موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي >> مناهج اليقين في أصول الدين
مناهج اليقين في أصول الدين
وفيه مباحث
البحث الأول: في معنى النبوة والمعجزة
البحث الرابع: في إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وآله
البحث الخامس: في كيفية إعجاز القرآن
البحث السابع: في أن الأنبياء أفضل من الملائكة
البحث التاسع: في مسائل من هذا الباب
البحث الأول: في معنى النبوة والمعجزة
النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بغير واسطة أحد من البشر، فلا يصدق هذا الحد على الملك ولا على المخبر عن غير اللّه ولا على العالم.
والمعجز أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة، فالأمر قد يكون فعلا للخارق وقد يكون منعا عن المعتاد، وكلا قسميه يصدق عليه المعجز، والخرق للعادة لا بد منه ليقع التميز به بين النّبي والمدعي، والاقتران بالتحدي ذكر ليخرج عنه الكاذب المدعي معجزة غيره وليتميّز عن الإرهاص والكرامات، وعدم المعارضة قيد لا بد منه ليخرج عنه السحر والشعبذة.
والتحدي المماراة والمنازعة، يقال:تحدّيت فلانا اي ماريته ونازعته في الغلبة.
والإرهاص احداث معجز يدل على بعثة نبيّ قبل بعثته كأنه تمهيد لقاعدته.
اختلف الناس في ذلك، فالجمهور من أهل الملل كافة على ذلك، وخالف فيه البراهمة والصابئة.
ويدل على الإمكان أنها حسنة لما اشتملت عليه من الفوائد فتكون ممكنة.
أمّا اشتمالها على الفوائد فمن وجوه:
الأول: أنهم يأتون بالخبر القاطع بحصول العقاب للعاصي، لأن العقل دال على الاستحقاق وليس بدال على الوقوع، ولا شك في أن هذا الاخبار يشمل على فائدة هي الامتناع من الإقدام على المعاصي.
الثاني: العقل يجوّز أن تكون بعض أفعالنا مصلحة لنا وداعيا الى فعل ما كلفنا به من جهة العقل كالصلاة والصوم، وتكون بعض أفعالنا مفسدة لنا كشرب الخمر ويكون مصلحة بأن يعرفنا هذه المصالح أو المفاسد بلسان واحد من نوعنا.
الثالث: أن التكاليف العقلية يجوز أن تكون في النبوة مصلحة لنا بسبب دعاء الأنبياء إليها.
الرابع: المعارف العقلية كالتوحيد والعلم والقدرة يحصل بتطابق العقل والنقل فيها التأكيد.
الخامس: قد بيّنا وجوب التكليف، والعقول البشرية قاصرة عن إدراك كنه ما كلف اللّه به تعالى، فلا بد من البعثة ليحصل المعرفة بذلك.
السادس: أن العقول ممنوّة بالأضداد كالشهوة والنفرة والوهم وغيرها من القوى الموجبة لما ينافي العقل، والطبائع الانسانية مجبولة على الانبعاث الى مقتضى هذه القوى، والزجر المستفاد من العقل غير كاف فلا بدّ من زاجر آخر خارجي وهو الرسول.
السابع: أن للّه تعالى صفات لا يدل العقل عليها كالكلام والسمع والبصر وينبغي للعقلاء معرفتها، ولا طريق الى ذلك فلا بد من النبي لتعليم ذلك.
الثامن: قد يكون هاهنا أشياء حسنة في أنفسها وإن كنا لا نعرف حسنها وأشياء قبيحة لا نعرف قبحها، فلا بد من نبيّ يحصل منه ذلك.
التاسع ، قد يحصل للمكلف حيرة بسبب ترك اشتغاله في العبادات وبسبب استعماله لها فلا بد من نبي يزيل هذه الحيرة والخوف.
العاشر: الخواص التي في النبات يعجز العقل عن إدراكها فإن فيها ما هو نافع وفيها ما هو ضارّ، والرسول معرف لذلك.
الحادي عشر: التنازع الواقع بين الناس الحاصل بسبب الاجتماع يحتاج في إزالته الى من أيّد من عند اللّه تعالى بخاصية مميزة له عن غيره موجبة للامتثال منه.
الثاني عشر: الصناعات الخفية عن عقول البشر قد تقع الحاجة إليها في أغلب الأوقات، فلا بد من رسول يرشد إليها، فقد تبين من هذه الوجوه اشتمال البعثة على الحسن مع أنها خالية عن المفسدة فيكون ممكنة بل واجبة على ما يأتي.
احتج المخالف بوجوه:
الأول: أن الرسل إن جاءوا بما يوافق العقل فالبعثة عبث لاستقلال العقل بما بعثوا لأجله، وإن جاءوا بما يخالفه فهو مردود.
الثاني: أن النبوّة تتوقف على معرفة اللّه تعالى بالجزئيات، والتالي باطل بما تقدم والمقدم مثله.
الثالث: أن الأنبياء انما جاءوا بالتكليف لكن التكليف محال والبعثة محال.
والجواب عن الأول، أن الذي يوافق العقل على قسمين:أحدهما يكون في العقل ما يدل عليه وفائدة الأنبياء فيه التأكيد، والثاني أن لا يكون فالحاجة إليهم في هذا القسم ظاهر.
وأما الذي لا يوافق العقل فعلى قسمين أيضا:احدهما أن يكون العقل يقضي بنقضه، والثاني أن لا يكون للعقل فيه قضاء بشيء البتة، ومثل هذا قد ينفع معرفته في العاجل والآجل، فاحتيج إليهم في هذا القسم أيضا.
وعن الثاني، ما مرّ من بيان صدق التالي.
وعن الثالث، ما تقدم من وجوب التكليف.
اتفقت المعتزلة عليه، خلافا للأشاعرة.
لنا أنها قد اشتملت على لطف في التكليف العقلي والسمعي، واللطف واجب لما تقدم فالنبوة واجبة.
أما اشتمالها على اللطف في التكليف العقلي، فلأنا نعلم أن السمعيات ألطاف في العقليات، فإن التجربة قاضية بأن الإنسان إذا كان مواظبا على فعل الواجبات السمعية فإنه يقرب الى الواجبات العقلية، بخلاف ما إذا لم يواظب.
وأما اشتمالها على اللطف في السمعي، فلأن العلم بدوام الثواب والعقاب لطف فيه وهو لا يحصل إلا مع البعثة.
لا يقال:اللطف هو الداعي الى فعل الملطوف فيه، وهو لا يتحقق إلا إذا علم المكلف كونه لطفا داعيا وجهة دعائه، وذلك منتف عن السمعيات في العقليات.
لأنا نقول:نمنع وجوب العلم بكون اللطف لطفا وداعيا، فإنه يجوز أن يعلم اللّه تعالى أن مع تكليف العبد بالسمعيات ينقاد الى العقليات فيكلّفه بها ويكون ذلك لطفا.
على أنا نقول:العقليات قد يتباعد أزمنة فعلها كرد الوديعة وقضاء الدين فيقع هناك غفلة عن اللّه تعالى والخوف منه فلا بد من مذكّر هو السمعي، وأيضا فإن تحققت القدرة والداعي وجبت البعثة، لكن المقدم حق فالتالي مثله.
واما الشرطية فظاهرة، وأما صدق المقدم، أما القدرة فظاهر، وأما الداعي فلأنها قد اشتملت على وجه مصلحة وانتفت عنها المفاسد، أما أولا فبالفرض، وأما ثانيا فلأن وجوه المفاسد محصورة عندنا وليس شيء منها ثابتا هاهنا.
وللأوائل في هذا الباب طريق آخر مبني على قواعد:
الأولى: أن الإنسان لا يمكن أن يستقل وحده بأمور معاشه لاحتياجه الى الغذاء والملبوس والمسكن وغير ذلك من ضرورياته الّتي تخصه ويشاركه غيره من اتباعه فيها، وهي صناعية لا يمكن أن يعيش الإنسان مدة يصنعها ويستعملها، فلا بد من اجتماع على تلك الأفعال بحيث يحصل التعاون الموجب لتسهيل الفعل، فيكون كل واحد منهم يعمل لصاحبه عملا يستعيض منه أحد.
الثانية: أن الطبائع البشرية مجبولة بالشهوة والغضب والتحاسد والتنازع والاجتماع مظنة ذلك، فيقع بسبب الاجتماع الهرج والمرج ويختل أمر النظام، فلا بد من معاملة وعدل يجمعها قوانين كلية هي الشرع، فلا بد من شريعة ناظمة لأمور نوع الإنسان.
الثالثة: أن الشريعة لا بد لها من واضع يمتاز عن بني نوعه بخاصة من اللّه تعالى هي المعجزة، لأن الشريعة لو فوّضت الى بني آدم لوقع منهم النزاع في وضعها وكيفيته ومن يستقل به، وتلك المعجزات قد يكون قوله وقد يكون فعله.
الرابعة: أن الغالب على الناس الجهل وطاعة شهواتهم والانقياد الى قواهم الوهمية والغضبية، ومثل هؤلاء يستحق اختلال العدل النافع في أمور معاشهم بحسب النوع عند استيلاء الشوق إليهم على ما يحتاجون إليه بحسب الشخص، وذلك يبعثهم على الإقدام على المخالفة للقوانين الشرعية، فلا بد من ثواب وعقاب آخر وبيّن يحملهم على الرجاء والخوف على الانقياد الى متابعة الشريعة.
الخامسة: أن نوع الإنسان ممنو بالشهوة والنسيان، وتذكر المعبود في كل وقت أمر واجب يحصل بسببه الخوف الدائم من عقابه، فلا بد من سبب حافظ لذلك التذكر متكرر في كل وقت وهو العبادة، فإذن وجب في العناية الالهيّة إرسال رسول داع الى التصديق بوجود الخالق والى الإيمان بشرعه والى الاعتراف بالوعد والوعيد والقيام بالعبادات المفروضة وإلى الانقياد للقوانين الشرعية حتى يستقر النظام النوعي.
البحث الرابع: في إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وآله
ويدل على ذلك أنه ظهر وادعى النبوة وظهر على يده المعجزة، وكل من كان كذلك كان نبيا حقا.
أما ادعاء النبوة فظاهر، وأما ظهور المعجزة فلوجوه:
أحدها: أن القرآن ظهر على يده وهو معجز، أما الصغرى فبالتواتر، وأما الكبرى فلأنه تحدى به العرب مع بلوغهم الغاية في الفصاحة وعجزوا عن ذلك.
أما التحدي ، فلقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وقوله: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ، وقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ.
وأما العجز، فلأنهم توفرت دواعيهم على المعارضة ولا مانع، فكان يجب أن تقع المعارضة، فلما لم تقع دل على عدم قدرتهم.
وأما توفر الدواعي فظاهر، لأنه عليه السلام قهر العباد على إتباع دينه وترك أديانهم وما شاءوا عليه واختاروا المحاربة والقتل بالسيف على الإتباع لدينه، ولو كانوا متمكنين من المعارضة لصاروا إليها.
وأما عدم المانع فظاهر، فإنه عليه السلام في ابتداء أمره لم يكن يخشى العرب من سطوته.
وأما بيان أن المعارضة لم تقع فضروري، لأن مثل هذه الوقائع العظيمة يجب اشتهارها حتى يغلب ظهورها على ظهور القرآن من حيث إنها مسقطة للتكليف والانقياد الى أوامر المماثل.
الثاني: أنه عليه السلام أخبر عن الغيب بالتواتر والآيات الدالة عليه، كقوله: وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، وقوله: وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، وكقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ، وذلك معجز قطعا.
الثالث ، المعجزات المنقولة عنه عليه السلام بالتواتر كليتها وإن لم يكن تفاصيلها متواترة، كانشقاق القمر، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وختم الحصى ونبوغ الماء من بين أصابعه، وغير ذلك، وقد نقل المحدثون في ذلك جملا كثيرة.
أما الكبرى فضرورية، الا ترى أن الملك لو قال له بعض أصحابه:إن كنت رسولك فخالف عادتك ففعل الملك ذلك وتكرر، علم قطعا صدق المدعى.
الثاني: الاستدلال بأخلاقه وأفعاله على صدق مقالاته، ووجهه أن الكمالات النفسانية محصورة في قسمي قوتها أما بحسب الشخص نفسه او بحسب تكميل غيره والكامل المطلق هو الكامل فيهما المكمل غيره، ومحمد عليه السلام من ابتداء نشوه الى آخره لم يزل مواظبا على الأفعال الحسنة والأخلاق الجميلة، وبعد ظهور أمره ملازم لعبادة ربّه متوجه بكليته إليه تارك للدنيا يدعو الناس الى ذلك ويجتهد في دخولهم تحت طاعة مولاهم، وهو متواتر عنه عليه السلام، وذلك راجع الى كمال قوته العملية وإكمال غيره فيها.
وأما القوة العلمية فلا شك في أنه عليه السلام ظهر والعرب متشاجرة مختلفة الأديان، قوم يعبدون الأصنام وآخرون الكواكب الى غير ذلك من الأديان الباطلة والأقاويل الفاسدة، فنشر فيهم المعارف الإلهية والمطالب العلمية المشتملة على التوحيد والتنزيه والعدل وغير ذلك من المسائل الحقة وبيّن منها ما كان خفيا عليهم وأمرهم بالتفكر والتطلع على الحق، وذلك نهاية كماله في قوته العلمية وإكمال غيره فيها.
الثالث: أن الأنبياء المتقدمين أخبروا بظهوره ونبوته وصدق مقالاته.
فإن قيل:لا نسلم ظهور المعجزة على يده، والتواتر باطل لأنكم إن عنيتم به عددا محصورا يحصل به العلم فهو باطل، لأن كل عدد يفرض يمكن تواطؤهم على الكذب، وإن عنيتم به ما أفاد العلم فلا يحصل العلم بكون الخبر متواترا إلا بعد العلم به، وإن عنيتم العلم به على كونه متواترا، فيدور.
ولأن العلم يستحيل حصوله بكل واحد وبأي واحد وبالمجموع، لأنه إن اتصف بما لم يتصف به الآحاد فالكلام في علة حصول ذلك الوصف كالكلام في العلم، وإن لم يتصف لم يحصل العلم، ولأن شرط التواتر البعيد استواء الطرفين والواسطة ونمنع ذلك هاهنا ولأن أصل التواتر الحسّ وهو قد يغلط كما في المسيح.
ولأنه يجوز أن يكون القرآن ظهر على غير محمد واخذه منه وادعاه لنفسه، ولأنه يجوز أن تكون آيات التحدي من عنده، فإن المتواتر إنما هو أصله لا تفاصيله، فإنه لم يحفظ القرآن الاّ نفر يسير.
ولأن ابن مسعود انكر المعوذتين والفاتحة مع تعظيم الصحابة له.
ولأن تفاصيله لو كانت متواترة لما حصل فيها اختلاف والتالي باطل، أما اللفظي فالقراءات، وأما المعنوي فالآيات الدالة على التنزيه والتشبيه والقدرة والجبر وغير ذلك، ولأن آيات التحدي لفظية وهي غير مفيدة لليقين.
ولأن التحدي لم يصل الى جميع العالم، فإن البلاد المتباعدة لم يعلموا بظهوره عليه السلام ولا يلزم من عجز البعض عن المعارضة عجز الجميع، ولأنا نمنع حصول الداعي الى المعارضة، ورجوع العرب الى الحرب لعلمهم بأنه قاطع للمادة وحاسم للأمور، فعدلوا إليه دون المعارضة، ولأنه يحتمل أنهم تركوا المعارضة لقلة اهتمامهم بما أتى به ولذلك نسبوه عليه السلام الى الجنون، ثم بعد ظهور أمره خافوا على أنفسهم وتركوا المعارضة.
ولأنه يحتمل أنهم اعتقدوا أن أشعارهم وخطبهم كانت أفصح، فقلّت رغبتهم في المعارضة، ولأن عند حصول الداعية المخلوقة لله تعالى، إن وجب الفعل لزم الجبر فالنبوّة باطلة، وإن لم يجب جاز ترك المعارضة مع حصول الداعي.
ولأنه يحتمل حصول المعارضة وإن لم ينقل كالإمامة والوقائع المشهورة في القرون الخالية، ولأنه يحتمل وجود المانع فإن المعارض قد يجوز أن يكون واحدا فيخاف على نفسه، ولأن القاري آت بالمثل.
ولأن الإخبار عن الغيب ليس بمعجز قد يحصل من المنجمين وأصحاب الرياضات، ولأن هذه المعجزات أمور عظيمة فكان يجب اشتهارها وبلوغها حد التواتر، ولو جاز وجودها مع عدم تواترها، فلم لا يجوز وجود المعارض للقران مع عدم نقله؟.
ولأن تجويز المعجز تجويز للسفسطة، لجواز انقلاب البحر دما معجزة لنبي.
ولأن الإنسان إن كان عبارة عن البدن والأمزجة لا شك في اختلافها، فيجوز حدوث معجز عن مزاج خاص وان كان عبارة عن النفس، فلم لا يجوز اختلافها إما بالنوع أو بالشخص ويصدر عن بعضها المعجز، أو ان المعجز حصل له لاطلاعه على بعض الخواص الموجبة لذلك، أو أن المعجز حصل من الأفلاك فإنها عند بعضهم أحياء ناطقة، أو من الكواكب أو من الجن أو من الملائكة.
ولأن الفعل إن افتقر الى الداعي لزم الجبر، فالأفعال القبيحة منسوبة إليه تعالى فجاز إظهار المعجز لا للتصديق.
ولأن لم يفتقر جاز حصوله من غير غرض، فلا يمكن جعل التصديق غاية، ولأن الغرض جاز أن يكون غير التصديق من كونه لطفا لمكلف آخر أو إجابة لدعوة إنسان أو معجزة لنبيّ آخر أو الابتلاء ليحصل الثواب، كما في إنزال المتشابهات أو ابتداء عادة أو تكرير عادة متطاولة او ارهاصا.
والتمثيل بالملك لا يفيد اليقين.
ولأن تصديق اللّه تعالى للرسول لا يدل على صدقه الا بعد بيان صدقه تعالى وأنه لا يفعل القبيح.
ولأن محمدا عليه السلام إنما يعرف أن الرسول الذي إليه من عنده تعالى لأجل المعجز، وهذا الطريق قد يتأتى منا لأنا نستدل بكونه خارقا للعادة على صدقه، أما محمد عليه السلام فلا يتأتى منه ذلك إلا بعد أن يكون عارفا بعادات الشياطين حتى يحكم بأن المعجز الذي ظهر إليه على يد المرسل خارق لعاداتهم حتى يحكم بانه ليس بشيطان وأنه صادق.
ولأن نبوة محمد عليه السلام يقتضي النسخ وهو باطل والا لزم البداء، ولأن المامور به إن كان حسنا قبح نسخه، وان كان قبيحا قبح الأمر به.
ولأن موسى عليه السلام إن بين دوام شرعه لم يجز نسخه وإلا لزم كذبه ولجاز في شرعكم ذلك، وإن بين عدم دوامه وجب نقله لكون الدواعي متوفرة عليه، ولأنه لو جاز خفائه لجاز في شرعكم، وإن لم يبين واحدا منهما لزم التعبد بشرعه مرة واحدة هذا خلف، ولأنه نقل عنه بالتواتر تمسكوا بالسبت أبدا.
والجواب:نعني بالتواتر إخبار قوم يحصل معه العلم، ولا دور، لأن العلم الحاصل ليس مما يبنى على غيره بل هو علم ضروري، وبالمعنى الذي عقلتم به حصول المجموعية، فاعقلوا مثله في حصول العلم، على أنه طعن في الضروري فلا يسمع.
ومنع استواء الطرفين والواسطة، منع لما علم حصوله بالضرورة، فإن كل طبقة تنقل عن أخرى موصوفة بالكثرة المفيدة للعلم، وتغليط الحس تشكيك في الضروري فلا يسمع، والفرض الذي ذكروه مما يمتنع عقلا، فإن من أنصف علم ان القرآن إنما نزل على محمد عليه السلام، ولأن فيه من الآيات ما يدل على تخصيصه، كقوله: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ، وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، إِذْ تُصْعِدُونَ، عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وغير ذلك من الآيات الكثيرة، ولأن تجويز ذلك يستلزم حصول مفسدة عظيمة للمكلفين كان يجب على اللّه تعالى إيضاحه لأجل زوالها.
ولأن اللّه تعالى صرف العرب عن المعارضة، ولو كان الفرض الذي ذكرتموه جائزا لما ساغ ذلك، وهذا جواب القائلين بالصرفة، وتجويز كون آيات التحدي من عنده تجويز لإبطال الضروريات، فانا نعلم بالضرورة تواتر القرآن بجملته وتفاصيله، ولأجل ذلك لو زاد أحد فيه أو نقص لعلم كل عاقل ذلك، وفي زمن الصحابة كان التشديد في حفظه أتم من ذلك حتى نازعوا في اسماء السور والتعشيرات.
وابن مسعود رجل واحد في مقابلة التواتر فلا تسمع معارضته، ولأنه لم ينكر كونه منزلا، وإنما أنكر كونه متلوا لأجل شبهة عرضت له.
ويمنع وجود الاختلاف، أما اللفظي فالقراءات منزلة بقوله عليه السلام: نزل القرآن على سبعة أحرف.
وأما المعنوي فلأنها متأولة ولها محامل ذكرها المحققون في تفاسيرهم غير خارجة عن اللغة، على أن المراد بالاختلاف هاهنا يحتمل الاختلاف في الفصاحة وعدمها.
وأيضا لو سلم الاختلاف، لكن لا يدل على أنه من غير اللّه، لأن استثناء عين التالي عقيم.
وآيات التحدي لا شك في وصولها الى جميع من يدعي الفصاحة ويدعي امكان المعارضة فلا اعتداد بغيرهم، ورجوع العرب الى الحرب دال على العجز، فإن كل عاقل لا يختار ركوب الأهوال وقتل النفس على إنشاء كلام سهل دال على فضيلة مع أنه متمكن منه، وكيف يقل اهتمامهم بالمعارضة مع اختيارهم للحرب الأصعب؟ والخوف زائل، فإنه عليه السلام كان يدعو الناس الى الإيمان، فمن نازعه في ذلك أتاه بالمعجز وطلب منه المعارضة، فإن عانده قاتله في ابتداء أمره وانتهائه.
واعتقادهم لغلبة فصاحتهم دال على نقصهم، فإن كل من نظر في القرآن علم أن فيه من الفصاحة ما لم يشتمل عليه قصيدة من قصائد العرب وحصول الداعي اذا كان موجبا للفعل غير مستلزم للجبر، وقد مضى تحقيق ذلك.
وحصول المعارضة مع عدم نقلها باطل قطعا، فإن الدواعي يكون أشد توفرا على نقلها لما فيه من التخفيف في الأمور التكليفية، بخلاف الإمامة، فان الدواعي غير متوفرة على نقلها، لاشتمالها على التكليف وكونها مندوبة، ووجود المعارض منفي بما قلنا من أنه عليه السلام ما كان يمنع أحدا من المعارضة.
والقاري ليس بآت بالمثل، فإن المراد هنا ليس الحكاية، وايّ عاقل يجوّز المعارضة لشاعر او فصيح بشعره وكلامه، وابو الهذيل لأجل ذلك جعل الحكاية نفس المحكي، وأطبق المحققون على إبطاله.
ونمنع حصول الإخبار بالغيب من المنجمين، فإنهم إنما يحكمون بما يقع غالبا بالعادة أو بالأمور الكلية خصوصا مع ظهور المدعي، فكان يجب على اللّه تعالى إبطال مقالته.
والمانع من تواتر كل واحد من المعجزات الاكتفاء بالقرآن الظاهر بين الناس، وتجويز المعجز لا يدل على السفسطة، لأنه يقع نادرا، وتجويز صدور المعجز من غير اللّه تعالى مدفوع عند الأشاعرة بكون كل ما يصدر في العالم منه تعالى على ما بينوه فيما سلف وعند المعتزلة والا لكان اللّه تعالى بتمكين ذلك الفاعل منه فاعلا للقبيح تعالى اللّه عن ذلك.
والجبر غير لازم عند وجوب الفعل بالداعي على ما مضى، وهذا انما يرد على الأشاعرة.
وتجويز كون الغرض غير التصديق تجويز لصدور القبيح منه تعالى على ما سلف، وهذا أيضا يرد على الأشاعرة.
ودلالة المعجزة على النبوة لا يتوقف على صدقه تعالى، بل يتوقف على قوله:هذا رسولي، وهذا ليس باخبار، على أنا قد بينا كونه تعالى صادقا وأنه لا يفعل القبيح، وهذا أيضا يرد على الأشاعرة.
وتجويز إظهار المعجزة لمحمد عليه السلام على يد الشيطان أو كونه من عادات الشياطين فيه قبح عظيم من اللّه تعالى، وهذا أيضا يرد على الأشاعرة.
واعلم أنهم يجيبون عن هذه الأسئلة بأنا نجوّز ذلك من حيث الماهية وان كان ممتنعا بالنظر الى العادة، فإنا كما نقطع بعدم انقلاب البحر دما مع جوازه، كذلك نقطع بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب وإن كان جائزا.
وهذا الجواب ضعيف، لأنا نمنع حصول القطع مع النظر الى ذلك التجويز، نعم القطع حاصل مع الغفلة عن ذلك.
وكيف يحصل للعاقل قطع بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب مع أنه معتقد لتجويز القبيح عليه تعالى.
ومن هاهنا يظهر أن التكاليف السمعية والأوامر الشرعية انما يصح ثبوتها ويقطع به على رأي المعتزلة، أما على طريقة الأشاعرة فلا.
والبداء غير لازم من القبيح، لأن التكليف يعتبر فيه المصلحة ويجوز تغيرها بتغاير الأوقات ويكون المأمور به حسنا في وقت دون آخر فيحسن النهي عنه، وعند الأشاعرة هذان ساقطان، لأنهم لا يعترفون بالحسن والقبح، والجواب المذكر وانما هو على رأي المعتزلة.
وأما موسى عليه السلام، فإنه بين بيانا كليا أن شرعه سينسخ ولم ينقل ذلك لانقطاع تواتر اليهود، لأن بختنصر استأصلهم، وعند الأشاعرة وجماعة من المعتزلة أنه لا يجب البيان في ذلك وقد علم التكرار بدليل خارجي، واذا كان تواترهم منقطعا فلا احتجاج بنقلهم في السبت وغيره.
البحث الخامس: في كيفية إعجاز القرآن
لما اعتنى المسلمون بنقل القرآن من ساير المعجزات وجب البحث عن كيفية إعجازه، وقد اختلف الناس في ذلك، فقال قوم:كون القرآن معجزا إنما هو لكونه منعا من المعتاد، قالوا:ووجه الإعجاز فيه أن العرب توفرت دواعيهم على المعارضة مع شدة فصاحتهم وسكتوا عن المعارضة المعتادة، وهذا دليل على إعجازه.
وهذا قول النظام والسيد المرتضى من أصحابنا وبعض المعتزلة، وهو قول بالصرفة.
وقال آخرون:إنه معجز لأن الإتيان بمثل كل سورة منه غير معتاد.
واختلف هؤلاء، فقال بعضهم:إن إعجازه من حيث الأسلوب وجعل الإعجاز راجعا الى الألفاظ من غير اعتبار دلالتها على المعاني، ويتوقف ذلك على اجتماع الكلمات، فإن الفواصل والإسجاع لا يحصل الا عند اجتماع الكلمات.
وذهب أبو علي وابو هاشم ومتابعوهما الى أن الإعجاز إنما هو بفصاحته، وأنه خرق عادة العرب بذلك.
وقال ابو القاسم البلخي:إن جنس القرآن غير مقدور للبشر.
وذهب الجويني الى أن الإعجاز إنما هو بالفصاحة والاسلوب، وقد كان في كلمات العرب ما يقاوم فصاحته فصاحة القرآن وان لم يقاومه في اسلوبه وفي كلامهم ما هو كاسلوبه ولم يبلغ فصاحته.
والقائلون بالصرفة اختلفوا، فقال بعضهم:إنه تعالى سلبهم الأقدار على ذلك.
وقال آخرون:إنه تعالى سلبهم الداعية الى ذلك مع وجود السبب الموجب لوجوده.
وقال آخرون:إنه سلبهم العلم الذي به كانوا يتمكنون من المعاوضة، وهو مذهب السيد المرتضى.
ومن الناس من جعل جهة الاعجاز خلوه عن التناقض، وآخرون قالوا:إن جهة الاعجاز اشتماله على الإخبار بالغيوب.
واستدل القائلون بالصرفة بوجهين:
الأول: أنه لو لم يكن الإعجاز لأجل الصرفة لما حصل العلم بنبوّة محمد عليه السلام والتالي باطل والمقدم مثله، بيان الشرطية أنه يمكن أن يكون بعض الجن أو بعض الملائكة في غاية الفصاحة بحيث يصدر عنه هذا القرآن، فحينئذ لا يمكن الاستدلال على صدقه عليه السلام إلا بعد استناد القرآن إليه تعالى، واسناده إليه تعالى إنما علمناه بقول الرسول، وذلك دور.
أما اذا جعلنا جهة الاعجاز هو الصرفة، اندفع هذا المحذور.
الثاني: أنا نعلم قطعا أن العرب كانوا متمكنين من مفردات الألفاظ ومن تركيبها، ومن قدر على المفردات وعلى التركيب كان قادرا عليهما قطعا، فإذن العرب كانوا متمكنين من الإتيان بالمثل وإنما سلبوا هذه القدرة او الداعي.
وهذان الوجهان عندي[ضعيفان]،أما الأول، فلأنا لا نشرط في المعجز صدوره منه تعالى، فإنا لو علمنا صدوره من النّبي عليه السلام باقداره تعالى على ذلك لكان معجزا، ولأن هذا الدليل إن طعن في الفصاحة فهو بعينه طاعن في الصرفة، لأنه لا استعباد في أن يكون بعض العرب متمكنا من المنع عن المعارضة بالسحر فالإلزام مشترك.
لا يقال:تمكين اللّه تعالى الساحر من ذلك فساد عظيم.
لأنا نقول:بذلك تمكين الملك والجن من ذلك فساد عظيم.
لا يقال:هذا اعتراف بالصرفة.
لأنا نقول:هذا انما هو صرف لبعض الملائكة او الجن على تقدير المنع الذي ذكرتموه، أما بالنسبة الى العرب فلا.
وأما الثاني، فالمنع من قدرة العرب على ما ذكروه.
واستدل القائلون بالفصاحة بوجوه:
الأول: لو كان عجز العرب عن المعارضة لأجل منعهم منها مع قدرتهم، لوجدوا ذلك من أنفسهم وفرقوا بين حال التخلية وحال المنع، ولو وجدوا ذلك لتحدثوا به، ولو تحدثوا به لاشتهر، فالتالي باطل فالمقدم مثله.
الثاني: أن القرآن معجز باتفاق المسلمين، ولو كان جهة الإعجاز الصرفة لكان المعجز هو المنع من الاتيان بمثل القرآن، فلا يكون القرآن معجزا.
الثالث: لو كان الإعجاز للصرفة لوجب أن يكون القرآن في غاية الركاكة، لأن المنع من الاتيان بالكلام الركيك أبلغ في الإعجاز من المنع من الاتيان بالبليغ، والتالي باطل قطعا فالمقدم مثله.
الرابع: أن العرب قد كانوا يستعظمون فصاحته على ما نقل عنهم، وهذا القول عندي هو الحق، وباقي الأقوال لا يخفى ضعفها.
مقدمة: العصمة لطف يفعله اللّه تعالى بالمكلف لا يكون مع ذلك داع الى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك.
والأوائل قالوا:إنها ملكة متمكنة في النفس لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي، وقال آخرون:إن المعصوم هو الذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي وهؤلاء منهم من قال:إن عدم المكنة لاختصاص بدنه او نفسه بخاصية تقتضي امتناع المعاصي منه، ومنهم من ساوى بينه وبين أشخاص الإنسان في الخواص البدنية والنفسانية، وفسروا العصمة بالقدرة على الطاعة أو عدم القدرة على المعصية، وهو قول ابي الحسن الأشعري.
وقال آخرون:إن المعصوم متمكن من الفعلين واختص بلطف اللّه تعالى كما قلناه نحن أولا، وأبطلوا قول من سلب القدرة عن المعصية بأنه حينئذ لا مدح له في عصمته، ولأنه يبطل التكليف في حقة، فلا ثواب له ولا عقاب، واللوازم كلها فاسدة، ولقوله تعالى: قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ.
وسبب العصمة عند هؤلاء الأربعة أمور:
الأول: اختصاص نفسه أو بدنه بملكة يمنعه من الإقدام على المعصية.
الثاني: أن يكون عالما بالمدح على الطاعة والذم على المعصية.
الثالث: تاكيد تلك العلوم بتتابع الوحي إليه.
الرابع: أن يكون بحيث اذا ترك ما هو الأولى عوتب على ذلك، فاذا اجتمعت هذه الأربعة للإنسان كان معصوما.
وهذا عندي باطل، فإن الثالث لا يجب حصوله في كل معصوم، فإن الأئمة الاثني عشر والملائكة عليهم السلام معصومون وفاطمة عليها السلام ومريم معصومتان من غير وحي إليهم، والرابع تابع للعصمة، نعم اعتقاد مؤاخذته على ترك الأولى سبب مؤكد للعصمة.
واذ قد تمهدت هذه القاعدة فنقول:اتفق الناس بأسرهم الا الفضيلية من الخوارج على أن الأنبياء معصومون عن الكفر، والفضيلية اعتقدوا ان كل ذنب كفر ثم جوزوا صدور الذنب عن الأنبياء.
وذهب بعض الناس الى امكان صدور الكبائر عنهم، وأكثر الناس جزموا ببطلانه.
وقال آخرون:إنه يجوز صدور الصغيرة عنهم، واختلفوا فقال قوم منهم:إنما يجوز صدورها عنهم على سبيل السهو أو على وجه ترك الأولى أو على وجه الاشتباه بالمباح، أما على جهة القصد فلا.
والإمامية منعوا من صدور الصغيرة والكبيرة عنهم عمدا او سهوا قبل النبوة وبعدها.
وقالت الفضيلية أيضا:إنه يجوز أن يبعث اللّه من علم منه أنه يكفر، وقال فريق منهم:لا يجوز ذلك بل يجوز بعثة من كان كافرا قبل الرسالة، وهو منقول عن ابن فورك وقال:هذا الجائز لم يقع وبعض الحشوية قال بوقوعه.
وجوّز أكثر أهل السنة صدور الكبير عنهم قبل الرسالة، وامّا الصغائر قبل البعثة فجوزها الجميع عدا الإمامية.
والدليل على ما ذهب إليه الشيعة أن اللّه تعالى لو بعث من ليس بمعصوم لكان مناقضا لغرضه، والتالى باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن الغرض من البعثة هو تحصيل الثواب بامتثال أوامرهم، وذلك لا يتم إلاّ بالسكون الى أقوالهم وأفعالهم، وذلك غير حاصل إلاّ بعد العلم بعدم صدور الذنب عنهم، ولأنه لو لم يكن معصوما لجاز منه الأمر ببعض ما لم يؤمر به والإخلال ببعض الشرع والتالي باطل فالمقدم مثله.
ولأنه لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من العوام، لأن عقابهم يكون أشد من حيث إن معرفتهم باللّه تعالى أتمّ، والتالي باطل اتفاقا فالمقدم مثله.
ولأنه لو صدر عنهم الذنب لما كانوا مقبولي الشهادة، لقوله تعالى: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.
ولأنه كان يحب زجرهم عن الذنب فلا يكون أذاهم محرّما، ولانه كان يجب ان لا يتبع، والتالي باطل فالمقدم مثله.
فان قيل:لا نسلم حصول النفرة مع تجويز المعصية، وكيف ذلك واكثر المسلمين على تجويزها عليهم ولم يمنعهم من قبول أقوالهم، ولأن المعصية انما ينفر عنهم على تقدير استحقاق العقاب عليها، ونحن لا نجوز ذلك عليهم بل نجوّز صدور الصغائر التي تقع مكفرة، ولأن السمع قد دل على جواز الذنب عليهم.
فالجواب، أن حصول الذنب عنهم لا يوجب ترك قولهم بالكلية بل يحصل فيه مفسدة في أغلب الأحوال ومنع الذنب عنهم لطف يكون المكلف معه أقرب الى الطاعة وذلك لا يقدح فيه ما ذكرتم، وصدور الصغيرة عنهم ممتنع كالكبيرة، والذي ذكروه في الاعتذار مبني على تجويز التحابط، وهو باطل لما يأتي، ولأن كونها صغيرة مما يخفى على العقلاء، وذلك توجب النفرة دائما.
والسمع متأوّل، أما إجمالا فبالحمل على ترك الأولى وكون النهي نهي تنزيه لا تحريم، وأما تفصيلا ففي كتبه المختصة به، والسهو لا يجوز عليهم وإلاّ لجاز أن يسهو عن أداء ما يجب أداؤه.
ويجب أن يكونوا منزهين عن دناءة الاباء وعهر الأمهات ليحصل الانقياد إليهم وعدم التنفر منهم.
البحث السابع: في أن الأنبياء أفضل من الملائكة
اختلف الناس في ذلك، فذهب الأشاعرة والشيعة إليه، وخالف فيه جماعة من المعتزلة والقاضي أبو بكر من الأشاعرة والأوائل.
احتج الأولون بقوله تعالى: إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى الْعٰالَمِينَ، وهذا عام في كل من يطلق عليه اسم العالم، والاصطفاء المراد به هاهنا الفضيلة.
ولأن الآدمي يعبد اللّه تعالى مع معرفته به ومحبته له مع حصول الصوارف عن ذلك وهو الشهوة والغضب، فيكون عبادته أشق من عبادة الملائكة الخالصين عن ذلك.
ولأن آدم عليه السلام أمر له الملائكة بالسجود في قوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ، والسجود أعظم ما يكونوا من الخضوع، وأمر العالي بالخضوع للسافل مناف للحكمة.
ولأنه عليه السلام كان أعلم بقوله تعالى: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ، والأعلم أفضل.
احتج المخالف بقوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّٰهِ وَ لاَ الْمَلاٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، ذكر هذا العطف عقيب نفي الاستنكاف عن المسيح دال على فضيلة الملائكة عليه.
وبقوله تعالى: مٰا نَهٰاكُمٰا رَبُّكُمٰا عَنْ هٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونٰا مَلَكَيْنِ.
وبقوله تعالى: مٰا هٰذٰا بَشَراً إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ مَلَكٌ كَرِيمٌ.
وبقوله تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ، قدم الملائكة فكانوا أفضل.
ولأن الملائكة دائما في العبادة، لقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ، فيكونون أفضل ممن ينقطع عبادته.
ولأن نسبة النفس الى النفس كنسبة البدن الى البدن، ولا شك في أفضلية السماوات على أبداننا فنفوسها أشرف من نفوسنا.
ولأنها خالية من القوى البشرية الشريرة كالشهوة والغضب بل هي خير محض، بخلاف البشر، ولأن علومهم أكمل لكون نفوسهم أقوى فيكونون أفضل.
ذهب جمهور المعتزلة الى المنع من ذلك عدا أبا الحسين البصري، وجمهور الأشاعرة على الجواز عدا أبا إسحاق وهو مذهب الأوائل أيضا.
ويدل على ذلك ما ظهر من الكرامة على يد مريم عليها السلام وأصحاب الكهف.
واحتج المانعون بأنه لو جاز ظهورها على يد الصالحين لجاز ظهورها على يد كل صالح، وذلك يخرجها عن الإعجاز ويصيرها في حكم الكثيرة.
ولأن ظهور المعجزة على غير النبي ينفر عن النبي، لأن المعجز هو السبب في الانقياد الى طاعتهم، فإذا ظهر على من لا يجب طاعته هان موقعه.
ولأنه لا يبقى فيه دلالة على النبوة، لأنا نجوز أن يكون المدعي للنبوة ليس بنبي وإن أظهر المعجزة لجواز أن يكون صالحا.
ولأنه لو جاز ظهور المعجزة على غير نبيّ لغرض غير التصديق في النبوة لانسد باب الاستدلال بالمعجز، على أنه تعالى خلقه لأجل التصديق لا غير.
والجواب إنما يجب ظهورها على يد الصالحين بشرط أن لا يبلغ حد الكثرة كما في حق المعجز على يد الأنبياء، وإذا ظهر المعجز على يد الصالح الداعي الى دين المتقدم له لم يهن موقع المعجز، وإنما نجوزه على يد الصالح ما دام متصفا بهذا الوصف، فإذا ادعى النبوة خرج عن هذا الوصف، فامتنع حينئذ إظهار المعجزة على يده، وتجويز إظهار المعجز على يد الصالح لا يخرجه عن كون الغرض منه التصديق عند ظهوره على يد الأنبياء عقيب الدعوى، فإنه في تلك الحال يعلم قطعا أنه ما خلق إلا لأجل التصديق.
تتمة تشتمل على مسألتين:
الأولى: يجوز أن يظهر اللّه تعالى معجزة إرهاصا لنبي يأتي من بعد، وهو مذهب المعتزلة.
والبصريون أطبقوا على المنع قالوا:لو جاز ذلك لزم انتقاض عادة مبتدأة لغير غرض والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن المعجزة إنما تكون لتصديق النبي كما هو رأي الجمهور، أو لإكرام بعض الصالحين كما هو رأي طائفة والإرهاص ليس واحدا منهما، واما بطلان التالي فظاهر.
والجواب، المنع من انتفاء الغرض، فإنا لا نجوز الإرهاص إلا إذا تقدمت البشارة من النبي المقدم ببعثة من يأتي، فإذا ظهر ذلك للناس وانتقضت العادة صار ذلك متعلقا بدعواه النبوة من بعد من حيث المعنى.
الثانية: منع قاضي القضاة من إظهار المعجزة على العكس مما سأله الكاذب نحو ما نقل عن مسيلمة أنه قيل له:إن محمدا عليه السلام دعا لأعور فرد اللّه عينه فادع انت له فدعا فذهبت عيناه، وجوزه الباقون، وهو الصحيح.
قال القاضي:هذا المعجز لا تعلق له بدعواه لعدم مطابقته فيصير نقض عادة مبتدأة، وذلك لا يجوز.
والجواب:أن تعلق المعجز بدعوى الصادق ليس الاّ لأنه لو لم يكن صادقا لما نقض اللّه تعالى العادة، ومثل هذا ثابت في دعوى الكاذب، لأنه لو لا كذبه لما أظهر اللّه المعجزة على العكس.
قال:نفي المعجز عقيب دعواه كاف في تكذيبه، فاظهار المعجزة على العكس عبث.
قلنا:الغرض منه زيادة التكذيب.
البحث التاسع: في مسائل من هذا الباب
مسألة: الحق عندي أنه لا يجوز الخلو من النبي في زمان من الأزمنة، وهو مذهب جميع أصحابنا القائلين بعدم خلو الزمان من إمام والإمام بمنزلة الرسول.
ويدل على ذلك المعقول والمنقول.
أما المعقول، فلأن التكليف واجب لما مضى ولا يتم إلا بالرسول، ولأن في الرسول مصلحة لا يتم بدونه وهو كف الناس من الخطأ وتنبيه الغافل عن اللّه تعالى وغير ذلك مما يقتضي وجوب البعثة في حال.
وأما المنقول فقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّٰ خَلاٰ فِيهٰا نَذِيرٌ.
وأما مشايخ المعتزلة، فقالوا:لا يجب في كل حال بل إذا كان للمكلفين مصلحة في البعثة، والأشاعرة لم يوجبوا ذلك مطلقا، والأوائل أوجبوه من حيث العقل العملي.
مسألة :جوز أبو علي بعثة رسول من غير شرع، ومنعه أبو هاشم، لأن العقل كاف في معرفة العقليات فبعثه لتعريفها عبث، قال ابو علي:جاز بعثة نبيّ بعد آخر وإظهار معجزة بعد معجزة وإن وقع الغنى بما سبق، فليجز بعثة رسول بما يقتضيه العقليات وان كان العقل كافيا.
أجاب أصحاب أبي هاشم بأن ذلك انما يجوز اذا كان فيه فائدة زائدة على الواحد او على المعجزة الواحدة وتلك الفائدة لا تحصل الاّ بهما، ولأبي علي أن يقول:أنا لا أجوز ظهور نبي بالعقليات إلاّ إذا حصل فيه مزية لا يحصل من دونه مثل أن يكون دعائه الى العقليات لطفا للعباد في العمل بها.
مسألة :محمد صلى اللّه عليه وآله افضل من غيره من الأنبياء السابقين، ويدل عليه المعقول والمنقول.
أما المعقول، فلأن شرعه أعم من شرع غيره فائدة واكثر نفعا وأتباعه اكثر عددا من أتباع غيره، ولأن أخلاقه أشرف من أخلاق غيره، وذلك يدل على شرفه على غيره في قوتي العلم والعلم.
وأما المنقول فقوله تعالى: إِنّٰا أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ كَمٰا أَوْحَيْنٰا إِلىٰ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وذلك يدل على أنه تعبده بأصول شرع كافة الأنبياء فيكون أفضل منهم، وقوله تعالى: فَبِهُدٰاهُمُ اقْتَدِهْ، أمره بالاقتداء بهدى كل واحد واحد وهذا يدل على أنه أفضل منهم، ولقوله عليه السلام:«أنا أشرف البشر».
مسألة :الطريق الى معرفة شرعه إما التواتر أو الآحاد.
أما الأول، ففي أصوله وذلك أنه صلى اللّه عليه وآله بقي في الدنيا الى حيث انتشرت دعوته وظهر أمره وذاع شرعه الى أن وصل الى أهل التواتر، ثم لم يزل المسلمون يتناقلونه متواترا من طبقة الى طبقة الى زماننا هذا.
وأما الثاني ففي تفاريعه.
مسألة :التكليف قسمان أمر ونهي، والأمر قسمان أمر وجوب وأمر ندب، فالواجب إنما وجب لكونه لطفا في التكليف العقلي على معنى أنه متى فعل التكليف السمعي كان أقرب الى أن يؤدي التكليف العقلي، وقد أشار اللّه تعالى الى ذلك في قوله: إِنَّ الصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ، وفي قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وفي قوله: إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ، فالواجبات الشرعية مصالح في العقليات والقبائح الشرعية مفاسد فيها والمندوب كالتتمة للواجبات الشرعية بمعنى أن عندها يكون الواجبات ادعى الى العقليات.
وقال بعض المعتزلة:إن الشرعيات إنما وجبت شكرا للّه تعالى على نعمه والمقبحات كفران النعمة.
واعترض عليهم بأن الشكر هو طمأنينة النفس على تعظيم المنعم لنعمه، وفي العرف هو الاعتراف بنعمة المنعم على ضرب من التعظيم، وليست الصلاة واحدا منهما وإن كانت كاشفة ودليلا عليهما، ولأن الشرعيات يتطرق إليها النسخ والانقطاع بخلاف الشكر.
وهذا الفعل وإن كان قد سبق بعضه، لكنه اشتمل على فائدة لم نذكرها ثم.