عقائد الشيعة الإمامية / الشيخ المظفر
|
|
أدعية الصحيفة السجادية
بعد واقعة الطف المحزنة، وتملك بني أمية ناصية أمر الأمة الإسلامية. فأوغلوا في الاستبداد وولغوا في الدماء واستهتروا في تعاليم الدين بقي الإمام زين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام جليس داره محزونا ثاكلا، وجلس بيته لا يقربه أحد ولا يستطيع أن يفضي إلى الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم. فاضطر أن يتخد من أسلوب الدعاء (الذي قلنا أنه أحد الطرق التعليمية لتهذيب النفوس) ذريعة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت، ولتلقين الناس روحية الدين والزهد، وما يجب من تهذيب النفوس والأخلاق وهذه طريقة مبتكرة له في التلقين لا تحوم حولها شبهة المطاردين له، ولا تقوم بها عليه الحجة لهم، فلذلك أكثر من هذه الأدعية البليغة، وقد جمعت بعضها (الصحيفة السجادية) التي سميت (بزبور آل محمد). وجاءت في أسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الأدب العربي وفي أسمى مرامي الدين الحنيف وأدق أسرار التوحيد والنبوة، وأصح طريقة لتعليم الأخلاق المحمدية والآداب الإسلامية. وكانت في مختلف الموضوعات التربوية الدينية، فهي تعليم للدين والأخلاق في أسلوب الدعاء، أو دعاء في أسلوب تعليم للدين والأخلاق. وهي بحق بعد القرآن ونهج البلاغة من أعلى أساليب البيان العربي وأرقى المناهل الفلسفية في الإلهيات والأخلاقيات: فمنها ما يعلمك كيف تمجد الله وتقدسه وتحمده وتشكره وتنوب إليه، ومنها ما يعلمك كيف تناجيه وتخلو به بسرك وتنقطع إليه، ومنها ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيه ورسله وصفوته من خلقه وكيفيتها ومنها ما يفهمك ما ينبغي أن تبر به والديك، ومنها ما يشرح لك حقوق الوالد على ولده أو حقوق الولد على والده أو حقوق الجيران أو حقوق الأرحام أو حقوق المسلمين عامة أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس، ومنها ينبهك على ما يجب إزاء الديون للناس عليك وما ينبغي أن تعمله في الشئون الاقتصادية والمالية، وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافة الناس ومن تستعملهم في مصالحك، ومنها ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلح أن يكون منهاجا كاملا لعلم الأخلاق. ومنها ما يعلمك كيف تصبر على المكاره والحوادث وكيف تلاقي حالات المرض والصحة، ومنها ما يشرح لك واجبات الجيوش الإسلامية وواجبات الناس معهم.. إلى غير ذلك مما تقتضيه الأخلاق المحمدية والشريعة الإلهية، وكل ذلك بأسلوب الدعاء وحده.
والظاهرة التي تطغو على أدعية الإمام عدة أمور: الأول: التعريف بالله تعالى وعظمته وقدرته وبيان توحيده وتنزيهه بأدق التعبيرات العلمية وذلك يتكرر في كل دعاء بمختلف الأساليب، مثل ما تقرأ في الدعاء الأول: "الحمد لله الأول بلا أول كان قبله والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا واخترعهم على مشيته اختراعا" فتقرأ دقيق معنى الأول والآخر وتنزه الله تعالى عن يحيط به بصر أو وهم، ودقيق معنى الخلق والتكوين. ثم تقرأ أسلوبا آخر في بيان قدرته تعالى وتدبيره في الدعاء 6: "الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوته وميز بينهما بقدرته، وجعل لكل منهما حدا محدودا، يولج كل واحد منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه، بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به وينشئهم عليه، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب، وجعله لباسا ليلبسوا من راحته ومقامه فيكون ذلك لهم جماما وقوة لينالوا به لذة وشهوة" إلى آخر ما يذكر من فوائد خلق النهار الليل وما ينبغي أن يشكره الانسان من هذا النعم. وتقرأ أسلوبا آخر في بيان أن جميع الأمور بيده تعالى في الدعاء7: "يا من تحل به عقد المكاره ويا من يفثأ به حد الشدائد، ويا من يلتمس منه المخرج إلى روح الفرج، ذلت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك الأسباب وجرى بقدرتك القضاء ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة". الثاني: بيان فضل الله تعالى على العبد وعجز العبد عن أداء حقه. مهما بالغ في الطاعة والعبادة والانقطاع إليه تعالى كما تقرأ في الدعاء37: "اللهم إن أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا، ولا يبلغ مبلغا من طاعتك وإن اجتهد إلا كان مقصرا دون استحقاقك بفضلك، فأشكر عبادك عاجز عن شكرك، وأعبدهم مقصر عن طاعتك". وبسبب عظم نعم الله تعالى على العبد التي لا تتناهى يعجز عن شكره فكيف إذا كان يعصيه مجترئا، فمهما صنع بعدئذ لا يستطيع أن يكفر عن معصية واحدة. وهذا ما تصوره الفقرات الآتية من الدعاء16: "يا إلهي لو بكيت إليك حتى تسقط أشفار عيني، وانتحبت حتى ينقطع صوتي، وقمت لك حتى تتنشر قدماي، وركعت لك حتى ينخلع صلبي، وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلت تراب الأرض طول عمري، وشربت ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي". الثالث: التعريف بالثواب والعقاب والجنة والنار وأن ثواب الله تعالى كله تفضل، وأن العبد يستحق العقاب منه بأدنى معصية يجتري بها، والحجة عليه فيها لله تعالى. وجميع الأدعية السجادية تلهج بهذه النغمة المؤثرة، للإيحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى والرجاء في ثوابه. وكلها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبر الرعب والفزع من الإقدام على المعصية. مثل ما تقرأ في الدعاء46: "حجتك قائمة، وسلطانك ثابت لا يزول، فويل الدائم لمن جنح عنك، والخيبة الخاذلة لمن خاب منك، والشقاء الأشقى لمن اغتر بك. ما أكثر تصرفه في عذابك، وما أطول تردده في عقابك! وما أبعد غايته من الفرج! وما أقنطه من سهولة المخرج! عدلا من قضائك لا تجور فيه، وإنصافا من حكمك لا تحيف عليه، فقد ظاهرت الحجج وأبليت الأعذار.". ومثل ما تقرأ في الدعاء 31: "اللهم فارحم وحدتي بين يديك، ووجيب قلبي من خشيتك، واضطراب أركاني من هيبتك، فقد أقامتني يا رب ذنوبي
مقام الخزي بفنائك، فإن سكت لم ينطق عني أحد، وإن شفعت فلست بأهل الشفاعة". الرابع: سوق الداعي بهذه الأدعية إلى الترفع عن مساوئ الأفعال وخسائس الصفات، لتنقية ضميره وتطهير قلبه، مثل ما تقرأ في الدعاء 20: "اللهم وفر بلطفك نيتي وصحح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني". "اللهم صل على محمد وآل محمد ومتعني بهدى صالح لا أستبدل به وطريقة حق لا أزيغ عنها، ونية رشد لا أشك فيها". "اللهم لا تدع خصلة تعاب مني إلا أصلحتها، ولا عائبة أؤنب بها إلا حسنتها، ولا أكرومة في ناقصة إلا أتممتها". الخامس: الإيحاء إلى الداعي بلزوم الترفع عن الناس وعدم التذلل لهم، وألا يضع حاجته عند أحد غير الله، وأن الطمع بما في أيدي الناس من أخس ما يتصف به الانسان ; مثل ما تقرأ في الدعاء 20: "ولا تفتني بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت، ولا بالخشوع لسؤال غيرك إذا افتقرت، ولا بالتضرع إلى من دونك إذا رهبت، فاستحق بذلك خذلانك ومنعك وإعراضك". ومثل ما تقرأ في الدعاء 28: "اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله". ومثل ما تقرأ في الدعاء 13: "فمن حاول سد خلته من عندك ورام صرف الفقر عن نفسه بك، فقد طلب حاجته في مظانها وأتى طلبته من وجهها. ومن توجه بحاجته إلى أحد من خلقك أو جعله سبب نجاحها دونك، فقد تعرض للحرمان واستحق منك فوت الإحسان". السادس: تعليم الناس وجوب مراعاة حقوق الآخرين ومعاونتهم والشفقة والرأفة من بعضهم لبعض، والإيثار فيما بينهم. تحقيقا لمعنى الأخوة الإسلامية. مثل ما تقرأ في الدعاء 38: "اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدى إلي فلم أشكره، ومن مسيء اعتذر إلي فلم أعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أؤثره، ومن حق ذي حق لزمني لمؤمن فلم أوفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره...". إن هذا الاعتذار من أبدع ما ينبه النفس إلى ما ينبغي عمله من هذه الأخلاق الإلهية العالية. وفي الدعاء 39 ما يزيد على ذلك، فيعلمك كيف يلزمك أن تعفو عمن أساء إليك ويحذرك من الانتقام منه، ويسمو بنفسك إلى مقام القديسين. "اللهم وأيما عبد نال مني ما حظرت عليه وانتهك مني ما حجرت عليه، فمضى بظلامتي ميتا أو حصلت لي قبله حيا. فاغفر له ما ألم به مني، واعف له عما أدبر به عني، ولا تقفه على ما ارتكب في، ولا تكشفه عما اكتسب بي، واجعل ما سمحت به من العفو عنهم وتبرعت من الصدقة عليهم أزكى صدقات المتصدقين، وأعلى صلات المتقربين، وعوضني من عفوي عنهم عفوك ومن دعائي لهم رحمتك، حتى يسعد كل واحد منا بفضلك". وما أبدع هذه الفقرة الأخيرة وما أجمل وقعها في النفوس الخيرة لتنبيهها على لزوم سلامة النية مع جميع الناس وطلب السعادة لكل أحد حتى من يظلمه ويعتدي عليه. ومثل هذا كثير في الأدعية السجادية، وما أكثر ما فيها من هذا النوع من التعاليم السماوية المهذبة لنفوس البشر لو كانوا يهتدون.
|
|