عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني
هاهنا حق علينا أن نميط الستر عن اجتهاد معاوية ، ونناقش القائلين به في أعماله ، أفهل كانت على شيئ من النواميس الأربعة: الكتاب . السنة . الإجماع . القياس ؟ أو هل علم معاوية علم الكتاب ؟ وعند من درسه ؟ ومتى زاوله ؟ وقد كان عهده به منذ عامين (1) قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهل كان يميز بين محكماته ومتشابهاته ؟ أو يفرق بين مجمله ومبينه ؟ أو يمكنه الحكم في عمومه وخصوصه ؟ أو أحاط خبرا بمطلقه ومقيده ؟ أو عرف شيئا من ناسخه ومنسوخه ، إلى غير هذه من أضراب الآي الكريمة ، ومزايا المصحف الشريف الداخل علمها في استنباط الأحكام منه ؟ ! . إن ظروف معاوية على عهد استسلامه لا يسع شيئا من ذلك ، على حين إنها تستدعي فراغا كثيرا لا يتصرم بالسنين الطوال فكيف بهذه الأويقات اليسيرة التي تلهيه في أكثرها الهواجس والأفكار المتضاربة من نواميس دينه القديم " الوثنية " وقد أتى عليها ما انتحله من الدين الجديد " الاسلام " فأذهب عنه هاتيك ، ولم يجئ بعد هذا على وجهه بحيث يرتكز في مخيلته ، ويتبوأ في دماغه . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) هو وأبوه وأخوه من مسلمة سنة الفتح كما في الاستيعاب ، وكان ذلك في أخريات السنة الثامن الهجرة ، ووفاة النبي صلى الله عليه وآله في أوليات سنة 11 .
/ صفحة 350 / وكان قد سبقه جماعة إلى الاسلام وكتابه ، وهم بين حكم النبي ومحكماته وإفاضاته وتعاليمه ، وهم لا يبارحون منتديات النبوة وهتافها بالتنزيل والتأويل الصحيح الثابت ، قضوا على ذلك أعواما متعاقبة ومددا كثيرة فلم يتسن لهم الحصول على أكثر تلكم المبادي وانكفؤا عنها صفر الأكف ، خاوين الوطاب ، انظر إلى ذلك الذي حفظ سورة البقرة في اثنى عشرة سنة ، حتى إذا تمكن من الحفظ بعد ذلك الأجل المذكور نحر جزورا شكرا على ما أتيح له من تلك النعمة بعد جهود جبارة ، والله يعلم ما عاناه طيلة تلكم المدة من عناء ومشقة ، وهذا الرجل ثان الأمة عند القوم في العلم والفضيلة ، وكان من علمه بالكتاب إنه لم يع تنصيصه على موت النبي صلى الله عليه وآله فلما سمع قوله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون . ألقى السيف من يده ، وسكنت فورته ، وأيقن بوفاته صلى الله عليه وآله كمن لم يقرأ الآية الكريمة إلى حينه ، وإن تقس موارد علمه بالكتاب ونصوصه قضيت منها العجب ، وأعيتك الفكرة في مبلغ فهمه ، وماذا الذي كان يلهيه عن الخبرة بأصول الاسلام وكتابه ؟ ولئن راجعت فيما يؤل إلى هذا الموقف (الجزء السادس) من هذا الكتاب رأيت العجب العجاب . وليس من البعيد عنه أول رجل في الاسلام عند القوم الذي بلغ من القصور والجهل بالمبادي والخواتيم والأشكال والنتايج حدا لا يقصر عنه غمار الناس والعاديين منهم الذين أشرقت عليهم أنوار النبوة منذ بذوغها ، ولعلك تجد في الجزء السابع من هذا الكتاب ما يلمسك باليد يسيرا من هذه الحقايق . وأنت إذن في غنى عن استحفاء أخبار كثير من أولئك الأولين الذين لا تعزب عنك أنبائهم في الفقه والحديث والكتاب والسنة ، فكيف بمثل معاوية الملتحق بالمسلمين في أخريات أيامهم ؟ وكانت تربيته في بيت حافل بالوثنية ، متهالك في الظلم والعدوان ، متفان في عادات الجاهلية ، ترف عليه رايات العهارة وأعلام البغاء ، وإذا قرع سمع أحدهم دعاء إلى وحي أو هتاف بتنزيل جعل إصبعه في أذنه ، وراعته من ذلك خاطرة جديدة لم يكن يتهجس بها منذ آباءه الأولين . نعم: المعروفون بعلم الكتاب على عهد الصحابة أناس معلومون ، وكانوا مراجع الأمة في مشكلات القرآن ومغازيه وتنزيله وتأويله كعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن - العباس ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت .
/ صفحة 351 / وأما مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فهو عدل القرآن والعالم بأسراره وغوامضه ، كما أن عنده العلم الصحيح بكل مشكلة ، والحكم البات عند كل قضية ، والجواب الناجع عند كل عويصة ، وقد صح عند الأمة جمعاء قوله الصادق المصدق صلوات الله عليه: : سلوني قبل أن لا تسألوني ، لا تسألوني عن آية في كتاب الله ولا سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أنبأتكم بذلك . راجع الجزء السادس ص 193 ط 2 . السنة . وماذا تحسب أن يكون نصيب معاوية من علم الحديث الذي هو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله وفعله وتقريره ؟ لقد عرفنا موقفه منها قوله هو فيما أخرجه أحمد في مسنده 4: 99 من طريق عبد الله بن عامر قال: سمعت معاوية يحدث وهو يقول: إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا كان على عهد عمر . لماذا هذا التحذير عن الأحاديث بعد أيام عمر ؟ ألان الافتعال والوضع كثرا بعده ؟ أم لأن الصحابة العدول الموثوق بهم على عهد عمر وما قبله منذ تصرم العهد النبوي سلبت عنهم الثقة بعد خلافة عمر ؟ فكأنهم ارتدوا - العياذ بالله - بعده كذابين وضاعين ، ولازمه الطعن في أكثر الأحاديث وعدم الاعتداد بمدارك الأحكام ، لأن شيئا كثيرا منها انتشر بعد ذلك الأجل ، وما كانت الدواعي والحاجة تستدعيان روايتها قبل ذلك ، على أن الجهل بتاريخ إخراجها ، هل هو في أيام عمر أو بعدها ؟ يوجب سقوطها عن الاعتبار لعدم الثقة برواتها وروايتها ؟ ولم تكن الرواة تسجل تاريخ ما يروونه حتى يعلم أن أيا منها محاط بسياج الثقة ، وأيا منها منبوذ وراء سورها . وما خصوصية عهد عمر في قبول الرواية ورفضها ؟ ألان الحقايق تمحضت فيه ؟ ومن ذا الذي محضها ، أم لأن التمحيص أفرد فيه الصحيح من السقيم ؟ ومن ذا الذي فعل ذلك ؟ أم أن يد الأمانة قبضت على السنة عندئذ ، وعضتها بالنواجذ حرصا عليها ، فلم يبق إلا لبابها المحض ؟ فمتى وقعت تلكم البدع والتافهات ؟ ومتى بدلت السنن ؟ ومتى غيرت الأحكام ؟ راجع الجزء السادس وهلم جرا . ولعل قول معاوية هذا في سنة الرسول صلى الله عليه وآله كاف في قلة اعتداده بها ، أو أنه كان ينظر إليها نظر مستخف بها ، وكان يستهين بقائلها مرة ، ويضرط لها إذا سمعها مرة / صفحة 352 / أخرى ، وينال من رواتها بقوارص طورا ، وينهى راويها عن الرواية بلسان بذي بكل شدة وحدة ، إلى أشياء من مظاهر الهزء والسخرية (1) فما ظنك بمن هذا شأنه مع - السنة الشريفة ؟ فهل تذعن له إنه يعبأ بها ويحتج بها في موارد الحاجة ، ويأخذها مدركا عند عمله ؟ أو ينبذها وراء ظهره ؟ كما فعل ذلك في موارده ومصادره كلها . وإن حداثة عهد معاوية بالاسلام وأخذه بالروايات بعد كل ما قدمناه ، وما كان يلهيه عن الاصاغة إليها طيلة أيامه من كتابة وإمارة وملوكية ، وإن حياته في دور الاسلام كلها كانت مستوعبة بظروب السياسة وإدارة شئون الملك والنزاع والمخاصمة دونه ، فمتى كان يتفرغ لأخذ الروايات وتعلم السنن ؟ ثم من ذا الذي أخذ عنه السنة ؟ والصحابة جلهم في منتأى عن مبائته " الشام " ولم يكن معه إلا طليقا أعرابيا ، أو يمانيا مستدرجا ، وهو يسيئ ظنه بجملة الصحابة المدنيين حملة الأحكام ونقلة الأحاديث النبوية ويقول بملأ فمه: إنما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم ، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام (2) وعلى أثر ظنه السيئ وقوله الآثم كان يمنع هو وأمراءه عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما يظهر مما أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 486 من قول عبد الله بن عمرو بن العاص لما قاله نوف: أنت أحق بالحديث مني أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله: إن هؤلاء قد منعونا عن الحديث يعني الأمراء . وجاء في حديث: إن معاوية أرسل إلى عبد الله بن عمر فقال: لئن بلغني إنك تحدث لأضربن عنقك (3) . وعلى ذلك الظن أهدر دماء بقية السلف الصالح ، وبعث بسر بن أرطاة إلى المدينة الطيبة فشن الغارة على أهلها ، فقتل نفوسا بريئة ، وأراق دماء زكية ، واقتص أثره من بعده جروه يزيد في واقعة الحرة ، ومن يشابه أبه فما ظلم .
إن لنا حق النظر في شتى مناحي رواياته ، لقد أخرج عنه أحمد في مسنده في الجزء الرابع ص 91 - 102 مائة وستة أحاديث وفيها من المكرر . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع تفصيل كل هذه فيما أسلفناه في هذا الجزء ص 281 - 284 . (2) راجع صفحة 319 من هذا الجزء . (3) كتاب صفين لابن مزاحم ص 248 .
/ صفحة 353 / 1 - حديث إذا أراد الله بعبده خيرا يفقهه في الدين . كرره ست عشر مرة في ص 92 ، 92 ، 93 ، 93 ، 93 ، 93 ، 93 ، 95 ، 96 ، 96 ، 97 ، 98 ، 98 ، 99 ، 101 ، 101 . 2 - حديث تقصير شعر النبي بمشقص مكرر عشر مرات في ص 92 ، 95 ، 96 ، 97 ، 97 ، 97 ، 97 ، 98 ، 102 ، 102 . 3 - حديث حكاية رسول الله صلى الله عليه وآله الأذان كرره سبع مرات في ص 91 ، 92 ، 93 ، 98 ، 98 ، 100 ، 100 . 4 - حديث عقوبة شرب الخمر مكرر خمس مرات في ص 93 ، 95 ، 96 ، 97 101 . 5 - حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر جاء في ص 96 ، 97 ، 97 ، 100 . 6 - حديث كبة الشعر يوجد في ص 91 ، 94 ، 95 ، 101 . 7 - حديث مناشدته عن أحاديث جاء في ص 92 ، 95 ، 96 ، 99 . 8 - حديث صوم عاشوراء في ص 95 ، 96 ، 97 . 9 - حديث حب الأنصار يوجد في ص 96 ، 100 ، 100 . 10 - حديث من أحب أن يمثل له قياما في ص 91 ، 93 ، 100 . 11 - حديث النهي عن لبس الذهب والحرير يوجد في ص 96 ، 100 ، 101 . 12 - حديث منقبة المؤذنين في ص 95 ، 98 . 13 - حديث إنما أنا خازن ص 99 ، 100 . 14 - حديث العمري جائزة ص 97 ، 99 . 15 - حديث سجدة السهو لكل منسي ص 100 ، 100 . 16 - حديث التبعية في الركوع والسجود ص 92 ، 98 . 17 - حديث النهي عن ركوب الخز والنمار ص 93 ، 93 . فالباقي من أحاديثه من غير تكرير سبعة وأربعون حديثا ، وهل تسد هي فراغ الاستنباط في أحكام الدين لأي مجتهد ؟ مع أن فيها ما ليس من الأحكام مثل رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وأبا بكر وعمر توفي كل منهم وهو ابن ثلاث وستين ، وقوله: رأيت / صفحة 354 / النبي صلى الله عليه وآله يمص لسان الحسن . إلى أمثال ذلك . ولقد آن لنا أن ننظر نظرة أخرى في غير واحد من متون أحاديثه فمنها: 1 - إن معاوية دخل على عائشة فقالت له: أما خفت أن أقعد لك رجلا يقتلك ؟ فقال: ما كنت لتفعليه وأنا في بيت أمان ، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول . يعني: الإيمان قيد الفتك . كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك ؟ قالت: صالح قال فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا عز وجل . مسند أحمد 4: 92 . قال الأميني إنه ينم عن أن أم المؤمنين كانت تستبيح دم الرجل بما ارتكبه من - الجرائم والمآثم ، وسفك دماء زكية ، ونفوس مزهقة بريئة ، حتى أنها كانت ترى من المعقول السائغ أن تقعد له رجلا فيقتله ، فأقنعها بأنه في بيت أمان ، وداخل في ذمتها ، وأن ما بينه وبينها صالح ، وأرجئ الموافاة للجزاء إلى يوم التلاقي بينه وبين الناس . ويستشف من هذه إنه لم يكن عند معاوية درأ لما كانت أم المؤمنين تنقمه عليه ، وإلا لكان للرجل أن يتشبث به في تبرير أعماله وتبرأة نفسه دون التافهات . وإن تعجب فعجب اقتناع أم المؤمنين من معاوية بأن بينه وبينها صالح ، وإن لم يكن صالحا بينه وبين الله ، ولا صالحا بينه وبينها لأنه قاتل أخيها " محمد بن أبي بكر " وكان على عنق معاوية ذلك الدم الطاهر ، وإن غضت الطرف عنه أختها لأن بينه وبينها صالح ، كما إنها غضت الطرف عن دم حجر وأصحابه وهو من موبقات ابن آكلة الأكباد وطالما نقمت عليه ذلك وكانت توبخه ، لكن برره ذلك الصالح بينهما بلا عقل ولا قود ، وأما دم عثمان فما غضت عنه أم المؤمنين مهما لم يكن بينهما وبين علي عليه السلام صالح ، وهل يحتج معاوية يوم القيامة في موقف العدل الإلهي متى خاصمه محمد وحجر وأصحابه و آلاف من الصلحاء الأبرار ممن سفك دمائهم بأن بينه وبين عائشة صالح ؟ وهل يفيده هذا الحجاج ؟ أنا لا أدري . أما كان لعائشة أن تفحم الرجل بأن الإيمان لو كان قيد الفتك " وهو قيد الفتك " فلماذا لم يقيده ؟ وقد فتك بآلاف من وجوه المؤمنين ، وأعيان الأمة المسلمة ، ولم يأمن من فتكه أهل حرم أمن الله " مكة " ولا مجاورو بيت أمانه " المدينة " ولعل أم المؤمنين كانت تنظر إلى إيمان الرجل من وراء ستر رقيق ولم تجده إيمانا مستقرا - إن لم نقل / صفحة 355 / أنها وجدته مستودعا - يقيد صاحبه ، ويسلم المسلمون بذلك من يده ولسانه ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم (1) . 2 - عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا ، قدمنا معه مكة فصلى بنا الظهر ركعتين ، ثم انصرف إلى دار الندوة ، وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة ، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة ، فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به ، فقال لهما: وما ذاك ؟ قال: فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة ؟ فقال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت ؟ قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، قالا: فإن ابن عمك قد كان أتمها ، وإن خلافك إياه له عيب ، قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاها بنا أربعا . مسند أحمد 4: 94 . قال الأميني: أنا لا أدري إن الشائنة ها هنا تعود إلى فقه معاوية ؟ أم إلى دينه ؟ حيث يتعمد الإتمام حيثما قصر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتخذته الأمة سنة متبعة وفيهم أبو بكر وعمر ، وقد صح عن عبد الله مرفوعا: الصلاة في السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر . لكن الرجل خالف الجميع ، وجابه حكم الرسول صلى الله عليه وآله نزولا منه إلى رغبة مروان الطريد بن الطريد ، وعمرو بن عثمان ؟ صونا لسمعة ابن عمه عثمان مبتدع هذه الأحدوثة فإن كان هذا فقه الرجل في الحديث ؟ فمرحا بالفقاهة ، أو أن ذلك مبلغه من الدين ؟ فبعدا له في موقف الديانة . راجع الجزء الثامن ص 100 - 122 ، 269 ط 1 . 3 - عن الهنائي قال: كنت في ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند معاوية ، فقال معاوية: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير ؟ قالوا: أللهم نعم . إلى أن قال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أخرجهما البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والطبراني وابن داود . راجع فيض القدير 1: 270 .
/ صفحة 356 / قال: أنشدكم الله تعالى أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين حج و عمرة ؟ قالوا: أما هذا فلا ؟ قال: أما إنها معهن . وفي لفظ: قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة - يعني متعة الحج - قالوا: أللهم لا . راجع المسند 4 ص 92 ، 95 ، 99 . قال الأميني: هذا معطوف على ما قبله ، فإن حرص الرجل على إحياء البدع تجاه السنة النبوية الثابتة ، أوقفه هاهنا موقف المكابر المعاند ، فقد أسلفنا في الجزء السادس ص 184 - 191 ، 200 - 206: إن متعة الحج نزل بها القرآن الكريم ولم ينسخ حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وآله نحبه ، وكان عليها العمل أيام أبي بكر وصدرا من أيام عمر حتى منع عنها . وعليه فاقتصاص معاوية أثر ذلك المحرم " بالكسر " يجلب الطعن إما في فقهه هو وجهله بالسنة ، أو في دينه ، والجمع أولى ، والثاني أقرب إليه . 4 - من طريق حمران يحدث عن معاوية قال: إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها ، ولقد نهى عنهما ، يعني الركعتين بعد العصر . ج 4: 99 ، 100 . قال الأميني: عرفت - في الجزء السادس ص 170 - 173 - إن الصلاة بعد العصر كانت مطردة على العهد النبوي يصليها هو صلى الله عليه وآله ولم يكن يدعهما سرا ولا علانية ، وما تركهما حتى لقي الله تعالى ، وصلاهما أصحابه إلى أن منع عنها عمر ، واحتجت الصحابة عليه بأنها سنة ثابتة ، ولا تبديل لسنة الله ، غير أن الرجل لم يصخ إلى قولهم ، وطفق يمضي وراء أحدوثته ، وجاء معاوية وقد زاد في الطنبور نغمة ، وعزى إلى رسول الله النهي عنهما ، وهل هذا مقتضى جهله بالسنة ؟ أو مبلغه من الفقه والدين ؟ فاسمع القول ، واقض بالحق لك أو عليك . 5 - من عدة طرق عن معاوية مرفوعا: من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد الرابعة فاقتلوه . أخرجه في ج 4: 93 ، 95 ، 96 ، 97 ، 101 .
/ صفحة 357 / قال الأميني: إني واقف هاهنا موقف التحير ، ولا أدري هل كان معاوية عاملا بمفاد هذا الحديث يوما من أيامه أبان خلافته وإمارته وقبلهما ؟ أو كان يناقضه كمناقضته بكثير من الأحكام ؟ ولإن كان خاضعا لما فيه من الحكم البات لما حملت إليه روايا الخمر قطارا ، ولما حملها إليه حماره الذي كان يصاحبه ، ولا ادخرها في حجرته ، ولا اتخذ متجرا لبيعها ، ولا شربها هو ، ولا يعربد بشعره فيما وهو سكران ، ولا قدمها إلى وفوده ، ولا استخلف جروه السكير بمرئى منه ومسمع ، ولا أضاع حد الله على من يشربها وينتشي بها ، وحديث معاوية هذا مع جودة سنده وإخراج مثل أحمد والترمذي وأبي داود إياه لم يأخذ به وبمفاده أحد من أئمة الفقه وضربوا عنه صفحا لتفرد معاوية بروايته وهو لا يؤتمن على حديثه . هذا موقفه مع السنة التي اتخذها هو عن رسول الله صلى الله عليه وآله على قلتها ، فما ظنك بالكثير الذي لم يبلغه منها . 6 - عن أبي إدريس قال: سمعت معاوية وكان قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا . المسند 4: 99 . وقد جاء كما يأتي في الجزء الحادي عشر من كتاب له كتبه إلى علي أمير المؤمنين عليه السلام: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو تمالا أهل صنعاء وعدن على قتل رجل و أحد من المسلمين لأكبهم الله على مناخرهم في النار . قال الأميني: هل هذان الحديثان اللذان رواهما معاوية حجة له أو عليه ؟ والحقيقة جلية لا يخفيها ستار ، فإنك جد عليم بالذي باء بإثم تلكم الدماء المهراقة منذ يوم صفين ، وبعده ريثما تتاح له الفرص مع مهب الريح ، وتحت كل حجر ومدر ، وعلى الروابي والثنيات ، وعدد الرمل والحصى ، عند كل هاتيك دم مسفوك ، ونفس مزهقة ، وأوصال مفصولة ، وحرمات مهتوكة وهل شيئ من تلكم البوائق يباح بآية من الكتاب ؟ أو يبرر بسنة صحيحة ؟ أو يحبذ بشئ من معاقد إجماع المسلمين ؟ وهل هناك قياس ينتهي إلى شيئ من هذه المبادئ الاجتهادية ؟ وهل معاوية يحسن شيئا منها أو يتقنها ؟: وأين وأنى له الرأي والاجتهاد ؟ أو هو مجرم جاهل ، وباغ / صفحة 358 / ظلوم ، وثان الخليفتين اللذين بويعا في عهد ، فيجب قتال هذا ، وقتل ذاك ، بالنصوص النبوية ، فلا يرقب فيه إل ولا ذمة ، فلا ذمة لمهدور الدم ، ولا حرمة لمن يجب إعدامه في الشريعة ، أين هو والخلافة ؟ حتى يستبيح الدماء الزاكية دون شهواته ومطامعه ، وهل تدري أي دماء سفكها ؟ وأي حرمات انتهكها ؟ نعم: اقترف بها إراقة دماء المهاجرين والأنصار من الصحابة العدول والتابعين لهم بإحسان ، وباء بإثم دماء البدريين ومئات من أهل بيعة الشجرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وفيهم مثل عمار الذي قتلته الفئة الباغية - فئة معاوية - ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، وثابت بن عبيد الأنصاري ، وأبي الهيثم مالك بن التيهان ، وأبي عمرة بشر الأنصاري ، وأبي فضالة الأنصاري كل هؤلاء من البدريين ، وفيهم حجر بن عدي راهب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وثم البطل المجاهد مالك بن الحارث الأشتر النخعي ، والعابد الصالح محمد بن أبي بكر . وقبل هذه كلها استبشاره بدم الإمام المقدس الخليفة عليه وعلى الأمة جمعاء مولانا أمير المؤمنين ، وسروره بذلك ، وعده ذلك من لطيف صنع الله . وما ظنك بمجرم يكون عنده دم الإمام السبط الزكي أبي محمد الحسن عليه السلام بدس السم إليه ؟ ! وقد استبشر لما باء بإثمه ، وناء بجرمه ، فسيؤاخذ بما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في هذه كلها . 7 - من طريق أبي صالح عن معاوية مرفوعا: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية . المسند للإمام أحمد 4: 96. قال الأميني: هاهنا نسائل أنصار معاوية وأوداءه عن أن أي موتة مات هو بها ، وعن أي إمام مات وعلى عنقه بيعته ؟ ومن الذي اخترم الرجل وقد طوقته ولايته ؟ وهل كان هناك إمام يجب طاعته وبيعته بالنص والاجماع غير مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يوم بارزه وكاشفه ؟ وألقح دون مناوئته الحرب الزبون ، ونازعه في أمر الخلافة ، وخلع ربقة الاسلام من عنقه ، أو يوم استبشر بقتل الإمام عليه السلام وهي الطامة الكبرى ؟ و المصاب بها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله . أو يوم افتجعت به الصديقة الكبرى فاطمة بشظية قلبها الإمام السبط المجتبى بسم من معاوية مدسوس إليه ؟ فهل بايعه يومئذ وهو خليفة / صفحة 359 / الوقت بالجدارة والنص وإجماع لا يستهان به من بقايا رجال الحل والعقد ؟ أو إنه ناوئه في الأمر وغدر به وكاده ؟ لما ظهر من أجناده الخور والفشل ، وقلبوا على إمام الحق ظهر المجن ، وحدت بهم المطامع والميول إلى أن يسلموه لمعاوية إن قامت الحرب على أشدها ، فالتجأ الإمام إلى الصلح صونا لدماء شيعته ، وإبقاء على حياة ذوية . فهل كان معاوية طيلة هذه المدد في ذكر من روايته هذه ؟ وهل علم أنه طوى تلكم السنين وليس في عنقه بيعة لإمام ؟ وإنه لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لإمام بيعة ؟ (1) وإنه إن مات والحالة هذه مات ميتة جاهلية ؟ أو إنه كان يرى من فقهه استثناءه من هذه الكلية التي لم يستثن منا الرسول صلى الله عليه وآله أحدا ؟ أو إن جهله بالأحكام وبنفسه كان يطمعه في أن يكون هو الخليفة المبايع له ، والمطاع بأمر الله ورسوله ؟ وهيهات له ذلك ، وهو طليق ابن طليق ، ولم يؤهله لها علم ولا حنكة ، ولا نص ولا إجماع ، إلا شره منهم ، وطمع زائغ ، وحلوم مطاشة ، أو أن الرجل كان لم يكترث لأن يموت ميتة جاهلية على ولاية سواع وهبل ؟ لفت نظر: إن حديث معاوية: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية . أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 218 ، وأبو داود الطيالسي في مسنده ص 259 من طريق عبد الله ابن عمر وزاد: ومن نزع يدا من طاعة جاء يوم القيامة لا حجة له . وهذا الحديث معتضد بألفاظ أخرى من طرق شتى منها: قوله صلى الله عليه وآله: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية . أخرجه مسلم في صحيحه 6: 22 ، والبيهقي في سننه 8: 156 ، وابن كثير في تفسيره 1: 517 ، والحافظ الهيثمي في المجمع 5: 218 ، واستدل بهذا اللفظ شاه ولي الله في إزالة الخفاء 1 ص 3 على وجوب نصب الخليفة على المسلمين إلى يوم القيامة وجوبا كفائيا . وقوله صلى الله عليه وآله: من مات وليس عليه طاعة مات ميتة جاهلية . أخرجه أحمد في مسنده 3: 446 ، والهيثمي في المجمع 5: 223 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المحلى لابن حزم 9: 359 .
/ صفحة 360 / وقوله صلى الله عليه وآله: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية . ذكره التفتازاني في شرح المقاصد 2: 275 وجعله لدة قوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في المفاد . وبهذا اللفظ ذكره التفتازاني أيضا في شرح عقائد النسفي المطبوع سنة 1302 غير أن يد الطبع الأمينة على ودايع العلم والدين حرفت من الكتاب في طبع سنة 1313 سبع صحائف يوجد فيها هذا الحديث . وحكاه الشيخ علي القاري صاحب المرقاة في خاتمة الجواهر المضية 2: 509 ، وقال في ص 457: وقوله عليه السلام في صحيح مسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية . معناه: من لم يعرف من يجب عليه الاقتداء والاهتداء به في أوانه . وقوله صلى الله عليه وآله: من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية . أخرجه مسلم في صحيحه 6: 21 ، والبيهقي في سننه 8: 156 ، وذكر في تيسير الوصول 3: 39 نقلا عن الصحيحين للشيخين من طريق أبي هريرة . وقوله صلى الله عليه وآله: من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية . أخرجه مسلم في صحيحه 6: 21 . وقوله صلى الله عليه وآله: من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية . ذكره أبو جعفر الاسكافي في خلاصة نقض كتاب العثمانية للجاحظ ص 29 ، و ذكره الهيثمي في المجمع 5: 224 ، 225 بلفظ: من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهلية . وبلفظ: من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية . وقوله صلى الله عليه وآله: من مات وليس لإمام جماعة عليه طاعة مات ميتة جاهلية . أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 5: 219 . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من أتاه من أميره ما يكرهه فليصبر ، فإن من خالف المسلمين قيد شبر ثم مات مات ميتة الجاهلية . شرح السير الكبير 1: 113 . هذه حقيقة راهنة أثبتتها الصحاح والمسانيد فلا ندحة عن البخوع لمفادها ، ولا يتم إسلام مسلم إلا بالنزول لمؤداها ، ولم يختلف في ذلك اثنان ، ولا إن أحدا خالجه في ذلك شك ، وهذا التعبير ينم عن سوء عاقبة من يموت بلا إمام وإنه في منتئى عن أي / صفحة 361 / نجاح وفلاح ، فإن ميتة الجاهلية إنما هي شر ميتة ، ميتة كفر وإلحاد ، لكن هنا دقيقة لا بد من البحث عنها وهي أن الصديقة الطاهرة المطهرة بنص الكتاب الكريم التي يغضب الله ورسوله لغضبها ويرضيان لرضاها ، ويؤذيهما ما يؤذيها قضت نحبها و ليس في عنقها بيعة لمن زعموا أنه خليفة الوقت ، ومثلها بعلها طيلة ستة أشهر أيام حياة حليلتها كما جاء في الصحيحين وفيهما: كان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس (1) قال القرطبي في المفهم . كان الناس يحترمون عليا في حياتها كرامة لها لأنها بضعة من رسول الله وهو مباشر لها ، فلما ماتت وهو لم يبايع أبا بكر انصرف الناس عن ذلك الاحترام ليدخل فيما دخل فيه الناس ولا يفرق جماعتهم . ا ه . فالحقيقة هاهنا مرددة بين أن الصديقة سلام الله عليها عزبت عنها ضرورية من ضروريات دين أبيها وهي أولاها وأعظمها وقد حفظته الأمة جمعاء حضريها وبدويها وماتت - العياذ بالله - على غير سنة أبيها ، وبين أن لا يكون للحديث مقيل من الصحة وقد رواه الحفظة الاثبات من الفريقين وتلقته الأمة بالقبول ، وبين إنها سلام الله عليها لم تك تعترف للمتقمص بالخلافة ، ولا توافقه على ما يدعيه ، ولم تكن تراه أهلا لذلك ، وكذلك الحال في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام . فهل يسع لمسلم أن يختار الشق الأول ويرتأي لبضعة النبوة ولزوجها نفس النبي الأمين ووصيه على التعيين ما يأباه العقل والمنطق ويبرأ منه الله ورسوله ؟ لا ، ليس لأحد أن يقول ذلك . وأما الشق الثاني ، فلا أظن جاهلا يسف إلى مثله بعد استكمال شرايط الصحة والقبول وإصفاق أئمة الحديث ومهرة الكلام على الخضوع لمفاده ، وإطباق الأمم الإسلامية على مؤداه . فلم يبق إلا الشق الثالث ، فخلافة لم تعترف لها الصديقة الطاهرة وماتت وهي واجدة عليها وعلى صاحبها ، ويجوز مولانا أمير المؤمنين التأخر عنها ولو آناما ، ولم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) صحيح البخاري كتاب المغازي ج 6: 197 ، صحيح مسلم كتاب الجهاد ج 5: 154 .
/ صفحة 362 / يأمر حليلتها بالمبادرة إلى البيعة ، ولا بايع هو ، وهو يعلم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ، فخلافة هذا شأنها حقيقة بالإعراض عنها والنكوص عن البخوع لصاحبها . 8 - من طريق أبي أمية عمرو بن يحيى بن سعيد عن جده: إن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها واشتكى أبو هريرة فبينا هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رأسه مرة أو مرتين فقال: يا معاوية ! إن وليت أمرا فاتق الله عز وجل وأعدل . قال: فما زلت أظن إني مبتلى بعمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت . المسند 4: 101 . قال الأميني: إن من المأسوف عليه أن الرجل نسي هذه الوصية النبوية في عهديه جميعا من الإمارة والملك العضوض ، أو أنه كان يذكرها غير أنه لم يكترث لها فلم يدع شيئا من مظاهر العدل والتقوى إلا وتركه ، ولا أمرا من موجبات الإثم والعدوان إلا وارتكبه ، وإن البحث لفي غنى عن سرد تلك المآثم والجرائم ، وقد كررنا بعضها في أجزاء هذا الكتاب ، وفي حيطة سعة الباحث الوقوف عليها كلها . فليته كان يذكر تلك الوصية الخالدة يوم تثبط عن نصرة عثمان حتى أودي به ، ويوم كاشف إمام الوقت أمير المؤمنين عليه السلام بالحروب الطاحنة ، وجابه ولاية الله الكبرى بكل ما كان يسعه عناده ومكائده ، وناوء الصحابة العدول بالقتل والتشريد ، واضطهد صلحاء الأمة بكل ما في حوله وطوله من إخافة وإرجاف وقتل ذريع وأخذ بالظنون والتهم ، أو كان من العدل والتقوى شيئ من هذه ؟ أو كان منهما بيع الخمر وشرابها وأكل الربا ، واستلحاق زياد بأبي سفيان ، واستخلاف يزيد ؟ ولعلك أعرف بيزيد من غيرك كما أن مستخلفه كان أعرف به من كل أحد . ولعل من أظهر مصاديق عدله وتقواه دؤبه على سب الإمام الطاهر ، ولعنه على صهوات المنابر ، وقنوته بذلك في صلواته - التي كانت تلعنه - وحمله الناس على ذلك بالحواضر الإسلامية وأوساطها طول حياته حتى كانت بدعة مخزية مستمرة في العهد الأموي كلها بعد أن اخترمته المنية .
/ صفحة 363 / وليتني كنت أدري إنه ماذا كان يفعله مما يخالف العدل والتقوى لولا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله إياه ؟ أوانه " والعياذ بالله " لو كانت الوصية بخلاف ما سمعه منه صلى الله عليه وآله ؟ فهل كان يتاح له أكثر وأشنع مما فعل ؟ . 9 - من غير طريق عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين ، وفي لفظ: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين . وفي بعض الألفاظ: وكان معاوية قلما خطب إلا ذكر هذا الحديث في خطبته (1) قال الأميني: كان من قضية هذا السماع ووعيه ، والاكثار من روايته حتى أنه جاء مكررا في مسند أحمد ست عشر مرة ، وما كان يخطب معاوية إلا وذكره ، التأثر بمفاده ، والتهالك في التفقه في الدين ، والحرص على ما كان يسمعه أو يبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبادئ الفقه وغاياته ، فما هذا الذي قهقره عن ضبط ما هنالك من حكم وأحكام ؟ وأبعده عن مستقى السنة ذلك البون الشاسع الذي تركه أجهل خلق الله بأحكامه ، عدا ما خالفه وباينه ، من أحاديث كانت حجة عليه ، بعيدا عن مغازيه وأعماله ، وعدا طفائف لا يعود العالم بها فقيها في دينه ، متبصرا في أمره ، كل ذلك ينم عن أن الرجل لم يرد الله به خيرا ولا فقهه في دينه ، وليس ذلك من ابن هند ببعيد . 10 - من طريق محمد بن جبير بن مطعم يحدث: إنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش ، أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث إنه سيكون ملك من قحطان ، فغضب معاوية فقام فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ، ثم قال: أما بعد: فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك جهالكم ، فإياكم والأماني التي تضل أهلها ، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين . قال الأميني: لقد غلط معاوية في فهم الحديث على تقدير صحته ، فإن الذي ذكر عبد الله بن عمرو أن ذلك الكائن ملك ، ولم ينص على أنه خليفة ، وكم في الدهر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ملوك من غير قريش ؟ ومن الجائز أن يكون ذلك الملك الموعود به من أصحاب الملك العضوض ، فما رده به معاوية من أن الذين يجب أن يكونوا من قريش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المحلى لابن حزم 9: 359 .
/ صفحة 364 / هم الأئمة الذين لا ينازعون في أمرهم ما أقاموا الدين ، فمعاوية ومن اهتدى مثاله ممن لم يقيموا الدين بل ناوئوه وباينوه خارجون عنهم ، وهاهنا تسقط مطامع معاوية وأمانيه التي أضلته من انطباق الرواية عليه وعلى نظرائه وإن لم يكونوا قحطانيين ، فأولى به من تحذره عن تخلف نسبة قحطان عنه أخذه الحذر عن موانع الخلافة التي لا تبارحه أو كانت الخلافة في الطلقاء ؟ أو كانت في غير البدريين ؟ أو كان يشترط فيها فقدان العدل والتقوى في الخليفة ؟ أو كان لآكلة الأكباد ورايتها نصيب من خلافة الله ؟ وإن تعجب فعجب إن الرجل يعد عبد الله بن عمرو من الجهال ، وهو الذي جاء فيه عن أبي هريرة: إنه أكثر الناس حديثا من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان يكتب الحديث ، وفي لفظ أبي عمر: أحفظ حديثا . وقال: كان فاضلا حافظا عالما ، قرأ الكتاب واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتب حديثه فأذن له ، وهو الذي أثنى عليه ابن حجر بغزارة العلم والاجتهاد في العبادة (1) . نعم: يقع معاوية في الرجل كمن ملأ إهابه علما ، وشحن الطروس والسطور فقها وحديثا ، ذهولا منه عن أن الأمة المنقبة حفظت عليه حديث عبادة بن الصامت من قوله له: إن أمك هند أعلم منك (2) . هذا معاوية ومبلغه من العلم بالسنة .
قد عرفت آنفا أن من مدارك الاجتهاد في الأحكام الشرعية ومبادئها: الإجماع ولعل أقسط تعاريفه ما قاله الآمدي في الإحكام 1: 280: إنه اتفاق جملة من أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقايع . فهلم ولننظر إلى معاوية وأقواله وتقولاته وأعماله وجرائمه وفقهه ، واجتهاده هل يقع شيئ منها في معقد من معاقد الإجماع ؟ وأين أولئك الفقهاء ، وأهل الحل والعقد في الفقه والدين الذين أصفقوا مع معاوية على ما عنده من بدع وتافهات ؟ ومن كان منهم يومئذ ليطلوا سقطات معاوية الشاذة بالإجماع ؟ وهل كان مبائة الفقهاء يومئذ في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الاستيعاب 1 ، 307 ، أسد الغابة 3: 233 ، الإصابة 2: 352 ، تهذيب التهذيب 5: 337 . (2) تاريخ ابن عساكر 7: 210 .
/ صفحة 365 / غير المدينة المنورة من الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان ؟ وفي بلاد غيرها انتشروا منها إليها ، وكلهم كانوا في منتأى عن ابن هند وآراءه ، ولم يزل هو يناوئهم ويضادهم في القول والعمل ويتحرى الوقيعة فيهم . نعم: كان يصافقه على مخاريقه حثالة من طغام الشام الذين حدتهم النهمة والشره وهملج بهم المطامع والشهوات ، فما قيمة اجتهاد يكون هذا أحد مبادئه ؟ !
المعتبر من القياس عند أئمة السنة والجماعة أن يكون المناط منصوصا عليه في الكتاب والسنة ، أو مخرجا عنهما بالبحث والاستنباط إما بنوعه أو بشخصه (1) ولم نجد في اختيارات معاوية شيئا من تلكم المناطات في المقيس عليه منصوصة أو مستنبطة يصح القياس في المقيس ويجوز التعويل عليها ، نعم: كانت عنده أقيسة جاهلية أراد تطبيق أحكام الاسلام بها . أي اجتهاد هذا ؟ ! لعلك إلى هنا عرفت معنى الاجتهاد الصحيح وحقيقته ومبانيه عند أئمة الاسلام من رجالات الفقه وأصوله ، والمسك باليد بعد معاوية عن كل ذلك بعد المشرقين ، فهلم معي نقرأ صحيفة مكررة من أفعال هذا المجتهد الطاغية وتروكه التي اجتهد فيها ويرى أبناء حزم وتيمية وكثير وحجر ومن لف لفهم أن الرجل لم يلحقه ذم وتبعة من تلكم الهفوات ، بل يحسبونه مأجورا فيها لكونه مجتهدا مخطأ . ألا تقول أي اجتهاد جوز على هذا المجتهد أو أوجب عليه وعلى كل مسلم بأمره - رضي بذلك أم أبى - سب مثل مولانا أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه والقنوت بلعنه في الصلوات ، والدعاء عليه وعلى الإمامين السبطين (2) والصلحاء الأخيار معه ؟ ! هل اجتهد هذه الأحدوثة من آية التطهير والمباهلة أو من المئات النازلة في علي عليه السلام ؟ أو من الآلاف من السنة الشريفة المأثورة عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله من فضائله ومناقبه ؟ أو من الإجماع المعقود على بيعته واتخاذه خليفة مفترضة طاعته ؟ ولئن تنازلنا عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع الكلمات التي أسلفناها في هذا الجزء تحت عنوان: الاجتهاد ماذا هو . (2) راجع الجزء الثاني ص 101 . 102 ، 132 ، 133 ط 2 .
/ صفحة 366 / الخلافة له ، فهل هناك إجماع على نفي إسلامه ونفي كونه من أعيان الصحابة العدول ، حتى يستسيغ هذا المجتهد - رضيع ثدي هند المتفيئ تحت رايتها - الوقيعة فيه والنيل منه ؟ . وهل هناك قياس يخرج ملاكه من مبادئ الاجتهاد الثلاثة التي قامت بسيف علي عليه السلام واعتنقتها الأمة ببأسه ، وعرفتها ببيانه ، يسوغ للرجل ما تقحم فيه ؟ نعم: كانت تراث وإحن بين القبيلتين - أبناء هاشم وبني أمية - منذ العهد الجاهلي ، وكان من عادات ذلك العهد وتقاليده نيل كل من الفئتين المتخاصمتين من الأخرى كيفما وقع ، وأينما أصاب ، وريثما انتهز الفرصة من تمكن من الانتقام ، سواء حمل المنكوب شيئا من الظلامة أو لا ، فيقتل غير القاتل ، ويعذب غير المجرم ، ويؤاخذ غير الجاني ، شنشنة جاهلية ثبت عليها الجاهلون ، واستمروا دائبين عليها حتى بعد انتحالهم الاسلام ، وإلى مثل هذا القياس كان يطمح معاوية " المجتهد في أعماله واجتهاده " . أي اجتهاد يسوغ له دؤبه على لعن الإمام المفدى على صهوات المنابر ، وفي أدبار الصلوات ، حتى غير سنة الله بتقديم خطبة صلاة العيدين عليها لإسماع الناس سبابه ، وكان يوبخ الساكتين عن لعنه بملأ فمه وصراحة لهجته ؟ فبأي كتاب أم بأية سنة أو إجماع أو قياس كان يستنبط هذا المجتهد الآثم إصراره على تلكم البدع المخزية ؟ أي اجتهاد يحتم عليه استقراء كل من والى عليا أمير المؤمنين في الحواضر والأمصار وتقتيلهم ، وتشريدهم ، والتنكيل بهم ، وتعذيبهم بأشد العذاب ، ولم يرقب فيهم ذمة الاسلام ولا إليه ، ولم يراع فيهم حرمة الصحبة وصونها ؟ أو يساعده على ذلك شيئ من الآي الكريمة ؟ أو أثارة من السنة الشريفة ؟ أو إجماع من أهل الدين ؟ وأين هم ؟ ! [ وهم كلهم مناوئوا معاوية ومنفصلون عن آرائه ] أو أن هناك قياس خرج ملاكه من تلكم الحجج الثلاث ؟ أي اجتهاد يبيح له قذف علي عليه السلام بالإلحاد والغي والبغي والضلال والعدوان و الخبث والحسد إلى طامات أخرى ؟ أو تحسب أنك تجد حجة على شيئ من ذلك من مطاوي الكتاب الكريم ؟ أو من تضاعيف السنة النبوية ؟ أو من معاقد إجماع الأمة ؟ والأمة على بكرة أبيها تعلم أن شيئا من هاتيك المفتريات والنسب المائنة لم تكتسح / صفحة 367 / عنها إلا ببيان الإمام وبنانه ، وسيفه ولسانه ، ولو قام للدين مثال شاخص لما عداه أن يقوم بصورة علي عليه السلام ومثاله . أي اجتهاد يحبذ له المسرة والاستبشار بقتل أمير المؤمنين وولده الحسن الزكي إمامي الهدى صلوات الله عليهما ، والتظاهر بالجذل والحبور على مصيبة الدين الفادحة بهما ويري لصاحبه قتل علي عليه السلام من لطف الله وحسن صنعه ، وزعم قاتله أشقى مراد من عباد الله ؟ وأنت جد عليم بأن فقه الكتاب الكريم في منتئ عن هذه الشقوة ، كما أن السنة الكريمة في مبتعد عن مثلها من قساوة ، ودع عنك معقد إجماع الأمة النائي عن هذه الفظاظة ، و ملاكات الشريعة منصوصة ومستنبطة البائنة لتلك الصلافة . نعم: قياس الجاهلية الأولى يضرب على وتره ويغنى في وتيرته . أي اجتهاد يرخص هتك حرمات مكة والمدينة ، وشن الغارة على أهلها لمحض ولائهم عليا عليه السلام ويشرع نذر قتل نساء ربيعة لحب رجالهم أمير المؤمنين وتشيعهم له عليه السلام ؟ ! . أي اجتهاد يحلل مثلة من قتل تحت راية علي عليه السلام يوم صفين ، وقد كان قتال الفئة الباغية بعهد من رسول الله وأمره ؟ ! كما فصلنا القول فيه في الجزء الثالث . أي اجتهاد يمنع إمام الحق وآلافا من المسلمين عن الماء المباح ، ويعطي لمعاوية حق القول: بأن هذا والله أول الظفر ، لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه ، أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه ؟ ! (1) أي اجتهاد يجوز بيع الخمر وشربها ، وأكل الربا ، وإشاعة الفحشاء ، وقد حرمها كتاب الله وسنة نبيه ، ويتلوهما الإجماع والقياس . ؟ ! أي اجتهاد يحث الناس بإعطاء الإمارة والولايات وبذل القناطير المقنطرة لمن لا خلاق لهم على عداء أهل بيت النبي الأقدس وبغضهم والنيل منهم ومن شيعتهم ؟ ! أي اجتهاد يراق به دم من سكت عن لعن علي ولم يتبرأ منه ولو كان من جلة الصحابة ومن صلحاء أمة محمد كحجر بن عدي وأصحابه وعمرو بن الحمق ؟ أي اجتهاد يؤدي إلى خلاف ما ثبت من السنة الشريفة ، ويصحح إدخال ما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) كتاب صفين ص 182 ، شرح نهج البلاغة 1: 328 .
/ صفحة 368 / ليس منها في الأذان والصلاة والزكاة والنكاح والحج والديات على التفصيل الذي مر في هذا الجزء . أي اجتهاد يغير دين الله وسنته لمحض مخالفته عليا عليه السلام كما مر ص 205 . أي اجتهاد ينقض به حد من حدود الله لاستمالة مثل زياد بن أمه وجلب مرضاته باستلحاقه بأبي سفيان ، والولد للفراش وللعاهر الحجر ؟ ! أي اجتهاد يحابي خلافة الله ليزيد السكير المستهتر ، ويستحل به دماء من تخلف عن تلك البيعة الغاشمة ؟ ! أي اجتهاد يشترط البراءة من أمير المؤمنين علي عليه السلام في عقد البيعة للطليق ابن الطليق ؟ ! أي اجتهاد تدعم به الشهادات المزورة والفرية والإفك والكذب وقول الزور و النسب المختلقة والمكر والخديعة لنيل الأماني الوبيلة المخزية ؟ ! أي اجتهاد يجوز إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته وعترته ، وإيذاء أولياء الله وعباده الصالحين من الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان وفي مقدمهم سيدهم وفي الذكر الحكيم قوله تعالى: الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم . والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا . وجاء عن الصادع الكريم: من آذى مسلما فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل (1) وقوله عن جبريل عن الله تعالى: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة . ومن عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب . وقوله: من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي . وقوله: من أهان لي وليا فقد استحل محاربتي . وقوله: من أهان لي وليا فقد بارزني بالعداوة . وقوله: من عادى لي وليا فقد ناصبني بالمحاربة (2) . أي اجتهاد يري صاحبه نقض الإل وحنث العهد ، من السهل الهين في جميع موارده ومصادره ؟ ! أي اجتهاد يجابه به سنة رسول الله وما يؤثر عنه بالهزء والازدراء والضرطة ؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع الحاوي للفتاوى 2: 47 . (2) راجع الحاوي للفتاوى 1: 361 - 324 .
/ صفحة 369 / كما فصل في ص 281 - 283 . أي اجتهاد يفسد البلاد ، ويضل العباد ، ويشق عصا المسلمين ، بالشذوذ عن الجماعة ، وخلع ربقة الاسلام عن البيعة الحقة ، ومحاربة إمام الوقت بعد إجماع الأمة من أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار على بيعته ؟ ! . إلى غير هذه من اجتهادات باطلة ، وآراء سخيفة تافهة ، ليس لها في مستوى الصواب مقيل ، ولا لها في سوق الدين اعتبار يعذر صاحبه ، وكلها مبائنة للكتاب ، مضادة مع السنة الثابتة الصحيحة ، ونقض للاجماع الصحيح المتسالم عليه ، والقياس الذي نص في المقيس عليه على ملاك الحكم في أي من الكتاب والسنة ، أو إنه مستنبط بالاجتهاد والتظني فيهما . وهل وقف الباحث في جملة ما سبره من الأحكام والعلل على اجتهاد يكون هذا نصيبه من تحري الحق ؟ ! أللهم إنها ميول وأهواء ومطامع وشهوات تزجي بصاحبها إلى هوات المهالك ، وهل هذا يضاهي شيئا من اجتهاد المجتهدين ؟ ! على أن جملة من المذكورات مما لا مساغ للاجتهاد فيه ، ولا يتطرق إليه الرأي والاستنباط ، لأن الحكم فيها ملحق بالضروريات من الدين ، ومما لا يسع فيه الخلاف ، فمن حاول شيئا من ذلك فقد حاول دفاعا للضروري من الدين ، واستباح محظورا ثابتا من الشريعة ، كمن يستبيح قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم باجتهاده ، أو يروم تحليل حرام من الشريعة دون تحليله شق المرائر ، واستمراء جرع الحتف المبير .
أهو ابن آكلة الأكباد - نكس الله رايتها - الهاتك لحرمات الله ، المعتدي على حدوده ، المجرم الجاني ؟ . يحسب أبناء حزم وتيمية وكثير ومن لف لفهم إنه مجتهد مأجور ، ويقول ابن حجر: إنه خليفة حق ، وإمام صدق . هكذا يقول هؤلاء ونحن لا نقول باجتهادهم بل نقول بما قاله المقبلي (1) في كتابه " العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء المشايخ " ص 365: ما كان علي رضي الله عنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الشيخ صالح بن مهدي المتوفى 1108 .
/ صفحة 370 / وأرضاه إلا إمام هدى ، ولكنه ابتلى وابتلي به ، ومضي لسبيله حميدا ، وهلك به من هلك ، هذا يغلو في حبه أو دعوى حبه لغرض له ، أعظمهم ضلالا من رفعه على الأنبياء أو زاد على ذلك ، وأدناهم من لم يرض له بما رضى لنفسه لتقديم إخوانه وأخدانه عليه في الإمارة ، رضي الله عنهم أجمعين . وآخر يحط من قدره الرفيع ، أبعدهم ضلالا الخوارج الذين يلعنونه على المنابر ، ويرضون على ابن ملجم شقي هذه الأمة ، وكذلك المروانية ، وقد قطع الله دابرهم ، وأقربهم ضلالا الذين خطأوه في حرب الناكثين ، والله سبحانه يقول: فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله . فإن لم تصدق هذه في أمير المؤمنين ففي من تصدق ؟ مع أنهم بغوا بغيا محققا بعد استقرار الأمر له ، ولا عذر لهم ، ولا شبهة إلا الطلب بدم عثمان ، وقد أجاب رضي الله عنه بما هو جواب الشريعة فقال: يحضر وارث عثمان ويدعي ما شاء ، واحكم بينهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . أو كما قال فإن تصح هذه الرواية ، وإلا فهي معلومة من حاله بل من حال من هو أدنى الناس من المتمسكين بالشريعة ، وأما أنه يقطع قطيعا من غوغاء المسلمين الذين اجتمعوا على عثمان خمسمائة وأكثر ، بل قيل: إنهم يبلغون نحو عشرة آلاف كما حكاه ابن حجر في الصواعق ، فيقتلهم عن بكرة أبيهم ، والقاتل واحد ، أربعة ، عشرة ، قيل: هما اثنان فقط . وذكره في الصواعق أيضا ، فهذا ما يعتذر به عاقل ، ولكن كانت الدعوى باطلة والعلة باطلة ، خلا أن طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ومن يلحق بهم من تلك الدرجة التي يقدر قدرها من الصحابة ، لا يشك عاقل في شبهة غلطوا فيها ، ولو بالتأويل لصلاح مقاصدهم . وأما معاوية والخوارج فمقاصدهم بينة ، فإن لم يقاتلهم علي فمن يقاتل ؟ أما الخوارج فلا يرتاب في ضلالهم إلا ضال ، وأما معاوية فطالب ملك ، اقتحم فيه كل داهية ، وختمها بالبيعة ليزيد ، فالذي يزعم أنه اجتهد فأخطأ ، لا نقول: اجتهد وأخطأ . لكنه إما جاهل لحقيقة الحال مقلد ، وإما ضال اتبع هواه ، أللهم إنا نشهد بذلك . ورأيت لبعض متأخري الطبريين في مكة رسالة ذكر فيها كلاما عزاه لابن عساكر وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن معاوية سيلي أمر الأمة ، وأنه لن يغلب ، وأن عليا / صفحة 371 / كرم الله وجهه قال يوم صفين: لو ذكرت هذا الحديث أو بلغني لما حاربته . ولا يبعد نحو هذا ممن سل سيفه على علي والحسن والحسين وذريتهما ، والراضي كالفاعل كما صرحت به السنة النبوية ، إنما استغربنا وقوع هذا الظهور حكاية الإجماع من جماعة المتسمين بالسنة بأن معاوية هو الباغي ، وأن الحق مع علي ، وما أدري ما رأي هذا الزاعم في خاتمة أمر علي بعد ما ذكر ، وكذلك الحسن السبط رضي الله عنهما ، وترى هؤلاء الذين ينقمون على علي قتاله البغاة يحسنون لمن سن لعنه على المنابر في جميع جوامع المسلمين منذ وقته إلى وقت عمر بن عبد العزيز اللاحق بالأربعة الراشدين رضي الله عنه وعنهم ، مع أن سب علي فوق المنابر وجعله سنة تصغر عنده العظائم . وفي جامع المسانيد في مسند أم سلمة رضي الله عنها: أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم ؟ قلت: معاذ الله . قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سب عليا فقد سبني . الكلام . ولعلك إن نظرت إلى ما سردناه من سيرة هذا المجتهد الجاهل الضال تأخذ لك مقياسا لمبلغ علمه ، وقسطه المتضاءل من الاجتهاد في أحكام الله ، وإنه منكفى عنه ، فارغ الوطاب ، صفر الأكف عن أي علم ناجع ، أو عمل نافع ، بعيدا عن فهم الكتاب ، والتفقه في السنة ، والالمام بأدلة الاجتهاد . نعم: لم يكن معاوية هو نسيج وحده في الجهل بمبادئ الاجتهاد وغاياته ، وإنما له أضراب ونظراء سبقوه أم لحقوه في الرأي الشائن ، والاجتهاد المائن ، ممن صحح القوم بدعهم المحدثة ، وآرائهم الشاذة عن الكتاب والسنة بالاجتهاد ، تترسوا في طاماتهم بأنهم مجتهدون (1) ولعلك تعرف مكانة هذا المجتهد " خليفة الحق وإمام الصدق " من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله إياه وأباه وأخاه . ومن قنوت أمير المؤمنين في صلاته بلعنه ، ومن دعاء أم المؤمنين عائشة عليه دبر صلاتها . ومن إيعاز الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وولده السبط الزكي أبي محمد سلام الله عليه ، والعبد الصالح محمد بن أبي بكر ، إلى لعن رسول الله صلى الله عليه وآله المخزي ، ومن لعن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) يوجد جمع من أولئك المجتهدين في غضون أجزاء كتابنا هذا .
/ صفحة 372 / ابن عباس وعمار إياه . ومن قوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سمع غناء وأخبر بأنه لمعاوية وعمرو بن العاصي: أللهم أركسهم في الفتنة ركسا ، أللهم دعهم إلى النار دعا . ومن قوله صلى الله عليه وآله وقد رآه مع ابن العاصي جالسين: إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا بينهما فإنهما لا يجتمعان على خير . ومن قوله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه . المعاضد بالصحيح الثابت من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما . وفي صحيح: فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا الآخر . ومن قوله صلى الله عليه وآله: يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت وهو على غير سنتي فطلع معاوية (1) ومن قول أمير المؤمنين له: طالما دعوت أنت وأولياءك أولياء الشيطان الرجيم الحق أساطير الأولين ونبذتموه وراء ظهوركم . وحاولتم إطفاء نور الله بأيديكم و أفواهكم والله متم نوره ولو كره الكافرون . ومن قوله عليه السلام: إنك دعوتني إلى حكم القرآن ، ولقد علمت أنك لست من أهل القرآن ، ولا حكمه تريد . ومن قوله عليه السلام: إنه الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، المقارب العقل . ومن قوله عليه السلام: إنه فاسق مهتوك ستره . ومن قوله عليه السلام: إنه الكذاب إمام الردى ، وعدو النبي ، وإنه الفاجر ابن الفاجر ، وإنه منافق ابن منافق يدعو الناس إلى النار . إلى كلمات أخرى مفصلة في هذا الجزء . ومن قول أبي أيوب الأنصاري: إن معاوية كهف المنافقين . ومن قول قيس بن سعد الأنصاري: إنه وثن ابن وثن ، دخل في الاسلام كرها وخرج منه طوعا ، لم يقدم إيمانه ، ولم يحدث نفاقه . ومن قول معن السلمي الصحابي البدري له: ما ولدت قرشية من قرشي شرا منك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 247 .
/ صفحة 373 / ومن أقوال الإمام الحسن السبط وأخيه الحسين صلوات الله عليهما ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن بديل ، وسعيد بن قيس ، وعبد الله بن العباس ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وجارية بن قدامة ، ومحمد بن أبي بكر ، ومالك بن الحارث الأشتر (1) . هذا مجتهدنا الطليق عند أولئك الأطايب ، وعند الوجوه والأعيان من الصحابة الأولين العارفين به على سره وعلانيته ، المطلعين على أدوار حياته طفلا ويافعا وكهلا وهما ، وأنت بالخيار في الأخذ بأي من النظريتين: ما سبق لله ولرسوله وخلفائه و أصحابه المجتهدين العدول ، أو ما يقول هؤلاء الأبناء ومن شاكلهم من المتعسفين الناحتين للرجل أعذارا هي أفظع من جرائمه . الأمر الثاني ثاني الأمرين اللذين ينتهي إليهما دفاع ابن حجر عن معاوية قوله في الصواعق ص 130: فالحق ثبوت الخلافة لمعاوية من حينئذ وإنه بعد ذلك خليفة حق وإمام صدق ، كيف ؟ وقد أخرج الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لمعاوية أللهم اجعله هاديا مهديا . وأخرج أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمر قال قال معاوية: ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاوية ! إذا ملكت فأحسن . فتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول بأن الله يجعله هاديا مهديا ، و الحديث حسن كما علمت فهو مما يحتج به على فضل معاوية ، وأنه لا ذم يلحقه بتلك الحروب لما علمت أنها مبنية على اجتهاد ، وإنه لم يكن له إلا أجر واحد ، لأن المجتهد إذا أخطأ لا ملام عليه ، ولا ذم يلحقه بسبب ذلك لأنه معذور ، ولذا كتب له أجر . ومما يدل لفضله الدعاء له في الحديث الثاني بأن يعلم ذلك ، ويوقى العذاب ، ولا شك أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب ، فعلمنا منه أنه لا عقاب على معاوية فيما فعل من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) مر تفصيل هذه كلها في هذا الجزء / صفحة 374 / تلك الحروب بل له الأجر كما تقرر ، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فئته المسلمين وساواهم بفئة الحسن في وصف الاسلام فدل على بقاء حرمة الاسلام للفريقين ، وإنهم لم يخرجوا بتلك الحروب عن الاسلام ، وإنهم فيه على حد سواء ، فلا فسق ولا نقص يلحق أحدهما لما قررناه من أن كلا منهما متأول تأويلا غير قطعي البطلان ، وفئة معاوية وإن كانت هي الباغية لكنه بغي لا فسق به ، لأنه إنما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه . وتأمل أنه صلى الله عليه وسلم أخبر معاوية بأنه يملك وأمره بالاحسان ، تجد في الحديث إشارة إلى صحة خلافته ، وإنها حق بعد تمامها له بنزول الحسن له عنها ، فإن أمره بالاحسان المترتب على الملك يدل على حقية ملكه وخلافته وصحة تصرفه ونفوذ أفعاله من حيث صحة الخلافة لا من حيث التغلب ، لأن المتغلب فاسق معاتب لا يستحق أن يبشر ، ولا أن يؤمر بالاحسان فيما تغلب عليه ، بل إنما يستحق الزجر والمقت و الإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله ، فلو كان معاوية متغلبا لأشار له صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، أو صرح له به ، فلما لم يشر فضلا على أن يصرح إلا بما يدل على حقيقة ما هو عليه علمنا أنه بعد نزول الحسن له خليفة حق وإمام صدق . ه (هذا نهاية جهد ابن حجر في الدفاع عن معاوية) . قال الأميني: إن الكلام يقع على هذه الروايات من شتى النواحي ألا وهي: 1 - النظر إلى شخصية معاوية ، وتصفح كتاب نفسه المشحون بالمخازي ، ثم نعطف النظر في أنه هل تلكم الصحائف السوداء تلائم أن يكون صاحبها مصبا لأقل منقبة له يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فضلا عن هذه النسب المزعومة ؟ أو: لا ؟ ولقد أوقفناك على حياته المشفوعة بالمخاريق مما لا يكاد أن يجامع شيئا من المديح والاطراء أو أن تعزى إليه حسنة ، ولا أحسب أنك تجد من أيام حياته يوما خاليا عن الموبقات من سفك دماء زاكية ، وإخافة مؤمنين أبرياء ، وتشريد صلحاء لم يدنسهم إثم ، ولا ألمت بساحتهم جريرة ، ومعاداة للحق الواضح ، ورفض لطاعة إمام الوقت والبغي عليه وقتاله إلى جرائم جمة يستكبرها الدين والشريعة ، ويستنكرها الكتاب والسنة ، ولا يتسرب إلى شيئ منها الاجتهاد كما مر بيانه . 2 - من ناحية عدم ملائمة هذه الفضائل المنحوتة لما روي وصح عن رسول الله / صفحة 375 / صلى الله عليه وآله وما يؤثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وعن جمع من الصحابة العدول ، فإنه مما لا يتفق معها في شيئ ، وقد أسلفنا من ذلك ما يناهز الثمانين حديثا في هذا الجزء ص 139 - 177 فإنك متى نظرت إليها ، واستشففت حقايقها دلتك على أن رجل السوء - معاوية - جماع المآثم والجرائم ، وإنه هو ذلك الممقوت عند صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله ومن احتذى مثاله من خلفائه الراشدين ، وأصحابه السابقين الأولين المجتهدين حقا المصيبين في اجتهادهم . 3 - أنا وجدنا نبي الرحمة صلى الله عليه وآله ونظرنا في المأثور الثابت الصحيح عنه في طاغية الشام والأمر بقتاله ، والحث على مناوئته ، وتعريف من لاث به بأنهم الفئة الباغية ، وإنهم هم القاسطون ، وعهده إلى خليفته أمير المؤمنين عليه السلام على أن يناضله ، ويكتسح معرته ، ويكبح جماحه ، وقد علم صلى الله عليه وآله إنه سيكون الخليفة المبايع له ، الواجب قتله ، وإنه سيكون في عنقه دماء الصلحاء الأبرار التي لا يبيحها أي اجتهاد نظراء حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، وأصحابهما ، وكثير من البدريين ، وجمع كثير من أهل بيعة الرضوان ، رضوان الله عليهم . فهل من المعقول إنه صلى الله عليه وآله يرى لمعاوية والحالة هذه قسطا من الفضيلة ؟ أو حسنة تضاهي حسنات المحسنين ؟ ويوقع الأمة في التهافت بين كلماته المعزوة إليه هذه ، وبين ما صارح به وصح عنه صلى الله عليه وآله مما أو عزنا إليه . وزبدة المخض إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينبس عن هاتيك المفتعلات ببنت شفة ، ولكن القوم نحتوها ليطلوا على الضعفاء ما عندهم من طلاء مبهرج . 4 - ما قاله الحفاظ من أئمة الحديث وحملة السنة من إنه لم يصح لمعاوية منقبة ، وسيوافيك بعيد هذا نص عباراتهم عند البحث عن فضائل معاوية المختلقة . 5 - النظر في إسناد ومتن ما جاء به ابن حجر ، وعلا عليه أسس تمويهه على الحقايق ، وبه طفق يرتأي معاوية خليفة حق ، وإمام صدق . الرواية الأولى : أما ما أخرجه الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة مرفوعا ، أللهم / صفحة 376 / اجعله هاديا مهديا واهد به (1) . فإن كون ابن أبي عميرة صحابيا في محل التشكيك فإنه لا يصح كما أن حديثه هذا لا يثبت ، قال أبو عمر في الاستيعاب 2: 395 بعد ذكره بلفظ: أللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به: عبد الرحمن حديثه مضطرب لا يثبت في الصحابة وهو شامي ، ومنهم من يوقف حديثه هذا ولا يرفعه ، ولا يصح مرفوعا عندهم . وقال: لا يثبت أحاديثه ، ولا يصح صحبته . ورجال الاسناد كلهم شاميون وهم: أبو سهر الدمشقي . 2 - سعيد بن عبد العزيز الدمشقي . 3 - ربيعة بن يزيد الدمشقي 4 - ابن أبي عميرة الدمشقي . وتفرد به ابن أبي عميرة ولم يروه غيره ولذلك حكم فيه الترمذي بالغرابة بعد ما حسنه ، وابن حجر حرف كلمة الترمذي حرصا على إثبات الباطل ، فما ثقتك برواية تفرد بها شامي عن شامي إلى شامي ثالث إلى رابع مثلهم أيضا ، ولا يوجد عند غيرهم من حملة السنة علم بها ، ولم يك يومئذ يتحرج الشاميون من الافتعال لما ينتهي فضله إلى معاوية ولو كانت مزعمة باطلة ، على حين إن أمامهم القناطير المقنطرة لذلك العمل الشائن ، ومن ورائهم النزعات الأموية السائقة لهم إلى الاختلاق ، لتحصيل مرضاة صاحبهم . فهناك مرتكم الأباطيل والروايات المائنة . على أن هذا المزعوم حسنه كان بمرأى ومشهد من البخاري الذي يتحاشى في صحيحه عن أن يقول: باب مناقب معاوية . وإنما عبر عنه بباب ذكر معاوية . وكذلك من شيخه إسحاق بن راهويه الذي ينص على عدم صحة شيئ من فضائل معاوية . ومن الحفاظ: النسائي ، والحاكم النيسابوري ، والحنظلي ، والفيروز آبادي ، وابن تيمية ، والعجلوني وغيرهم ، وقد أطبقوا جميعا على أنه لم يصح لمعاوية حديث فضيلة ، ومساغ كلماتهم يعطي نفي ما يصح الاعتماد عليه لا الصحيح المصطلح في باب الأحاديث ، فلا ينافي شمول قولهم على حسنة الترمذي المزعومة مع غرابتها ، فإنهم يقذفون الحديث بأقل مما ذكرناه في هذا المقام ، ولو كان لهذه الحسنة وزن يقام " كحسنات معاوية " لا عزوا إليها عند نفيهم العام . وإن مفاد الحديث لمما يربك القارئ ويغنيه عن التكلف في النظر إلى إسناده ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) هذا لفظ الحديث في جامع الترمذي 13: 229 .
/ صفحة 377 / فإن دعاء النبي صلى الله عليه وآله مستجاب لا محالة يقوله ابن حجر ، ونحن في نتيجة البحث والاستقراء التام لأعمال معاوية لم نجده هاديا ولا مهديا في شيئ منها ، ولعل ابن حجر يصافقنا على هذه الدعوى ، وليس عنده غير أن الرجل مجتهد مخطئ في كل ما أقدم وأهجم ، فله أجر واحد في مزعمته ، ولا يلحقه ذم وتبعة لاجتهاده ، وقد أعلمناك أن عامة أخطاءه وجرائمه مما لا يتطرق إليه الاجتهاد ، على ما أسلفنا لك أنه ليس من الممكن أن يكون معاوية مجتهدا لفقدانه العلم بمبادئ الاستنباط من كتاب وسنة ، وبعده عن الإجماع والقياس الصحيح . أو هل ترى إن الدعاء المستجاب كهذا يقصد به هذا النوع من الاجتهاد المستوعب للأخطاء في أقوال الرجل وأفعاله ؟ حتى أنه لا يرى مصيبا في واحد منها ، وهل يحتاج تأتي مثل هذا الاجتهاد إلى دعاء صاحب الرسالة ؟ فمرحبا بمثله من اجتهاد معذر ، وهداية لا تبارح الضلال . ثم من الذي هداه معاوية طيلة أيامه ، وأنقذه من مخالب الهلكة ؟ ! أيعد منهم ابن حجر بسر بن أرطاة الذي أغار بأمره على الحرمين ، وارتكب فيهما ما ارتكبه من الجرائم القاسية ؟ ! أم ضحاك بن قيس الذي أمره بالغارة على كل من في طاعة علي عليه السلام من الأعراب ، وجاء بفجايع لم يعهدها التاريخ ؟ ! أم زياد بن أبيه أو أمه الذي استحوذ على العراق ، فأهلك الحرث والنسل ، وذبح الأتقياء ، ودمر على الأولياء ، وركب نهابير لا تحصى ؟ ! أم عمرو بن العاص الذي أطعمه مصر فباعه على ذلك دينه بدنياه ، وفعل من الجنايات ما فعل ؟ ! أم مروان بن الحكم الطريد اللعين وابنهما الذي كان لعنه عليا أمير المؤمنين على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة أعوام إحدى طاماته ؟ ! أم عمرو بن سعيد الأشدق الجبار الطاغي الذي كان يبالغ في شتم علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وبغضه إياه ؟ ! أم مغيرة بن شعبة أزنى ثقيف الذي كان ينال من علي عليه السلام ويلعنه على منبر / صفحة 378 / الكوفة ؟ ! أم كثير بن شهاب الذي استعمله على الري ، وكان يكثر سب علي عليه السلام أمير المؤمنين والوقيعة فيه ؟ ! أم سفيان بن عوف الذي أمره أن يأتي هيت والأنبار والمدائن ، فقتل خلقا ، و نهب أموالا ، ثم رجع إليه ؟ ! أم عبد الله الفزازي الذي كان أشد الناس على علي عليه السلام ، ووجهه إلى أهل البوادي فجاء بطامات كبرى ؟ ! أم سمرة بن جندب الذي كان يحرف كتاب الله لإرضائه ، وقتل خلقا دون رغباته لا يحصى ؟ ! أم طغام الشام وطغاتها الذين كانوا يقتصون أثر كل ناعق ، وانحاز بهم هو عن أي نعيق فأوردهم المهالك ؟ ! أهذه كلها من ولائد ذلك الدعاء المستجاب ؟ أللهم ، لا . ولو كان مكان هذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وآله - العياذ بالله - قوله: أللهم اجعله ضالا مضلا . لما عداه أن يكون كما كان عليه من البدع والضلالات . ولو كان لهذا الدعاء المزعوم نصيب من الصدق لما كان يعزب علمه عن مثل مولانا أمير المؤمنين ، وولديه الإمامين وعيون الصحابة الذين كانوا لا يبارحون الحق كأبي أيوب الأنصاري ، وعمار بن ياسر ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، ولما عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله على حربه وقتاله ، ولما عرف فئته بالبغي والقسط . ولو كان السلف الصالح يرى شيئا زهيدا من هداية الرجل واهتدائه أثر ذلك الدعاء المستجاب لما كانوا يعرفونه في صريح كتاباتهم وخطاباتهم بالنفاق والضلال والاضلال . وللسيد العلامة ابن عقيل كلمة حول هذه المنقبة المزيفة ونعما هي قال في النصايح الكافية ص 167: وها هنا دلالة على عدم استجابة الله هذه الدعوة لمعاوية لو فرضنا صحة الحديث من حديث صحيح أخرجه مسلم عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة . سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها . وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها .
/ صفحة 379 / تعرف بهذا الحديث وغيره شدة حرصه صلى الله عليه وآله على أن يكون السلم دائما بين أمته ، فدعا الله تارة أن لا يكون بأس أمته بينهم كما في حديث مسلم ، وتارة أن يجعل معاوية هاديا مهديا لأنه بلا ريب يعلم أن معاوية أكبر من يبغي ويجعل بأس الأمة بينهما ، فمآل الدعوتين واحد وعدم الاجابة في حديث مسلم تستلزم عدمها في حديث الترمذي ، والمناسبة بل التلازم بينهما واضح بين ، وفي معنى حديث مسلم هذا جاءت أحاديث كثيرة ومرجعها واحد . الرواية الثانية : أللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب . في إسنادها الحارث بن زياد ، وهو ضعيف مجهول كما قاله ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، وابن عبد البر ، والذهبي ، كما في ميزان الاعتدال 1: 201 ، وتهذيب التهذيب 2: 142 ، ولسان الميزان 2: 149 . وهو شامي غير مكترث لرواية الموضوعات في طاغية الشام . وإن متنه لفي غنى عن أي تفنيد فإن المراد به إما علم الكتاب كله أو بعضه ، و نحن لم نجد عنده شيئا من علم الكتاب فضلا عن كله ، فإن أعماله وتروكه مضادة كلها لمحكمات الذكر الحكيم ، من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله بإيذاء أهل بيته وصلحاء أمته ، ولا سيما صنوه وخليفته المفروض طاعته الذي هو نفسه ، ومطهر عن أي رجاسة في نصوص من الكتاب العزيز . ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا إثما لمحض ولائهم من قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله . ومن القتل الذريع للصلحاء الأبرار ، لعدم نزولهم على رغباته الباطلة ، وميوله وأهواءه . ومن الكذب الصراح ، وكل فرية وبهت وإفك وقول زور ، طفح الكتاب بتحريمها النهائي . ودع عنك بيع الخمر وشربها ، وأكل الربا ، وتبديل سنة الله التي لا تبديل لها متى ما خالفت خطته السيئة ، وتعديه حدود الله ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم / صفحة 380 / الظالمون ، إلى طامات صافقت على خطرها الكتاب ضرورة الدين . فالاعتقاد بجهله بكل هذه الموارد وما شاكلها خير له من علمه بها ومروقه عنها وخروجه عن حكم الكتاب ، ونبذه إياه وراء ظهره ، كما ذهب إليه مولانا أمير المؤمنين و أمة صالحة من الصحابة ، فالدعاء المزعوم له قد عدته الاجابة في كل ورد له وصدر . وأما بعض الكتاب فما عسى أن يجديه نفعا إن كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض ؟ ولو كان يعرف من الكتاب قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي . وقوله تعالى: " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " وقوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم . وقوله تعالى: الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا . أو كان يعرف شيئا من أمثال هذه من كتاب الله لكان يعرف حده ولم يتعد طوره . ومما لا نشك فيه أن ابن حجر الذي يقول: لا شك أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب لا يأول الرواية بأنه أريد بها علم الكتاب لا العمل به ، وإن أبى الزاعم إلا ذلك ؟ فيا هبلته الهبول . وإنا لا نعلم معنى " الحساب " وعلمه الذي جاء في هذه الرواية معطوفا على الكتاب ، فإما أن يراد به تطبيق أفعاله وتروكه على نواميس الشريعة المقررة ، أو علمه بكل ما يحاسب عليه الله عباده ، فيخرج من العهدة من غير تبعة ، أو أنه يحاسب نفسه قبل أن يحاسب بكل قول وعمل ، أو أنه يقسم بالسوية فيعطي كل ذي حق حقه ، ولا يحيف في مال الله ، ولا يميل في أعطيات الناس بمحاباة أحد وقطع آخر من غير تخط عن سنن الحق ، أو أنه يعرف فروض المواريث الحسابية ، أو أنه يعلم بقواعد الحساب العددية من الجمع والضرب والتقسيم والتفريق والجبر والمقابلة والخطأين إلى أمثالها من أصول علم الحساب .
/ صفحة 381 / أما ما قبل الآخرين فإن الرجل كان يأثم بغير حساب ، ويقتل بغير حساب ، ويكذب بغير حساب ، ويحيف بغير حساب ، ويجهل من معالم الدين بغير حساب ، وإن أخطاءه في الاجتهاد " المزعوم " بغير حساب ، ويعطي ويمنع من غير حجة بغير حساب ، فياله من دعاء لم يقرن بالإجابة في مورد من الموارد ؟ . وأما قواعد علم الحساب ويلحق بها فروض المواريث ، فماذا الذي نجم منها بين معلومات معاوية وفتاواه ؟ غير جهل شائن مستوعب لكل ما ناء به من كل فرض وندب ، ولم تعهد له دراسة لهذه العلوم والقواعد حتى تتحقق بها إجابة الدعوة بتوفيق إلهي . وأما جملة " وقه العذاب " فإن صحت الرواية فإنها تشبه أن تكون ترخيصا في المعصية لرجل مثل معاوية يلغ في المآثم ، ويتورط بالموبقات ، ويرتطم في المهالك ، فليس فيما سبرناه وأحصيناه من أفعاله وتروكه إلا جنايات للعامة ، وميول وشهوات في الخاصة ، وحيف وميل في الحقوق ، وبسط وقبض ، وإقصاء وتقريب من غير حق ، فلا يكاد يخلو ما ناء به من مآثم أوعد الله تعالى فاعله بالنار ، أو محظور في الشريعة يمقت صاحبها ، أو عمل بغيض يمجه الحق ، ويزور عنه الصواب ، أو بدع محدثة في منتأى عن رضا الرب وتشريع الرسول صلى الله عليه وآله فإن كان يوقى مثل هذا الانسان عن العذاب المجرئ له على الهلكات ؟ فأين مصب التوعيدات المعدة لمن عصى الله ورسوله ؟ إن الله لا يخلف الميعاد ، أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون . فالخضوع لمثل هذه الرواية على طرف النقيض من مسلمات الشريعة بتحريم ما كان يستبيحه معاوية ، ولذلك كان يراه مولانا أمير المؤمنين ووجوه الصحابة الأولين من أهل النار (1) مع أن هذا الموضوع المفتعل كان بطبع الحال بمرأى منهم ومسمع ، إلا أن يكون تاريخ إيلاده بعد صدور تلكم الكلم القيمة . ولو كان مثل معاوية يدرء عنه العذاب ، ويدعى له بالسلامة منه ، وحاله ما علمت ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله أعلم بها منك ومن كل أحد ، وعنده من حقوق الناس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) راجع الكلمات التي أسلفناها في هذا الجزء .
/ صفحة 382 / ما لا يحصى مما لا تدركه شفاعة أي معصوم من دم مسفوك ، ومن مال منهوب ، ومن عرض مهتوك ، ومن حرمة مضاعة ، فما حال من ساواه في الخلاعة ، أو من هو دونه في النفاق والضلال ؟ وأي قيمة تبقى سالمة لتوعيدات الشريعة عندئذ ؟ لاها الله ، هذه أمنية حالم قط لا تتحقق ، إلا أن تكون تلك المحاباة تشريفا لابن أبي سفيان بخرق النواميس الإلهية ، والخروج عن حكم الكتاب والسنة ، تكريما لراية هند ومكانة حمامة ، إذن فعلى الاسلام السلام . أفمن الحق لمن له أقل إلمامة بالعلم والحديث أن يركن إلى أمثال هذه التافهاف ، ولا يقتنع بذلك حتى يحتج بها لإمامة الرجل عن حق ، وصدق خلافته ؟ كما فعله ابن حجر في الصواعق ، وفي هامشه تطهير الجنان ص 32 ، وكأنه غض الطرف عن كل ما جاء في حق الرجل من حديث وسيرة وتاريخ ، وأغضى عن كل ما انتهى إليه من الأصول المسلمة في الاسلام ، وحرمات الدين . نعم: الحب يعمي ويصم . الرواية الثالثة: إذا ملكت فأحسن فهي وما في معناها من رواية: إن وليت فاتق الله واعدل (1) ورواية: أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم ، واعف عن مسيئهم . تنتهي طرقها جميعا إلى نفس معاوية ، ولم يشترك في روايتها أحد غيره من الصحابة ، فالاستناد إليه في إثبات أي فضيلة له من قبيل استشهاد الثعلب بذنبه ، على أن الرجل غير مقبول الرواية ولا مرضيها فإنه فاسق فاجر منافق كذاب مهتوك ستره بشهادة ممن عاشره وباشره ، وسبر غوره ودرس كتاب نفسه ، وفيهم مثل مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآخرون من الصحابة العدول ، وقد تقدم نص كلماتهم في هذا الجزء ص 148 - 177 وتكفي في الجرح واحدة من تلكم الشهادات المحفوظة أهلها بالتورع عن كل سقطة في القول أو العمل ، فكيف بها جمعاء ؟ وتؤيد هاتيك الشهادات بما اقترفه الرجل من الذنوب ، وكسبته يده الأثيمة من جرائر وجرائم ، ولفقها في سبيل شهواته من شهادات مزورة ، وكتب افتعلها على أناس من الصحابة ، ونسب مكذوبة كان يريد بها تشويه سمعة الإمام صلوات الله عليه - وأنى له ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) مر الكلام حول هذه الرواية في ص 362 من هذا الجزء .
/ صفحة 383 / بذلك ؟ - إلى آخر ما أوقفناك على تفاصيله . وإن أخذناه بما حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب 1: 509 عن يحيى بن معين من قوله: كل من شتم عثمان أو طلحة أو أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دجال لا يكتب عنه ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . إلى كلمات أخرى مرت ص 267 من هذا الجزء ، فمعاوية في الرعيل الأول من الدجالين الذين لا يكتب عنهم ، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، إذ هو الذي فعل ذلك المحظور بمثل مولانا أمير المؤمنين وشبليه الإمامين ، وحبر الأمة عبد الله بن العباس ، وقيس بن سعد وهؤلاء كلهم أعيان - الصحابة ووجهائهم ، لا يعدوهم أي فضل سبق لأحدهم ، ولا ينتأون عن أي مكرمة لحقت بواحد منهم ، وكان معاوية قد استباح شتمهم ، والوقيعة فيهم وفي كل صحابي احتذى مثالهم في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يقنعه ذلك حتى قنت بلعنهم في صلواته ، ورفع عقيرته به على صهوات المنابر ، وأمر بذلك حتى عمت البلية البلاد والعباد ، واتخذوها بدعة مخزية إلى أن لفظ نفسه الأخير ، واحتقبها من بعده خزاية موبقة ما دامت لآل حرب دولة ، واكتسحت معرتهم من أديم الأرض . أفمثل هذا السباب الفاحش المتفحش تجوز الرواية عنه ، ويخضع لما يرويه في دين أو دنيا ؟ ! على أن في إسناد رواية " إن ملكت فأحسن " عبد الملك بن عمر ، وقد جاء عن أحمد: إنه مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته ما أرى له خمسمائة حديث وقد غلط في كثير منها . وقال ابن منصور: ضعفه أحمد جدا . وعن ابن معين: مخلط . وقال العجلي: تغير حفظه قبل موته . وقال ابن حبان: مدلس (1) وفيه: إسماعيل بن إبراهيم المهاجر ، ضعفه ابن معين والنسائي وابن الجارود ، وقال أبو داود: ضعيف ضعيف أنا لا اكتب حديثه . وقال أبو حاتم: ليس بقوي . وقال ابن حبان: كان فاحش الخطاء . وقال الساجي: فيه نظر (2) فلمكان الرجلين نص الحافظ البيهقي على ضعفها ، وأقره الخفاجي في شرح الشفا 3: 161 ، وعلي القاري في شرحه هامش شرح الخفاجي 3: 161 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تهذيب التهذيب 6: 412 . (2) تهذيب التهذيب 1: 279 .
/ صفحة 384 / وأما مؤدى هذه الروايات الثلاث فكبقية أخبار الملاحم ، لا يستنتج منها مدح لصاحبها أو قدح ، إلا إذا قايسناها بأعمال معاوية المبائنة لها في الخارج ، المضادة لما جاء فيها من العهد والوصية ، فلم يكن ممن ملك فأحسن ، ولا ممن ولي فاتقى وعدل ، ولا ممن قبل من محسن ، وعفى عن مسئ ، فماذا عسى أن يجديه مثل هذه البشائر - وليست هي ببشائر بل إقامة حجة عليه وهو غير متصف بما أمر به فيها ؟ وكل ما ناء به في منتئ عن الاحسان والعدل والتقوى ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنه لا يعمل بشئ من ذلك لكنه أراد إتمام الحجة عليه على كونها تامة عليه بعمومات الشريعة وإطلاقاتها ، فأين هي من - التبشير بأن ما يليه من الملك العضوض ملوكية صالحة ، فضلا عن الخلافة عن الله ورسوله صلى الله عليه وآله ؟ وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله في ذلك الملك قوله: إن فيه هنات وهنات وهنات (1) وقوله صلى الله عليه وآله: يا معاوية ! إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم (2) إلى كلمات أخرى فيه وفي ملكه . ولو كان ابن حجر ممن يعرف لحن الكلام ومعاريض المحاورات ، ولم يكن في أذنه وقر ، وفي بصره عمى ؟ لعلم أن الروايات المذكورة بأن تكون ذموما لمعاوية أولى من أن تكون مدائح له لما قلناه ، وإلا لما أمر صلى الله عليه وآله بقتله إذا رأي على منبره ، ولما أعلم الناس بأنه وطغمته هم الفئة الباغية المتولية قتل عمار ، ولما رآه وحزبه من القاسطين الذين يجب قتالهم ، ولما أمر خليفته حقا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقتاله ، ولما حث صحابته العدول بمناضلته ومكاشفته ، ولما ولما ... ولو كانت هذه الروايات صادقة ، وكانت بشائر ، وقد عرفتها صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله كذلك ، فلما ذا كان ذلك اللوم والتأنيب له من وجوه الصحابة ؟ لما منته هواجسه بتسنم عرش الخلافة ، والاقعاء على صدر دستها ، وليس ذلك إلا من ناحية إدعائه ما ليس له ، وطمعه فيما لم يكن له بحق ، ونزاعه في أمر ليس للطلقاء فيه نصيب . هذه عمدة ما جاء به ابن حجر في الدفاع عن معاوية ، وأما بقية كلامه المشوه بالسباب المقذع فنمر بها كراما ، إقرأ واحكم . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الخصائص الكبرى 2: 116 . (2) سنن أبي داود 2: 299 .
/ صفحة 385 / ها هنا قصرنا عن القول وأمسكناه عن الافاضة بانتهاء الجزء العاشر وأرجأنا بقية البحث عن موبقات معاوية إلى الجزء الحادي عشر ، وسيوافيك في المستقبل العاجل إن شاء الله تعالى والحمد لله أولا وآخرا وله الشكر |
|