللصوص والفتيان ، وإنا نشهدكم إنا قد خلعناه فتابعهم الناس . (1) وقال عبد الله بن حنظلة ذلك الصحابي العظيم المنعوت بالراهب قتيل يوم الحرة يومئذ: يا قوم ! اتقوا الله وحده لا شريك له ، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تاريخ الطبري 7: 4 ، الكامل لابن الأثير 4: 45 ، تاريخ ابن كثير 8: 216 ، فتح الباري 13: 59 .
/ صفحة 256 / بالحجارة من السماء ، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسنا (1) . ولما قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك ؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم (2) . وقال المنذر بن الزبير لما قدم المدينة: إن يزيد قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره ، والله إنه ليشرب الخمر ، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة (3) . وقال عتبة بن مسعود لابن عباس: أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر ، ويلهو بالقيان ، ويستهتر بالفواحش ؟ قال: مه فأين ما قلت لكم ؟ وكم بعده من آت ممن يشرب الخمر أو هو شر من شاربها أنتم إلى بيعته سراع ، أما والله ! إني لأنهاكم وأنا أعلم أنكم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكة - يعني عبد الله بن الزبير - (4) . نعم: لم يك على مخازي يزيد من أول يومه حجاب مسدول يخفيها على الأباعد والأقارب ، غير أن أقرب الناس إليه وهو أبوه معاوية غض الطرف عنها جمعاء ، وحسب أنها تخفى على الملأ الديني بالتمويه ، وطفق يذكر له فضلا وعلما بالسياسة ، فجابهه لسان الحق وإنسان الفضيلة حسين العظمة بكلماته المذكورة في صفحة 248 و 250 ومعاوية هو نفسه يندد بابنه في كتاب كتبه إليه ومنه قوله: إعلم يا يزيد ! أن أول ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة ، وآلائه المتواترة ، وهي الجرحة العظمى ، والفجعة الكبرى: ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها ، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها ، ثم استحسان العيوب ، وركوب الذنوب ، وإظهار العورة ، وإباحة السر ، فلا تأمن نفسك على سرك ، ولا تعتقد على فعلك ، الكتاب (5) . فنظرا إلى ما عرفته الأمة من يزيد من مخازيه وملكاته الرذيلة عد الحسن البصري استخلاف معاوية إياه من موبقاته الأربع كما مر حديثه في صفحة 225 . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تاريخ ابن عساكر 7: 372 . (2) تاريخ ابن عساكر 7: 372 ، الكامل لابن الأثير 4: 45 ، الإصابة 2: 299 . (3) كامل ابن الأثير 4: 45 ، تاريخ ابن كثير 8: 216 . (4) الإمامة والسياسة 1: 167 . (5) صبح الأعشى 6: 387 . |
|