عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني
إن رأي معاوية في خلافة الإمام عليه السلام لم يكن وليد يومه ولا بنت ليلته ، وإنما كان مناوئا منذ فرق بينهما الاسلام ، وقتل في يوم واحد أخوه وجده وخاله بسيف علي عليه السلام ، فلم يزل يلهج ويهملج في تفخيذ الناس عنه صلوات الله عليه من يوم قتل عثمان ، بعث رجلا من بني عميس وكتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام ، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان . سلام عليك . أما بعد: فإني قد بايعت لك أهل الشام ، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحلب (1) فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب ، فإنه لا شيئ بعد هذين المصرين ، قد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك ، فأظهر الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجد والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مناوئكما . فسر الزبير بهذا الكتاب ، وأعلم به طلحة ، ولم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية ، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي عليه السلام . شرح ابن أبي الحديد 1: 77 . قال الأميني: انظر إلى دين الرجل وورعه يستسيغ أن يخاطب الزبير بإمرة المؤمنين لمحض حسبانه أنه بايع له أجلاف أهل الشام ، ولا يقول بها لأمير المؤمنين حقا علي عليه السلام وقد تمت له بيعة المسلمين جمعاء وفي مقدمهم الزبير نفسه وطلحة بن عبيد الله الذي حاباه معاوية ولاية العهد بعد صاحبه ، فغرهما على نكث البيعة فذاقا وبال أمرهما ، وكان عاقبتهما خسرا . وأنت ترى أن الطلب بدم عثمان قنطرة النزاع في الملك ، ووسيلة النيل إلى الأماني من الخلافة الباطلة ، أوحاه معاوية إلى الرجلين ، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) استوسق: اجتمع . الحلب: اللبن المحلوب .
/ صفحة 328 / ويدعوا الرجل لمناوئي علي عليه السلام بالظفر وعليه عليه السلام بالخذلان ، والصادع الكريم يقول في الصحيح المتفق عليه: أللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله . وكتب إلى الزبير أيضا: أما بعد: فإنك الزبير بن العوام ، ابن أبي خديجة (1) ، وابن عمة (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه ، وسلفه (3) وصهر أبي بكر ، وفارس المسلمين ، وأنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان ، بعثك المنبعث: فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت ، تخبط خبط الجمل الرديع ، كل ذلك قوة إيمان وصدق يقين ، وسبقت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشارة بالجنة ، وجعلك عمر أحد المستخلفين على الأمة . واعلم يا أبا عبد الله: أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي ، فسارع - رحمك الله - إلى حقن الدماء: ولم الشعث ، وجمع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، قبل تفاقم الأمر ، وانتشار الأمة ، فقد أصبح الناس على شفا جرف هار ، عما قليل ينهار إن لم ير أب ، فشمر لتأليف الأمة ، وابتغ إلى ربك سبيلا ، فقد أحكمت الأمر من قبلي لك ولصاحبك على أن الأمر للمقدم ، ثم لصاحبه من بعده ، جعلك الله من أئمة الهدى ، وبغاة الخير والتقوى ، والسلام . ألا مسائل ابن هند عن قوله: إن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة .. إلخ . لماذا أصبحت ؟ ومتى أصبحت ؟ وكيف أصبحت ؟ وراعيها الذي يرقبها ويرقب كل صالح لها ويشمر على درأ كل معرة عنها هو صنو رسول الله ونفسه الإمام المنصوص عليه ، وقد أجمعت الأمة على بيعته لولا أن معاوية يكدر الصفو ، ويقلق السلام ، ويفرق الكلمة بدسائسه وتسويلاته ، فمثله كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام كمثل الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الاسلام ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) خويلد أبو خديجة زوج الرسول (ص) جد الزبير بن العوام بن خويلد . (2) أم الزبير هي صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله . (3) السلف: زوج أخت امرأته . تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وتزوج رسول الله أختها عايشة .
/ صفحة 329 / وكتب إلى طلحة: أما بعد: فإنك أقل قريش في قريش وترا ، مع صباحة وجهك ، وسماحة كفك ، وفصاحة لسانك ، فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة ، وخامس المبشرين بالجنة ، و لك يوم أحد وشرفه وفضله ، فسارع - رحمك الله - إلى ما تقلدك الرعية من أمرها ، مما لا يسعك التخلف عنه ، ولا يرضى الله منك إلا بالقيام به ، فقد أحكمت لك الأمر قبلي ، والزبير فغير متقدم عليك بفضل ، وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام ، والأمر من بعده للمقدم له ، سلك الله بك قصد المهتدين ، ووهب لك رشد الموفقين ، والسلام . قال الأميني: لمسائل هاهنا أن يحفي لمعاوية السؤال عن أن ما تبجح به للزبير و طلحة من الفضائل التي استحقا بها الخلافة هل كان علي عليه السلام خلوا منها ؟ يذكر لهما البشارة بالجنة ، وأن زبيرا أحد أولئك المبشرين ، وأن طلحة خامسهم ، فهلا كان علي عليه السلام عاشرهم ؟ فلماذا سلخها عنه ، وحثهما بالمبادرة إليها حتى لا يسبقهما إليها ابن أبي طالب ؟ ! ؟ ! وإن كان تلكم البشارة - المزعومة - بمجردها كافية في إثبات الجدارة للخلافة ؟ فلماذا أخرج عنها سعد بن أبي وقاص ؟ وهو أحد القوم المبشرين وكان يومئذ حيا يرزق ، و لعل طمعه فيهما كان آكد ، فحلب حلبا له شطره . والأعجب قوله لطلحة: فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة . فهلا كان أمير المؤمنين أول السابقين وأولاهم بالمئاثر كلها ؟ وهلا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: السباق ثلاثة: السابق إلى موسى يوشع . وصاحب ياسين إلى عيسى . والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب ؟ (1) . وهلا صح عند أمة محمد صلى الله عليه وآله أن عليا أول من آمن بالله ، وصدق نبيه صلى الله عليه وآله وصلى معه ، وجاهد في سبيله ؟ وإن كان لطلحة يوم أحد وشرفه وفضله فلعلي عليه السلام مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كلها من بدر واحد وخيبر والأحزاب وحنين ويوم حمراء الأسد (2) هب أن معاوية كان في أذنه وقر من شركه لم يسمع نداء جبريل ورضوان يوم ناديا: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع الجزء الثاني: 306 ط ثاني . (2) راجع ما مر في الجزء السابع ص 202 - 206 .
/ صفحة 330 / لا فــــتى إلا عـــــــــلـــي * لا سيف إلا ذو الفقار(1) فهل كان في بصره عمى كبصيرته لا يبصر نضال علي ونزاله في تلكم المعارك الدامية ؟ نعم: معاوية لا يرى مواقف علي عليه السلام فضلا وشرفا لأنه هو الذي أثكل أمهات بيته ، و ضرب أقذلة أخيه وجده وخاله وأبناء بيته الساقط بسيفه البتار ، وإلى هذا يومي قوله لطلحة: فإنك أقل قريش في قريش وترا . ومن كتاب له إلى مروان: فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد ، لا يصطاد إلا غيلة ، ولا يتشازر إلا عن حلية ، وكالثعلب لا يفلت إلا روغانا ، واخف نفسك منهم أخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكف ، وامتهن (2) نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره ، وابحث عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقاسها (3) وأنغل (4) الحجاز ، فإني منغل الشام ، والسلام . قال الأميني: هذه شنشنة معاوية منذ بلغه أمر الإمام عليه السلام وانعقاد البيعة له ، فوجد نفسه عند الأمة في معزل عن المشورة أو اعتضاد في رأي ، وأن البيعة لاحقته لا محالة ، فلم يجد منتدحا عن إقلاق الأمر على صاحب البيعة الحقة ، وأن يستدني منه أمانيه الخلابة بتعكير الصفو له عليه السلام فطفق يفسد ما اطمأن إليه من الأمصار ، ويوعز في كتبه إلى إفساد الرأي ، وتفريق الكلمة ، وهو ضالته المنشودة . وإن تعجب فعجب أخذه البيعة لطلحة والزبير واحدا بعد آخر وقد ثبت في أعناقهما بيعة الإمام عليه السلام ، وكانت هذه البيعة أبان ثبوت بيعتهما كما ينم عنه نص كتبه إليهما ، ثم ومن هو معاوية حتى يرشح أحدا للخلافة بعد انعقاد الإجماع لخليفة الحق ؟ ولم يكن هو من أهل الترشيح لو لم تنعقد البيعة المذكورة . على أن الغبي لم يهتد إلى أن أخذ البيعة لهما مستلزم لنكثهما عن البيعة الأولى وما غناء إمام ناكث عن مناجح الأمة ومصالحها ، مع إنهما على تقدير صحة البيعة يكون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) انظر الجزء الثاني ص 55 . (2) امتهنه: احتقره وابتذله . (3) فقس الطائر بيضه . كسرها وأخرج ما فيها . (4) نغل الأديم كفرح: فسد في الدباغ . أنغله: أفسده .
/ صفحة 331 / كل منهما ثاني الخليفتين الذي يجب قتله بالنصوص الصحيحة الثابتة (1) فهل هناك خليفة على المسلمين يجب إعدامه ؟ .
1 - قال أبو عمر في الاستيعاب (2) كان عبد الرحمن بن غنم - الصحابي - من أفقه أهل الشام وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام ، وكانت له جلالة وقدر ، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذا انصرفا من عند علي رضي الله عنه رسولين لمعاوية ، وكان مما قال لهما: عجبا منكما ، كيف جاز عليكما ما جئتما به ، تدعوان عليا إلى أن يجعلها شورى ، وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق ، وإن من رضيه خير ممن كرهه ، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه ؟ وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة ؟ وهو أبوه من رؤس الأحزاب . فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه رحمة الله عليهم . 2 - خرج رجل من أهل الشام - يوم صفين - ينادي بين الصفين: يا أبا الحسن ! يا علي أبرز إلي . فخرج إليه علي حتى إذا اختلف أعناق دابتهما بين الصفين فقال: يا علي إن لك قدما في الاسلام وهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء ، وتأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك ؟ فقال له علي: وما ذاك ؟ قال: ترجع إلى عراقك ، فنخلي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلي بيننا وبين شامنا . فقال له علي: لقد عرفت إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة ، ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم (3) . 3 - قال عتبة بن أبي سفيان لجعدة بن هبيرة: يا جعدة ! إنا والله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره في عثمان ، ولكن معاوية أحق بالشام ، لرضا أهلها به . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ترجمة عبد الرحمن بن غنم الأشعري ج 2: 402 ، أسد الغابة 3: 318 . (2) كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 542 ، شرح ابن أبي الحديد 1: 183 . (3) راجع ما مر في هذا الجزء .
/ صفحة 332 / فاعفوا لنا عنها ، فوالله ما بالشام رجل به طرق إلا وهو أجد من معاوية في القتال ، ولا بالعراق من له مثل جد علي في الحرب ، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم ، وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب . فقال جعدة: أما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان ، وأما رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل ، وأما قولك: إنه ليس بالشام من رجل إلا وهو أجد من معاوية ، وليس بالعراق لرجل مثل جد علي ، فهكذا ينبغي أن يكون ، مضى بعلي يقينه ، وقصر بمعاوية شكه ، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل . الحديث . كتاب صفين ص 529 ط مصر ، شرح ابن أبي الحديد 2: 301 . 4 - من خطبة لعبد الله بن بديل الخزاعي يوم صفين: إن معاوية ادعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ، ومن ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزين لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حب الفتنة ، ولبس عليهم الأمر ، وزادهم رجسا إلى رجسهم . تاريخ الطبري 6: 9 ، كتاب صفين لابن مزاحم ص 263 ، كامل ابن الأثير 3: 128 ، شرح ابن أبي الحديد 1: 483 . 5 - من كلمة لعبد الله أيضا يخاطب بها أمير المؤمنين عليه السلام: يا أمير المؤمنين ! إن القوم لو كانوا الله يريدون ، أو لله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلون فرارا من الأسوة ، وحبا للأثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحن في أنفسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين ! بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم . ثم التفت إلى الناس فقال: كيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد ، وجده عتبة في موقف واحد ؟ والله ما أظن أن يفعلوا . 6 - من خطبة ليزيد بن قيس الأرحبي بصفين: إن هؤلاء القوم ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا على إحياء حق رأونا أمتناه ، ولا يقاتلوننا إلا لهذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة وملوكا . إلى آخر ما مر في ص 59 . 7 - من كتاب لسعد بن أبي وقاص إلى معاوية: / صفحة 333 / أما بعد: فإن أهل الشورى ليس منهم أحد أحق بها من صاحبه ، غير أن عليا كان من السابقة ، ولم يكن فينا ما فيه ، فشاركنا في محاسننا ، ولم نشاركه في محاسنه ، وكان أحقنا كلنا بالخلافة ، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه وقدره ، وقد علمنا أنه أحق بها منا ، ولكن لم يكن بد من الكلام في ذلك والتشاجر ، فدع ذا وأما أمرك يا معاوية ! فإنه أمر كرهنا أوله وآخره ، وأما طلحة ، والزبير فلو لزما بيعتهما لكان خيرا لهما ، والله تعالى يغفر لعائشة أم المؤمنين " الإمامة والسياسة 1: 86 " . 8 - من كتاب لمحمد بن مسلمة إلى معاوية: ولعمري يا معاوية ! ما طلبت إلا الدنيا ، ولا اتبعت إلا الهوى ، ولئن كنت نصرت عثمان ميتا ، لقد خذلته حيا ، ونحن ومن قبلنا من المهاجرين والأنصار أولى بالصواب . الإمامة والسياسة 1: 87 . إلى كتابات وخطابات لجمع من صلحاء السلف يجدها الباحث مبثوثة في فصول هذا الجزء من كتابنا . قال الأميني: هذه كلمات تامات ممن كانوا يرون معاوية ويشهدون أعماله ، وقد عرفوا نفسياته ومغازيه منذ عرفوه وثنيا ومستسلما حتى وقفوا عليه من كثب ، وقد تعالى به الوقت بل تسافل حتى طفق يطمع مثله في الخلافة الإسلامية ، وبينهما ذاك البون الشاسع ، وخلال الفضل التي تخلى عنها ، والملكات الرذيلة الذي حاز شية عارها والبرهنة الناصعة التي أكفأته عنها بخفي حنين ، وهؤلاء وإن اختلفت كلماتهم لكنها ترمي إلى مغزى واحد من عدم كفائة الطاغية لما يرومه من إمرة المسلمين ، أو ما يتحراه من حكومة الشام خلافة مختذلة عن الخلافة الإسلامية الكبرى المنعقدة لأهلها يومئذ أو إنه لا يتحرى إلا إمرة مغتصبة وما لها من مفعول أثرة وثراء ، أو إنه منبعث عن ضغائن وإحن مما أصاب أهله وذويه من الإمام عليه السلام فقتلو تقتيلا تحت راية الأوثان وظهر أمر الله وهم كارهون . ولم يكن لمعاوية وأصحابه مرمى غير الإسفاف إلى هذه الهوات السحيقة مما خفي على هؤلاء الحضور ، واستكشفه من بعدهم المهملجون وراء الحزب السفياني ، الحاملون ولاء ذلك البيت الساقط ، وأنت ترى أنه لا يقام في سوق الدين لشيئ منها أي قيمة ، ولا / صفحة 334 / تكون لها أي عبرة ، فدحضا لدعوة الباطل ، وسحقا لشره الاستعباد . وكان ابن هند الجاهل بنفسه - والانسان على نفسه بصيرة - برى نفسه أحق بالخلافة من عمر كما جاء في ما أخرجه البخاري في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمر قال: دخلت على حفصة ونسوانها تنطف قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيئ . فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة . فلم تدعه حتى ذهب . فلما تفرق الناس خطب معاوية (2) قال: من يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، فلنحن أحق به منه ومن أبيه . قال خبيب بن مسلمة فهلا أجبته ؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الاسلام . فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك فذكرت ما أعد الله في الجنان . قال خبيب: حفظت وعصمت ؟ أين كان ابن عمر عن هذه العقلية التي حفظ بها وعصم يوم تقاعس عن بيعة أمير المؤمنين الإمام الحق بعد إجماع الأمة المسلمة عليها ، ولم يخش أن يقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ؟ ففرق الجمع ، وشق عصا المسلمين ، وسفكت دماء زكية ، والله من ورائهم حسيب . ولم تكن الخلافة فحسب هي قصوى الغاية المتوخاة لمعاوية بل ينبأنا التاريخ عن إنه لم يك يتحاشا عن أن يعرفه الناس بالرسالة ويقبلونه نبيا بعد نبي العظمة ، روى ابن جرير الطبري بالإسناد: إن عمرو بن العاص أوفد إلى معاوية ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو: انظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا سلموا عليه بالخلافة فإنه أعظم لكم في عينه ، وصغروه ما استطعتم ، فلما قدموا عليه قال معاوية لحجابه: إني كأني أعرف ابن النابغة وقد صغر أمري عند القوم فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها ، فلا يبلغني رجل منهم إلا وقد همته نفسه بالتلف ، فكان أول من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له: ابن الخياط . فدخل وقد تعتع فقال: السلام عليك يا رسول الله ! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) في كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ج 6: 141 . (2) قال ابن الجوزي: كان هذا في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده . راجع فتح الباري 7: 323 .
/ صفحة 335 / فتتابع القوم على ذلك ، فلما خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة فسلمتم عليه بالنبوة (1) . ولعل هذه الواقعة هي بذرة تلك النزعة الفاسدة التي كانت عند جمع ممن تولى معاوية بعد وفاته . قال شمس الدين النياء المقدسي (2) في كتاب " أحسن التقاسيم في معرفة الأقالم " ص 399: وفي أهل اصفهان بله وغلو في معاوية ووصف لي رجل بالزهد والتعبد فقصدته وتركت القافلة خلفي وبت عنده تلك الليلة وجعلت أسائله إلى أن قلت: ما قولك في (الصاحب) (3) فجعل يلعنه ثم قال: إنه أتانا بمذهب لا نعرفه . قلت وما هو ؟ قال: يقول: معاوية لم يكن مرسلا: قلت: وما تقول أنت ؟ قال: أقول كما قال الله عز وجل: لا نفرق بين أحد من رسله ، أبو بكر كان مرسلا ، وعمر كان مرسلا ، حتى ذكر الأربعة ثم قال: ومعاوية كان مرسلا . قلت: لا تفعل ، أما الأربعة فكانوا خلفاء ومعاوية كان ملكا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الخلافة بعدي إلى ثلاثين سنة ثم تكون ملكا . فجعل يشنع علي وأصبح يقول للناس: هذا رجل رافضي فلو لم تدرك القافلة لبطشوا بي ، ولهم في هذا الباب حكايات كثيرة . هب إن القوم أخذت منهم الرهبة مأخذه فلم يلتفتوا إلى ما يقولون لكن هذا الذي يدعي الخلافة عن رسول الله بملكه العضوض هلا كان عليه أن يردعهم عن ذلك التسليم المحظور ؟ أو يسكن روعتهم فيرجعوا إلى حق المقام لولا أن معاوية لم يكن له في مبوأه ذلك ضالة إلا الحصول أعلى الملوكية الغاشمة باسم الخلافة المغتصبة ؟ لأنه لا يبلغ أمنيته إلا بها فلا يبالي أسلم عليه بالربوبية أو الرسالة أو إمرة المؤمنين وقد حاول إرغام ابن النابغة فيما توسمه منه في مقتبله ذلك ، فبلغ ما أراد فحالت نشوة الغلبة بينه وبين أن يجعل لأمره الأمر أو إمرته الخرقاء صورة محفوظة . يأنس ابن هند بذلك الخطاب الباطل ، ولم يشنع على من يسلم عليه بالرسالة ، غير أنه لم يرقه أن يذكر نبي الاسلام بالرسالة ، ويزريه بذكر اسمه وهو يعلم أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع تاريخ الطبري 6: 184 ، تاريخ ابن كثير 8: 140 . (2) أبو عبد الله محمد بن أحمد الشامي المولود سنة 336 ، والمتوفى نحو 380 . (3) هو الوزير الشيعي الوحيد الصاحب بن عباد المترجم له في الجزء الرابع ص 42 ط 2 .
/ صفحة 336 / العظمة لا تفارقه ، والرسالة تلازمه ، ذكر الحفاظ من محاورة جرت بين معاوية وبين أمد بن أبد الحضرمي (1) أن معاوية قال: أرأيت هاشما ؟ قال: نعم والله طوالا حسن الوجه يقال: إن بين عينيه بركة . قال: فهل رأيت أمية ؟ قال نعم رأيته رجلا قصيرا أعمى يقال: إن في وجهه شرا أو شؤما . قال: أفرأيت محمدا ؟ قال: ومن محمد ؟ قال: رسول الله . قال: أفلا فخمت كما فخمه الله فقلت رسول الله ؟ (2)
إن آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدء الأمر ، وإن تستر بها آونة على الأغبياء ، وتترس بطلب دم عثمان دون نيل الأمنية بين القوم آونة أخرى حين سولت له نفسه أن يستحوذ على إمرة المسلمين بالدسائس ، فأول تلكم البذرة أو القنطرة الأولى الطلب بدم عثمان ، وفي آخر الحيل الدعوة إلى تحكيم كتاب الله واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء ظهورهم ، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يدعوهم - منذ أول ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند ، ومنذ نشوب الحرب الطاحنة - (3) إلى التحكيم الصحيح الذي لا يعد ومحكمات القرآن ونصوصه ، لولا أن ابن النابغة وصاحبه يسيران على الأمة غدرا ومكرا ، وعلى إمام الحق خيانة وظلما ، غير ما يتظاهران به من تحكيم الكتاب فوقع هنالك ما وقع من لوائح الفتنة ، ومظاهر العدوان ، بين دهاء ابن العاصي وحمارية الأشعري ، بين قول أبي موسى لابن العاصي: لا وفقك الله غدرت وفجرت ، (4) إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، وبين قول ابن العاصي لأبي موسى: وإنك مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا (5) فوئد الحق ، وأودي بالحقيقة ، بين شيطان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أحد المعمرين قد أتى عليه من السن يوم استقدمه معاوية ستون وثلثمائة سنة ترجمه ابن عساكر في تاريخ الشام ، ومترجمو الصحابة ، في معاجمهم . (2) تاريخ ابن عساكر 3: 103 ، أسد الغابة 1: 115 . (3) راجع ما أسلفناه في هذا الجزء صفحة 276 . (4) وفي لفظ ابن قتيبة: مالك ؟ عليك لعنة الله ، ما أنت إلا كمثل الكلب . وفي لفظ ابن عبد ربه: لعنك الله ، فإن مثلك كمثل الكلب . (5) الإمامة والسياسة 1: 115 ، كتاب صفين ص 628 ط مصر ، العقد الفريد 2: 291 ، تاريخ الطبري 6: 40 ، مروج الذهب 2: 22 ، كامل الأثير 3: 144 ، شرح ابن أبي الحديد 1: 198 .
/ صفحة 337 / وغبي ، فكان من المتسالم عليه بين الفريقين ! إن الخلافة هي المتوخاة لكل منهما ، ولذلك انعقد التحكيم ، وبه كان يلهج خطباء العراق وأمرائهم عند النصح للأشعري ، وزبانية الشام المنحازة عن ضوء الحق ، وبلج الاصلاح . فمن قول ابن عباس للأشعري: إنه قد ضم إليك داهية العرب: وليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة ، فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه ، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك ، واعلم يا أبا موسى ! أن معاوية طليق الاسلام ، وإن أباه رأس الأحزاب ، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة ، فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق ، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ، ويوجره(1) ما يكره ثم استعمله عثمان برأي عمر ، وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة ، واعلم: أن لعمرو مع كل شيئ يسرك خبا يسوءك ، ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وأنها بيعة هدى ، وأنه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين . [ شرح ابن أبي الحديد 1: 195 ] ومن قول الأحنف بن قيس له: ادع القوم إلى طاعة علي . فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبوا ، ويختار من قريش الشام من أحبوا(2) . ومن قول شريح بن هانئ للأشعري: إنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية ، ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم علي ، فانظر في ذلك نظر من يعرف هذا الأمر حقا ، وقد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة والجمل ، فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينا ، والرجاء منك يأسا ، ثم قال: أبا مــوسى رميـــــــت بشـــــر خصم * فلا تضع العراق فـــــــدتك نفــــــسي واعــــــط الحـــــــق شـــــامهم وخذه * فـــــإن اليوم فـــــــي مهــــــل كأمس وإن غــــــــدا يجــئ بمـــــــا عـــــليه * كـــــــذاك الـــــــدهر من سعد ونحس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) وجره الدواء أو جره إياه: جعله في فيه . أوجره الرمح ، طعنه . ووجره: أسمعه ما يكره . (2) الإمامة والسياسة 1: 99 ، وفي ط 112 ، نهاية الإرب 7: 239 ، شرح ابن أبي الحديد 1: 196 .
/ صفحة 338 / ولا يخدعــــــــك عـــــمرو إن عــمرا * عــــــــدو الله مطــــــــلع كــل شمس لــــــــه خــــــــدع يحــــار العقل منها * ممــــــــوهة مزخــــــــرفة بلـــــــبس فــــــــلا تجعــــــــل معـاوية بن حرب * كشــــــــيخ في الحــــوادث غير نكس هــــــــداه الله للاســــــــلام فــــــــردا * سوى عرس النبي، وأي عرس؟(1) ومن قول معاوية لعمرو بن العاص: إن خوفك العراق فخوفه بالشام ، وإن خوفك مصر فخوفه باليمن ، وإن خوفك عليا فخوفه بمعاوية . ومن جواب عمرو بن العاص لمعاوية: أرأيت إن ذكر عليا وجاءنا بالاسلام والهجرة واجتماع الناس عليه ، ما أقول ؟ فقال معاوية: قال ما تريد وترى . [ الإمامة والسياسة 1: 99 ، وفي ط 113 ] . قال الأميني: هذه صفة الحال ، ومصاص الحقيقة ، ومن نوايا أهل العراق وأهل الشام من طلب كل منهما الخلافة ، وإثباتها لصاحبه ، ودونه تحقق الخلع والتثبيت ، وعليه وقع التحكيم حقا أو باطلا ، ولم يكن السامع يجد هنالك قط من دم عثمان ركزا ، ولا عن ثاراته ذكرا ، وإنما تطامنت النفوس على تحري الخلافة فحسب ، و لقصر النزاع على الخلافة محيت إمرة المؤمنين عند ذكر اسم مولانا الإمام عليه السلام عن صحيفة الصلح . فلقد تمخضت لك صورة الواقع من أمنية معاوية الباطلة في كل من هذه العناوين الستة المذكورة المدرجة تحت: 1 - حديث الوفود . 2 - أنباء في طيات الكتب . 3 - تصريح لا تلويح . 4 - فكرة معاوية لها قدم . 5 - مناظرات وكلم . 6 - التحكيم لماذا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإمامة والسياسة 1: 99 ، وفي ط 113 ، كتاب صفين 614 ، 615 ط مصر ، شرح ابن أبي الحديد 1: 195 .
/ صفحة 339 / فأين يقع منها كلمة ابن حجر وحكمه البات بقصر النزاع بين الإمام عليه السلام وبين ابن هند على طلب ثارات عثمان لا الخلافة ؟ لتبرير عمل الرجل الوبيل الذي قتل به ما يناهز السبعين ألفا ضحية لشهواته ومطامعه ، وهو يحسب أنه لا يوافيه مناقش في الحساب ، أو ناظر إلى صفحات التاريخ نظر تنقيب وإمعان ، وكأنه لا يخجل إن جاثاه منقب ، أو واقفه مجادل ، كما أنه لا يتحاشى عن موقف الحساب يوم القيامة ، وأن الله سبحانه لبالمرصاد . ونختم البحث بكلمة الباقلاني ، قال في " التمهيد " ص 231: إن عقد الإمامة لرجل على أن يقتل الجماعة بالواحد لا محالة خطأ لا يجوز ، لأنه متعبد في ذلك باجتهاده والعمل على رأيه ، وقد يؤدي الإمام اجتهاده إلى أن لا يقتل الجماعة بالواحد ، وذلك رأي كثير من الفقهاء ، وقد يكون ممن يرى ذلك ، ثم يرجع عنه إلى اجتهاد ثان ، فعقد الأمر له على ألا يقيم الحد إلا على مذهب من مذاهب المسلمين مخصوص فاسد باطل ممن عقده ورضي به . وعلى أنه إذا ثبت أن عليا ممن يرى قتل الجماعة بالواحد ، لم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلا بأن تقوم البينة على القتلة بأعيانهم ، وبأن يحضر أولياء الدم مجلسه يطالبوا بدم أبيهم ووليهم ، ولا يكونوا في حكم من يعتقد أنهم بغاة عليه ، وممن لا يجب استخراج حق لهم ، دون أن يدخلوا في الطاعة ، ويرجعوا عن البغي وبأن يؤدي الإمام اجتهاده إلى أن قتل قتلة عثمان لا يؤدي إلى هرج عظيم ، وفساد شديد ، قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه ، وإن تأخير إقامة الحد إلى وقت إمكانه ، وتقصي الحق فيه ، أولى وأصلح للأمة ، وألم لشعثهم ، وأنفى للفساد والتهمة عنهم . هذه أمور كلها تلزم الإمام في إقامة الحدود ، واستخراج الحقوق ، وليس لأحد أن يعقد الإمامة لرجل من المسلمين بشريطة تعجيل إقامة حد من حدود الله ، والعمل فيه برأي الرعية ، ولا للمعقود له أن يدخل في الإمامة بهذا الشرط ، فوجب اطراح هذه الرواية (1) لو صحت ، ولو كانا قد بايعا على هذه الشريطة فقبل هو ذلك لكان هذا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) يعني ما روي عن طلحة والزبير من قولهم: بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان .
/ صفحة 340 / خطأ منهم ، غير أنه لم يكن بقادح في صحة إمامته ، لأن العقد له قد تقدم هذا العقد الثاني ، وهذه الشريطة لا معتبر بها ، لأن الغلط في هذا من الإمام الثابتة إمامته ليس بفسق يوجب خلعه وسقوط فرض طاعته عند أحد. الكلام .
استرسل ابن حجر في تدعيم ما منته به هواجسه اقتصاصا منه أثر سلفه في تبرير أعمال معاوية القاسية ، والاعتذار عنه بما ركبه من الموبقات ، وتصحيح خلافته بإسهاب في القول وتطويل من غير طائل في الصواعق ص 129 - 131 بما تنتهي خلاصة ما لفقه إلى أمرين: أحدهما القول باجتهاده في جملة ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية و نزاع مع خليفة الوقت ، إلى ما يستتبعانه من مخاريق ومرديات من إزهاق نفوس بريئة تعد بالآلاف المؤلفة (1) وفيهم ثلاثمائة ونيف من أهل بيعة الشجرة ، وجماعة من البدريين (2) ولفيف من المهاجرين والأنصار ، وعدد لا يستهان به من الصحابة العدول أو التابعين لهم بإحسان ، وهو يحسب أن شيئا من هذه التلفيقات يبرر ما حظرته الشريعة في نصوصها الجلية من الكتاب والسنة ، وأن الاجتهاد المزعوم نسق حول معاوية سياجا دون أن يلحقه أي حوب كبير ، وأسدل عليه ستارا عما اقترفه من ذنوب وآثام تجاه النصوص النبوية ، ولم يعلم أنه لا قيمة لاجتهاد هذا شأنه يتجهم أمام النص ، ويتهجم على أحكام الدين الباتة وطقوسه النهائية ، بلغ الرجل أن الاجتهاد جائز على الضد من اجتهاد المجتهدين وما تعقل أنه غير جائز على خلاف الله ورسوله . وقصارى القول إنه ليس عند ابن حجر ومن سبقه إلى قوله أو لحقه به (3) ضابط للاجتهاد يتم طرده وعكسه ، وإنما يمطط مع الشهوات والأهواء ، فيعذر به خالد بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) قال ابن مزاحم: أصيب بصفين من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا ، وأصيب بها من أهل العراق خمسة وعشرون ألفا . كتاب صفين ص 643 ، وذكره ابن كثير في تاريخه 7: 274 وقال: قاله غير واحد ، وزاد أبو الحسن بن البراء: وكان في أهل العراق خمسة وعشرون بدريا . وعلى ما ذكر من عدد القتلى ذكره ابن الشحنة في روضة المناظر هامش الكامل 3: 191 ، وصاحب تاريخ الخميس في ج 2: 277 . (2) راجع ما مر في الجزء التاسع ص 359 ط 1 . (3) نظراء الشيخ على القاري ، والخفاجي في شرحي الشفا 3: 166 .
/ صفحة 341 / الوليد في فجائع بني حنيفة ومالك بن نويرة شيخها الصالح وزعيمها المبرور ، وفضائحه من قتل الأبرياء والدخول على حليلة الموئود غيلة وخدعة (1) ويعذر به ابن ملجم (2) المرادي أشقى الآخرين بنص الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم على ما انتهكه من حرمة الاسلام ، وقتل خليفة الحق وإمام الهدى في محراب طاعة الله الذي اكتنفته الفضائل والفواضل من شتى نواحيه ، واحتفت به النفسيات الكريمة جمعاء ، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ما قاله من كثير طيب عداه الحصر ، وكبى عنه الاستقصاء ، و هو قبل هذه كلها نفس النبي الطاهرة في الذكر الحكيم . قال محمد بن جرير الطبري في التهذيب: أهل السير لا تدافع عنهم أن عليا أمر بقتل قاتله قصاصا ونهى أن يمثل به ، ولا خلاف بين أحد من الأمة أن ابن ملجم قتل عليا متأولا مجتهدا مقدرا على أنه على صواب وفي ذلك يقول عمروا بن حطان: يا ضربـــــــة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني أفـــــــكر فيه ثـــــــم أحسبــه * أوفى البريـــــــة عـند الله ميـزانا سنن البيهقي 8: 58 ، 59 . ويبرر به عمل أبي الغادية (3) الفزاري قاتل عمار الممدوح على لسان الله ولسان رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومن الصحيح الثابت قوله صلى الله عليه وآله له: تقتلك الفئة الباغية . وقد مر في ج 9 ص 21 ويبرأ به ساحة عمرو بن العاصي (4) عن وصمة مكيدة التحكيم وقد خان فيها أمة محمد صلى الله عليه وآله وكسر شوكتها وقد قال مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فيه وفي صاحبه - الشيخ المخرف: ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتبع كل واحد منهما هواه ، بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجة بينة ، ولا سنة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع الجزء السابع ص 156 - 168 ط 1 . (2) راجع الجزء الأول ص 323 ط 2 . (3) راجع الجزء الخامس ص 328 ط 2 . (4) راجع تاريخ ابن كثير 7: 283 .
/ صفحة 342 / منهما ورسوله وصالح المؤمنين . ويحبذ به ما ارتكبه يزيد الطاغية (1) من البوائق والطامات من استئصال شأفة النبوة وقتل ذراريها ، وسبي عقائلها ، التى لم تبق للباحث عن صحيفة حياته السوداء إلا أن يلعنه ويتبرأ منه . ويقدس به أذيال المتقاعدين (2) عن بيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على حين اجتماع شروط البيعة الواجبة له ، فماتوا ميتة جاهلية ولم يعرفوا إمام زمانهم. وينزه به السابقون الذين أوعزنا إلى سقطاتهم في الدين والشريعة في الجزء 6 ، 7 ، 8 ، 9 بأعذار عنهم لا تقل في الشناعة عن جرائرهم . إلى أمثال هذه مما لا يحصى . نعم: هناك موارد جمة ينبو عنها الاجتهاد ، فلا يصاخ إلى مفعوله ، لوقوف الميول والشهوات سدا دون ذلك ، فلا يدرء به التهمة عن المؤلبين على عثمان وهم عدول الصحابة ووجوه المهاجرين والأنصار ، وأعيان المجتهدين ، الذين أخذوا الكتاب والسنة من نفس رسول الله صلى الله عليه وآله ، فهم عند ابن حزم المبرر لفتكة أشقى مراد باجتهاده المشوم: فساق ملعونون محاربون سافكون دما حراما عمدا (3) وعند ابن تيمية: قوم خوارج مفسدون في الأرض ، لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة ، وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون (4) وعند ابن كثير: أجلاف أخلاط من الناس ، لا شك أنهم من جملة المفسدين في الأرض ، بغاة خارجون على الإمام ، جهلة متعنتون خونة ظلمة مفترون (5) وعند ابن حجر: بغاة كاذبون ملعونون معترضون لا فهم لهم بل ولا عقل (6). ولو كان للاجتهاد منتوج مقرر فلم لم يتبع في إرجاء أمير المؤمنين عليه السلام أمر المتهمين بقتل عثمان إلى ما يراه من المصلحة فينتصب للقضاء فيه على ما يقتضيه الكتاب والسنة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع تاريخ ابن كثير 8: 223 ، ج 13: 10 فيه قول أبي الخير القزويني: إنه إمام مجتهد . (2) راجع مستدرك الحاكم ج 3: 115 - 118 . (3) الفصل لابن حزم 4: 161 . (4) منهاج السنة 3: 189 ، 206 . (5) تاريخ ابن كثير 7: 176 ، 186 ، 187 . (6) الصواعق المحرقة ص 67 ، 68 ، 129 .
/ صفحة 343 / فشنت عليه الغارات يوم الجمل وفي واقعة صفين وكان من ذيولها وقعة الحروريين ، فلم يتبع اجتهاد خليفة الوقت الذي هو باب مدينة علم النبي ، وأقضى الأمة بنص من الصادق المصدق ، لكنما اتبع اجتهاد عثمان في العفو عن عبيد الله بن عمر في قتله لهرمزان و بنت أبي لؤلؤة وإهدار ذلك الدم المحرم من غير أي حجة قاطعة أو برهنة صحيحة ، فلو كان للخليفة مثل ذلك العفو فلم لم يجر حكمه في الآوين إلى مولانا أمير المؤمنين من - المتجمهرين على عثمان ؟ ولم يكن يومئذ من المقطوع به ما سوف يقضي به الإمام من حكمه البات ، أيعطي دية المقتول من بيت المال لأنه أودي به بين جمهرة المسلمين لا يعرف قاتله كما فعله في أربد الفزاري (1) أو أنه يراهم من المجتهدين " وكانوا كذلك " الذين تأولوا أصابوا أو أخطأوا ، أو أنه كان يرى من صالح الخلافة واستقرار عروشها أن يرجئ أمرهم إلى ما وراء ما انتابه من المثلات ، وما هنالك من إرجاف وتعكير يقلقان السلام والوئام ، حتى يتمكن من الحصول على تدعيم عرش إمرته الحقة المشروعة ، فعلى أي من هذه الأقضية الصحيحة كان ينوء الإمام عليه السلام به فلا حرج عليه ولا تثريب ، لكن سيف البغي الذي شهروه في وجهه أبى للقوم إلا أن يتبع الحق أهوائهم ، وماذا نقموا عليه صلوات الله عليه من تلكم المحتملات ! حتى يسوغ لهم إلقاح الحرب الزبون التي من جرائها تطايرت الرؤس ، وتساقطت الأيدي ، وأرهقت نفوس بريئة ، وأريقت دماء محترمة ، فبأي اجتهاد بادروا إلى الفرقة ، وتحملوا أوزارها ، ولم تتجل لهم حقيقة الأمر ولباب الحق ، لكنهم ابتغوا الفتنة ، وقلبوا له الأمور ، ألا في الفتنة سقطوا . ومن أعجب ما يترائى من مفعول الاجتهاد في القرون الخالية: إنه يبيح سب علي أمير المؤمنين عليه السلام وسب كل صحابي احتذى مثاله ، ويجوز لأي أحد كيف شاء وأراد لعنهم ، والوقيعة فيهم ، والنيل منهم ، في خطب الصلوات ، والجمعات ، والجماعات ، و على صهوات المنابر ، والقنوت بها ، والاعلان بذلك في الأندية والمجتمعات ، والخلا والملا ، ولا يلحق لفاعلها ذم ولا تبعة ، بل له أجر واحد لاجتهاده خطأ ، وإن كان هو من حثالة الناس ، وسفلة الأعراب ، وبقايا الأحزاب ، البعداء عن العلوم والمعارف . وأما علي وشيعته فلا حق لهم في بيان ظلامتهم عند مناوئيهم ، والوقيعة في خصمائهم ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع كتاب صفين ص 106 ، شرح ابن أبي الحديد 1: 279 .
/ صفحة 344 / ومبلغ إسفافهم إلى هوة الضلالة على حد قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (1) وليس لأحدهم في الاجتهاد في ذلك كله نصيب ، ولو كان ضليعا في العلوم كلها ، فإن أحد منهم نال من إنسان من أولئك الظالمين فمن الحق ضربه وتأديبه ، أو تعذيبه وإقصاءه ، أو التنكيل به وقتله ، ولا يأبه باجتهاده المؤدي إلى ذلك صوابا أو خطأ ، وعلى هذا عمل القوم منذ أول يوم اسس أساس الظلم والجور ، وهلم جرا حتى اليوم الحاضر راجع معاجم السيرة والتاريخ فإنها نعم الحكم الفصل ، وبين يديك كلمة ابن حجر في الصواعق ص 132 قال في لعن معاوية: وأما ما يستبيحه بعض المبتدعة من سبه ولعنه فله فيه أسوة ، أي أسوة بالشيخين وعثمان وأكثر الصحابة ، فلا يلتفت لذلك ، ولا يعول عليه ، فإنه لم يصدر إلا من قوم حمقى جهلاء أغبياء طغاة لا يبالي الله بهم في أي واد هلكوا ، فلعنهم الله وخذ لهم ، أقبح اللعنة والخذلان ، وأقام على رؤسهم من سيوف أهل السنة ، وفي حججهم المؤيدة بأوضح الدلائل والبرهان ما يقمعهم عن الخوض في تنقيص أولئك الأئمة الأعيان . إنتهى . أتعلم من لعن ابن حجر ؟ وإلى من تتوجه هذه القوارص ؟ انظر إلى حديث لعن رسول الله صلى الله عليه وآله معاوية ، وأحاديث لعن علي أمير المؤمنين ، وقنوته بذلك في صلواته ، و لعن ابن عباس وعمار ومحمد بن أبي بكر ، ودعاء أم المؤمنين عائشة عليه في دبر الصلاة ، و آخرين من الصحابة ، إقرأوا حكم .
ومما يجب أن يبحث عنه في المقام هو أن يفهم معنى الاجتهاد الذي توسعوا فيه حتى سفكت الدماء من أجله وأبيحت ، وغصبت الفروج وانتهكت المحارم ، وغيرت الأحكام من جرائه ، وكاد أن يكون توسعهم فيه أن يرد الشريعة بدءا إلى عقب ، ويفصم عروة الدين ، ويقطع حبله . ثم لننظر هل فيه من الاستعداد والمنة لتبديل السنن المتبعة التي لا تبديل لها ؟ وهل هو من منح الله سبحانه على رعاء الناس ودهمائهم ، فيتقحمونه كيف شاء لهم الهوى ؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) سورة النساء: 148 .
/ صفحة 345 / أو أن له أصولا متبعة لا يعدوها المجتهد من كتاب وسنة ، أو تأول صحيح إن ماشينا القوم في إمضاء الاجتهاد تجاه النص ، أو أنه اتسعت الفسحة فيه وأطلق الصراح حتى نزى إليه كل أرنب ، وثعلب ، وتحراه كل بوال على عقبيه أو أعرابي جلف جاف ؟ أنا لا أكاد أن أسوغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد . وإنما المتسالم عليه بينهم ما يلي: قال الآمدي في [ الإحكام في أصول الأحكام ] 4: 218: أما الاجتهاد ، فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة ، ولهذا يقال: إجتهد فلان في حمل حجر البزارة ، ولا يقال: إجتهد في حمل خردلة . وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشئ من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه . وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد ، وله شرطان: الشرط الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى: وما يجب له من الصفات ، ويستحقه من الكمالات ، وأنه واجب الوجود لذاته ، حي ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلم ، حتى يتصور منه التكليف ؟ وأن يكون مصدقا بالرسول ، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات ، والآيات الباهرات ، ليكون فيما يسنده إليه من الأحكام محققا ، ولا يشترط أن يكون عارفا بدقائق علم الكلام ، متبحرا فيه كالمشاهير من المتكلمين ، بل أن يكون مستند علمه في ذلك بالدليل المفصل ، بحيث يكون قادرا على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه ، كالجاري من عادة الفحول من أهل الأصول ، بل أن يكون عالما بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة ، لا من جهة التفصيل . الشرط الثاني: أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها ، وطرق إثباتها ، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها ، واختلاف مراتبها ، والشروط المعتبرة فيها ، على ما بيناه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها ، وكيفية استثمار الأحكام منها قادرا على تحريرها وتقريرها ، والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها ، وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفا بالرواة وطرق الجرح والتعديل ، والصحيح والسقيم ، كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وأن يكون عارفا بأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ في النصوص الأحكامية ، عالما باللغة والنحو ، ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي ، وفي النحو / صفحة 346 / كسيبويه والخليل ، بل أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات ، بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة ، والتضمين ، والالتزام ، والمفرد والمركب ، والكلي منها والجزئي ، والحقيقة والمجاز ، والتواطئ والاشتراك ، والترادف والتباين ، والنص والظاهر ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمنطوق والمفهوم ، والاقتضاء والإشارة ، والتنبيه والايماء ، ونحو ذلك مما فصلناه . ويتوقف عليه استثمار الحكم من دليله . وذلك كله أيضا إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه ، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل ، فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة ، وما لا بد منه فيها ، ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها ، مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية ، كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المتكثرة ، بالغا رتبة الاجتهاد فيها ، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها ، فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر ، ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألة ، فقال في ست وثلاثين منها ، لا أدري . وأما ما فيه الاجتهاد: فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظنيا . فقولنا " من الأحكام الشرعية " تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها . وقولنا " دليله ظنيا " تمييز له عما كان دليله منها قطعيا ، كالعبادات الخمس ونحوها ، فإنها ليست محلا للاجتهاد فيها ، لأن المخطئ فيها يعد آثما ، والمسائل الاجتهادية ما لا يعد المخطئ فيها باجتهاده آثما . ا ه . وقال الشاطبي في الموافقات 4: 89 ما ملخصه: الاجتهاد على ضربين: الأول: الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله . فلا بد من هذه الاجتهاد في كل زمان ، إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به ، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال ، وهو غير ممكن شرعا ، كما إنه غير ممكن عقلا .
/ صفحة 347 / وأما الضرب الثاني: وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع: أحدها المسمى بتنقيح المناط ، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى . الثاني المسمى بتخريج المناط ، وهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط ، فكأنه أخرج بالبحث ، وهو الاجتهاد القياسي . الثالث: وهو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر لأنه ضربان: أحدهما ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص ، كتعين نوع المثل في جزاء الصيد ، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات وما أشبه ذلك . والضرب الثاني: ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه ، فكأن المناط على قسمين: تحقيق عام ، وهو ما ذكر . وتحقيق خاص من ذلك العام . إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها . والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها . أما الأول فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح ، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ، لا من حيث إدراك المكلف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والاضافات ، واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب ، فإذا بلغ الانسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كل باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله . وأما الثاني: فهو كالخادم للأول ، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا ، ومن هنا كان خادما للأول ، وفي استنباط الأحكام ثانيا ، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط . فلذلك جعل شرطا ثانيا ، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة . هذا هو الاجتهاد عند الأصوليين وأما الفقهاء فهو عندهم مرتبة راقية من الفقه يقتدر بها الفقيه على رد الفرع إلى الأصل ، واستنباطه منه ، والتمكن من دفع ما يعترض المقام من نقد ورد ، وإبرام ونقض ، وشبه وأوهام .
/ صفحة 348 / قال الآمدي في الأحكام 1: 7: الفقه في عرف المتشرعين مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال . وقال ابن نجيم في البحر الرائق 1: 3: الفقه اصطلاحا على ما ذكره النسفي في شرح المنار تبعا للأصوليين: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية بالاستدلال . وفي الحاوي القدسي: إعلم أن معنى الفقه في اللغة الوقوف والاطلاع ، وفي الشريعة الوقوف الخاص وهو الوقوف على معاني النصوص وإشاراتها ، ودلالاتها ، ومضمراتها ، و مقتضياتها ، والفقيه اسم للواقف عليها . وقال: الفقه قوة تصحيح المنقول ، وترجيح المعقول ، فالحاصل: إن الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها ، فليس الفقيه إلا المجتهد عندهم . وأما استمداده فمن الأصول الأربعة: الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والقياس المستنبط من هذه الثلاثة ، وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب ، وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة ، وأما تعامل الناس فتابع للاجماع ، وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس ، وأما غايته فالفوز بسعادة الدارين . وقال ابن عابدين في حاشية البحر 1: 3: في تحرير الدلالات السمعية لعلي بن محمد بن أحمد بن مسعود نقلا عن التنقيح: الفقه لغة هو الفهم والعلم ، وفي الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال . وقال ابن قاسم الغزي في الشرح 1: 18: الفقه هو لغة الفهم ، واصطلاحا العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية . وقال ابن رشد في مقدمة المدونة الكبرى ص 8: فصل الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع ، وأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه: أحدها كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد . والثاني: سنة نبيه عليه السلام الذي قرن الله طاعته بطاعته ، وأمرنا باتباع سنته فقال عز وجل: وأطيعوا الله والرسول . وقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله . وقال: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . وقال: واذكرن ما يتلى في بيوتكن . من آيات الله والحكمة . والحكمة / صفحة 349 / السنة . وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة . والثالث: الإجماع الذي دل تعالى على صحته بقوله: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين فوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا . لأنه عز وجل توعد باتباع غير سبيل المؤمنين ، فكان ذلك أمرا واجبا باتباع سبيلهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تجتمع أمتي على ضلالة . والرابع الاستنباط وهو القياس على هذه الأصول والثلاثة التي هي الكتاب والسنة والاجماع ، لأن الله تعالى جعل المستنبط من ذلك علما ، وأوجب الحكم به فرضا ، فقال عز وجل: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقال عز وجل: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله . أي بما أراك فيه من الاستنباط والقياس ، لأن الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو مما أنزل الله عليه وأمره بالحكم به حيث يقول: وأن احكم بينهم بما أنزل الله . |
|