موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي >> مناهج اليقين في أصول الدين
المنهج الثاني: في تقسيم الموجودات
المقصد الأول: تقسيم الموجودات على رأي المتكلمين
البحث الثاني: في تقسيم المحدثات
البحث الثالث: في الجسم وأحكامه
القطب الثاني: في أحكام الأجسام
المطلب الأول: بحث في مفهوم تحريك الأجسام
المطلب الرابع: في أحكام الأكوان
البحث السادس: في الطعوم والروائح
البحث السابع: في الحرارة والبرودة
البحث الثامن: في الرطوبة واليبوسة
البحث الرابع عشر: في الاعتقادات
خاتمة: الكلام في الدليل وفيه مقاصد
المقصد الأول: الدليل هو الذي يلزم من العلم بالشيء
المقصد الثاني: في تقسيم الأدلة
المقصد الثالث: في ذكر أدلة فاسدة اعتمد عليها المتكلمون
البحث السابع عشر: في الإرادة والكراهة
البحث الثامن عشر: في الألم واللذة
البحث التاسع عشر: في الشهوة والنفار
البحث الحادي والعشرون: في أحكام الأعراض
قالوا: الموجود إما أن يكون قديما أو محدث، فالقديم الوجودي هو الذي لا أول لوجوده، والمحدث هو الذي لوجوده أوّل، والأوائل فصّلوا القديم بأمرين:
أحدهما ما ذكرناه، والثاني هو الذي لا مبدأ لوجوده، وجعلوا الأول هو القديم الزماني.
قالوا: فالزمان ليس بقديم بهذا المعنى، لأنه ليس للزمان زمان آخر حتى يقال لا أوّل لزمان وجوده.
والمحدث فسروه بأمرين: الأول ما ذكرناه وهو المحدث الزماني، والزمان ليس بمحدث بهذا المعنى، لأنه ليس له زمان آخر حتى يقال: إن للزمان زمانا مبتدأ.الثاني الحدوث الذاتي وهو كون الشيء بعد غيره بعدية ذاتية.
فائدة : قالت الأوائل: التقدم يقال بخمسة معان:
احدها: التقدم بالعلية كتقدم العلة على المعلول، فإن العقل يفرض وجود العلة أوّلا حتى يلحقه وجود المعلول، فالوجود لا يصل الى المعلول إلاّ بعد وصوله الى العلة.
الثاني: التقدم بالذات كتقدم الواحد على الاثنين، وهو أن يكون المتأخر يستحيل وجوده إلاّ بعد وجود المتقدم ويمكن وجود المتقدم منفكا عن المتأخر.
الثالث: التقدم بالزمان، وهو أن يكون شيئان موجودان في زمانين وزمان أحدهما سابق على زمان الآخر، فيقال للّذي قارن وجوده الزمان السابق إنه متقدم على الذي قارن وجوده الزمان اللاّحق.
الرابع: التقدم بالمرتبة، إما حسا كتقدم الإمام على المأموم في المحراب، أو عقلا كتقدم الجنس على النوع.
الخامس: التقدم بالشرف كتقدم المعلم على متعلّمه.وكذا الكلام في التأخر والمعية، ولم نر لهم دليلا على هذا الاّ الاستقراء .
والمتكلمون أبرزوا قسما سادس، وهو تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض، والأوائل قالوا: التقدم الزماني قد يلحق بعض الأشياء من غير زمان آخر وهو كتقدم بعض اجزاء الزمان على بعض، وقد يلحق بعضها بشرط وجوده في الزمان وهو الأشياء المغايرة له، فالقبلية والبعدية لاحقتان للزمان لذاته
ويلحقان ما عداه بسببه.
والمتكلمون قالوا: إذا عقلتم وجود هذا التقدم الخاص من غير زمان يغاير المتقدم والمتأخر في بعض الأشياء، لم يمكنكم المنع من لحوقه للبواقي لذواتها من غير زمان.
ثم قال المتكلمون: إن معنى كون اللّه تعالى قديما هو أنا لو قدّرنا وجود أزمنة لا نهاية لها لكان اللّه تعالى موجودا معه، ولا يشرط وجود الزمان مصاحبا له تعالى والاّ لزم القدم وتسلسل الأزمنة.
مسألة : الحق عندنا ان القدم والحدوث من الصفات الاعتبارية وليس لهما ثبوت في الخارج والاّ لزم التسلسل.
وزعم عبد اللّه بن سعيد من الاشاعرة: ان القدم صفة زائدة على ذاته تعالى، واحتج بأن القدم عبارة عن نفي العدم السابق وعدم العدم ثبوتي.
والجواب: إن القدم لكونه نفي العدم السابق يكون داخلا تحت مطلق العدم.
ثم قال: صفات اللّه تعالى غير قديمة والاّ لزم قيام المعنى بالمعنى، ولا حادثة والاّ لكان اللّه محلا للحوادث.وهذا القول في السخافة كالأوّل.
واما الكرامية فإنهم قالوا: إن الحدوث صفة زائدة على ذات الحادث لأن الشيء قد لا يكون حادثا ثم يصير حادثا فقد تبدل النفي بالإثبات.والجواب:
ان التبدل لا يدل على الثبوت.
مسألة : القديم إذا كان وجوديا استحال عليه العدم، لأنه إمّا أن يكون
واجب الوجود لذاته فيستحيل عدمه، وإما أن يكون جائزا فلا بد له من مؤثر وينتهي الى الواجب لذاته قطعا للدور والتسلسل ويلزم من استحالة عدم الواجب استحالة عدمه.
مسألة : القديم لا يستحيل استناده الى المؤثر الموجب، ونحن لما جعلنا علة الحاجة هي الإمكان فإن كان القديم ممكن، كان مفتقر، وأما استناده الى المختار فمحال، لأن القصد الى إيجاد الشيء إنما يكون حال عدم الشيء.
مسألة : المسلمون على أنه لا قديم من الذوات الاّ ذات اللّه تعالى، والأشاعرة أثبتوا صفاته في القدم، والمعتزلة بالغوا في الإنكار، والمحققون عوّلوا في نفي قديمين من الذوات على السمع.
وبعضهم احتج، بأنه لو كان واجبا لزم أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد، وهو باطل لما يأتي، وإن كان ممكنا افتقر الى مرجح فيكون حادث، لاستحالة استناد القديم الى المؤثر.
وأيضا فإنه لا دليل عليه فيجب نفيه.
وأيضا فإن القدم أخص الصفات، فلو كان مشاركا للّه تعالى في القدم لكانا مثلين فيكونان واجبين.
وهذه الدلائل فاسدة، أما الأوّل فلبنائه على أن الحدوث علة الحاجة وقد بينّا فساده.
وأما الثاني فلأن الشيء لا يلزم من نفي الدليل عليه نفيه.
وأما الثالث فلأن قولهم: القدم أخص الصفات، إن عنوا به أنه لا تتصف به الاّ ذات واحدة فهو المتنازع، وإن عنوا به شيئا آخر وجب عليهم بيانه.
وأما الحرنانيّون فقد أثبتوا قدماء خمسة : اثنان حيّان فاعلان وهما الباري تعالى الفاعل لهذا العالم المحسوس والنفس المتعلقة بهذا البدن البشري وبالجسم السماوي تعلق التدبير وسبب حدوث العالم في وقت حدوثه التفات النفس الى الهيولى، وقد يحكى هذا القول عن أفلاطون القائل بقدم النفس.
واستدلوا على قدمه تعالى بالدلائل المشهورة الآتية، وعلى قدم النفس بأنها لو كانت حادثة لافتقرت الى مادة فتكون مركبة هذا خلف.
وواحد منفعل غير حيّ وهو الهيولى، فإنها لو كانت حادثة افتقرت الى هيولى أخرى وتسلسل، واثنان غير حيّين ولا منفعلين ولا فاعلين وهما الدهر والخلاء، فإن الزمان لو كان حادثا لافتقر الى زمان والخلاء لو كان حادثا لأمكن تصور رفعه وهو غير ممكن.
واما جمهور الأوائل فقد ذهبوا الى قدم العالم السماوي والهيولى العنصرية، ونحن نبطل هذه المذاهب فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.
البحث الثاني: في تقسيم المحدثات
المحدث بالنظر الى القسمة العقلية على ثلاثة أقسام: إما أن يكون متحيز، أو حالاّ في المتحيز، أو لا يكون متحيزا ولا حالاّ في المتحيز، لكن المتكلمون أسقطوا هذا الأخير من البين إلاّ شرذمة قليلة منهم غير محققين قالوا بوجود الفناء وإرادة اللّه تعالى وكراهته لا في محلّ، وابن شبيب من المتكلمين قال بوجود البقاء لا في محل.
واستدل الجمهور فقالوا: لو كان هاهنا موجودا كذلك لكان مساويا للّه تعالى في التجرد فيكون مماثلا له تعالى، وإلاّ لكان التجرد معللا بحقيقتين مختلفتين وهو محال، لأن المعلول يحتاج الى العلة المعينة لذاته.
وهذا كلام سخيف، فإن المعلول يفتقر الى علة مطلقة لا الى علة معينة، وتعيين الاحتياج الى هذه العلة إنما جاء من جانب العلة.
أمّا المتحيز فإما أن لا يقبل القسمة وهو الجوهر، أو يقبلها في جهة واحدة وهو الخط، ولا يحصل إلاّ من جوهرين فما زاد أو في جهتين وهو السطح، وأقل ما يكون من أربعة جواهر عند قوم وعند آخرين من ثلاثة، او في ثلاث جهات وهو الجسم، وأقل ما يكون من ثمانية جواهر أو من ستة على الخلاف، وقيل: من أربعة.
وقيل: كل ما يقبل القسمة فهو جسم فجعلوه مركبا من جوهرين.
وأمّا الحالّ في المتحيز فإنه يسمى العرض، فإما أن يكفي في حلوله مجرد المحل ولا يكفي، والأول الأكوان والألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والصوت والاعتماد.وأما الذي لا يكفي فيه مجرد المحل، فإما أن يكفي فيه جزءان فقط وهو التأليف، وإما أن لا يكفي فيه جزءان فإما أن لا يحتاج الى الحياة وهو الحياة، وإما أن يحتاج وهو القدرة والاعتقاد والظن والنظر والإرادة والكراهة والألم واللذة والشهوة والنفرة والادراك.
ولنشرع الآن في ذكر أحكام هذه الاقسام.ولما كان الجسم عبارة عن جواهر مؤلفة عندهم، نظرنا فيه وتركنا الكلام في الجواهر.
البحث الثالث: في الجسم
وأحكامه
وفيه قطبان:
اعلم أن الجسم قابل للقسمة بالفعل، فإما أن ينتهي في القسمة الى حدّ لا يقبل القسمة أو لا، وعلى التقديرين فالاقسام إمّا أن تكون حاصلة بالفعل أول، فهذه أربعة لا مزيد عليها.
أحدها: القول بتركبها من الأجزاء المتناهية بالفعل، وهو قول جمهور المتكلمين وبعض الأوائل.
الثاني: القول بتركبها من أجزاء غير متناهية، وهو قول لبعض الأوائل وللنظام.
الثالث: قبولها للانقسام الغير المتناهي وهو قول جمهور الأوائل.
الرابع: قبولها للانقسام المتناهي وهو قول طائفة وينسب الى الشهرستاني.
والاستدلال للمذهب الأول من وجوه:
الأول: إن الحركة والزمان موجودان، فإما أن يقبلا القسمة حين الوجود وهو محال وإلاّ لكان الماضي من كل منهما هو الحاضر، وإما أن لا يقبلا القسمة فيلزم أن يكون مطابقهما كذلك وإلاّ لانقسما.
الثاني: إذا وضعنا كرة حقيقية على سطح حقيقي، فإما أن يكون المستقر عليه نقطة فإذا تحركت الكرة تلاقت بنقط فهي مركبة منها، وإما أن يكون خطّا او سطحا فيكون مضلعة.
الثالث: النقطة موجودة مشار إليها اتفاقا، ولأنها نهاية موجودة، ولأن بها يحصل الملاقاة، فإن كانت جوهرا فهو المطلوب، وإن كانت عرضا فمحلها إن انقسم انقسمت، لأنها إن حلّت في جميع أجزاء المنقسم لزم تعددها أو انقسامها، وإن حلت في بعضه نقلنا الكلام إليه، وإن لم ينقسم فهو المطلوب.
الرابع: لو قبل الجسم الانقسامات الغير المتناهية لكانت الخردلة مساوية للجبل العظيم في الانقسام.
الخامس: برهان اقليدس دلّ على وجود زاوية حادّة هي أصغر الزوايا فيلزم الجزء.
قال الأوائل: أمّا الأول فغير وارد، لأن الحركة والزمان متصلان ليس لهما اجزاء بالفعل، وانقسامهما إنما هو بالقوة كالجسم، والآن ليس جزأ من الزمان بل هو حدّ مشترك بين الماضي والمستقبل والحدود المشتركة ليست أجزاء من المقادير.
وأما الثاني ، فالجواب عنه: أنّا نمنع وجود سطح حقيقي كرة حقيقية، ولئن سلمنا ذلك لكن لا نسلم تلاقيهما، سلمناه لكن يمنع إمكان حركة الكرة فوق السطح، سلمناه لكنا نقول: إنها في حال الحركة تلاقي السطح بخط، والملاقاة بالنقطة إنما تكون في الآن، والآنات غير متتالية اذ لو تتالت الآنات لاستغني عن هذا التطويل.
وأمّا الثالث، فالجواب عنه: أن النقطة عرض ولا يلزم من انقسام المحل انقسام الحالّ فيه، اللهم الاّ أن يكون عرضا ساريا في أجزاء محله، أما الذي ليس بسار فيه فلا يلزم انقسامه كالإضافات والوحدة.
وعن الرابع: أن الشناعة تتم على تقدير أن يكون مقادير أجزاء الخردلة مساوية لمقادير أجزاء الجبل، امّا مع التفاوت فلا كتضعيف الألف والألفين.
وعن الخامس: أن أقليدس برهن على وجود زاوية حادة هي أصغر من كل زاوية مستقيمة الخطين، ولا يلزم من ذلك أن تكون تلك الزاوية أصغر من الزوايا مطلقا.
قال المتكلمون: اما الجواب الأول ففاسد، لأن الماضي والمستقبل معدومان، فإن لم يوجد في الآن زمان وحركة فلا وجود لهما وإن وجد لزم ما قلنا.
واما الثاني ، فإن إنكار وجود السطح والكرة وحركة الكرة عليه مكابرة.
قوله: الملاقاة بخط، قلنا: الكرة دائما ملاقية للسطح فإن كان حال الملاقاة تلاقي بخط كانت الكرة مضلعة وإن كان بنقطة لزم الجوهر.وفي هذا نظر.
وأمّا الثالث ، فإنا قد دللنا على أن الحال يجب انقسامه لانقسام محله، وقوله:
العرض الساري ينقسم لانقسام محله، قلنا: إن عنيت بالعرض الساري هو الذي يوجد في أجزاء محله أجزائه كان الموضوع والمحمول واحدا، وإن عنيت امرا آخر فبينه، وأما الإضافات والوحدة فنمنع وجودهما.
وأمّا الأوائل فاستدلوا على إبطال تركب الجسم من الجواهر الأفراد لوجوه :
الأوّل: إن الجوهر الواقع في التركيب بين جوهرين إن لاقاهما بالأسر لزم التداخل، وإن كان لا بالأسر لزم الانقسام.
الثاني: إن الخط المركب من ثلاثة أجزاء إذا جعلنا فوق طرفيه جزءين ثم حرّكناهما دفعة تلاقيا عند منتصف الثاني فانقسم الكل.
الثالث: أن بطء الحركات ليس لتخلل السكنات، فالجزء منقسم، أمّا الأوّل فلكون السريع الحركة مثل الفرس الشديد العدو يتحرك في اليوم دون حركات الشمس فلو كان بطؤه لتخلل السكون لوجب أن يكون قدر سكونه بقدر فضل حركة الشمس، لكن الفضل أضعاف حركته فكان يظهر سكونه أضعاف حركته وهو محال.وأما بيان الشرطية فإنا لو فرضنا السريع والبطيء ابتدءا بالحركة معا وقطع السريع جزءا، فالبطيء إن قطع دونه لزم الانقسام وإن ساواه ظهر المحال.
الرابع: الدائرة القريبة من المنطقة إذا تحركت جزءا، فإن سكنت الدائرة القريبة من القطب تفككت الكرة، وإن تحركت أقل من جزء انقسم، وإن ساواها 1تساوى المداران المتفاوتان.
الخامس: اذا تحركت الشمس جزءا فالظل إن تحرك جزءا تساوى طول الظل ومدار الشمس، وان تحرك أقل لزم الانقسام.
السادس: السطح المربع المركب من ستة عشر جزءا إن كان بين أجزاء قطره خلو، فإن وسع للجزء تساوى القطر والضلعان وهو باطل بشكل الحمار 2، وإن كان الأقل انقسم، وان لم يكن خلو تساوى القطر والضلع، وبرهن اقليدس على بطلانه.
السابع: شكل العروس دل على أن مربع وتر القائمة مساو لمربعي الضلعين، فإذا كان كل واحد منهما عشرة فالوتر جذر مائتين وهو منكر.
الثامن: برهن اقليدس على أن كل خط يمكن تنصيفه فالمركب من مفردات يلزم انقسامه.
التاسع: القول بالجزء ينفي الحركة، لأن الجوهر إذا تحرك من جوهر الى آخر فإن وصف بالانتقال حال حصوله في الحيّز الأول كان كاذبا لأنه بعد لم يشرع فيه، وكذلك إن وصف حال حصوله في الثاني لأنه قد انقطع الانتقال.
أجاب المتكلمون عن الأول: بأن الملاقاة ليست ببعض الأجزاء ولا بجميعها، بل بأعراض حالّة فيها كما هو عندكم في الأجسام المتلاقية بالسطوح.
وعن الثاني: المنع من حركتهما، لأن الحركة تتوقف على المكان والجزء الواحد لا يصح أن يكون مكانا لهما.
وعن الثالث: أن السكون ليس بمحسوس، لأنه عدم الحركة، وهذا لا يتمشى على قواعدهم فإنهم يذهبون الى وجود السكون.وأيضا لو كان السكون عدميا لما ضرّ، لأن السكون وإن لم يكن محسوسا لكن نسبة الجسم الى الخارج عنه بالمحاذاة الثابتة فيكون محسوسا فيعلم سكونه.
وعن الرابع: الالتزام بالتفكيك، والاستبعاد لا يلتفت إليه.
وعن الخامس: بسكون الظل في بعض أزمنة حركة الشمس، ولأن حركة الظل ليس سببها الشمس بل الفاعل المختار.
وعن السادس والسابع والثامن: أنها مبنية على وجود الدائرة، وهو انما يتم بعد إبطال الجزء، فلو استدللتم على إبطاله بثبوتها لزمكم الدور.
وعن التاسع: أن الحركة هي الحصول في الحيز الثاني.
واعلم أن هذه الأجوبة بعضها مدخول.
واستدل الفريقان على إبطال مذهب النظام: بأن المسافة المتناهية المقدار لا يمكن قطعها الاّ بعد قطع أنصافها وأنصاف أنصافها الى غير النهاية، فلا يمكن قطعها الاّ في زمان غير متناه، ولأن البطيء إذا ابتدأ بالحركة قبل السريع يجب أن لا يلقاه السريع، ولأن المقدار يزيد بزيادة الأجزاء فالمقدار المؤلف من غير المتناهي يجب أن يكون غير متناه.
قال الشيخ: إن الكثرة سواء كانت متناهية أو غير متناهية فإن فيها
آحادا موجودة، فلنأخذ منها قدرا من الآحاد ونؤلفها، فإما أن يتزايد الحجم على الواحد أولا، والثاني باطل وإلاّ لما كانت المقادير مؤلفة منها، والأول يوجب وجود جسم متناه في الأجزاء، فبطلت كليتهم المحصورة وتكون نسبة هذا الجسم الى المؤلف من غير متناه نسبة متناه الى متناه لكنها هي بعينها نسبة الأجزاء الى الأجزاء، فنسبة المتناهي الى المتناهي نسبة المتناهي الى غير المتناهي هذا خلف، فإذن لا شيء من الأجزاء المتناهية الأقدار غير متناهية الأجزاء.
والنظام أجاب عن الأولين: بالطفرة، وهي غير معقولة مع عدم القطع ومعه لا تقع .
وعن الثالث: بالتداخل، وهو باطل لما سيأتي.
واستدل النظام على إثبات الطفرة بوجوه:
أحدها: أنا نفرض بئرا طولها مائة ذراع وفي نصفها خشبة وفي الخشبة حبل مشدود وطوله خمسون ذراعا الى أسفل البئر وفي طرف الحبل الأسفل دلو، ثم
أخذنا حبلا آخر خمسون ذراعا وشددنا فيه حلقة وجعلناها في طرف الحبل الذي في الخشبة ثم جذبنا الدلو فإنه يصعد الحبل خمسين ذراعا ويصعد الدلو مائة ذراع.
الثاني: نفرض بيتا طوله ألف فرسخ وفتحنا فيه فتحة مقابلة للشمس، فإنه حين تطلع الشمس يقطع شعاعها مسافة البيت ومحال قطع هذه المسافة الطويلة في الزمان اليسير.
الثالث: أن الشمس وقت طلوعها يبلغ ضوئها الى أقصى نصف كرة الارض.
أجاب المتكلمون عن الأول فقالوا: انها كان كذلك، لأن حركة الحبل الأعلى نصف حركة الدلو والاّ فبالنسبة الى الحبل الأسفل، فإنه لم يقع الاّ مائة ذراع، لأن الحبل الأسفل كان من نصف البئر الى أسفلها فانقلب بحركة الحبل الاعلى فصار من نصفها الى أعلاها ومن نصفها الى اسفلها خمسون والى أعلاها خمسون، فإذا انقلب الحبل من أسفلها الى أعلاها والدلو فيه فقد مرت الدلو بجميع البئر، وليس ذلك لأجل الطفرة، لأنا لو فرضنا في الدلو آلة محددة وجردناه على جذع فإنه يظهر أثر ذلك المحدد في جميع الجذع، ولو كان للطفرة لظهرت العلائم في موضع دون موضع.
وأجابوا عن الثاني: بأن البيت فيه أجزاء مضيئة قليلة الضوء، فإذا دخل الضوء من الفتحة ظهرت الأجزاء.
وأجابوا عن الثالث: بأن الضوء ينبسط على الأرض من طلوع الفجر على التدريج، فاذا طلعت الشمس من الأفق اتصل ضوئها بذلك الضوء فلذلك يصل الى أقصى الأرض، وهذان سخيفان .
والجواب الحق: إن الضوء يحدث في البيت حال مقابلة فتحة للشمس دفعة واحدة من غير أن يسري فيه شعاع، وهؤلاء إنما أقدموا على هذا الجهل بسبب ظنّهم أن الشعاع جسم، ونحن سنتحقق خطأهم في هذا.
وذهب ذيمقراطيس وأتباعه الى أن الأجسام المنقسمة بالفعل متكثرة بالفعل وينتهي الى أجسام صغار تقبل الانقسام الوهمي دون الانفكاكي، وذلك لأنّه لمّا رأى حجة المتكلمين على تركيبها من المتناهية اعترف بها، ورأى حجة الاوائل على قبولها للانقسام الغير المتناهي اذعن لها، ظانّا انه قد اصاب التحقيق، وبئس ما ظنّ خصوصا وعنده أن الأجزاء متفقة في الحقيقة متخالفة في الأشكال، فاذن يلزمها لازم متفق وهو إما الانقسام الانفكاكي أو عدمه، والثاني فاسد والاّ لما انقسمت فإذن الأول حق.
وذهب الأوائل الى أن الجسم لفظ مشترك بين معنيين: أحدهما الكم المتصل القار الذات المنقسم في الجهات الثلاث وهو الجسم التعليمي وهو عرض.
الثاني: الجسم الطبيعي وهو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة اعني الطول والعرض والعمق وهو محل للأول، ويعنون الجوهر غير ما يعني به المتكلمون وسيأتي بيان مرادهم منه، وهذا عندهم مركب من الهيولى وهي الجوهر القابل ومن الصورة وهي الجوهر المتصل بذاته.
واستدل عليه الشيخ في إلهيات الشفاء بوجهين:
أحدهما: ان الجسم قد ثبت إنه متصل ويعرض له الانفصال، والمتصل لا يقبل الانفصال والاّ لكان الشيء قابلا لعدمه، فلا بد من شيء قابل للاتصال والانفصال وهو الهيولى.
الثاني: ان الجسم من حيث هو متصل هو بالفعل ومن حيث هو مستعد أيّ استعداد كان فهو بالقوة، فالذي له الفعل غير الذي له القوة أعني الهيولى.
وهذان ضعيفان، امّا الأول فلأنه ينبني على اتصال الجسم والمتكلمون قد بينوا أنه مركب من الأجزاء، وأيضا فهو مبني على ثبوت الإمكان، وأيضا فانه ينبني على كون الاتصال أمرا مقوما للجسم غير عارض له.
وأما الثاني: فلأنه ينبني على أن المتصف بالقوة والفعل متغاير، وهو حق لو كان القوة لشيء والفعل لذلك الشيء، أما إذا كان الشيء متصفا بالقوة بأمر ومتصفا بالفعل بأمر آخر لم يلزم منه إحالة، وأيضا فانه يرد على الهيولى.
تذنيب : قالوا: فالمادة لا يجوز أن تفارق الصورة، واستدل عليه في إلهيات الشفاء بوجهين:
أحدهما: أن الهيولى لو فرضت خالية عن الصورة فإما أن يكون ذات وضع أو لا يكون، والأول باطل وإلاّ لافتقرت الى هيولى أخرى وتسلسل، والثاني باطل لأنها عند الاقتران صارت ذات وضع فلا بد لها من محل يكون أولى بها من غيره، فالأولوية إن حصلت قبل المقارنة فهي وضعية أو بعدها لم يجب تخصصها بجزء دون آخر، والكائن إنما تخصص بسبب وضع سابق وهاهنا فرضناها مجردة.
الثاني: إن الهيولى إن كان وجودها وجود قابل حسب وجب وجود المقبول دائما معها والاّ لاختلف القبول، وإن كان لها وجود خاص فلا يكون هي الهيولى.
وهذان ضعيفان، أما الأول فلأنه جاز أن يكون مع عدم المقارنة أولى ببعض الأحياز عند اتصافها بالصورة وتكون تلك الأولوية حاصلة بسبب أمور عارضة لها، سلمنا أنها لا تكون أولى فلم لا تحصل في الحيز باختيار الفاعل، سلمنا لكن يجوز أن تحصل الأولوية بعد الاقتران.قوله: إنها لا يتخصص بجزء دون آخر إذ لا وضع، قلنا: لا نسلم عدم التخصص وما يدريك بانحصار التخصص في الوضع، سلمنا لكن هذا يدل على امتناع اقتران المجردة بالصورة أما على امتناع مجردة غير مقترنة فلا.
وأمّا الثاني فلأنا نقول: قبول الهيولى لشيء لا يستلزم وجود المقبول دائم، فإنه لو قيل بعكس هذا في العنصريات على قولك لكان أحق.
تذنيب: وعكسوا هذا الحكم أيضا كليا وذلك لأن الصورة دائما قابلة للانقسام فدائما لها الهيولى، ولأن الصورة لا توجد الاّ متناهية مشكّلة ويستحيل ان يعرض لها لذاتها والاّ لاتفقت الأجسام في الشكل، وكذلك إن جعل بالفاعل لأنه متساوي النسبة الى الكل فلا بد من مشاركة المادة، وأنت خبير
بضعف هذين البرهانين.
تذنيب : وإذا ثبت تلازمهما فلا بد من عليّة منهما أو مستفادة من خارج على وجه يقتضي تعلق إحداهما بالأخرى، وهذا حق، فالعلة لا تجوز أن تكون هي الهيولى لأنها قابلة ولأنها مشتركة في العنصريات، فإن كانت هي الصورة فلا تكون مطلقة بل إن كانت فشريكة، لأن المطلق يعدم المعلول بعدمه فيجب أن يكون للهيولى هيولى هذا خلف.
تذنيب : الصورة الجسمية لا تكفي في تقويم المادة بل لا بد من صورة أخرى نوعية، لأن الأجسام لا يخلو إما أن تكون قابلة للتشكل إما بعسر وإما بسهولة وإما أن لا تكون قابلة له، فالاختلاف في هذه المعاني لا يعود الى الهيولى القابلة ولا الى الصورة المشتركة ولا الى الفاعل المتحد، فلا بد من أمر آخر هو صورة يختلف نوعيات الأجسام بها، ولأنها مختلفة في استحقاق الأمكنة فهي مختلفة في المقتضيات.
تذكير : ولما انساق الكلام الى هاهنا فخليق بنا أن نجدد عهدا بذكر براهين لقواعد سلفت لهم نافعة فيما مضى وسيأتي وذكر شكوك وحلّها.
قاعدة: الهيولى مشتركة في العنصريات، برهانه أن الأجسام العنصرية يتكوّن بعضها عن بعض، اعتبر النار المنفصلة عن الشعلة والقماقم المحماة
بالنار المنشقة، ومن أنكر الكون والفساد فغالط لأنه منكر للمحسوسات.
قاعدة : الفاعل لا يكون قابلا وهذا وإن كان خليقا أن يذكر فيما بعد لكن لما انبنى عليه ما قبله وما بعده اخترنا ذكره هاهنا.برهانه: إن الفاعل من حيث إن الفعل صادر عنه واجب عنه ومن حيث إن الفعل مقبول له ممكن والشيء الواحد حقّا لا يكون نسبته الى الشيء الواحد نسبتي إمكان ووجوب فهما لمختلفين.
وهذا فاسد، لأن الإمكان إنما هو للفاعل من حيث إنه قابل والوجوب له من حيث إنه فاعل وهو من حيث هو هو واحد، فالحاصل إن تكثّر الحيثيات لا يقتضي تكثّر الأجزاء.
فإن قلت: ينتظم قياس من الشكل الثاني هكذا: الفاعل من حيث إنه فاعل يجب له الأثر والقابل من حيث إنه قابل لا يجب له الأثر، ينتج: فالفاعل من حيث إنه فاعل مغاير للقابل من حيث انه قابل.
قلت: النتيجة حقة وليست محصلة للمطلوب، لأن المطلوب هو أن ماهية الفاعل من حيث هي غير ماهية القابل، فإن كان المطلوب أن الفاعل من حيث إنه فاعل غير القابل من حيث إنه قابل، سلمنا ولا يتمشى لكم مباحث بنيتموها على هذه القاعدة.
شك، قيل: الصورة لا تكون علة للهيولى ، لأنها حالّة فيها والحالّ محتاج.
جواب: إن الصورة علة للهيولى وعلة للحلول بعد وجود الهيولى من غير
احتياج في قوامها إليها، وأيضا الحالّ هو المتشخص والعلة هي المطلقة فلا دور.
آخر، قيل: التلازم لا يقتضي العلية كالمضافين.
جوابه: إنه لو لا علية أحدهما للآخر لأمكن فرض كل واحد منهما مع عدم الآخر، فلا تلازم المضافان بينهما علية ولا دور إذ كل واحد يفتقر الى ما لا يفتقر إليه الآخر، وفي الأخير نظر.
آخر، قيل: الصورة تعدم والهيولى باقية فلا تكون علة.
جوابه: إن المعدوم ليس بعلة وما هو علة لا يعدم، اذ المعدوم الصورة الشخصية والعلة الصورة الكلية وهي باقية.
تتمة : ذهب ابو البركات البغدادي الى أن الجسم واحد في نفس الأمر ليس بمركب من الأجزاء ولا من الهيولى والصورة، ونقل هذا المذهب عن الأوائل وقال: إنهم يعنون بالهيولى الجسم من حيث هو ويعنون بالصورة الصورة النوعية أعني النارية والمائية وغير ذلك، والى هذا المذهب ذهب صاحب المطارحات .
وذهب النظام والنجار وضرار الى أن الجسم مركب من أعراض هي اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وهو في غاية السخافة،
فإن الأعراض تفتقر الى المحل الذي هو الجسم والجسم يفتقر الى أجزائه، فلو كانت هذه الأعراض هي أجزاء الجسم لزم تقدم الشيء على نفسه بمرتبتين.
وأيضا الأجسام متساوية في الجسمية ومتباينة بهذه الأعراض، وهؤلاء لما وجدوا الجسم لا ينفك عن هذه الأعراض جعلوه عبارة عنها، فالغلط نشأ لهم من أخذ لازم الشيء مكان ذلك الشيء، فهذه المذاهب خلاصة ما قرأناه من زبر الأولين.
القطب الثاني: في أحكام الأجسام
وفيه مسائل:
مسألة : اختلف الناس في حدوث الأجسام، فذهب أرباب الملل الى حدوثها، وذهب أرسطو وثامسطيوس وأبو نصر وأبو علي وأتباعهم الى أن الأجسام السماوية قديمة وان هيولى الأجسام العنصرية قديمة أيضا ، واما صورها الجسمية والنوعية، فحادثة وكذلك الأعراض التابعة لها.
وذهب أنكساغورس وفيثاغورس وسقراط وجميع الثنوية وغيرهم الى أن مادة العالم قديمة، ثم قال بعضهم: تلك المادة جسم اذا جمد صار أرضا وإذا لطف صار هواء، وزعم بعضهم أن ذلك الجسم هواء، وآخرون أنه النار.
وأنكساغورس قال: انه الخليط وهو أجسام صغار غير متناهية من كل نوع من الأنواع عدد من تلك الأجزاء غير متناه اذا اجتمع من أجزاء نوع من الأنواع منها أجزاء ظهرت للحس وذيمقراطيس قال: إن أصل العالم أجزاء كثيرة كرية الشكل لا ينقسم فكّا وينقسم وهما وهي متحركة لذاتها فاتفقت في بعض حركاتها أن تصادمت فحصل منها هذا العالم.
والثنوية قالوا: أصل العالم هو النور والظلمة .وفيثاغورس قال: مبادي العالم هي الأعداد المتولدة عن الوحدات والوحدة قائمة بنفسها، فإذا عرض للوحدة وضع صارت نقطة ومن اجتماع نقطتين يتولد الخط، والسطح من اجتماع خطين والجسم من اجتماع سطحين .
لنا على الحدوث وجهان:
الأول: أنها لو كانت أزلية لكانت إما متحركة وإما ساكنة، والقسمان باطلان فالمقدم باطل، أما بيان أنها ليست متحركة فلوجوه:
الأول: أن الحركة ماهيتها المسبوقية بالغير وهو ينافي الأزلي.
الثاني: أن الحركات كل واحدة منها حادث قد تقدمه عدم فمجموع عدماتها سابق على وجوداتها، فإن حصل معها في الأزل حركة لزم استواء السابق والمسبوق هذا خلف، وان لم يحصل كانت حادثة.
الثالث: إن حركة ما من الحركات إن كانت أزلية وكانت غير مسبوقة، فهي أوّل الحركات فانتهت، وإن كانت مسبوقة كان الأزلي مسبوقا، وإن لم يكن شيء من الحركات أزليا فالمجموع حادث وهو المطلوب.
الرابع: لو كانت الحركات غير متناهية كان اليوم موقوفا على انقضاء ما لا يتناهى.
الخامس: نفرض من اليوم الى الأزل جملة ومن خلق آدم الى الأزل أخرى ونطبق، فإما أن يتساويا فيكون المتفاوت متساويا وهو محال، وإما ان يختلفا في الجانب الأزلي فالكل حادث.
واما بيان أنها ليست ساكنة، فلأنها لو كانت ساكنة لزم أن لا يتحرك والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: إن السكون حينئذ أزلي فلا يعدم لما بينا أن الأزلي يستحيل عدمه، وأما بيان بطلان التالي فلأن الحس دال عليه[والخصم يساعد عليه] .
أيضا فإن الأجسام البسيطة موجودة والوضع بمعنى المقولة لها غير واجب فيمكن زواله فصحت الحركة، ولأن معنى السكون هو اللبث أكثر من زمان واحد فماهيته يقتضي تقدم شيء من الزمان عليه والأزلي لا يتقدمه زمان، وإذا ثبت أن الأجسام لا تخلو من الحركة والسكون ومعهما يستحيل أن يكون أزلية، فهي حادثة.
فإن قيل : هذه المنفصلة ينبني على وجود المكان وهو ممنوع، سلمنا
ثبوت المكان لكن نمنع الحصر، بيانه إن الجسم في أوّل زمان وجوده غير متحرك وغير ساكن سلمنا لكن نمنع استحالة وجود الحركة في الأزل. قوله في الأوّل:
الحركة معناها المسبوقية والأزل ينافيها، قلنا: هذا الكلام مبني على تفسيركم الحركة بما ادعيتموه والخصم لا يساعدكم على هذا.
قوله في الوجه الثاني: مجموع العدمات سابق على الحركات، قلنا: العدم نفي محض فلا يصح وصفه بالسبق، سلمنا لكن تدعون أن مجموع العدمات سابق على مجموع الوجودات أو على نوع الوجودات أو على كل واحد واحد، والأول والثاني ممنوعان والثالث مسلم، ولكن لم قلتم إنه إذا كان سابقا على كل واحد كان سابقا على المجموع؟ثم ما تريدون بهذا السبق؟إن أردتم السبق الزماني افتقر الى ثبوت زمان، وإن أردتم غيره لم ينفعكم.
قوله في الوجه الثالث: إن كانت حركة ما أزلية انتهت الحركات وإن لم يكن شيء من الحركات أزليا فالكل حادث، قلنا: تعنون بقولكم إن لم يكن شيء من الحركات أزليا كان الكل حادثا، السلب الكلي او السلب عن الكل، فإن عنيتم الأول التزمناه ولكن الملازمة ممنوعة، وإن عنيتم الثاني لم تكن الملازمة ثابتة لأنه لا يلزم من عدم كون شيء ما من الحركات أزليا أن يكون الكل حادثا.
قوله في الوجه الرابع: اليوم موقوف على انقضاء ما لا نهاية له، قلنا: هذا يفهم منه معنيان:
أحدهما: إن اليوم والحوادث كلها معدومة في وقت، ثم إن اليوم في ذلك الوقت يحكم عليه بامتناع الوجود الاّ بعد انقضاء الحوادث.
والثاني: إن اليوم لا يوجد حتى يوجد أمور متتالية لا يتناهى في المبدأ، فإن عنيتم الأول سلمنا استحالته لكن لا نسلم ان الحوادث لو كانت غير متناهية لتوقف وجود اليوم على انقضائها بذلك المعنى.
وإن عنيتم الثاني سلمنا لزومه ومنعنا استحالته فانه هو المتنازع.
قوله في الخامس: نفرض جملتين إحداهما أنقص من الأخرى ونطبق فيتناهى، قلنا: التطبيق إنما يفرض في أمور محصله مرتبة ترتيبا عقليا أو وضعي، أما المعدومات فلا يصح فرض التطبيق فيها، سلمنا صحة الدلائل على استحالة وجود الحركة في الأزل لكن معنا ما يعارضه، وهو أن الحركة لو كانت ممتنعة في الأزل لكان امتناعها إما أن يكون لذاتها فكان يجب أن لا يوجد هذا خلف، وإما أن يكون لغيرها فإن كان واجب الوجود استحال وجودها أيضا، وان كان ممكن الوجود انتهى الى واجب الوجود او تسلسل وهو محال سلمنا انها ليست متحركة، فلم لا تكون ساكنة؟ قوله: لو كانت ساكنة لما تحركت لأن القديم لا يجوز عدمه، قلنا: انتم محتاجون الى بيان مقدمة هي أن السكون وجودي حتى يتم هذا الاستدلال، والأوائل منعوا من وجوده، سلمنا إنه وجودي لكن يجوز أن يكون وجوده مشروطا بشرط عدمي ازلي فإذا زال ذلك العدمي زال، سلمنا لكن لا نسلم جواز عدم السكون.
قوله: الحس والتسليم يدلان عليه، قلنا: الحس لا يدل على الحكم الكلي، فإنه يجوز وجود جسم غير محسوس وهو ساكن، فلا تتم كليتكم المحصورة.
فالجواب: قوله: وجود المكان ممنوع، قلنا: كل عاقل يحكم بأن كل جسم فإنه يشار إليه إشارة وضعية وتحقيق ماهية المكان سيأتي.
قوله: الجسم في أوّل حدوثه غير متحرك ولا ساكن، قلنا: ذلك لا يضرنا
ولأنا نردد في الجسم الباقي.
قوله على الأول: هذا بناء منكم على تفسير الحركة، قلنا: هذا صحيح ونحن ندعي أن الحركة بهذا التفسير يمتنع خلو الجسم عنها وعن السكون.
قوله: على الثاني: إن العدم نفي محض لا يصح وصفه بالسبق، قلنا: لا نسلم إنه إذا كان نفيا استحال وصفه بالسبق فإنا نعلم قطعا أن المحدث قد سبقه عدمه.
قوله: تدعون السبق على كل واحد او على المجموع، قلنا: على المجموع لكونه حاصلا على كل واحد، فإنّ كل واحد من الحركات إذا كان مسبوقا بالعدم فالمجموع كذلك لاستحالة وجود الكل بدون الأجزاء، والنوع أيضا كذلك لاستحالة وجوده الاّ مع شخص ما فلو وجد النوع أزلا لوجد شخص ما أزلا.
قوله: إن أردتم السبق الزماني افتقر الى ثبوت الزمان، قلنا: نعني به السبق الذي يكون كسبق بعض أجزاء الزمان على بعض.
قوله على الثالث: إن عنيتم السلب الكلي منعنا الملازمة، قلنا: الملازمة حقة لأن الحدوث إذا صدق على كل واحد صدق على المجموع.
قوله على الرابع: توقف اليوم على انقضاء الحوادث يفهم منه معنيان، قلنا:
نعني الثاني واستحالته قطعية.
قوله: التطبيق إنما يكون مع الحصول والترتيب، قلنا: الترتيب حاصل فان الزمان كمّ ذو أجزاء مرتبة، وأيضا كل حادث سابق علة معدة للاحق، والحصول ممنوع اشتراطه في التطبيق فإن التطبيق أمر يعتبره العقل، والجواب عن المعارضة أن الحركة تقتضي امتناع وجودها أزلا لاعتبار الأزلية.
قوله: تفتقرون الى بيان وجود السكون، قلنا: سيأتي.
قوله: يجوز اشتراطه بعدمي أزلي، قلنا: العدمي لا يكون جزءا من العلة.
قوله: الحس لا يعطي الحكم الكلي، قلنا: هذا حق، والأولى عندنا الاعتماد على البرهان المذكور.
الوجه الثاني أن نقول: العالم ممكن وكل ممكن محدث فالعالم محدث، والصغرى سيأتي في باب الوحدانية، وبيان الكبرى أن المؤثر إما أن يؤثر حال البقاء وهو محال وإلاّ لكان تحصيلا للحاصل، أو حال العدم أو الحدوث، وكيف كان حصل المطلوب، والقسم الأول من المنفصلة مشكل.
واحتج القائلون بالقدم بوجوه:
أقواها: أن كل ما يتوقف عليه الإيجاد إن كان أزليا كان العالم أزليا، والاّ لكان حدوثه في وقت دون آخر إن توقف على أمر كان ما فرضناه أزليا ليس بأزلي، وإن كان لا لأمر ترجّح الممكن لا لمرجح، وإن كان حادثا تسلسل.
الثاني: لو كان العالم حادثا لتقدم الباري تعالى عليه، فإما أن يتقدم عليه بأوقات متناهية فيكون الباري تعالى حادثا، أو بأوقات غير متناهية فيلزم قدم الزمان وتوقف العالم على ما لا يتناهى، وكل هذا حظرتموه.
الثالث: الزمان قديم فالعالم قديم، بيان الأول إنه لو كان حادثا لكان حدوثه بعد عدمه بعدية زمانية فيكون الزمان موجودا قبل وجوده هذا خلف وبيان الشرطية إن الزمان مقدار الحركة على ما يأتي والحركة عرض تفتقر الى الجسم فيكون الجسم قديما.
الرابع: المادة قديمة فالعالم قديم، بيان الأول: إن كل ممكن على الإطلاق فإمكانه زائد على ذاته إذ هو نسبة لوجوده إليه وهو عرض لأن النسب أعراض
فيحتاج الى المحل ومحله لا يكون هو الحادث لأنه ممكن قبل وجوده، فمحله هو الهيولى فلو كانت الهيولى حادثة لافتقرت الى هيولى أخرى وتسلسل، وبيان الشرطية: إن الهيولى لا يقوم بغير صورة على ما بيناه ومجموع الهيولى والصورة هو الجسم فالجسم قديم.
الخامس: العالم حدث عن ذاته تعالى من غير شرط والاّ لزم الافتقار وذاته أزلية فالعالم كذلك.
السادس: وجود العالم جود، فلو كان حادثا لكان اللّه تعالى تاركا للجود.
السابع: العالم صحيح الوجود في الأزل وإلاّ لزم انقلاب الحقائق، واذا كان كذلك كان واجب الوجود في الأزل، لأنه لو كان حادثا لاستحال أن يكون أزليا وقد فرضنا صحة أزليته هذا خلف.
والجواب عن الأول من وجوه:
احدها: أن نختار الأول، قوله: يلزم إيجاد العالم في الأزل، قلنا: لا نسلم فإن هذا في حق الموجب أمّا المختار فلا فلأن 1المختار يخصص أحد الأمرين لا لأمر، اعتبر بالعطشان والجائع والهارب من السبع، هذا جواب البصريين.
الثاني: إن العالم محال في الأزل فلهذا يخلف وجوده عن وجود اللّه تعالى.
الثالث: إن القبلية والبعدية لا يعقل الاّ مع وجود العالم، فإذا كان معدوما استحال أن يقال: لم خصص إيجاده بوقت دون وقت؟ الرابع: إن علة تخصيص ايجاد العالم بوقت دون آخر هو ارادته تعالى او مصلحة العالم.
الخامس: المعارضة بالحوادث اليومية، فإن هذه الشبهة واردة فيه مع أنه حادث قطعا.
والجواب عن الثاني: إن التقدم لا يشترط فيه الزمان على ما بينا ويجوز أن يكون تقدمه عليه بأوقات تقديرية لا وجودية، وهو الجواب عن الثالث.
وعن الرابع: ما أسلفناه من كون الامكان أمرا ذهنيا لا يستدعي المحل.
وعن الخامس: إن الافتقار ممنوع ولا يلزم من توقف وجود العالم على شرط افتقار المؤثر، ولو سلم أن الحدوث للذات لكن لا نسلم المقارنة لأنه مختار.
وعن السادس: إن العالم إذا كان مستحيل الوجود في الأزل استحال أن يقال: إنه تعالى تارك للجود.
وعن السابع: إن العالم إن نظر الى ماهيته حكم عليه بالصحة دائما ولا يلزم من الصحة الوجوب.
قوله: لو كان حادثا استحال أن يكون أزليا، قلنا: هذه الاستحالة جازت من قبل اعتبار الحدوث منضما الى الماهية، وإن نظر الى الماهية بقيد الحدوث استحال أن يكون أزليا ولا يلزم انقلاب الحقائق.
مسألة : الأجسام متماثلة عند الجمهور من المتكلمين ، لاشتباه بعضها ببعض حسا عند التماثل في الأعراض.
ولأنها يتساوى في قبوله الأعراض، وهذا حكم مشترك لا بد له من علة مشتركة وهي الجسمية.
ولأن معنى الجسم هو الحاصل في الحيز والأجسام مشتركة في هذا المعنى.
ولأن الجسم يخالف العرض فلا بد للمخالفة من صفة، وهي إما كونه جسما أو متحيزا أو صفة تتعلق بمعنى أو بالفاعل، والكل باطل الاّ الأولين، أما الصفة
المتعلقة بالمعنى فلأنها متجددة والتخالف ليس بمتجدد فلا يكون علة له، وأما الفاعل فلأنه لا يؤثر الاّ الوجود وهو متماثل.
والكل ضعيف، أما الأول فلأن الأشياء المختلفة في الحقيقة قد يتشابه في الحس وبالعكس، وأما الثاني فلا نسلم اشتراك الأجسام في قبول الأعراض، سلمنا لكن الحق عندنا أن الأمور المتماثلة قد تعلل لمختلفات.
واما الثالث فهو خطأ اخذوا فيه لازم الشيء وجعلوه نفس ذلك الشيء.
وأما الرابع فلأن كل جسم يخالف العرض بحقيقته المعيّنة، فإن رجعوا إلى غلطهم الأول من أن المتساوي لا يعلل بالمختلف رجعنا نحن الى المنع، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يقع الاختلاف بالفاعل؟وحصرهم آثار الفاعل في الوجود ممنوع.
وذهب النظام الى أنها مختلفة والاّ لكان كل منها قابلا لما يقبله الآخر، فتكون النار قابلة للبرودة وهي حارة هذا خلف.
والجواب: أن النار تقبل البرودة حال كونها حارة ولا استحالة في ذلك إنما المحال اتصافها بهما.
وأما الأوائل فإنهم ذهبوا إلى أن الأجسام مشتركة في الجسمية وهي متماثلة فيها، ثم إنها بعد ذلك تختلف بصور أخرى طبيعية، وأما المواد فإنها مشتركة في العناصر ومختلفة في الأفلاك، قالوا: لأن حد الجسمية شامل للكل فيجب استواء الكل فيها.
مسألة: لا شك في صحة بقاء الأجسام، ونقل عن النظام خلاف ذلك، وتأول المتأخرون له ذلك باحتياجها حال البقاء الى الفاعل فظن الناقل إنه يقول:
إنه يجددها حالا فحالا .
والدليل لنا في ذلك: إنها ممكنة الوجود في الزمان الأول واستمر على ذلك والاّ لزم انقلاب الحقائق، ولو رجع في هذا المطلب الى دعوى الضرورة كما رجع إليه الاوائل كان أولى.
مسألة : التداخل محال، فإن بعدين اذا اجتمعا حكم صريح العقل بأن مجموعهما أزيد من أحدهما، وجماهير المتكلمين اعتمدوا في ذلك على أنها متماثلة فلو تداخلت لم يقع بينهما الامتياز الذاتي والعارضي فيفضي الى الاتحاد، ونقل عن النظام إنه جوز التداخل وكذلك نقل عن بعض الاوائل.
مسألة : الأجسام مرئية ، وقد سلم الأوائل ذلك غير أنهم قالوا: إن المرئي بالذات هو اللون والضوء وما عداهما فهو مرئي بسببهما، ولا حاجه في هذا المقام الى الاستدلال.
واحتج المتكلمون: بأنا نرى الطويل العريض العميق وهو عبارة عن الجسم، فإن الطول لو حل في جزء واحد لزم انقسامه وإن كان في أكثر لزم قيام العرض بمحلين.
مسألة : الأجسام متناهية، وخالف فيه بعض الأوائل ومحققوهم، استدلوا بساق المثلث إذا امتد الى غير النهاية، فإن البعد بينهما لا يتناهى، فيكون محصورا بين حاصرين، ونفرض خطين أحدهما لا يتناهى والآخر يتناهى، زال المتناهي من الموازاة الى المسامتة فحدثت نقطة المسامتة هي أوّل النقطة ولا أوّل لأن كل مسامتة تحتانية مسبوقة بأخرى فوقانية، ولا يتمشى هذا البرهان الاّ بعدم الجوهر وثبوته .
ومن استدلالاتهم برهان التطبيق، وهو فرض خط يتناهى من جهة دون أخرى قد قطع من الجانب المتناهي منه قطعة ثم فرض انطباق الأول من الخط الكامل على الأول من الناقص، فإن امتدا متساويين تساوى وجود الزائد وعدمه، وإن تفاوتا تناهيا.
وصاحب المعتبر لبلادته تحيّر في التطبيق فقال: كيف يمكن التطبيق مع انه يستحيل جزء الغير المتناهي الناقص بحيث يحاذي طرفه طرف الكامل.
احتج المخالف بأن خارج العالم يتميز فيه جانب عن جانب، فإنّ الذي يلي القطب الشمالي يغاير الذي يلي القطب الجنوبي والعدم المحض لا امتياز فيه.
وأيضا لو فرضنا هذا العالم أكثر مما هو عليه وجب أن يكون ثم من الاحياز أكثر مما هي الآن، وكذلك لو فرضنا العالم أكثر من هذا المفروض بذراع كانت
الأحياز أكثر بذراع فثم أحياز متقدرة فهي كمّ، وأيضا الجسم حقيقة كلية لا يمنع نفس تصورها من الشركة الغير المتناهية 1فدخول ما لا نهاية له من الأجسام ممكن.
والجواب عن الأول والثاني: أنها مجرد أوهام كاذبة.
وعن الثالث: أن الشركة وإن احتملتها ماهية الجسم لكن الامتناع منها حصل من خارج المفهوم.
مسألة : ذهب جمهور الأشاعرة الى امتناع خلو الأجسام عن الألوان والطعوم والروائح، والحق خلاف هذا فإن الهواء لا لون له وإلاّ لرأيناه ولا طعم ولا رائحة والاّ لأدركناه كذلك.
والأشاعرة لمّا جوزوا عدم الرؤية عند اجتماع الشرائط لم يلزمهم هذ، فنحن نحتاج أن نطعن في أصلهم هذا حتى يتم استدلالنا، وسيأتي إبطال أصلهم.
احتجوا بأن الجسم قابل للألوان فيجب اتصافه بها او بضدها ويقاس اللون على الكون ويقاس ما قبل الاتصاف على ما بعده.
والجواب عن الأول: الطعن في كلية قولهم: الجسم قابل للألوان، سلمنا لكن قولهم: يجب الاتصاف بالقبول او بضده، ممنوع.
وعن الثاني: المطالبة بالجامع، وكذلك عن الثالث والمنع في الأصل.
مسألة : كل جسم منتقل فإنا نشاهد انتقاله ونعلم بالضرورة أنه ينتقل من جهة الى جهة ومن مكان إلى مكان، فالمنتقل إليه وعنه يطلق عليه الجمهور المكان والحيز، فمكان الشيء هو الذي يكون فيه الشيء ويفارقه بالحركة ويستقر عليه، فيجعلون الأرض مكانا للمستقر عليه.
والمتكلمون قالوا: هو الفضاء والبعد وهو عدم محض ونفي صرف، وجماعة من الأوائل نفوا وجود المكان، وآخرون منهم حكموا بوجوده.
احتج النفاة بأنه لو كان موجودا، لكان إما أن يكون جوهرا أو عرضا، فإن كان جوهرا، فإن كان متحيزا لزم التداخل وعدم تناهي الأمكنة أو الدور إن كان كل من المتحيزين مكانا لصاحبه فإن الحاجة حينئذ دائرة بينهما، وإن كان مفارقا استحال ان يوصف الجسم بالانتقال عنه وإليه فإن المجرد ليس بذي وضع حتى يحصل له القرب من الأجسام والبعد عنها.
وان كان عرضا لزم الدور، فإن المكان حينئذ يفتقر الى المتمكن والمتمكن يفتقر الى المكان، ولأن العرض ينتقل بانتقال محله والمكان لا ينتقل بانتقال المتمكن.
وأيضا المكان إن كان جسما لزم التداخل، وإن كان غير جسم استحال مساواته للجسم، وهو خلاف ما عليه المثبتون للمكان.
وأيضا الانتقال كما يكون للجسم فكذلك للخط والسطح والنقطة، فإن كان الانتقال هو الموجب لوجود المكان وجب أن يكون لهذه الأعراض مكان، ومكان النقطة نقطة فلم كانت إحدى النقطتين أولى بأن يكون مكانا للأخرى من العكس؟
والمثبتون قالوا: نحن نعلم بالضرورة انتقال الجسم من شيء الى غيره حين الحركة، وليس ذلك الشيء جوهرا ولا كيفا ولا كمّا في ذاته ولا شيئا من المعاني الباقية حال الحركة، فلا بد من شيء آخر كان الجسم حاصلا فيه أوّلا ثم استبدل ثانيا وهو المسمى بالمكان.
وأيضا فإنا نجد الجسم يفارق ويعقبه آخر، والبديهة حاكمة بأن هذا المعاقب عاقب هذا الشيء في الحيز الذي ثبت للأول.
ثم أجابوا عن الأول: بأن المكان عرض حالّ في غير المتمكن فلا يلزم المحذور.
وعن الثاني: أن المساواة في الحقيقة غير معتبرة بل هي مستعملة هاهنا على سبيل المجاز والمعنى بها اختصاص المكان بالمتمكن حتى يكون مساويا لنهايته.
وعن الثالث: أن الشك إنما يلزم لو قيل الانتقال سواء كان بالذات او بالعرض يحوج الى المكان وليس كذلك.
تذنيب : المثبتون للمكان من الأوائل اختلفوا في ماهيته، فذهب بعضهم إلى أنه الهيولى فإن الهيولى قابلة للتعاقب والمكان كذلك، وذهب بعضهم الى أنه الصورة فإن الصورة حاوية والمكان كذلك.
وهذان المذهبان فاسدان، فإنّ المكان يفارقه المتمكن بالحركة والشيء لا يفارق أجزائه، وما احتجوا به فهو عقيم فإن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتج.
والمحققون من الأوائل اختلفوا، فذهب قوم الى أنه البعد، فان بين طرفي
الإناء الحاوي للماء أبعادا مفطورة ثابتة وأن الأجسام تتعاقب عليها، وتمادى بهم الأمر الى ان قالوا: هذا مشهور مفطور عليه البديهة.
وذهب آخرون منهم إلى أنه السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، قال اصحاب البعد: لو كان المكان سطحا لكان الحجر الواقف في الماء والطائر الواقف في الهواء متحركا والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة فإن الحركة انتقال من مكان الى مكان وأيضا المكان لا يتحرك ونهايات الأجسام تتحرك.
وأيضا فالمشهور عند الجمهور وصف المكان بالفراغ والامتلاء ولا يوصف السطح بذلك.
وأيضا القول بالبعد يقتضي أن يكون كل جسم في مكان ولا كذلك القول بالسطح.
أجاب الشيخ عن الأولى: بأن الحركة ليست استبدال مكان مطلق، بل هي عبارة عن استبدال المكان ويكون المتحرك مبدئا للاستبدال، فالحجر والطير ليسا بمتحركين وليسا بساكنين إن عني بالسكون ملازمة الجسم لسطح واحد، ولا استبعاد في أن يكون جسم غير متحرك ولا ساكن فإن المحيط ليس بمتحرك ولا ساكن والجسم المأخوذ في آن ليس بمتحرك ولا ساكن.
وإن عني بالحركة ما يكون مستبدلا بالأمكنة سواء كان هو مبدأ الاستبدال أو غيره، قلنا هذا الجسم متحرك.
وإن عني بالسكون النسبة الحاصلة للجسم الى الأجسام الثابتة، كان هذا ساكنا، وبالجملة هذا يختلف باختلاف الاصطلاح.
وعن الثانية: أن الصغرى ممنوعة، اللهم الاّ أن يعني بالحركة الحركة الذاتية فيكون الكبرى كاذبة.
وعن الثالثة: أنها مبنية على عادات الجمهور وهي غير حجة في العقليات.
وعن الرابعة: أنها تامة على تقدير وجوب أن يكون كل جسم في مكان وهو ممنوع، سلمنا ذلك لكن لم قلتم: إن المكان هو البعد حينئذ ولم لا يكون أمرا ملازما للمكان؟ ثم احتج الشيخ على إبطال البعد بأن البعد الذي بين طرفي الإناء إن كان باقيا حال وجود المتمكن فيه لزم التداخل أو أن يكون البعد الشخصي متعدد، لأنه لا معنى للبعد الشخصي الاّ هذا الذي بين طرفي الإناء، فلو أخذ يتشكك فيه العقل لجاز أن يكون الجسم الواحد ليس بواحد، وإن لم يبق كان المتمكن غير متمكن، لأنه ليس بموجود في المكان فإن الوجود في المكان يستدعي وجود المكان.
تذنيب : القائلون بأن المكان بعد اختلفوا، فمنهم من جوز خلوه عن الأجسام ووافقهم على ذلك أكثر المتكلمين، ومنهم من منع.
احتج المجوزون بوجهين: الأول: إن الجسم إذا تحرك، فإن تحرك الى مكان فارغ فهو المطلوب، وإن كان الى مكان مملوء، فالجسم المالي للمكان إن لم يتحرك لزم التداخل، وإن تحرك الى مكان الأول لزم الدور، أو الى غيره لزم أن يتحرك العالم بكليته عند حركة البقية.
الثاني: إن السطحين المتلاقيين إذا رفع أحدهما عن الآخر كان الوسط خاليا حال الرفع.
أجاب المانعون عن الوجهين: بثبوت التخلخل والتكاثف الحقيقيين، واحتجوا على الاستحالة بوجوه:
أحدها: إن الخلاء مقدر، فإن البعد الذي بين طرفي الطاس أقل من الذي بين طرفي البلدة، فهو اما كمّ او ذو كمّ وكيف كان فلا بد من جسم.
الثاني: إن البعد الخالي متناه وكل متناه مشكّل والشكل لا يعرض لطبيعته والاّ لتساوى، بل انما يعرض له من خارج طبيعته فتكون طبيعة البعد منفصلة والانفصال إنما يكون للمادة فيكون الخلاء ملاء، وهذه الحجة عول عليها افلاطون.
الثالث: ان الخلاء على تقدير أن يكون بعدا متشابها او عدما صرفا استحال أن يكون فيه اختلاف، وإذا كان كذلك استحال أن يتحرك الجسم من مكان الى مكان غيره ، وإن يسكن في مكان دون غيره والاّ لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح.
الرابع: لو كان الخلاء موجودا لكانت الحركة فيه واقعة لا في زمان والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية إن الحركة في الخلاء لو وقعت في زمان م، فلنفرض ملاء يتحرك فيه ذلك المتحرك بعينه فيجب أن يقطع تلك المسافة المعينة في زمان أكثر، ولنفرض ملاء آخر أرق من الملاء الأول تكون نسبته إليه نسبة الحركة في الملاء الى الحركة في الخلاء فيتحرك المسافة بزمان مساو للحركة في الخلاء، وإن فرضناه أرق من هذا كانت الحركة أسرع فتكون الحركة مع المعاوق كهي لا مع المعاوق أو أسرع منها وهذا خلف، وبيان بطلان التالي ما بيناه في مسألة الجزء.
أجاب المجوزون عن الأول: بأن التقدير فرضيّ فإن العقل يفرض وجود جسم بين طرفي الطاس ووجود آخر بين طرفي البلدة فيحكم بأن أحدهما أكبر من الآخر، فالتقدير للجسم المفروض لا الخلاء الذي بين الأجسام.
وعن الثاني: إن الشكل يعرض للبعد بسبب الجسم الحاوي له أو بسبب الفاعل المختار، وقولهم: الانفعال انما يكون للمادة، لم يقم عليه برهان.
وعن الثالث: إن الخلاء يختلف بحسب نسبته الى الأجسام الحاوية له، فإن الخلاء الذي يلي السماء مغاير للذي يلي الأرض.
وعن الرابع: إن الحركة بنفسها تستدعي قدرا من الزمان ومع المعاوق قدرا آخر والمحال الذي ذكرتموه إنما يلزم على تقدير أن يكون استحقاق الزمان بسبب المعاوق لا غير، أما اذا جعلنا بعضه بسبب الحركة والآخر بسبب المعاوق سقط الكلام بالكلية.
مسألة : قال الأوائل: الجهة مقصد المتحرك ومتعلق الاشارة فتكون موجودة ذات وضع، وهي غير منقسمة والاّ لكان المتحرك الواصل الى منتصفها إن قطع الجهة فالجهة ما ورائه وإن كان طالبا لها فالخلف ليس بجهة فهي طرف الامتداد.
وهي طبيعية وغير طبيعية، والطبيعية ثنتان: الفوق والسفل، وغير الطبيعية كثيرة بحسب فرض الأطراف ، فلا بد من محدد يتميز فيه الجهتان الطبيعيتان ويكون محيطا، لأن المجرد يتساوى نسبته وغير المحيط يتحدد القرب دون البعد، فبالمحيط يتحدد القرب وبالمركز يتحدد البعد.
وأصول هذا الدليل فاسدة، فإنه على تقدير تسليم الجهات وتميز بعضها من بعض يكون المميز هو الفاعل المختار.
تذنيب : قالوا: ويجب أن يكون هذا بسيطا، لأن المركب تتقدم الجهة على أجزائه المتقدمة عليه فيدور، وإذا كان بسيطا لم يتعين وضعه فيجب حركته على الاستدارة ويمتنع أن يكون حركة مستديرة طبيعية لأنها تطلب ما تنفر عنه فليست قسرية فتعينت الإرادية، ونحن لما نازعنا في إثبات المحدد سقط عنا هذا التفريع.
تذنيب : كل إرادة لا بد لها من غاية وهذا صحيح، قالوا: فالغاية التي للحركة الدورية لا يجوز أن تكون حاصلة والاّ لكان المتحرك طالبا للمحال، وكذلك لا يجوز ان تكون ممتنعة الحصول فيجب أن يكون مما يحصل لكن لا دفعة واحدة والاّ لتوقفت بل يجب أن تكون حاصلة على التدريج.
قلنا: مع تسليمنا أن حركة السماء إرادية لم لا يكون الغاية حاصلة ويكون جاهلة بالحصول أو يكون ممتنعة الحصول وهي جاهلة بذلك ولم لا يكون مما يحصل وتقف الحركة، وسنبطل قولهم بأبدية الزمان.
تذنيب : قالوا: فالمحدد للجهات يستحيل أن يتحرك بالاستقامة لوجهين:
الأول: أنه ذو ميل مستدير، وسنبين استحالة اجتماع ميلي الاستدارة والاستقامة.
الثاني: أنه لو تحرك بالاستقامة لخرج عن موضعه، وبعد خروجه يصير طالبا له فيكون ذا جهة حالتي الخروج والمعاودة متقدمة عليه فلا يكون هو المحدد الأول للجهات، فليس بثقيل ولا خفيف ولا موضع له وله تقدم ما على ذوات الجهة المستقيمة ويستحيل عليه الخرق والالتيام، وليس بحار ولا بارد ولا رطب ولا يابس، هذه كلها عندنا فاسدة وقد تقدم إبطال بعضها وسيأتي إبطال الباقي.
مسألة : لكل جسم مكان طبيعي قد اتفق عليه المشّاءون، واستدلوا بأنا لو فرضنا خلو الجسم عن الأمور الغريبة فإما أن يحصل في كل الأمكنة وهو محال، أو في بعضها من غير مخصص وهو محال، أو بمخصص وليس إلاّ طبيعة الجسم الخاصة به.
تذنيب : يستحيل أن يكون لجسم مكانان طبيعيان، لأنه حال مفارقة أحدهما إذا طلب الآخر يكون تاركا بالطبع للمطلوب بالطبع، ولأنه لو كان في
مكان غريب نسبتهما إليه بالسوية استحال أن يطلب أحدهما دون الآخر.
وقالوا أيضا: يستحيل أن يكون جسمان يطلبان بالطبع مكانا واحدا.
قال بعضهم: وإلاّ لكان المعلولات المتساوية يستند الى علل مختلفة من حيث هي كذلك وهو باطل، وبطلان هذا مشكل على رايهم.
تذنيب : البسيط مكانه الذي يقتضيه طبعه، ومكان المركب ما يغلب فيه أحد البسائط فإن استوت وقف في الوسط هذا إن تركب من بسيطين وكذلك إن تركب من أربعة العناصر المتساوية في المشهور، ومنع بعضهم من وجوده بأنه مكان له، والشيخ اضطرب في هذا ، فتارة جوّز وجوده وتارة منع.
الكون عبارة عن حصول الجسم في الحيز، وهو جنس يندرج تحته أربعة امور: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق .
فههنا مطالب:
المطلب الأول: بحث في مفهوم تحريك الأجسام
في أن هذا الحصول هل هو معلل بمعنى أم لا؟الحق أنه ليس كذلك، وتحقيق المذهب أن نقول: إنّا حين نروم تحريك جسم أو تسكينه فإنا نفعل فيه الاعتماد نحو الجذب والدفع فيحصل التحرك والسكون، فهل يفعل فيه معنى آخر نسميه حركة ذلك المعنى يوجب كون الجسم متحركا وأنه زائد على الاعتماد والتحرك أم لا؟ والدليل لنا أن ذلك المعنى الموجب للحصول في ذلك الحيز إما أن يصح وجوده قبل حصوله في ذلك الحيز أو لا، فإن صح فإما أن يقتضي اندفاع ذلك الجوهر الى ذلك الحيز أو لا يقتضي، فإن كان الأول كان ذلك هو الاعتماد ولا نزاع فيه كما إذا اعتمد حيوان على شيء فاندفع ذلك الشيء الى حيز آخر، فإن لم يقتض اندفاعه لم يكن حصوله في حيز معين بسببه أولى من حصوله في غيره، وأما إن لم يصح وجوده قبل حصوله في الحيز لزم الدور.
وأيضا لو كان القادر منا يفعل ذلك المعنى لوجب أن يعلمه على سبيل الاجمال أو التفصيل والتالي باطل فالمقدم مثله.بيان الشرطية: إن القادر يتساوى الضدان عنده فلا بد من القصد المتوجه إلى أحدهما دون الآخر حتى يوجده والقصد تابع للعلم، وأما بطلان التالي فبالوجدان، فإنا نجد من أنفسنا أنا لا تعلم ذلك المعنى، هذا مذهب أبي الحسين وسائر الشيوخ.
وذهب أبو هاشم وأصحابه إلى إثبات هذا المعنى، واستدل عليه بوجهين:
الأول: أنا لو قدرنا على جعل الجسم كائنا من غير واسطة المعنى، لقدرنا على ذات الجسم وساير الصفات كالحياة والقدرة والتالي باطل فالمقدم مثله.بيان الشرطية: إن القادر على جعل الذات على بعض الصفات تكون الذات مقدورة له يتصرف فيها كيف شاء.
وأيضا الكلام لما كان القادر قادرا على جعله على صفة الخبر والأمر كان قادرا على ذاته ولما لم يقدر على كلام غيره لم يقدر على جعله على صفة الخبر ولا علة لذلك الاّ كونه قادرا على بعض صفاته، وبيان بطلان التالي ظاهر.
الوجه الثاني: أن صفة الكائنية يصح فيها التزايد وما يكون بالفاعل لا يصح فيه التزايد، فصفة الكائنية ليست بالفاعل فلا بد لها من علة توجبها، بيان الصغرى
من وجهين:
أحدهما: أن القوى إذا استفرغ جهده في تسكين جسم بيده لم يقدر الضعيف على تحريكه، وإن لم يستفرغ قدر الضعيف على تحريكه، فعلم أنه رام في الأول أزيد مما رامه في الثاني.
الثاني: أن الجوهر الواحد إذا التصق بكفي قادرين فدفعه أحدهما حال جذب الآخر تحرك ذلك الجوهر بهما، ولا يكون ما فعله احدهما هو الذي فعله الاخر لاستحالة أن يقع مقدور بقادرين، فعلم أن تحريكه قد تزايد، وبيان الكبرى وجهان:
أحدهما: ان الفاعل كالعلة والعلة لا تؤثر في أزيد من صفة واحدة فكذا الفاعل.
الثاني: أن الوجود لما كان بالفاعل استحال فيه التزايد فكذلك هاهنا.
والاعتراض على الأول أنا نمنع من القدرة على الذات على تقدير القدرة على بعض الصفات.قوله: تكون الذات مقدورة يتصرف فيها كيف شاء، قلنا: إن عنيتم أنها تكون مقدورة من هذه الجهة كان الموضوع والمحمول واحدا، وإن عنيتم أنها تكون مقدورة من كل جهة نازعناكم، واما القياس على الكلام فغير متين 2، فإن الحكم جاز أن يستند الى خصوصية الأصل أو أن يكون في الفرع مانع منه.
ثم نقول: من شرط القياس أن يكون الأصل معلوما بالعلة التي ثبت بها الحكم، وأن يعلم وجود العلة في الفرع حتى يمكن تعدية الحكم إليه، وكل هذا غير معلوم عندكم، فإن كل هذه صفات، فإن كون الكلام خبرا أو حدوثه صفة، وكون الجسم كائنا صفة، واللازم من ذلك وهو القدرة على إحداث الذات أو ساير الصفات أيضا، والصفة عندكم غير معلومة فيسقط كلامكم بالكلية.
فإن رجعوا الى اعتذارهم المشهور عندهم من أن الذات مع الصفة تكون معلومة، قلنا: يعنون به أن المجموع يكون معلوما فهذا يستلزم العلم بالأجزاء اعني الذات والصفة، أو يعنون شيئا آخر فيجب عليكم بيانه.
ثم نقول أيضا: إن الخبرية والأمرية ليستا صفتين للكلام والاّ لكان المتصف به إما كل واحد من الحروف أو بعضها أو المجموع، والأولان باطلان وإلاّ لكان حرف واحد خبرا وهو باطل بالضرورة، والثالث باطل والاّ لزم انقسام الصفة لانقسام المحل.
وأيضا فالمجموع لا وجود له، وإنما الموجود جزء منه.
والاعتراض على الثاني أن نقول: قولكم صفة الكائنية يصح فيها التزايد، قلنا: هذا مدفوع بالضرورة، واستدلالكم في مقابلة الضرورة لا يسمع فإن حصول الجسم في الحيز أو محاذاة الجسم الآخر يعلم قطعا أنه لا يصح فيه التزايد.
ثم نقول: إن قولكم، القوي اذا استفرغ جهده في تسكين جسم لم يقوى الضعيف على تحريكه، ممنوع، إنه إنما كان لزيادة في صفة الكائنية، بل القوي يفعل زيادة المدافعة وتزايدها معقول.
ونقول على الثاني: لم لا يقع المقدور بقادرين؟وسنبين جوازه.
والوجه الأول في بيان الكبرى ضعيف، فإن القياس قد بينا بطلانه.
والثاني أضعف، فإنه ينبني على أنه صفة زائدة وهم مطالبون بذلك، على أنه لا علة في منع التزايد إلاّ كونه بالفاعل، وهذا لا يمكنهم اقامة برهان عليه أكثر من الدوران الضعيف.وإن سلمنا هذين المقامين، فلم قلتم إن صفة الوجود لا يقع فيها التزايد؟قالوا: لوجهين:
الأول: أنه لو تزايد الوجود يصح أن يحصل صفتا وجود بقادرين وفي ذلك كون مقدور بقادرين.
الثاني: لو تزايد يصح من القادر أن يجدد للفعل في حال البقاء صفة الوجود.
قلنا: أما الأول فباطل، لأنكم إنما تنفون كون المقدور يقع بقادرين بعد أن تعلموا أنه لا تزايد في الوجود، فلو جعلتم امتناع مقدور بقادرين مقدمة في عدم التزايد لزمكم الدور.قالوا: نحن نبين هذا بطريق آخر ونقول: لو تعلق بقادرين بأن يجددا له صفة وجود لصح من احدهما أن يوجده دون الآخر فيكون موجودا معدوما.
قلنا: إن أردتم بكونه موجودا معدوما أنه يحصل له صفة وجود ولا يحصل له ما زاد عليها، فذلك صحيح، وإن أردتم بكونه معدوما أنه لا يحصل له صفة وجود اصلا، فهو ظاهر المنع.
سلمنا امتناع وقوع مقدور بقادرين، ولكن الكلام وقع في حصول وجود زائد لا في مقدور واحد لا يقبل الزيادة والنقصان.
واما الثاني فنمنع استحالة التجدد في حال البقاء.
استدلوا على المنع بوجهين:
أحدهما: أنه لو صح ذلك لصح منا.
الثاني: أنه يكون باقيا مبتدئا.
قلنا: ولم قلتم إن الواحد منا لا يفعل تجدد الوجود؟ثم لم قلتم: إن الواحد منا يوجد ذاتا وانتم لا تنازعون الاّ في هذا، فإن أفعالنا في الشاهد الأكوان وهي صفات وأنتم لا تثبتون للصفات صفة وجود، وما عدا الأكوان من صفات القلوب والاعتمادات والتأليف والأصوات فهي أيضا صفات ومع ذلك فهي غير باقية فكيف ثبتت لها صفة حال البقاء.
وقولكم: يكون باقيا مبتدئا، إن عنيتم به أنه لم يكن له وجود من قبل مع فرض ثبوت الوجود له فهو متناقض، وإن عنيتم به تجدد صفة بعد ثبوت صفة أخرى من قبل فهو عين المتنازع في استحالته، ولهم تطويلات اخرى في هذا الباب أعرضنا عنها لقلة الفائدة.
المشهور عند المتكلمين أن الحركة عبارة عن حصول الجسم في حيز ، بعد ان كان في حيز آخر ، والأوائل قالوا: الموجود يستحيل أن يكون بالقوة من كل وجه، فإن كونه موجودا حاصل له بالفعل بل إن كان موجودا بالقوة فمن وجه دون آخر، فخروجه من القوة الى الفعل إن كان على التدريج كان حركة، وإن كان دفعة فهو الكون، فالحركة كمال أول لما بالقوة من حيث هو بالقوة.
ثم جعلوا الحركة اسما لمعنيين:
أحدهما: الأمر المتصل المعقول للمتحرك من المبدأ إلى المنتهى وهو الحركة بمعنى القطع، وبهذا المعنى ليس للحركة وجود إلاّ في الأذهان لا في الأعيان، لأنها إنما توجد بتمامها إذا انقطعت الحركة.
الثاني: كون الجسم متوسطا بين المبدأ والمنتهى الذين للمسافة وهو الوجود في الأعيان.
وبعض الأوائل نفى الحركة مطلقا وقال: إن كانت غير منقسمة لزم الجوهر، وان كانت منقسمة كان الماضي عين المستقبل، هذا خلف وهذا تشكيك في الضروريات.
مسألة : شرط الأوائل للحركة ستة أمور: ما منه وما إليه وما فيه وما له وما به والزمان، وأحالوا أن يتحرك الشيء لذاته لأنه قابل فلا يكون فاعلا، ولأن المعلول باق ببقاء علته فيكون كل جزء من الحركة باقيا فلا تكون حركة.
وأما ما منه وما إليه، فقد يكونان بالفرض كما في الحركات الدورية، وقد يكونان بالفعل كما في المستقيمة.
مسألة : الحركة قد تكون واحدة بالشخص وقد تكون بالنوع وقد تكون بالجنس، وشخصية الحركة تابعة لشخصية الموضوع والزمان وما فيه، فإن الموضوع والزمان لو تكثرا لما اتحدت الحركة لاستحالة إعادة المعدوم وقيام العرض بمحلين.
واما ما فيه، فلأن الموضوع والزمان قد يتحدان وتتغاير الحركة كما يتحرك المتحرك في زمان ما حركتي أين واستحالته.
وقد تختلف الحركة في النوع تارة وفي الجنس أخرى لاختلاف ما هي فيه.
وأما تضاد الحركات فإنما هو لتضاد المبدأ والمقصد، لأن المتحرك قد يتضاد والحركة واحدة بالنوع كحركتي القسر والطبع الى فوق والزمان غير متضاد فلا تتضاد بسببه الحركة ولا ما فيه فإن حركتي الصعود والهبوط متضادان مع وحدة ما فيه وكذا المتحرك قد يكون واحدا والحركة متضادة، فلم يبق الاّ ما منه وما إليه.
ولي في هذا نظر، فإنهم ادعوا أن كل واحد مما عددوه ليس له مدخل في التضاد، ثم برهنوا على أنه ليس علة تامة في التضاد، ومعلوم أن هذا لا يكفي في هذا الباب.
وأيضا لو سلم لهم ما ذكروه من أين لهم أن التضاد إذا لم يكن بأحد الأمور التي عددوها انحصر فيما منه وما إليه؟ ثم قالوا: ان الحركات المستقيمة لا تضاد المستديرة، بناء منهم على أن ضد الواحد واحد لا غير وأن الخط المستقيم يكون وترا القسى غير متناهية.
مسألة : الحركة قد تكون مستقيمة ومستديرة، وزعموا أن بين المستقيمين المتضادتين سكونا كما بين الهابطة والصاعدة، هذا هو المشهور عند المعلم الأول وأتباعه، وخالف فيه أفلاطن.
والحجة المشهورة لمثبتيه أن المتحرك إذا وصل الى المنتهى في آن ثم فارق المنتهى، فإن كان في ذلك الآن كان الشيء الواحد في الآن الواحد واصلا مفارق، وإن كان في غيره فلا بد من زمان سكون بينهما لاستحالة تتالي الآنات.
اعترض عليهم الشيخ بأن المفارقة عن الحد عبارة عن الحركة عنه، والحركة لا تقع في آن وإنما تقع في زمان، فالزمان الذي أثبتموه هو زمان الحركة.
فإن عنيتم بآن المفارقة أول زمان المفارقة، قلنا: إن ذلك الآن هو آن الوصول ولا استحالة في أن يكون الآن لا يقع فيه ما يقع في الزمان.
ولما كانت هذه الحجة عنده فاسدة سلك نهجا آخر في بيان هذا المطلوب، فقال: المتحرك الطالب لحد معين لا بدّ له من مبدأ ميل يكون علة الحركة الى ذلك الحد، فإذا فارق حدث ميل آخر مغاير للأول ويستحيل اجتماع الميلين وحدوث الميل في آن فحال عدم الميل الأوّل وهو آن الوصول، كان الجسم عديم الميل، ثم يوجد الميل في آن ثان ويفصل بين الآنين زمان هو زمان السكون، وهذه الحجة ينبني على إثبات الميل وعلى وجوده في الآن وعلى استحالة اجتماع الميول، فإن تمت هذه المطالب تمت الحجة وإلاّ سقطت.
واحتج النفاة بوجهين: الأول: أن الجسم الصاعد كالحصاة اذا فرضنا حال منتهى صعودها وافاها جبل عظيم نازل لزم ان يقف الجبل لأجل وقوف الحصاة التي تحته.
أجاب المثبتون: بأن هذا استبعاد محض.
الثاني: أنه لو وقف لما كان رجوعه دائما ولا أكثريّا، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: إن القوة المحركة للحجر الى السفل موجودة، فلا تقف في الهواء الاّ مع العائق ولا يجوز أن يكون عدم ذلك العائق يستند الى ذات الجسم ولا القوة الطبيعية والاّ لما وجد، فلا بد له من سبب، فإن كان وصول السبب الخارجي المعدم للعائق واجبا استحال وجود العائق، وإن كان ممكنا لم يكن حصوله دائما ولا أكثريّا، وبيان بطلان التالي ظاهر .
مسألة : الحركة قد تكون بالذات، وقد تكون بالعرض كحركة الساكن في السفينة، والحركة الذاتية قد تكون طبيعية وهي المستندة الى قوة حالة في الجسم تصدر عنها الحركة والسكون بالذات لا بالعرض من غير إرادة، وقد تكون قسرية تحدث في الجسم من سبب خارجي، وقد تكون إرادية تحدث بسبب قوة شاعرة بما تصدر عنها، والحركة العرضية قد تكون لما يمكن أن يتحرك بذاته كالجسم المحوي، وقد لا تكون كالصور والأعراض.
والحركة الطبيعية تستحيل أن تصدر عن الطبيعة لذاتها على الاطلاق، لأن الثابت لو كان علة للمتغير لزم وجود العلة بدون المعلول، بل إنما يكون علة له على تقدير خروجه عن الأمر الطبيعي.
واما الحركة القسرية، فالمشهور أن سببها قوة حالة في الجسم المتحرك يوجدها فيه القاسر تكون باقية الى آخر الحركة، لكنها يكون أخذه في الضعف بمعادمات الهواء الى أن يبلغ الضعف بحيث تصير الطبيعة قاهرة لها، فحينئذ يتحرك الجسم الى مكانه بسبب طبيعته.
وهو عبارة عن حصول الجسم في الحيز الواحد أكثر من زمان واحد، هذا في عرف المتكلمين.
وعند الأوائل أنه عدم الحركة عما في شأنه أن يتحرك .
ونحن لما فسرنا السكون بالحصول بطل أن يكون عدم الحركة.فكان امرا وجوديا لأن الحركة والسكون لما كانا من نوع واحد والحركة وجودية كان السكون كذلك.
والأوائل وإن قالوا بكون السكون عدميا، لكنهم يثبتون صفة أخرى هي الوضع ويجعلونها وجودية، ونحن لا نعني بالسكون الاّ هذا، فالمقابلة بين الحركة والسكون عند الأوائل تقابل العدم والملكة وعند المتكلمين تقابل الضدين.
مسألة: الاجتماع حصول الجوهرين في الحيزين بحيث لا يمكن أن يتخللها ثالث، والافتراق حصولهما في الحيزين بحيث يمكن أن يتخللها ثالث، وهذه المعاني كلها موجودة لتغير بعضها ببعض.
المطلب الرابع: في أحكام الأكوان
الأكوان على ضربين: متماثلة ومتضادة، والمتضادة على ضربين متناف وغير متناف، فالمتماثل هو الذي يختص بجهة واحدة من الأكوان، سواء اختص بجوهر واحد أو بجواهر إذا كانت في تلك الجهة على جهة البدل، وسواء اختص بوقت أو أوقات بناء منهم على أن المشتركات في اللوازم مشتركة في الحقائق وفيه ما فيه.
والمتضادة هو ما يصير به الجوهر في الجهتين، لأن ما حاله هذه استحال وجوده في وقت واحد ومحل واحد، وهذه الاستحالة غير معللة الاّ بكونهما ضدين، واعتمدوا في هذا على التمثيل فإن الجسم كما يستحيل أن يكون أسود ابيض في حالة واحدة، كذلك يستحيل أن يكون في جهتين دفعة، والاستحالة ثم إنما كانت معللة بالتضاد فكذلك هنا.
ونحن نطالبهم بالجامع وبكونه علة وبعدم الفارق والجوهر يستحيل وجوده في مكانين متباعدين كما استحال وجوده في متقاربين، غير أن كل واحد من الكونين إذا تباعدت الأماكن استحال وجوده بدلا من صاحبه وإلاّ لزم القول بالطفرة، وكذلك لا يوجد عقيب صاحبه لذلك أيضا، فهما ضدان من حيث استحالة الاجتماع، وغير متنافيين لأن احدهما لا ينفي صاحبه لأنه إنما ينفيه لو وجد عقيبه فأعدمه، ولذلك لا يتعاقبان لأن أيّهما وجد لم يوجد الآخر عقيبه.
وامّا الكونان في الأمكنة المتجاورة فهي متضادة لاستحالة الاجتماع، ومتعاقبة لأن كلا منهما يوجد عقيب صاحبه، ومتنافية لأن كلا منهما ينتفي بصاحبه، وإذ قد تلخص هذا انحصرت الأكوان في المتماثلة والمتضادة ولم يوجد فيها ما يكون مختلفا غير متضاد.
مسألة : ذهب ابو الهذيل الى أن الجسم في أوّل حدوثه غير متحرك ولا ساكن ، وهو لائق على تفسيرهم الحركة والسكون بما فسروهما به، غير أن أبا هاشم وأتباعه جعلوا الكون من جنس السكون ، قالوا: لأن السكون هو الكون المستمر واستمرار الصفة لا يقتضي إثبات معنى فيه مجدد سوى ما كان فيه من قبل، بناء منهم على أن البقاء ليس بمعنى زائد فالسكون إذن هو الكون الأول إلاّ أنه استمر وجوده.قالوا: ولو كان السكون غير الكون لاختلف حكماهما، بناء منهم على أن الأجناس المختلفة يختلف في المقتضيات، لكن حكم السكون والكون هو الحصول في الجهة فلما اتحد المقتضى اتحد المقتضي.
مسألة : ذهب البصريون الى صحة البقاء على الكون، وكان المرتضى رحمه اللّه يشك في بقائه وبقاء كل ما يدّعون بقائه من الأعراض، وأبو الهذيل وأبو علي قالا: إن الحركة لا يجوز عليها البقاء، وغيرهم قالوا: إنها إذا بقيت كانت سكونا.
احتج الأولون بأن السكون إن جاز بقاؤه جاز بقاء الحركة والمقدم ثابت فالتالي مثله.
بيان الشرطية أن الحركة والسكون من جنس واحد والخلاف إنما هو في العوارض، وبيان صدق المقدم أنه لو امتنع عليه البقاء لجاز من الفاعل المختار أن لا يفعل الحركة عند عدم السكون إذ لا وجه لوجوب كونه فاعلا، والتالي باطل وإلاّ لجاز خروج الجسم عن الأكوان.
احتج ابو علي وابو الهذيل على امتناع بقاء الحركة بوجهين:
الأول: أن الحركة لو كانت باقية لكان الجسم قاطعا للأماكن كلها في الابتداء، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أن الحركة لو بقيت لكان المحل بها قاطعا لمكان بعد مكان، وهذا حكم يرجع الى ذات الحركة لا الى بقائها وذات الحركة موجودة في الابتداء فيجب وجود ذلك القطع في الابتداء.
الثاني: أنها لو بقيت لرؤيت على هيئة السكون، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة.
واجاب الأولون عن الأول: بأن مقتضى الحركة هو الكون في المكان الأول لا القطع فإذا بقيت بقي مقتضيها.
وعن الثاني: بأنه مبنيّ على رؤية الأكوان، وهو ممنوع.
تذنيب : هل الكون مرئي أم لا؟أما المتكلمون فقد اختلفوا، فمن قال: إن الكون معنى يوجب الحصول في الحيز قال: إنه غير مرئي، ومن قال: إنه نفس الحصول فيه قال: إنه مرئي، والأوائل عندهم أنه مرئي بوساطة رؤية الألوان والأضواء لا بالذات.
وهي مدركة بحاسة البصر، والقائل بأن السواد كيفية قابضة للبصر والبياض كيفية مفرقة له إن عني به التعريف اللفظي صدق والاّ فقد أحال، ومن نازع من الأوائل في إثباتها فقد كابر في الضروريات.
مسألة : ذهب قوم من الأوائل الى أن الألوان الحقيقية هي السواد لا غير، وأن البياض يحدث من مخالطة الهواء للأجسام الشفافة الصغيرة جدا، وأنه ليس بكيفية حقيقية قائمة بالأجسام لأن زبد الماء أبيض وكذا الثلج ولا سبب لذلك الاّ هذا، وهم مطالبون: أولا بان السبب ليس الاّ ذلك، وثانيا بتعميم الحكم في كل بياض.
ومنهم من ذهب إلى أن الألوان الحقيقية هي السواد والبياض والباقي يحدث من امتزاجهما.
ومنهم من ذهب الى أن الألوان الحقيقية خمسة: السواد والبياض والحمرة والصفرة والخضرة والبواقي مركبة منها، وهذا القول قد اختاره أبو هاشم وأصحابه، وبعض المتكلمين أسقط الصفرة من البين وقال: إنها مركبة من الحمرة والبياض.
والحق أن بساطة هذه الألوان وتركيبها مما لا يمكن الاطلاع عليه، فإذن الأولى الوقف.
مسألة : حكي عن أبي علي جواز زيادة على هذه الألوان وهي مقدورة للّه تعالى، وقطع بأنها متضادة ومضادة لهذه الألوان، وهذان المقامان مشكوكان.
مسألة : الحق أن بين طرفي السواد والبياض تضادا لوجود حدّة فيهما، وكان المرتضى رحمه اللّه يشك في ذلك ويقول : يغلب على الظن اجتماعهما، فإن الفرق واقع بين السواد الحالك والذي ليس بحالك، ويجوز أن يكون مستند الفرق هو اجتماع البياض والسواد في الذي ليس بحالك وعدم الاجتماع في الحالك.
وأما الألوان البيض والسود الغير البالغة فيهما هل هي متضادة أم لا؟إن شرطنا في الضدين غاية البعد كانا غير ضدين، وإلاّ فهما ضدان.
مسألة : اتفقوا على أن اختلاط الأجزاء السود بالأجزاء البيض اختلاطا غير مميز في الحس، سبب لشدة الألوان، فالأجزاء البيض إذا كانت قليلة كان السواد أشد.
وبعض المتكلمين ذكروا وجها آخر، وهو اجتماع البياضات الكثيرة في المحل الواحد.
والأوائل اتفقوا على بطلانه بناء منهم على استحالة اجتماع الأمثال، وذكروا وجها آخر وهو أن البياض الضعيف مغاير في النوع للبياض الشديد.
والبصريون قالوا: السواد كله متماثل وإن الحالك وغير الحالك متماثلان في النوع، وهو قول بعض الأوائل أيضا قالوا: لأن صفة التي بها يخالف ما يخالف ويوافق ما يوافق هي كونه سوادا لا صفة أخصّ منه وهي مشتركة في الكل فالكل متماثل .
مسألة : الحق أن الألوان يجوز عليها البقاء للبرهان العام، وهو أنها ممكنة في الأول فكذلك في الثاني، لاستحالة الخروج من الإمكان إلى الامتناع، والخلاف واقع هنا كما في الأكوان.
تتمة : زعم بعض الناس أن الضوء جسم ينفصل عن المضيء ويتصل بالمستضيء، وهو خطأ لتساوي الأجسام في الجسمية واختلافها في الإضاءة، ولأن ذلك الجسم إن لم يكن محسوسا لم يكن الضوء محسوسا هذا خلف، وإن كان محسوسا وجب أن يستر ما تحته ويلزم أن يكون كلما ازدادت الأجسام ضوء ازدادت خفاء، والأمر بالعكس.
ثم اعلم أن الضوء هو الظهور وهو كيفية منبسطة على الأجسام من غير أن يقال إنها سواد أو بياض أو غير ذلك من الألوان، وليس هذا تعريفا للضوء لما قدمنا من أن الأمور المحسوسة لا يفتقر الى التعريف، فإن كان هذا الظهور للشيء من ذاته كالشمس والنار سمي ضوء.وإن كان مستفادا من الغير كما للجدار المستنير بضوء الشمس سمي نورا، والترقوق الذي للشيء من ذاته يسمى شعاع، والترقوق الذي للشيء من غيره كما للمرآة يسمى بريقا.
مسألة: ذهب الشيخ أبو علي الى ان الضوء شرط وجود اللون، لأنا لا نرى اللون في الظلمة، فعدم الرؤية إما أن يكون لعدم اللون وهو المطلوب، أو لأن الهواء المظلم عائق عن الرؤية وهو باطل، لأن الهواء غير مظلم وغير مانع من الإبصار، فإنا حال ما نكون في غار وفيه هواء على الصفة التي يظن أنه مظلم به، فإذا صار المرئي مستنيرا رأيناه ولا يمنعنا الهواء الواقف بيننا وبينه، فإذن ليس للهواء حظّ في المنع من الرؤية، وعند آخرين أنه شرط لصحة الرؤية(وهو الحق) .
مسألة : الظلمة عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا، وهو مذهب الأوائل وجماعة المعتزلة، وبعض الأشاعرة قال: انها صفة ثبوتية.
لنا ما تقدم في حجة أبي علي، ولأن حالنا عند فتح العين في الظلمة وتغميض العين متساوية، وكما أنا في الثاني لا ندرك شيئا فكذا في الأول.
البحث السادس: في الطعوم والروائح
وهي مدركة بالذوق والشم.
والطعوم تسعة: الحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والدسومة والحرافة والعفوصة والقبض والتفاهة.
وفي كون التفاهة من الطعوم نظر، وقد يجتمع طعمان في جسم واحد كالمرارة والقبض في الجص.
وأما الروائح فليس لها اسماء الاّ من جهة الموافقة والمخالفة، فيقال: رائحة طيبة ومنتنة.
البحث السابع: في الحرارة والبرودة
وهما مدركان لمسا فلا يحتاجان الى التعريف، وما قيل: إن الحرارة كيفية من شأنها إحداث الخفة والتخلخل وجمع المتجانسات وتفريق المختلفات، والبرودة كيفية من شأنها أن يفعل مقابلات هذه الأفعال، خطأ، لأن الحرارة والبرودة أظهر من هذه الآثار الصادرة عنهما.
وذهب بعض الأوائل الى أن البرودة عدم الحرارة، وهو خطأ، فإنا ندرك من البارد كيفية زائدة على الجسمية والعدم غير مدرك.
تنبيه : اعلم أن الحار يقال على ما يحس منه بهذه الكيفية كحرارة النار، وعلى ما يكون ظهور هذه الكيفية منه موقوفا على ملاقاته لبدن الحيوان كالغذاء والدواء.
وفي الحرارة الغريزية وجهان:
أحدهما: هي الحرارة المحسوسة، وهو الجزء الناري في الحيوان اذا بلغ طبخه الى الاعتدال، فيكون مخالفتها لهذه الحرارة مخالفة عرضية من حيث إنها جزء المركب والحرارة الغريبة خارجة.
الثاني: أنها مخالفة بالنوع كحرارة النار، وتكون الحرارة مقولة بالاشتراك على حرارة النار وهي غير ملائمة للحياة، وعلى التي في البدن، وعلى الحرارة الفائضة من الأجرام السماوية.
مسألة : لا شك في وقوع التضاد بين الحرارة والبرودة، ولكن هل للحرارة ضد آخر؟ فمن الأوائل من جزم بالمنع بناء على أن ضد الواحد واحد، ومنهم من توقف.
البحث الثامن: في الرطوبة واليبوسة
وهما مدركان لمسا ومتضادان قطعا.
ونقل عن بعض الأوائل ان الرطوبة عبارة عن عدم الممانعة، فعلى هذا تكون المقابلة بينهما تقابل العدم والملكة، والأول أحق.
مسألة : اللين كيفية يكون الجسم بها مستعدا للانغماز، والصلابة كيفية يكون بها الجسم مستعدا لعدم الانغماز، فهما كيفيتان استعداديتان، ففي إدراكهما باللمس نظر.
واللزوجة كيفية يقتضي سهولة التشكل مع عسر التفريق ويمتد بها الشيء متصلا ويحدث من شدة امتزاج الرطب الكثير باليابس القليل، والهشاشة مقابلة لها.
وأما السيلان فإنه عبارة عن حركات توجد في أجسام متفاصلة حقيقة متواصلة حسا لدفع بعضها بعضا، فيقال للرمل والتراب إنه سيال فهو غير الرطوبة وغير مشروط بها.
واللطافة يقال على رقة القوام، والكثافة بالعكس.
والبلة هي الرطوبة الغريبة الجارية على ظاهر الجسم، والانتقاع هو الرطوبة الغائضة فيه.
قال بعض الناس: إنه عبارة عن اصطكاك الأجسام الصلبة، وهو غلط، لأن الاصطكاك مماسة قوية وهي غير مدركة بالسمع، والسبب في غلطهم أخذ لازم الشيء مكانه.
ونقل عن النظام إن الصوت جواهر ينقطع بالحركة، وهو خطأ، لكون الجوهر غير مدرك بالسمع.
والحق ان الصوت لا يجوز تعريفه، وهو مدرك بحاسة السمع، وسببه تموّج الهواء عند حصول القرع او القلع اذا بلغ التموج الى صماخ الأذن المجوف الحاوي للهواء تحرك ذلك الهواء فاحس بحسب تحركه.
وأما أن الصوت حاصل في خارج الحاسة بالتموج أو في الحاسة ففيه شك، وقد جزم الشيخ بوجوده خارجا لأنا ندرك جهته، ولو كنّا إنما ندركه حال وصول التموج الى الأذن لما أدركنا الجهة فإن الحواس المدركة بالملاقاة لا تدرك الجهة كالشمّ واللمس ولا بد في حصول الصوت من المقاومة، ولا يشترط الصلابة فإنك لو ضربت على الماء بسرعة لحدث الصوت مع عدم الصلابة وحصول المقاومة.
مسألة : الحرف هيئة عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله تميزا في المسموع عند الأوائل.
والمتكلمون لما أحالوا قيام المعنى بالمعنى، أحالوا كون الحرف هيئة للصوت، بل جعلوه من جنس الصوت.
والحروف إما مصوتة وهي حروف المدّ واللين ولا يمكن الابتداء بها، وإما صامتة وهي ما عداها.
والحركات أبعاض المصوتات، لأنها تحدث بتمديدها.
واعلم أن الصوامت منها مختلفة ومنها متماثلة، والمختلفة قد تكون بالعرض وهو أن يكون الحرفان متساويين في الذات ويختلفان بالحركة والسكون أو بالحركات المختلفة، وقد تكون بالذات.
مسألة : ذهب أبو علي الجبائي الى أن الكلام جنس آخر غير الصوت ، لأن الصوت مختلف في الصفاء والكدورة والقوة والضعيف وليس الحرف كذلك، ولأن الكلام يوجد مع الكتابة بدون الصوت.
وردّ عليه الشيخ أبو جعفر بأن الاختلاف ليس في نفس الصوت من ذاته بل باعتبار مخارجه، والكتابة ليست بكلام وإنما هي أمارة عليه، ثم جعل الكلام نوعا للصوت، وهو الحق.
مسألة : الكلام غير باق والاّ لادركناه في الزمان الثاني، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أن المدرك صحيح والموانع مرتفعة في الزمان الثاني كما في الأول فيجب الإدراك.
مسألة : الهواء إذا تموج وقابل ذلك التموج جسم أملس بحيث يرد ذلك التموج ويصرفه الى خلف ويكون شكله شكل الأول احدث من ذلك صوت وهو الصداء، وهو حاصل لكل صوت، لكنه قد لا يسمع في بعض الأصوات لانتشار التموج كما في الصحاري او لغاية قرب الزمانين فيحس بهما كالصوت الواحد كما في الدور، ولهذا يسمع الصوت في الدور أرفع منه في الصحراء.
وهو الميل عند الأوائل، وهو ثابت بالحس ، فإن المدافعة الموجودة من الزقاق المنفوخة في الماء والأحجار الواقفة في الهواء معلومة قطعا، وهو غير الحركة المعدومة وغير الطبيعة الموجودة في غير وقت المدافعة، وهذا الميل قد يكون طبيعيا وقد يكون قسريا وقد يكون نفسانيا ولا يوجد حال وجود الجسم في مكانه الطبيعي لأنه ليس له ميل إليه لوجوده فيه ولا عنه والاّ لكان المطلوب طبعا متروكا طبعا.
واستدل الأوائل على إثبات الميل بأن الجسم إذا تحرك قسرا مع الميل مسافة ما وبدونه تلك المسافة بعينها كانت حركته أشد، فلو فرضنا ميلا آخر أضعف من الأول تكون نسبته إليه كنسبة شدة الحركة وضعفها في الحالين، وجب أن يكون حركته مساوية في الشدة لحركة عديم الميل، فتكون الحركة مع المعاوق كهي لا مع المعاوق وهذا خلف.
والجواب ما قدمناه في الخلاء، وهو أن الحركة تستدعي بنفسها قدرا من الزمان ومع المعاوق قدرا آخر، فالزائد والناقص من الزمان حال شدة الميل وضعفه إنما هو في الزمان القابل للمعاوقة، وأما الزمان القابل للحركة فليس فيه زيادة ولا نقصان.
مسألة : قالوا: ويستحيل اجتماع ميلين أحدهما طبيعي والآخر قسري على حدّ صرفتهما، وإلاّ لكان الجسم متحركا الى جهتين دفعة واحدة وهو باطل بالضرورة، وأما اجتماعهما في جسم متحرك الى جهة واحدة فهو جائز إذا كانت المسافة مملوة بالعائق، واما مع خلوّ المسافة فلا.
مسألة : الميل باق عند وصول الجسم الى المكان لأنه علة الوصول فهو موجود معه، وفيه نظر وبنوا على وجوده عند الوصول أنه موجود دفعة لأن الوصول مما يوجد في الآنات.
مسألة : الميل قابل للشدة والضعف وهو مستفاد من الحس، والطبيعي يشتد عند القرب من المطلوب لقلة المعاوق، والقسري يشتد عند التوسط، لأن الحك إذا تحرك على المرمي تسخن فيزداد السخونة ويضعف القوة، الاّ أن التلطف بسبب السخونة يوفي على ما يحصل من الضعف فيزداد المقسور حركة، فإذا تواتر الاصطكاك ضعف القوة ضعفا لا يفي الحرارة بتداركه.
مسألة : قال المتكلمون: الاعتماد جنس تحته ستة أنواع بحسب عدد الجهات، فما اختص منها بجهة فهو متماثل بلا خلاف، لأنه إن كان علة التماثل موجودة فيه وجد التماثل لكن المقدم حق فالتالي مثله، والشرطية ظاهرة، وبيان صدق المقدم أن الاستقراء دل على أنه لا صفة له أخص من كونه اعتمادا في جهة مخصوصة وبه تتميز من سائر الأجناس، فيجب أن يكون كل ما تدرج تحت هذه الصفة متماثل، وأنت لا يخفى عليك ضعف هذا.
وامّا ما تغاير جهته، فهو مختلف غير متضاد عند أبي هاشم وأصحابه، وقال أبو علي: إنه متضاد ، واحتج أبو هاشم على الاختلاف بأن صفة التماثل ليست حاصلة له وعلى عدم الضدية باجتماع المثلين، فإن الحجر إذا رمي به الى فوق كان فيه اعتمادا الى الفوق قسرا واعتمادا آخر الى السفل طبعا.
وأيضا إذا تجاذب شخصان جسما وتساوت قدرتهما وقف ذلك الجسم، لأنه قد أوجد كل منهما فيه اعتمادا ممانعا لفعل الآخر، وهذا القول قد نصره الشيخ ابو جعفر.
مسألة : الثقل هو الاعتماد اللازم الموجب للحركة سفلا عند أبي هاشم وأصحابه، وقال أبو علي: إنه راجع الى تزايد أجزاء الجواهر وكان يثبت لكل جوهر قسطا من الثقل.
وهذا باطل عندنا، فإن الثقل يوجد مع قلة الجواهر والخفة مع التزايد، فإن الأزقاق المنفوخة فيها أجزاء هوائية تمتلي بها وقدرها أكثر من قدر الأجزاء الرصاصية الموجودة في الأزقاق مع عدم امتلائها مع ان الثقل في هذه أكثر.
مسألة : الاعتماد بالنسبة الى ما يتولد عنه على ثلاثة أقسام:
الأول: ما يتولد عنه بذاته من غير حاجة الى شرط وإن كان في بعض الأحيان يحتاج الى شرط وهو الأكوان والاعتماد في محله وإن كان تولدهما في غير محله بشرط التماس.
والذي يدل على أنه يولد الأكوان، أن الجسم يتحرك الى جهة دون أخرى، فلا بد من مخصص يختص بتلك الجهة، ولا عرض يختص بالجهات الاّ الاعتمادات فيستند الاختصاص إليها.
والذي يدل على أنه يولد الاعتماد، وجود الحركة القسرية شيئا بعد شيء، فإن المحرك يوجد فيه الاعتماد والاعتماد يولد الحركة الأولى والاعتماد معا ثم إذا تحرك ولّد الاعتماد حركة أخرى واعتمادا آخر، لأنه لو لم يولّد الاعتماد الأول اعتمادا ثانيا لما تحرك الجسم حركة أخرى غير الأولى.
الثاني: ما يتولد عنه بشرط ولا يصح بدونه وهو الأصوات، فإنها يتولد عنه بشرط المصاكة ، لأنا نفعل الصوت في الصداء فهذا فعل لنا في غير محل قدرتنا، وما يتعدى محل القدرة لا يولده الاّ الاعتماد لاختصاصه من دون سائر الأعراض بالجهات.قالوا: فإذا كان الصوت الحالّ في غير محل القدرة يتولد من الاعتماد، فالذي يحلّ محلها كذلك، لأنه لا ينفك الصوت عن الاعتماد في حال ما فيجب استناده إليه.
الثالث: ما يتولد عنه لا بنفسه بل بتوسط وهو الألم والتأليف، فإن الاعتماد يولد المجاورة والتفريق والمجاورة يولد التألف والتفريق يولد الألم.
وهو عرض عند أبي هاشم قائم بمحلين، ووافقه على ذلك الشيخ أبو جعفر واستدل عليه بأن بعض الأجسام يصعب تفكيكها فلا بد وأن يكون ذلك لأمر وذلك الأمر ليس وجوده ولا حدوثه ولا جنسه، فبقي أن يكون لوجود معنى قائم بالمحلين يربط أحدهما بصاحبه، فإذا انضم إليه ثالث قام به وبصاحبه تأليف آخر فلا يقوم التأليف الاّ بالمحلين لا غير، وهذا عندنا باطل قطعا، فإن العرض الواحد لو قام بمحلين لما تميز عن العرضين القائمين بالمحلين كما نقول في الجسم الواحد وإنه لا يحل في مكانين وأما صعوبة التفكيك فهي مستندة الى اللّه تعالى أو الى أعراض قائمه بالمحال المتجاورة.
وقد وافقنا على امتناع قيام العرض بمحلين محققوا الأوائل، وذهب آخرون منهم غير محققين الى أن الإضافات المتماثلة قائمة بالمضافين، والمحققون قالوا: إن القائم بأحد المضافين غير القائم بالآخر.
مسألة : التأليف يجوز عليه البقاء عندهم، وإلاّ لزم أحد الأمرين وهو إما سهولة تفكيك ما يصعب تفكيكه أو تعذر تفكيكه على كل وجه، والتالي باطل بقسميه فالمقدم كذلك.
بيان الشرطية أن التأليف على تقدير عدم بقائه إن أوجده اللّه تعالى حالا فحالا وأراد ذلك دائما لزم الأمر الثاني لاستحالة ممانعة القديم، وإن لم يرد إيجاده في بعض الأوقات لزم الأمر الأول، وأما بطلانهما فظاهر.
مسألة : التأليف متماثل لاشتراك أفراده في أخص الصفات وهو كونه مختصا بمحلين، وهم منازعون في أن هذا أخص الصفات، فإن عوّلوا فيه على الاستقراء نقضناه عليهم بالإضافات المتماثلة على قول بعض الأوائل.
مسألة : لما كان موضوع الضدين واحدا واستحال أن يكون شيء من الأعراض قائما بمحلين غير التأليف استحال أن يكون له ضد.
نقل عن بعض الأوائل إنها عبارة عن اعتدال المزاج اعتدالا يليق بالنوع.
وقال آخرون منهم: هي قوة الحس والحركة، واستضعف بعضهم هذا النقل.
والمتكلمون أثبتوا معنى زائدا على الاعتدال والقوة، واستدلوا بأن الذوات تختلف في صحة العلم والقدرة وعدمها فلا بد من مخصص لبعضها بالصحة دون الآخر، وهم مطالبون بالاستدلال على أن هذا المخصص مغاير للاعتدال والقوة.
مسألة : الذي عليه جماهير المعتزلة أن الحياة نوع واحد لا اختلاف بين أفرادها الاّ بالعدد.
واستدلوا عليه بأنها قد اشتركت في حكم واحد وهو صحة الإدراك، والاشتراك في الأحكام يستلزم الاشتراك في عللها.
وانت لا يخفى عليك ضعف هذه الطريقة.
مسألة : لا بد في وجود الحياة من بنية عند الأوائل والمعتزلة، وكأنهم عولوا في ذلك على الاستقراء الذي حصل منه اليقين.
والاشاعرة نازعوهم في ذلك ، قالوا: لأن الحياة إن قامت بجميع الأجزاء لزم قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة وهو محال، وإن قام بكل جزء حياة، فإن كان قيام الحياة بأحد الجزءين شرطا في قيام الحياة بالآخر لزم الدور أو الترجيح من غير مرجح، والاّ فهو المطلوب.
وهذا الكلام فاسد، فإنّ على تقدير أن لا يكون قيام الحياة بأحد الجزءين شرطا في قيامها بالآخر، لا يلزم منه المطلوب، لجواز أن لا يكون ذلك شرطا ويكون الشرط هو مجامعة أحد الجزءين للآخر ولا يلزم منه دور ولا ترجيح من غير مرجح.
وزعمت المعتزلة أن الحي ليس هو إشارة الى محل الحياة والاّ لكان الواحد منا يتنزل منزله أحياء ضم بعضها الى بعض فلا يتصرف بقصد واحد وداع واحد، وقد نقل عن الاسكافي خلاف ذلك.
مسألة : شرط المعتزلة للحياة نوعا من الرطوبة كالدم فينا ولهذا يموت من يخرج دمه، وما لا دم فيه من الحيوانات لا بد له من رطوبة.
قالوا: وتحتاج الحياة الى نوع من التخلخل، فإن الاكتناز والتصلب مما يمنع من الحياة.
وقد اختلفوا في حاجتها الى الروح والروح عند الأوائل عبارة عن أجزاء لطيفة متكونة من بخارية الأخلاط.
وبعض المعتزلة فسرها بأنه هواء رقيق يختص بضرب من البرودة يتردد في مجاري النفس، وذهب أبو هاشم الى حاجتها إليها، وخالفه في ذلك ابو علي.
حجة أبي هاشم أن الممنوع من النفس يموت لفقد الروح كما أن الموت حاصل عند فقدان البنية فكما كانت البنية شرطا فكذلك الروح.
حجة أبي علي أن الروح لو كان شرطا لجاورت كل محل فيه حياة، والتالي باطل بالوجدان فانا نعلم عدم مجاورة الروح لأكثر البدن فالمقدم مثله.
والحجتان رديتان، أما الأولى فلجواز اختصاص ذلك ببعض الابدان وهي الفاقدة للحياة عند فقدان الروح.
وامّا الثانية فالملازمة فيه ممنوعة، نعم تجب مجاورة الروح للمحل الذي لو زالت عنه الحياة لمات كما وقع الاتفاق من المشايخ على الحاجة الى البنية وان كان قد يزول في بعض المحال كما في مقطوع اليد، وانما لم يؤثر زوال هذه البنية في زوال الحياة لأن البنية مشترطة في بعض المحال وهو الذي لو زالت البنية عنه لمات الشخص.
قال جماعة من الأوائل: إنها محتاجة الى الحرارة بالوجدان، ونازعهم المعتزلة في ذلك وجوّزوا أن يكون فقدان الحياة عند فقدان الحرارة بالعادة.
واعلم أن هذا الاحتمال مما يتطرق في الجميع.
مسألة : وجود الحياة من اللّه تعالى وهو غير مقدور لنا، واستدل ابو هاشم بأنا لو قدرنا عليها لقدرنا على الموت والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية ان القادر هو الذي يقدر على الشيء وعلى ضده والموت ضد الحياة، واما بطلان التالي فظاهر فإنه يتعذر علينا موت زيد مع صحة اتصاف زيد به.
وهذه الحجة عندي ساقطة، لأنها مبنية على ضدية الموت للحياة وعلى أن القادر على أحد الضدين يجب أن يكون قادرا على الآخر، والسيد المرتضى شك في ذلك من حيث العقل وجزم بعدم القدرة من حيث السمع.
مسألة : ذهب المحققون الى أن الموت عدم الحياة عن المحل بعد وجودها فيه، وذهب أبو علي وأبو القاسم البلخي الى أنه معنى يضاد الحياة واحتجا بقوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ .
والجواب: ان الخلق هو التقدير.
القوة الشاعرة بما يصدر عنها هي القدرة وغير الشاعرة هي الطبيعة، والقدرة غير المزاج فإن المزاج كيفية متوسطة بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بخلاف القدرة.
واعلم أن بعض الناس ذهب الى أن القدرة عبارة عن سلامة الاعضاء في حقنا.
والأشاعرة وبعض المعتزلة أثبتوا صفة للقادر باعتبارها يكون قادر، قالوا: لأن حركة المختار وحركة المرتعش متغايرتان ولا مائز الاّ هذه الصفة.
وهذا فيه نظر، فإنه لا يدل على ثبوت امر وراء السلامة.
مسألة : القدرة عرض لا بد له من محل، والقائلون بجواز وجود العرض لا في محل يفتقرون الى الاستدلال، واستدل بعضهم بأنها لو كانت لا في محل لزال عنها الاختصاص بقادر معين فكانت قدرة لكل من صح أن يكون قادرا، والتالي باطل فالمقدم مثله والملازمة ظاهرة.
وبيان بطلان التالي أنها لو صحّ تعلقها بأكثر من قادر واحد لكان المقدور الواحد مقدورا لقادرين، والتالي باطل على ما يأتي فالمقدم مثله.
والاعتراض المنع من الملازمة، فانه لا استبعاد في تجرد هذه القدرة واختصاصها ببعض القادرين على رأيكم كما تقولون مثله في إرادة اللّه تعالى، على أنا وإن سلمنا ذلك لكن المنع من استحالة تعلق القادرين لمقدور واحد قائم.
مسألة : لا شك في احتياج القدرة الى الحياة، وهل يفتقر الى وجود بنية زائدة على بنية الحياة أم لا؟ولا نعني بالبنية الزائدة زيادة تأليفات بين الجزءين فإن ذلك مما يصيرهما في الصلابة بحيث يمنع من وجود الحياة، بل نعني به زيادة التأليف لزيادة الأجزاء على وجه ثبت بينها الخلل، فذهب أبو هاشم الى الحاجة، ومنع منه أبو عبد اللّه.
احتج ابو هاشم بأنا نجد التفاوت بين الفيل وبين جسم في غاية الصغر في القوة، مع أن وجود الكثير من القوة في محل واحد صحيح، فلو لا الحاجة الى الزيادة لما وقع الاختلاف.
ولقائل أن يقول هذه الحجة بعد تسليم أصولها غير دالة على المطلوب، وإنما يلزم منها كون البنية الزائدة محتاجا إليها في زيادة القوة لا في أصلها، والى هذا ذهب أبو عبد اللّه وإن كان للنزاع فيه مجال.
تذنيب : قالوا: كل قدرة يفتقر الى بنية مخصوصة لا يمكن وجود قدرة أخرى فيها، لأنه لو جاز وجود هاتين القدرتين في هذا المحل على البدل لجاز وجودهما فيه على الجمع، والتالي باطل فالمقدم مثله.
وبيان بطلان التالي أن البنية واحدة، وهذا يناقض ما أصلناه من احتياج القدرة الى بنية زائدة، وهذا في غاية السقوط فإن الملازمة فيه ممنوعة ولو سلمت منع بطلان التالي والتناقض غير لازم لأن المحتاج إليه في القدرة من البنية يكون زائدا على بنية الحياة لا على بنية قدرة أخرى.
مسألة : نقل عن المجبرة احتياج القدرة الى العلم، وردّ عليهم بعض المعتزلة بالساهي والنائم فإنهما قادران مع فقدان العلم عندهما وبالمحتذى فإنه قادر وليس بعالم وللمنازع ان يطعن في نفي العلم عن هؤلاء.
والتحقيق أن يقال: إن كان المطلوب احتياج القدرة في تأثيرها الى العلم فهو حق، وإن كان هو احتياجها في وجودها إليه فهو ممنوع.
مسألة : قالوا: القادر انما يتعلق قدرته بالمقدور على طريقة الحدوث، بمعنى أن القادر ليس له تأثير في نفس الماهية عندهم وانما تأثيره في جعل الماهية موجودة بعد العدم.
وعند الاشعرية انما يتعلق بالكسب .
واستدل المعتزلة بأن القدرة لو تعلقت بغير الأحداث لتعلقت بسائر صفات الفعل، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الملازمة أنه ليس بعض الصفات بالتعلق اولى من البعض، وبيان بطلان التالي أنها لو تعلقت بجميع وجوه الفعل لكانت مساوية للعلم والاعتقاد.
والاعتراض لم لا يجوز أن يكون بعض الصفات والوجوه أولى من بعضها في تعلق القدرة به، ولو سلم ذلك لكن المنع قائم في المساوات للعلم على ذلك التقدير، فإنه لا يلزم من الاشتراك في الصفات الاشتراك في الذوات.
مسألة : ومنع المعتزلة من تعلق القدرة بالأعدام، قالوا: لأن القادر انما يتعلق قدرته بتحصيل صفة الفعل لأن التعليل بالفاعل كالتعليل بالعلة، وليس للمعدوم بكونه معدوما صفة وإنما فائدة قولنا معدوم الخروج عن الوجود، والاعتراض أن
قولكم: القادر انما يتعلق قدرته بتحصيل صفة للفعل نفس النزاع، فإن لقائل ان يقول كما يتعلق قدرته بتحصيل صفة فقد يتعلق بعدمها، والقياس على العلة غير مفيد.
على أنا نقول: إن عدم المعلول يستند الى العلة أيضا كما أن وجوده يستند إليها وحكي عن ابي الهذيل وبعض النفاة جواز ذلك.
مسألة : متعلق القدرة عندهم عشرة انواع، فمن أفعال الجوارح الأكوان والتأليف والاعتماد والصوت الألم.
ومن أفعال القلوب الإرادات والكراهات والأفكار والاعتقادات والظنون.
واختلفوا، فذهب أبو علي الى أن القدرة انما تتعلق بما يصح وجوده في محلها من مقدورات القدر، فمنع من تعلق قدر القلوب بأفعال الجوارح وبالعكس.
وذهب قاضي القضاة وأبو اسحاق وأبو عبد اللّه الى جواز ذلك، قالوا:
والدليل على بطلان مذهب أبو علي إن الحركة تصح وجودها في القلب فيجوز تعلق قدرة القلب بها وهي من أفعال الجوارح.
مسألة : قالوا: الأفعال على ثلاثة أقسام: المباشر والمتولد والمخترع، والأخير لا يقدر عليه غير اللّه تعالى والاّ لأمكننا تسكين الضعيف المتحرك في السوق بأن يخترع فيه من السكنات ما يزيد على الحركات.
وأما الأولان فان القدرة تتعلق بهما.
مسألة : ذهب قوم من الأوائل وجماعة الأشاعرة الى أن القدرة لا تتعلق بالضدين، وجماعة المعتزلة اتفقوا على صلاحيتها للتعلق بهما.
والحق أن نقول: إن عني بالقدرة مجموع ما يترتب عليه الأثر فالقدرة ليست صالحة للضدين وإلاّ لزم وجودهما معا هذا خلف، وان عني بها الصفة التي باعتبارها يصح صدور الفعل فلا شك أنها صالحة للضدين، قالوا: مفهوم القدرة على أحد الضدين غير مفهوم القدرة على الآخر.
والجواب: أن القدرتين قد اشتركتا في مفهوم واحد هو مطلق القدرة، اللهم الاّ أن ينكر الاشتراك المعنوي وحينئذ تقع لفظة القدرة على أنواع لا يتناهى بالاشتراك اللفظي وهو غير مذهوب إليه، وبالجملة فالحجة عندي ضعيفة ومطلوبهم مستبعد.
مسألة : القدرة متقدمة على الفعل، وهو مذهب المعتزلة وجماعة كثيرة من الأوائل، حتى أن الخوارزمي ادعى الضرورة في ذلك.
وذهب آخرون منهم والأشاعرة الى أنها مقارنة، واستبعده الرئيس.
لنا أن القدرة صالحة للضدين، فلو لم يكن متقدمة لزم اجتماع الضدين.
وأيضا الكافر مكلف بالإيمان، فلو لم يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق، ولأن التكليف عندهم حالة القدرة التي هي حالة الفعل فيلزم انتفاء العصيان.
احتجت الأشاعرة بأن القدرة عرض والعرض لا يبقى فالقدرة لا تبقى، أما الصغرى فظاهرة وأما الكبرى فسيأتي بيانها، واذا لم تكن باقية فلو تقدمت الفعل لم يكن الفعل واقعا بها فلا يكون الفاعل قادرا، وأيضا حال وجود القدرة الفعل معدوم فهو غير مقدور.
أمّا أولا فلأن الأعدام لا تستند الى القدرة.
وأما ثانيا فلأن الباقي لا يستند إليها.
وهاتان الحجتان عندي ضعيفتان، أما الأولى فلأن الأعراض عندنا باقية،
وأيضا فعلى تقدير كونها غير باقية يجوز وجود الفعل لوجود قدرة اخرى.
أما الثانية فلأنا قد بينا أن الاعدام يجوز تعقله بالقادر وكذلك الباقي، على أنا نقول: هذا الامتناع انما لزم من فرض اجتماع القدرة وعدم الفعل، والمدعى امتناع وجود القدرة قبل الفعل لذاتها لا بانضمام غير إليها.
مسألة : القدرة غير موجبة للفعل، وخالف في ذلك جماعة الأشاعرة.
وحجتنا في ذلك ما تقدم، فانها لو كانت موجبة والقدرة قدرة على الضدين فيلزم وجودهما معا.
وأما بقاء القدرة، فمذهب الأشاعرة فيه معلوم ووافقهم على ذلك البغداديون من المعتزلة، والسيد المرتضى شك في بقائها.
وأما المعتزلة، فاستدل الخوارزمي على بقائها بأنها عبارة عن البنية، ولا شك في استمرارها على طريقة واحدة.
واحتج البصريون على ذلك بأنه يحسن منا ذم من ترك ردّ وديعة بعيدة منه بمقدار عشر جهات في عشرة أوقات مع الأمر بردها، فلو لم يكن فيه قدرة على الردّ لما حسن ذمه الاّ على ترك قطع الجهة الاولى، وذلك لا يمكن الاّ مع البقاء.
اعترض عليهم الخوارزمي بأن هذه القدرة الباقية ليست قدرة على الردّ الاّ على التقدير بأن يفعل بها مقدمات الرد من قطع المسافة ثم يتمكن به من الرّد، وهذا لا فرق فيه بين القدرة الباقية والقدرة الحادثة وقتا بعد وقت في انه يتمكن بها من الرد على جهة التقدير، فصح ذمه على ان لا يفعل الرّد بمقدماته.
وعندي في هذا نظر، فإن القدرة على أمر مشروط بشرط ممكن، تكون قدرة على ذلك الأمر فيحسن الذم في ترك الرد على التقدير الأول وأما إذا قيل أنه لا قدرة على ذلك الأمر وإنما القدرة على الشرط لم يحسن الذم على ترك الرد.
مسألة : ذهب مشايخ المعتزلة الى أن القدرة تتعلق بالمختلف في الوقت الواحد بما لا يتناهى، وتتعلق بالمتضادات المتنافية على البدل لا على الجمع، بمعنى أنه لا يمكن وجود المتنافيين معا وإن تعلقت بهما القدرة.
وأما المتماثل فان القدرة لا تتعلق الاّ بجزء واحد في الوقت الواحد والمحل الواحد، وتعلقها بالفعل في الأوقات لا يتناهى، وكذلك تعلقها بالفعل في المحال.
احتجوا على تعلقها بما لا يتناهى من المختلفين بأنا نقدر على جذب جسم مفروض فيه عدم النهاية إذا لم يكن فيه ثقل ولا اعتماد الى خلاف الجذب بقدرة واحدة والكون في كل جزء من ذلك الجسم يخالف الكون في الجزء الآخر.
والاعتراض أن بعض الأجزاء انما تحدث فيها الحركة بسبب الاعتماد المباشر والآخر يتولد عن الفعل المباشر، وذلك لا تأثير للقدرة فيه وإنما تأثيرها في السبب الموجب، اللهم إلاّ أن يقولوا: إن القدرة على السبب، قدرة على المسبب فحينئذ يقال لهم: إن عنيتم بالقدرة على المسبب تأثيرها فيه ابتداء فهو باطل قطعا، وان عنيتم به أنه مستند الى القدرة بواسطة السبب فذلك هو الحق وهو غير نافع لكم، فإن الكلام فيما تؤثر فيه القدرة بذاتها.
واحتجوا على تعلقها بالمتماثل على الوجه الذي ذكرناه بأنها لو تعلقت بأكثر من جزء واحد مع اتحاد الوقت والمحل لتعلقت بما لا يتناهى من المتماثلات مع اتحاد الوقت والمحل، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أن كل متعلق بغيره متى تعدى في تعلقه الواحد لم يتناه متعلقه ومتى انحصر متعلقه لم يتجاوز الواحد.
أما الأول فبالقياس على القدرة على المختلف والمتماثل مع تغاير الوقت او المحل به .
أما الثاني، فبالقياس على العلوم والارادات.
وأما بيان بطلان الثاني فلأنه يلزم منه عدم الفرق بين القوي والضعيف في حمل الثقيل لأنهما قادران على ما لا يتناهى في هذا الموضوع، وهذه الحجة ضعيفة جدا وضعفها غني عن البيان.
مسألة : الترك عندنا عبارة عن عدم الفعل، ومشايخ المعتزلة ذهبوا الى أنه ضد الفعل، واختلفوا فذهب أبو علي الى أنه لا يجوز خلوّ القادر بقدرة عن الأخذ والترك في المباشر وجوزه في المتولد بشرط زوال المنع، وذهب آخرون الى جواز ذلك مطلقا.
واحتج أبو هاشم على جواز ذلك في«البغداديات» بأن القادر لكونه قادرا لو لم يجز خلوّه، عن الأخذ والترك لما جاز خلوّ القديم تعالى عن ذلك، فكان يلزم قدم الفعل.
وهذه الحجة عندي ضعيفة، فإن القياس لا يفيد اليقين لا سيما مع خلوّه عن الجامع الصالح للعلية.
واحتج أبو علي بأنه لو جاز خلوه عنهما وقتا ما لجاز دائما، وذلك يقتضي خروج المكلف من الطاعات والمعاصي فيخرج عن استحقاق المدح والذم.
ولقائل أن يقول: لا استبعاد في جواز ذلك، نعم وقوعه مستبعد، لكون القادر
متعرضا لدواعي الحاجة المستلزمة للفعل.
مسألة : هل يصح اجتماع قدرتين على مقدور واحد؟الحق عندنا ذلك.
وذهب مشايخ المعتزلة الى المنع، واحتجوا بوجهين:
الأول: أنهما لو كانا قادرين على مقدور واحد لم يكونا قادرين، والتالي باطل لمخالفة الغرض فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أن القادر هو الذي يوجد الفعل عند داعيه وينتفي عند صارفه، واذا كان كذلك فاذا فرضنا أحدهما مريدا لذلك الفعل والآخر كارها له، فان وجد خرج الكاره عن القدرة، وان لم يوجد خرج المريد عن القدرة.
الثاني: أنهما لو فعلاه لم يحصل التمييز بينه وبين ما اذا فعله أحدهما.
وهذان الوجهان عندي ضعيفان.
أما الأول فلأن المحال انما لزم من اجتماع القدرتين مع الإرادة والكراهة مع، ولا يلزم من استلزام المجموع للمحال استلزام أحد أجزائه على التعيين ذلك المحال، وأيضا الفعل انما ينتفي عند الصارف لا مطلقا، بل اذا لم يوجد فاعل آخر ولا يلزم خروج القادر عن القدرة.
وأمّا الثاني فالمحال انما يلزم على تقدير صدوره عنهما جميعا لا على تقدير صدوره عنهما انفرادا، فالغلط نشأ لهم في الحجتين لأجل أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات.
وأجاب محمود عن الثاني بأن التميز قد يكون حقيقيا وقد يكون تقديريا، ومطلق التميز كاف وهو حاصل هاهنا على تقدير الاجتماع، لأنه حينئذ اذا
فعلاه فإما أن يمنعهما ثالث قدرته كقدرة أحدهما أو لا يمنعهما، فإن منعهما وقع نظرا الى القدرة الزائدة فحصل التميز الحقيقي، وان لم يمنعهما حصل التميز التقديري باعتبار أنه لو منعهما لوقع التميز وهذا الكلام ضعيف.
تذنيب : فرع المشايخ على اصلهم اختلاف القدر، لأنها لو تعلقت قدرتان بمقدور واحد لم يمتنع اختصاص إحدى القدرتين بقادر والأخرى بآخر فيصح بهما مقدور واحد وهو هدم لما أسسوه.
وهذا ضعيف، فإن مع تسليم الأصل يمنع الملازمة والاّ لزم هدم الاصل.
تذنيب : قالوا: القدر غير متضادة، لأن المتعلق بالغير انما يضاد ما تعلق بذلك الغير على عكس ما تعلق به الأول، فاتحاد المتعلق شرط في التضاد ولا يعقل ذلك في القدر.
مسألة : إذا حلت قدرتان محلا واحدا، قال: أبو علي وأبو هاشم: يمتنع وقوع الفعل باحداهما دون الأخرى، وجوز ذلك أبو عبد اللّه.
حجتهما أن كل واحدة منهما صالحة للفعل، فاسناده الى إحداهما دون الاخر يكون ترجيحا من غير مرجح.
وفيه نظر، فإن القدر عندهما مختلفة، فجاز إسناد الأولوية الى إحداهما دون الأخرى وإن اشتركت في الصلاحية، وأيضا فهما معارضان بالقادر الذي يرجح أحد مقدوريه على الاخر لا لمرجح.
حجة أبي عبد اللّه أن القادر يصح منه الفعل لكونه قادرا، فكيف يمتنع عنه ضد الفعل الذي هو الترك لاحدى صفتيه دون الأخرى.
مسألة : القدرة غير مقدرة لنا، واستدلوا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يزيد في قدرتنا على ما هي عليه.
ولقائل ان يقول: القدرة متوقفة على أمور كالحياة والبنية وهذه من أفعال اللّه تعالى فلم لا يجوز توقف زيادة القدرة على زيادة أمر آخر من فعل اللّه تعالى؟ وذلك الأمر ليس بحاصل فلا يقدر على فعل الزيادة نفيا .
اجابوا بأنه يجب صحة وجود ذلك الأمر فيزيد في قدر أنفسنا ولصارت حالها في تقوية نفوسنا كحال القديم تعالى وهو باطل، وأنت خبير بسقوط هذا الكلام.
مسألة : تخرج القدرة عن تعلقها لأمور: منها ما هو راجع إليها وهو عدمه، فإنه متى عدمت القدرة لم تبق متعلقة بشيء.ومنها ما هو راجع الى المقدور، وقد ذكروا فيه ستة اوجه:
أحدها: وجوده، فانه انما يحتاج الى القدرة لأجل الإخراج من العدم الى الوجود، فبعد الوجود لم يبق احتياج إليها.
الثاني: وجود السبب، لأنه مع وجوده لا يمكن الترك فتكون القدرة زائلة.
الثالث: حضور وقت المقدور، لأن تأثير القدرة انما هو في صحة الفعل بها في الزمان الثاني، فإذا حضر وقت الفعل ووجدت القدرة كان وقت الفعل هو الوقت الثالث لا الثاني هذا خلف.
الرابع: حضور وقت السبب، وبيانه قريب مما مرّ.
الخامس: تقضي وقت الفعل.
السادس: تقضي وقت سببه، وهو ظاهر.
تتمة : تشتمل على مسائل ذهب أصول بعضها.
قالت المعتزلة: يستحيل وجود الفعل حال حدوث القدرة، وإنما يصح الفعل بها في الزمان الثاني من وجودها والاّ لاستغنى الفعل في نقله من العدم الى الوجود عنها، وذلك يقدح في وجوب تقدمها.
ونحن نقول: المقارنة الزمانية لا تخرج المعلول عن الاحتياج فكذلك فى جانب القدرة، ولا نرى فرقا بينهما سوى المقارنة بالشعور وعدمه والوجوب في العلة والإمكان في القدرة.
مسألة : أوجب البغداديون مقارنة القدرة للفعل، لأن المشي لا بد معه من قدرة مقارنة.
ونحن نقول: المشي عبارة عن حركات مخصوصة والحركات مركبة من الأجزاء الأفراد وكل جزء من الأجزاء له قدرة تحتاجون الى الاستدلال على مقارنتهما، وما ذكروه لا يدل على ذلك، فإن قدرة المشي في الحقيقة قدرة مختلفة.
واعلم أن مذهب البغداديين أن القدرة لا يصح عليها البقاء على ما نقلناه عنهم، وأن القدرة متقدمة على الفعل، فخلص لنا من هذه الأقوال أن المقارن للفعل ليس هو القدرة المتقدمة بل تلك مفقودة وتخلفها أخرى مؤثرة والاّ لزم التناقض.
مسألة : ذهبت الأشاعرة الى أن العجز أمر وجودي، قالوا: لأنه ليس جعل العجز عبارة عن عدم القدرة أولى من العكس.
وهذا الكلام ركيك، فإن عدم الأولوية مع فقدان الدليل هو الحق ولا يستدل
به على ثبوت أحد المعنيين دون الآخر.
وذهب أبو علي الى أن العجز معنى يضاد القدرة، وأبو هاشم قال بذلك أولا ثم شك ثانيا .
والصواب ان نقول: ان كانت القدرة عبارة عن سلامة الأعضاء فالعجز آفة تعرض للأجزاء فيكون وجوديا، وإن كانت القدرة عبارة عن الهيئة العارضة عند سلامة الأعضاء فالعجز عدم تلك الهيئة، والبحث في هذا على الاستقصاء مما لا فائدة فيه.
البحث الرابع عشر: في الاعتقادات
وهي أمور غنية عن التعريف يمكن الحكم فيها بالنفي والإثبات، وهي إما أن تكون جازمة أو لا، والأول إما أن تكون مطابقة أو لا، والأول إما أن تكون ثابتة أو لا، والأول هو العلم والثاني هو التقليد للمحقق وغير المطابق وهو الجهل المركب وغير الجازم هو الظن.
وقد لاح من ذلك أن الاعتقاد جنس لهذه، وقد أخرج بعضهم الظن منه، وأبو الهذيل أخرج العلم أيض، وجماعة قسموا غير الجازم الى ما يترجح أحد طرفيه على الآخر والى ما لا ترجح، فالذي ترجح هو الظن، والذي لا يترجح إن تساوى الطرفان فيه فهو الشك والاّ فهو الوهم، وقد أدخل هؤلاء في الاعتقاد ما ليس منه وهو الوهم والشك، كما أخرج أولئك من الاعتقاد ما هو منه.
مسألة : اختلفوا في العلم، فذهب المحققون الى أنه غني عن التعريف.
وجماعة من المتكلمين ذكروا في حدّه أنه اعتقاد الشيء على ما هو عليه وزاد آخرون مع سكون النفس.
وجماعة من الأوائل قالوا: إنه حصول صورة الشيء في العقل.
واعترض عليهم بأنه يلزم منه أن يكون الجماد الموصوف بالسواد عالما به، وأيضا علمنا بذاتنا إن كان نفس ذاتنا لزم من العلم بذاتنا العلم بعلمنا بذاتن، ويلزم دوام علمنا بذاتنا ما دامت ذاتنا، وأن يكون علمنا بعلمنا بذاتنا نفس علمنا بذاتنا الذي هو نفس ذاتنا وتراقي العلوم الى ما لا يتناهى.
وإن كان غير ذاتنا، فإن كان لحصول صورة مساوية لزم اجتماع الأمثال، وإن كان لصورة مخالفة بطل ما ذكروه.
وهذان الاعتراضان ساقطان.
أما الأول فلإغفالهم القيد الذي يخرج به الجماد عن كونه عالما، فإن العلم ليس هو حصول الصورة مطلقا بل القابل للإدراك.
وأما الثاني فلأن العلم بذاتنا نفس ذاتنا بالذات وغيرها بنوع من الاعتبار، فلا يلزم ما ذكروه من المحاذير، على أن لنا في قولهم: لو كان العلم لحصول صورة مساوية لذاتنا لزم اجتماع الأمثال، نظرا ذكرناه في كتاب الأسرار .
مسألة : ذهب من لا تحصيل له الى أن العلم أمر سلبي، وهو باطل، لأن مقابله إن كان عدميا كان العلم عدما للعدم يكون وجودا، وان كان وجوديا كان صادقا على المعدوم فيكون المعدوم عالما هذا خلف.
وفي هذا الرد عندي نظر، فإن عدم الأمر العدمي لا يلزم أن يكون وجودي،
ولو سلم ذلك لكن في قوله: إنه على تقدير وجوده مقابله يكون المعدوم عالما، المنع قائم، فإنه جاز أن يكون عدميا وإن كان لا يصدق الاّ على الموجود كما في الوجوب.
وتحقيق هذا انما يظهر بما أقوله هاهنا وهو: أن الوجود قد يؤخذ باعتبار إضافته الى الخارج، وقد يؤخذ باعتبار إضافته الى الذهن، وقد يؤخذ بالاعتبار الأعم الصادق عليهما معا ويؤخذ العدم باعتبارات ثلاث مقابلة لتلك الملكات.
وقد يؤخذ الوجود والعدم كل منهما مقيسا الى ماهية ما فيقال لتلك الماهية:
إنها وجودية وعدمية بالاعتبارات المذكورة، فاذا صدق على ماهية أنها عدمية لم يلزم أن يكون سلبها وجوديا، فإن المعدوم في الخارج الثابت في الذهن يجتمع مع مقابله وهو السلب على العدم في الخارج كما هو الحال في العمى وسلبه.
مسألة : ذهب قوم: الى أن العلم أمر إضافي، وجماعة من الأوائل ذهبوا الى أنه أمر زائد على الإضافة تلزمه الإضافة ويتعين بتعين الإضافة.
ولا شك في احتياج العلم الى الإضافة، وأما أنه هل هو زائد على الإضافة أم لا؟فلنا فيه نظر.ويلزم الفريقين علم الإنسان بنفسه، فإنا إذا جعلناه نفس الإضافة لم يكن بد من أمرين تقع الاضافة بينهما.قالوا: الذات من حيث إنها عاقلة مغايرة لها من حيث إنها معقولة واذا صحت المغايرة بهذا النوع من الاعتبار صحت الإضافة.
وهذا خطأ، فإن المغايرة حينئذ تتوفق على ثبوت التعقل، فلو كان التعقل متوقفا عليها لزم الدور.
قال بعض المحققين: المقتضي للمغايرة هو العلم وليست المغايرة بمقتضية للعلم، بل هذه المغايرة لا تنفك عن العلم كما لا ينفك المعلول عن علته ولا يلزم الدور.
اقول: وهذا ضعيف، فإن المغايرة ليست مقتضية للعلم ولكن العلم متوقف عليها توقف المشروط على الشرط، فلو توقفت المغايرة على العلم توقف المعلول على العلة لزم الدور، وأما اذا جعلنا العلم عبارة عن حصول الصورة فقد اتفق المحققون منهم على أنه لا احتياج الى صورة زائدة، بل الصورة العاقلة لنفسها انما تعقل نفسها بنفسها، وهذا يلزم منه إضافة الشيء الى نفسه.
أجاب الرئيس بأن العاقل هو الذي يحضر عنده المجرد، وهو صادق على ما يكون المجرد فيه هو نفس العاقل او غيره ولا يلزم من كذب الخاص كذب العام، وأيضا التشخص زائد على الماهيّة فالعاقل هو المجموع والمعقول هو الماهية.
وردّ في الأول بأن العموم في اللفظ والعقل لا يقتضي صحة وجود العام بدون الخاص في نفس الأمر، كما أن قولنا: هذا الشيء علّة أعم من كونه علة له أو لغيره في التصور واللفظ مع أنه يستحيل وجود العام في أخصيه معا في نفس الأمر.
وفي الثاني بأنه غير محل النزاع، فان البحث في علم الانسان بنفسه لا في علمه باحد جزئه، ويلزم القائلين بالإضافة ان لا يكون المعدوم معلوما وان لا يكون شيء من الادراكات جهلا.
مسألة : ذهب قوم من الأوائل الى أن التعقل يستدعي الاتحاد مع المعقول، وهو خطأ ، فإن المتحدين إن بقيا فهما اثنان وإن عدما أو عدم احدهما فلا اتحاد مع المعدوم سواء حصل ثالث أو لا، وأيضا إذا عقل عاقلان معقولا واحدا لزم اتحاد العاقل أو فساد مذهبهم، وأيضا إذا عقل معقولين لزم احد المحذورين.
مسألة : إن قلنا: إن العلم إضافة فلا شك في أنه عرض، وأما اذا قلنا: إنه عبارة عن الصورة فلا شك في أن صور الأعراض أعراض، وأما صور الجواهر فالحق عندنا أنها كذلك لأنها مفتقرة في وجودها الى المحل الذي هو النفس، وقد ذهب قوم من الأوائل الى أنها جوهر لأن حد الجواهر-وهو الذي إذا وجد كان لا في موضوع-صادق عليها، وهو خطأ، فإن الجوهر النفساني يستحيل وجوده في الأعيان، إنما الموجود هو المساوي له في الصورة لا في نفس الحقيقة.
وذهب آخرون الى أنها جوهر بهذا الاعتبار وعرض بالاعتبار الذي قلناه فهي جوهر وعرض معا، وهؤلاء عن التحقيق بمعزل.
مسألة : ذهب القائلون بأن الاعتقاد جنس للعلوم وغيرها من المعتزلة الى أن الاعتقاد يكون علما لأمور منها: استناد الاعتقاد الى النظر الصحيح أو تذكره.
ومنها: أن يكون فاعل الاعتقاد عالما بمعتقده، فان علوم العقل انما تكون علوما لأن اللّه تعالى يخلقها وهو تعالى عالم بمعلوماتها وكذلك إذا فعل أحدنا اعتقادا دائما يعلمه فانه يكون علما.ومنها: أن يكون عالما بجملة فيدخل المفصل في تلك الجملة، فإن اعتقاده لذلك المعين يكون علما لكونه عالما بالجملة.
واستدلوا بأن أحدنا يكون عالما عند اقتران كل واحد من هذه الوجوه بالاعتقاد وينتفي علمه عند انتفائها فعلمنا أن المؤثر هذه الوجوه.
وهذا الاستدلال ضعيف، فإن الدوران لا يفيد اليقين على ما يأتي.
قال أبو الحسين: النظر الصحيح وتذكره إنما هو ترتيب علوم كاسبة لعلم داخل تحتها وتلك العلوم مجملة فهو داخل تحت القسم الذي ذكروه من إدخال التفصيل في الجملة، وكون الفاعل للاعتقاد عالما بمعتقده ليس له تأثير في ذلك، فإنه كيف يكون علم الفاعل مؤثرا في كون الاعتقاد المفعول في الغير علما.فإن قالوا:
كونه عالما يؤثر في وقوع الاعتقاد المفعول على وجه يكون علما، قلنا: فالمؤثر في كونه علما هو ذلك الوجه لا علم الفاعل.
مسألة : العلم على ضربين: ضروري ومكتسب، وفاعل الضروري اللّه تعالى وفاعل المكتسب هو نفس العالم، لأنا نجد من أنفسنا أن المكتسب يوجد عند قصدنا ودواعينا وينتفي عند وجود صوارفنا.
والضروري منه ما يحصل ابتداء كالعلم بأن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان، وقد يحصل عند سبب كالمشاهدات والمجردات.
وعند الأوائل أن العلوم الضرورية تنقسم الى أوليات ومشاهدات ومجردات وحدسيات ومتواترات وفطرية القياس، وفاعلها هو اللّه تعالى عقيب الاستعداد، والحاصل من الحواس والعلوم النظرية حاصلة بفعلنا عند حصول الاستعداد المستفاد من العلوم الضرورية.
مسألة : العلم عند الأوائل ينقسم الى: فعلي وانفعالي، والأول هو المحصل للأعيان الخارجية، والثاني هو المستفاد منها.
مسألة : العدم انما يعلم بواسطة ملكته، وقد ظن قوم أن المعدوم غير معلوم والاّ فهو ثابت.
وهذا ظن فاسد، فإن المعلوم ثابت ذهنا لا عينا، وقد أسلفنا في هذا قانونا.
مسألة : لا بد في العلم من المطابقة والاّ لكان جهلا، وهو حكاية عن المعلوم وتابع له لا على معنى أنه متأخر عنه في الوجود، بل على معنى أنه لو لا تحقق المعلوم على حالة ما لما صح تعلق العلم به على تلك الحال، وسواء تقدم العلم أو تأخر فانه بهذه الحال، ولا يستبعد ذلك فإن الحكاية كما تتأخر فقد تتقدم.
مسألة : لا بد للعلم من متعلق، وهو مذهب الأوائل ومن المعتزلة ابن الإخشيد وأصحابه وأبي القاسم البلخي.
وذهب طائفة أخرى الى أن هاهنا علوما لا معلومات لها ولا تتعلق بشيء، وذلك كالعلم بأنه لا ثاني للقديم فانه علم بغير معلوم، لأن المعلوم إما موجود او معدوم، وهذا ليس بموجود وهو ظاهر ولا بمعدوم قالوا: والاّ لصح وجوده والتالي باطل فالمقدم مثله.
وعندنا هذا خطأ، فإنه يستحيل وجود إضافة بدون مضاف إليه، وما ذكروه من العلم بثاني القديم فانه معدوم وليس كل معدوم يصح وجوده، وهذا بناء منهم على خطأهم في إثبات المعدوم وهو ثابت ذهنا، وثبوته الذهني بالقياس على معنى أنه يعقل القديم تعالى ثم يعقل أنه لا ثاني له مساو له، وكذلك إذا علمنا عدم الضد له تعالى فانا نعلمه بالمقايسة على معنى أنه ليس للّه تعلى شيء نسبته إليه نسبة السواد الى البياض، وكذلك إذا علمنا عدم اجتماع الضدين فإنا نعلمه على معنى أنه ليس بين الضدين من الاجتماع ما بين السواد والحركة مثلا، وهؤلاء إنما وقعوا في هذا الخطأ لجهلهم بالثبوت الذهني.
مسألة : الحق عندنا أن العلم الواحد لا يتعلق بمعلومين، فانا اعتبرنا في العلم المطابقة ويستحيل مطابقة شيء لشئين، ومن قال إن العلم إضافة يحيل ذلك أيضا فإن الإضافة تتعدد بتعدد المضاف إليه.
وعند اهل السنة أن علم اللّه تعالى يتعلق بمعلومات لا نهاية لها مع أنه واحد.
ونقل عن ابي الحسين الباهلي: أن علمنا الواحد يجوز تعلقه بمعلومات كثيرة، وحكي ذلك أيضا عن أبي الحسن الأشعري.
وأنكره أبو إسحاق وقال إنه ذكره في الإلزام على من يقول العلم الواحد يتعلق بمعلومين.
ونقل عن الجبائي: جواز تعلق العلم الواحد بمعلومين.
ونقل عن أبي منصور البغدادي من أهل السنة: وجوب ذلك.
وعن القاضي أبي بكر: كل معلومين لا ينفك أحدهما عن الآخر يجوز أن يتعلق بهما علم واحد، وهو منقول عن أبي القاسم أيضا.
وهذه الأقوال كلها ضعيفة عندنا لما مر.
مسألة : العلم المتعلق بالمختلفات مختلف، لأن العلم لا بد فيه من المطابقة
ومطابقة الواحد لمختلفين محال، ومن قال: إن العلم إضافة كان كذلك إن كان تنوع المضافات يقتضي تنوع الإضافات وإلاّ كان في محل التوقف.
وقد ذهب قوم الى أنها مختلفة سواء تعلقت بالمختلفات أو بالمتماثلات، لأن العلم بالمدلول مشروط بالعلم بالدليل، ولأن اعتقاد قدم الجسم يضاد اعتقاد حدوثه.
وهذا غير مفيد، فان لقائل أن يقول: جاز أن يكون العلم واحدا والتعلقات مختلفة، والحجة الثانية دالة على تضاد الاعتقاد لا على اختلاف العلوم.
واعلم أنه يشرط في تماثل العلوم تعلقها بالشيء الواحد على الوجه الواحد في وقت واحد على طريقة واحدة، فاتحاد الشيء لا بد منه، لأن العلم المتعلق بأحد المختلفين مخالف للمتعلق بالآخر، وكذلك اتحاد الوجه، فانا لو علمنا الذات باعتبار صفة وعلمناها باعتبار صفة أخرى لكانا مختلفين، ولا بد من اتحاد الوقت، فانا لو علمنا أن زيدا موجود اليوم وعلمنا أنه موجود غدا لكانا مختلفين، ولا بد من اتحاد الطريقة، فإن علمنا يتعلق بالمعلومات تعلق العلوم وعلم اللّه تعالى يتعلق بها تعلق العالمين فهما مختلفان، وأبو هاشم لم يعتبر اتحاد الوقت فجعل العلم بأن زيدا موجود بالأمس مع العلم بأنه لم يتغير عن حاله، علما بأنه موجود اليوم.
والحق خلاف ذلك، فإن العلمين الأولين حصل منهما علم جديد مغاير لهما، وليس الحاصل أحد العلمين السابقين.
مسألة : المعلوم على سبيل الجملة معلوم من وجه مجهول من آخر فلمّا اجتمعا في شيء ظن أنه علم مغاير للتفصيل، وليس كذلك.
وأبو هاشم منع من العلم الإجمالي قال: لأن المعلوم متميز والإجمالي غير متميز فهو غير معلوم، والكبرى عندنا كاذبة، اللهم الاّ ان يعني بالتميز التميز التفصيلي من كل وجه فحينئذ يتطرق الكذب الى الصغرى.
مسألة : العلم بالكلي عبارة عن حصول صورة في الذهن يمكن انطباقها على ايّ فرد سبق الى الذهن من الأفراد الخارجية ولا تحقق للكلي في الخارج، خلافا لأفلاطن القائل بالمثل، وهذا العلم مغاير للعلم بالجزئي.
وقد تجري لأبي هاشم منازعة هاهنا، وزعم أن من علم أن كل ظلم قبيح ثم علم في ضرر معين أنه ظلم علم أنه قبيح بعلمه الأول ولم يتجدد له علم مبتدأ يعلم به قبح هذا الضرر المعين.
وهذا عندنا كاذب، ووافقنا على ذلك قاضي القضاة.
وحجة أبي هاشم أنه لو علمه بعلم مبتدأ لصح أن لا يفعله ولا يعلم قبحه وإن علم أنه ظلم، والتالي باطل قطعا فالمقدم مثله.
ونحن ننازعه في صدق الشرطية، فإنه لم يبرهن عليها وكيف يبرهن على ما هو معلوم الكذب.
مسألة : العلم بالاستقبال ليس علما بالحال، وجمهور المشايخ على خلاف هذا، فإن من علم أن زيدا يدخل الدار في غد ثم جاء الغد علم دخول زيد بذلك العلم.
وأبو الحسين أنكره من وجوه:
أحدها: أنا قد نجهل العلم بالمستقبل مع العلم بالحال.
الثاني: أن العلم بالمستقبل غير مشروط بالحصول الحالي والعلم بالحال مشروط به فتغايرا.
الثالث: أن من علم أن زيدا سيدخل الدار في غد ولم يعلم مجيء الغد فانه لا يعلم بدخول زيد الدار، نعم من علم الأول وحصول الغد حصل له علم مستأنف بدخوله الدار.
وهذا عندي هو الحق والأول جهالة.
تنبيه: قد شرطنا في العلم المطابقة، فيجب تغيره عند تغير المعلوم والاّ لزم الجهل، ولهذا مزيد بحث سيأتي في علم واجب الوجود.
مسألة : ذهب الأوائل الى أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول قالوا: لأن العلة من حيث هي هي تقتضي المعلول فالعلم بها من حيث هي هي يكون علما بها مع اعتبار العلية، وهي نسبة فلا بد من تصور المنتسب إليه.
ونحن نقول: إن أردتم أن العلم بوجود العلة وكونها علة معا يوجبان العلم بوجود المعلول صدقتم وإن أردتم أن العلم بماهية العلة يوجب العلم بماهية المعلول فنحن من وراء المنع حتى يظهر لنا الدليل، وما ذكروه فغير مفيد، لأن تصور الماهية من حيث هي هي لا يقتضي تصور لوازمها الاضافية، وإن اقتضى فلا يقتضي تصور المعلول من حيث هو هو بل من بعض عوارضه.
مسألة : العلم بذوات المبادي إنما يحصل من العلم بمباديها، لأنها ممكنة فبدونها لا تكون واجبة، قالوا: واذا علم نسبته علم كليا، لأن علمنا بأن الألف موجب للباء علم بالكلي مقيدا بالكل وتقييد الكلي بمثله لا يقتضي الجزئية، وفي هذا بحث.
مسألة : لما كان العلم عند الأوائل هو حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم وكان اجتماع صورتين متساويتين في محل واحد من غير اختلاف لازم أو عارض محالا، كانت الصورة الحالة في الذهن إما معلومة بنفسها من غير تضاعف الصور، وإما غير معلومة اصلا.
لكن الثاني من القسمين باطل قطعا، فان حصول الصورة للشيء لا ينفك عن حصول ذلك الحصول عند اعتبار المعتبرين فكان العلم معلوما بنفسه.
وأبو علي الجبائي وافق على ذلك فجعل العلم يعلم بنفسه، وخالف في ذلك مشايخ المعتزلة فذهبوا الى أن العلم يعلم بعلم آخر، قالوا: لأن العلم لا يتعلق بمعلومين على ما سلف والعلم والمعلوم متغايران فيتغاير العلم المتعلق بهما.
تذنيب : ذهب الشيخان الى أن العلم بالعلم هو علم بالمعلوم، والحق خلاف هذا، فان العلم إضافة والمعلوم قد لا يكون إضافة فهما متغايران فكيف يكون العلم بأحدهما هو العلم بالآخر، ووافقنا على ذلك أبو عبد اللّه وأبو إسحاق وقاضي القضاة، فإنهم قالوا: العلم بالعلم هو علم بكونه على حال او حكم.
مسألة : العالم بالشيء هل يجب أن يكون عالما بأنه عالم بذلك الشيء؟الحق عندنا أنه لا يجب ذلك وقد وافقنا على ذلك، طائفة من الأوائل ومشايخ المعتزلة، نعم إذا اعتبر المعتبر وجب تعلق العلم به، وابو القاسم أوجب ذلك.
مسألة : الحق عندنا أنه لا يصح اجتماع علوم كثيرة لعالم واحد متعلقة بشيء واحد لاستحالة اجتماع الأمثال، ومن جوز اجتماع المثلين جوز ذلك هاهنا.
ويحكى عن أبي علي المنع مع اعترافه باجتماع الأمثال، قال: فإن هذا يجري مجرى الساكن فانه لا يجوز تسكينه والمجتمع لا يجوز جمعه، وعلى تقدير اجتماع
العلوم الكثيرة لا يتزايد المعلوم في الجلاء ولا يدخل في سكون نفسه بزائد.
واعلم أنا نصف الواحد بأنه أعلم من غيره، فقال أبو علي: أوّلا المرجع بذلك الى كثرة العلوم كما نقول: أنه أقدر على معنى زيادة قدرته، ثم لما رأى أن أحد العالمين إذا علم الشيء بعلم واحد والآخر بعلوم كثيرة وأن ذا العلوم الكثيرة لا يتزايد علمه باجتماعها، حكم بأن المرجع بذلك الى كثرة المعلومات فإذا كان معلوم أحدهما أكثر حكم عليه بالأعلمية.
مسألة : العلوم عندنا باقية، وهو مذهب الأوائل وأبي هاشم وابي عبد اللّه، وذهب أبو اسحاق وقاضي القضاة والسيد المرتضى من اصحابنا الى أنها لا تبقى.لنا انها ممكنة في الزمان الأول فتكون ممكنة في الزمان الثاني والاّ لزم الانتقال من الامكان الى الامتناع.
وعندي هذه الحجة ضعيفة، وبيان ضعفها سيأتي.
احتج القائلون: بعدم البقاء بأنها لو بقيت لامتنع عدمها والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أنها لو عدمت بعد البقاء لكان عدمها إما أن يكون مستندا الى الذات أو الى الفاعل أو الى طريان الضد، والأقسام باطلة فعدمها باطل.
أما الأول فلأنه يلزم امتناع وجود الماهية على ذلك التقدير.
وأما الثاني فلأن الفاعل أثره في الإيجاد لا في الإعدام.
وأما الثالث فلأنه قد يخرج من العلم الى الشك، وليس الشك معنى يضاد العلم لأن شرط الضدية تعلق أحد الضدين بما يتعلق به الآخر على عكس ما تعلق به والشك انما يتعلق بشيئين والعلم انما يتعلق بشيء واحد كالشك في حدوث العالم فانه بعينه شك في قدمه، فليس بين العلم والشك تضاد.
ونحن نقول: لم لا يجوز أن يعدم للفاعل؟وما ذكروه لبيانه نفس الدعوى، فيكون مصادرة على المطلوب.
وأيضا لم لا يجوز أن يكون للعلم ضد يخرج به الإنسان عن العلم ثم يطرأ عليه الشك؟وذلك الضد غير معلوم.
وبالجملة ضعف هذه الحجة لا يخفى.
مسألة : الحق عندنا أن السهو ليس معنى من المعاني المضادة للعلم وانما هو عبارة عن عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون علما بعد حصوله، وهو مذهب أبي إسحاق وقاضي القضاة، وذهب الشيخان الى أنه معنى يضاد العلم، وهو مذهب لأبي إسحاق أيضا وأبي عبد اللّه، لكن أبا عبد اللّه تارة يقول: إنه مقدور للعباد ولكنه لا يصدر عنهم لفقد الدواعي، وتارة يقول: إنه غير مقدور عليه أصلا وهو ظاهر قول الشيخين.
ودليلنا في ذلك أن الواحد منا لا يجد من نفسه أمرا زائدا على فقدان العلم حالة السهو، أما الشك فذهب أبو علي الى أنه معنى يضاد العلم وهو قول ابي القاسم، وذهب جماهير المعتزلة الى انه ليس بمعنى مضاد للعلم، وقد مر الكلام فيه.
العلم منه ضروري ومنه كسبي، والضروريات قد مضى بيان اقسامها، لكن وقع الخلاف في المتواترات، فذهب الأوائل الى أنها ضرورية ووافقهم على ذلك البصريون، وذهب أبو القاسم الكعبي وابو الحسين البصري الى أنه كسبي.
واحتج ابو الحسين بأن الكسبي هو الذي يتوقف على نظر واستدلال وهو متحقق هاهنا، فان العلم بذلك إنما يحصل بعد العلم بأن المخبرين قد أخبروا عما لا لبس فيه، وليس أخبارهم مستندا الى النظر حتى يجوز الخطأ فيه، وأنه قد أخبر جماعة عظيمة لا يجوز عليهم التواطؤ والتراسل ولا يجوز عليهم الكذب اتفاقا ولا أن يجتمعوا على الكذب لاشتراكهم في داع يدعوهم الى الكذب، فيعلم أن خبرهم ليس بكذب فيكون صدقا، ومتى فات العلم بواحدة من هذه المقدمات لم يحصل العلم التواتري.
والحق عندنا خلاف ذلك، فان العلم بالمتواترات يحصل للصبيان ومن لم يمارس الاستدلال، فسقط ما ذكروه.
مسألة : أنكر السوفسطائية العلم مطلقا، وهم ينقسمون الى ثلاثة أقسام:
العندية وهم: الذين يعترفون بجميع الأشياء.
والعنادية وهم: الذين ينكرون الأشياء معاندة.
واللاّادرية وهم: الذين أنكروا جميع الأشياء لعدم صحة المقدمات التي ينبني عليها البراهين، قالوا: لأن أجلى القضايا وأوضحها هو العلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهذا القول باطل فلا يكون شيء من القضايا حقا.
وبيان بطلانه أن هذا التصديق مسبوق بتصور النفي وهو غير متصور والاّ لكان متميزا عن غيره والمتميز عن غيره متعين والمتعين ثابت والنفي ليس بثابت.
سؤال: يكون ثابتا ذهنا.
جواب: الثابت ذهنا أحد أقسام مطلق الثابت والنفي المطلق مقابل المطلق الثابت فلا يكون قسما منه، وأيضا النفي والاثبات قد ينسبان الى وجود الشيء في نفسه وقد ينسبان الى وجوده لغيره، والأول باطل والاّ لكان الوجود إما نفس الماهية فقولنا: الماهية موجودة يتنزل منزلة قولنا: الماهية ماهية هذا خلف، وإما مغايرا لها فيلزم وصف المعدوم بالموجود.
والثاني باطل لأن الموضوع والمحمول إن اتحدا كان ذلك كحمل الأسماء المترادفة فلا يكون مفيدا، وإن تغايرا كان ذلك حكما على الشيء بأنه غيره وذلك حكم بوحدة الاثنين.
واعلم أن هؤلاء لا يستحقون الجواب، لأن المناظرة إنما تكون بعد تسليم مقدمات بين الخصمين توضع لينبني أحد الخصمين عليها مطلوبه، ومن ينكر مثل هذه القضايا لا يمكن مباحثته، فإن بهذه القضايا يناظر في جميع المطالب وهي المبادي للعلوم فيجب الذب عنها، وكيف يناظر من يجمع بين النقيضين، فإن أقصى مراتب المناظر أن يبين أن الذي ذكره دليل دال على مطلوبه، فالخصم يقول مسلم أنه دليل لكن لم لا يجوز أن يكون غير دليل أيضا.
ومع ذلك فانا نقول: في جواب هذا الشاك: إن المنفي لم لا يجوز أن يكون ثابتا ذهنا، فإن الذي لا يكون ثابتا في الذهن ولا في الخارج تصور لما ليس بثابت ولا متصور فيصح الحكم عليه من حيث هو ذلك التصور ولا يصح من حيث إنه ليس بثابت، فالموضوعان مختلفان والمقابل قسم باعتبارين كما نقول: الموجود إما ثابتة في الذهن او لا يكون، فالثابت في الذهن من حيث إنه مفهوم ثابت في الذهن، وليس بثابت من حيث هو مقابل للثابت ولا استحالة في ذلك.
قوله في الوجه الثاني: الوجود إن كان زائدا لزم وصف المعدوم بالموجود، قلنا: الحكم بالزيادة في الوجود ليس بثابت في الخارج، فإنه ليس في الخارج ماهية يتصف بالوجود كما في الماهية والسواد، على أن حلول الوجود في الماهية لا يلزم منه حلول الموجود في المعدوم، فإن الماهية لا يقيد الوجود ولا يلزم ان يكون معدومة، فانه حينئذ يكون أخذنا للماهية أخذا للماهية لها مع قيد العدم، وليس كذلك.
وأيضا الوجود ليس بموجود ولا معدوم.
قوله: الموضوع والمحمول إن تغايرا كان حكما بوحدة الاثنين، قلنا: إنهما لا بد وأن يتحدا من وجه ويختلفا من وجه ووجه الاتحاد قد يكون أحد الطرفين وقد يغايرهما.وقد أجابهم بعض الفضلاء بالضرب بالخشب، فان لم يحسّوا به فقد خرجوا عن حيز الانسانية، وإن أحسوا به وفرقوا بين حال الضرب وعدمه اعترفوا بالقضايا العقلية.
وهذا ضعيف، فان هؤلاء يعترفون بوجود الألم ولكن يقولون إنه يجوز أن يكون هذا الذي أحسسناه خطأ كما في سائر أغلاط الحس.
مسألة : العقل عن الاوائل مشترك بين معاني:
أحدها: العقل العملي الذي للانسان، وهو مقول بالاشتراك على القوة التي بها يكون التمييز بين الأمور الحسنة والقبيحة وعلى المقدمات التي منها يستنبط الأمور الحسنة والقبيحة[وفعل الأمور الحسنة والقبيحة] .
وثانيها: العقل العلمي، وهو مقول بالاشتراك على الجوهر المستعد لقبول التعقلات وعلى مراتب احواله مع التعقلات، وهي اربع:
الأول: العقل الهيولاني ، وهو الذي من شأنه الاستعداد المحض.
والثانية: العقل بالملكة، وهو الذي من شأنه حصول الضروريات .
والثالثة: العقل بالفعل، وهو الذي من شأنه حصول النظريات لا على أنها
حاصلة بالفعل بل بمعنى أنها بحيث متى شاء استحضرها.
والرابعة: العقل المستفاد، وهو الذي حصلت فيه النظريات بالفعل وهو النهاية القصوى في الكمال.
وثالثها: الموجود المجرد الذي لا علاقة له بالأجسام حلولا وتدبيرا.
وذهب أبو الحسن الأشعري الى أن العقل علوم خاصة ، والمعتزلة قالوا:
إن من تلك العلوم العلم بحسن الحسن وقبح القبيح.
والقاضي أبو بكر قال: إنه هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ومجاري العادات.
وقال المجاشعي من الأشعري : هو غريزة يتوصل بها الى المعرفة، واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يكن العقل من قبيل العلوم لا يفك احدهما عن الآخر وهو باطل قطعا.
وهو ضعيف، فإن عدم الانفكاك لا يستدعي الاتحاد.
والحق أن العقل غريزة يلزمها العلم بالقضايا البديهية عند سلامة الآلات.
مسألة : الاعتقاد الجازم إما أن يكون يقينيا أو لا يكون كالتقليد، فاليقيني يشترط فيه أن يكون لنقيضه احتمال ثبوت فيستحيل تحققه بدون هذا الشرط استحالة ذاتية فاعتقاد الضدين محال لذاته.
اما التقليدي فإنه يمتنع اجتماعه مع الاعتقاد المضاد له لوجود الصارف.
وذهب أبو علي الى أن اعتقادي الضدين يجب أن يتضادا، وخالفه في ذلك أبو هاشم أخيرا فزعم أن الذي باعتبار يقع تضاد الاعتقادات ليس الاّ النفي والإثبات، فاذا اعتقدنا الشيء على صفة كان مضادا لكونه لا على تلك الصفة وليس مضادا لاعتقادنا أنه على صفة مضادة لتلك الصفة.
وهو نوع من الاعتقاد، ووافق على ذلك أبو هاشم، وهو قابل للشدة والضعف وطرفاه الجهل والعلم.
وذهب أبو علي وأبو عبد اللّه وأبو إسحاق الى أنه جنس غير الاعتقاد، وهو الذي نصره قاضي القضاة.
واستدلوا على ذلك بأنه لو كان من قبيل الاعتقاد لوجب قبح الظنون أجمع، والتالي باطل فإن فيها ما هو حسن بل واجب فالمقدم مثله.
وبيان الشرطية أن هذا الاعتقاد لا يخلو إما أن يطابق معتقده أو لا، والثاني يلزم منه الجهل وهو قبيح، لأن عند العلم بأن هذا الاعتقاد جهل نعلم قبحه وإن لم نعلم شيئا سواه، فالمؤثر في القبح هو الجهل كما في سائر المقبحات، والأول يلزم منه تجويز خلافه، وإن كان مطابقا فيجب قبحه أيضا، لأنه لا فرق بين القطع على وجه القبح وبين تجويز ثبوت القبح، فإذن لا خلاص الاّ أن يكون الظن نوعا آخر مغايرا للاعتقاد.
وهذه الحجة عندي ضعيفة، فإن الجهل ليس هو مطلق الاعتقاد الذي لا يكون مطابقا بل الاعتقاد الجازم.
التفريع على قول أبي علي في مغايرة الظن للاعتقاد: فمن ذلك أنه يضاد العلم إذا عاكس متعلقه، مثل العلم بأن زيدا في الدار والظن أنه ليس فيها، ونحن ننازع في ذلك، ولا يلزم من المنافات حصول الضدية ومن ذلك حصول التضاد بين بعض أفراده والبعض الآخر كالظن بوجود زيد وعدمه.
ومن ذلك جواز تعلق الظن بالظن
كما نظن خوف زيد والخوف ظن مخصوص فقد تعلق ظننا بذلك الظن المخصوص.
وأما تعلق الظن بظن الظان نفسه فإنما يكون فيما يتعلق بالمقتضي فيظن أنه كان ظانا من قبل.
واعلم أن من الظن ما هو واجب كما في الأحكام الشرعية، ومنه ما هو حسن وهو ما إذا حصل للمكلف في فعله غرض ويخلو من جهات القبح كما في المعاملات وامور نظام العالم، وقد يكون قبيحا إذا خلا عن الإمارة الصحيحية وكما إذا كان مكلفا بالعلم فلم يأت به وأتى بالظن.
وهو ترتيب أمور ذهنية يتوصل منها الى آخر.
ومنهم من حدّه بأنه عبارة عن ترتيب تصديقات يتوصل بها الى تصديق آخر، وهو غير عام.
وآخرون حدّوه بأنه عبارة عن تجريد العقل عن الغفلات وهو خطأ فانهم أخذوا ما مع الشيء مكان الشيء.
وبعض المتأخرين قال: النظر عبارة عن مجموع علوم أربعة: العلم بصحة المقدمات والعلم بصحة ترتيبها والعلم بلزوم اللازم عنها والعلم بأن ما لزم عن الحق فهو حق.
وهو عندي خطأ، فإن العلم باللزوم علم بنسبة مخصوصة بين المقدمات والنتيجة فهي مسبوقة بالعلم بالنتيجة فلا يمكن جعله جزءا من علتها.
وآخرون قالوا: إنه عبارة عن تحديق العقل نحو المطلوب، فان النظر بالعين لمّا كان عبارة عن تحديق الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته بالبصر، فكذلك النظر العقلي عبارة عن تحديق العقل نحو المطلوب التماسا لرؤيته بالبصيرة.
وهذا أيضا ضعيف والحق ما ذكرناه أوّلا.
مسألة : اختلف الناس في افادة النظر العلم، والحق عندنا أن النظر متى وقع على الوجه الصحيح أفاد العلم، فإن من علم أن العالم متغير وأن كل متغير محدث علم أن العالم محدث قطعا.
والسمنية أنكروا إفادته للعلم مطلقا، وجمع من المهندسين أنكروا افادته
في الأمور الالهية واعترفوا بها في الهندسية والحساب.
واحتجت السمنية بأن العلم بان الاعتقاد الحاصل بالنظر علم إن كان ضروريا لزم اشتراك العقلاء وإن كان نظريا لزم التسلسل.
وأيضا العلم بإفادة النظر للعلم إن كان ضروريا لزم اشتراك العقلاء وإن كان نظريا لزم إثبات الشيء بنفسه.
وأيضا المطلوب إن كان معلوما كان تحصيلا للحاصل والاّ كيف يعرف أنه مطلوبه اذا وجده.
وأيضا الناظر قد ينكشف فساد نظره مع الجزم بصحته فكذا جاز في جميع الانظار.
وأيضا المستلزم للنتيجة إما مجموع المقدمتين أو كل واحدة منهما أو واحدة منهما، والكل باطل.
أما الأول فلأن المجموع لا تحقق له في الذهن، فانا حال ما نوجه أذهاننا الى مطلوب معين استحال منا توجهه نحو مطلوب آخر.
أمّا الثاني فلأنا نعلم قطعا أنه لا تأثير لواحدة من المقدمات في الانتاج، وأيضا يلزم اجتماع المؤثرات المستقلة على الأثر الواحد.
وأمّا الثالث فباطل بما مر.
واحتج المنكرون لإفادته في الإلهيات بأن الانسان قد يعجز عن العلم بأقرب الأشياء إليه كنفسه، فكيف حال الأمور الإلهية مع غيبوبتها عن الحسّ.
والجواب عن الأول أنه ضروري ولا يجب اشتراك العقلاء في ذلك لما بينا في القاعدة السالفة، وهذا بعينه جواب عن الثاني.
وقد أجاب بعضهم بمعارضة وحلّ، أما المعارضة فقالوا: العلم بكون النظر غير مفيد للعلم، إن كان ضروريا لزم اشتراك العقلاء، وإن كان نظريا لزم إبطال الشيء بنفسه وهو محال.
وأما الحلّ فهو أن إثبات الشيء بنفسه ممكن كالعلم الذي يعلم به نفسه ويعلم به سائر الأشياء، وأما إبطال الشيء بنفسه فهو محال والمعارضة حسنة آتية على جميع شبههم والحل خطأ والقياس على العلم فاسد.
والجواب عن الثالث أن المطلوب إن كان تصوريا كان المعلوم منه التصور ببعض اعتباراته والمجهول هو ذاته، فيصح توجه العلم بذلك المجهول لكونه ملتفتا إليه بالاعتبار المعلوم، وإذا وجده عرف أنه مطلوبه بذلك الاعتبار أيضا وإن كان تصديقا كان معلوما من حيث التصور مجهولا من حيث النسبة.
ولقد أورد بعض تلامذة سقراط عليه هذا الإشكال ولم يجبه الاّ بإيضاح شكل هندسي وأوضح له صحته ولم يأت به على ذلك بحلّ، وأرسطاطاليس أجاب بما ذكرناه.
والجواب عن الرابع أن الأنظار التي نحكم بفسادها إنما يكون لأجل خلل واقع إما في المقدمات أو في الترتيب، أما على تقدير الصحة فلا.
والجواب عن الخامس أن المقدمتين يصح اجتماعهما في الذهن والاّ لزم أن لا يكون عالمين دائما الاّ بشيء واحد وينتقض بالقضية الشرطية.
والجواب عن السادس أنه يدل على الصعوبة لا على الامتناع.
مسألة : ذهبت الأشعرية الى أن النظر لا يولد العلم وإنما يحصل عقيبه العلم بالعادة، وذهبت المعتزلة الى أنه يولده وهو مذهب السيد مرتضى والشيخ أبي جعفر من أصحابنا .
ونقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين أنهما قالا: باستلزام النظر للعلم على سبيل الوجوب لا بكون النظر علة ولا مولدا.
ومذهب الأوائل أن النظر سبب معد لحصول العلم من المبدأ الفياض.
احتجت الأشعرية بأن كل حادث فهو مستند الى اللّه تعالى على ما يأتي فالعلم كذلك.
وكلية القضية عندنا كاذبة وسيأتي.
احتجت المعتزلة بأن العلم يجب وقوعه عند النظر الصحيح في الدلالة وبحسبه، ومعنى قولهم: إنه يقع بحسبه أنه يحصل العلم بالمدلول الذي يطلبه بالنظر في دليله، ولأنه يكثر بكثرته ويقلّ بقلّته فيكون متولدا عنه.
أما الصغرى فاستدلوا عليها بالوجدان، فانا نعلم أن النظر متى حصل حصل العلم قطعا ومتى لم يحصل لم يوجد العلم.
وأما الكبرى فبالقياس على سائر الأسباب والمسببات.
وهذه الحجة عندي ضعيفة، فان حصول الشيء عقيب غيره لا يدل على العلية.
والأشعرية قاسوا النظر على التذكر، والمعتزلة فرقوا بينهما بأن التذكر ربما يحصل من غير قصد المتذكر بخلاف النظر، فإن صحّ هذا الفرق بطل القياس والاّ منعوا الحكم في الأصل.
وأما القائلون بالوجوب، فانهم قالوا: نجد أنا متى علمنا المقدمتين علمنا النتيجة قطعا على سبيل اللزوم لا على مجرى العادة التي يمكن عدم وقوعها، والتوليد باطل بما مرّ.
ولقائل أن يقول: لم قلتم إنه ليس على سبيل مجرى العادة، وما ذكرتموه من الوجدان انما دل على الحصول عقيب النظر أما على وجوبه فلا؟ مسألة : النظر الصحيح في الأمارة هل يولد الظن أم لا.
ذهب الملاحميّ الى توليده لما ذكر في النظر الصحيح في الدليل، فانا كما نجد من انفسنا أنا متى نظرنا في الدليل حصل لنا العلم كذلك نجد من أنفسنا إنا متى نظرنا في الأمارة حصل لنا الظن.
وذهب قاضي القضاة الى أنه لا يولده وانما يختاره الناظر عنده.
واستدل بأنه لو كان النظر في الأمارة يولد الظن لما اختلف الناظرون في أمارة واحدة على حدّ واحد في حصول الظن وعدمه، والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة.
وبيان بطلان التالي أن الناظرين في أمارات الشرع يختلفون في مدلولاتها.
والجواب لا نسلم تساويهم في النظر في الأمارة، فان كلا منهم يعتقد أن أمارته أقوى ولو كانت الأمارة واحدة لاتفقوا في حصول الظن.
مسألة : النظر الفاسد لا يولد الجهل عند جماهير المعتزلة والأشاعرة كافة،
وذهب آخرون الى أنه يستلزمه .
واحتج الأولون بأن النظر في الشبهة لو استلزم الجهل لكان نظر المحق في شبهة المبطل مولدا للجهل، والتالي باطل قطعا فالمقدم مثله.
وبيان الشرطية أن عند حصول الأسباب وتكامل الشروط يجب المسبب، وهذه الحجة ذكرها أبو عبد اللّه لابي علي بن خلاّد وارتضاها.
وهي عندي ضعيفة، لأن شرط توليد النظر اعتقاد حقية مقدماته، فإن المبطل الناظر في دليل المحق لا يحصل له العلم لعدم الشرط.
واحتج الآخرون بأن من اعتقد أن العالم قديم وأن القديم مستغن عن المؤثر يعتقد قطعا أن العالم مستغن عن المؤثر.
والجواب إن أردتم باستلزام الفاسد للجهل دائما فهو ممنوع قطعا.وإن أردتم أنه يستلزمه في بعض الأحوال فهو مسلم ولكن لا يصح الحكم عليه بالاستلزام مطلقا.
وقد قيل: إن النظر إن فسد من قبل المادة استلزم الجهل، وإن فسد من جهة الصورة لا يستلزم.
والاخير حق، والأول عندي فيه نظر، فان المادة يفسد ولا يستلزم الجهل كمن اعتقد أن كل إنسان حجر وأن كل حجر ناطق فان هذين الجهلين يستلزمان كل إنسان ناطق وليس بجهل.
مسألة : شرط النظر عدم العلم والاّ لزم تحصيل الحاصل.
فإن قلت: العالم بالشيء قد يستدل عليه بدليل ثان.
قلت: المطلوب من الدليل الثاني ليس هو المدلول بل الدلالة ، وفي هذا بحث، ويشترط فيه عدم الجهل المركب، فإن المعتقد لا ينظر وامتناع الاجتماع للذات لأن الناظر يجب أن يكون شاكا والجزم مع الشك مما يتنافيان لذاتيهما، وهذا مذهب أبي هاشم.
وذهب الأوائل الى أن امتناع الاجتماع للصارف، قالوا: لأن النظر قد يوجد لا مع الشك لأن كثيرا من الناس يتعلمون من غير ان يسبق الشك الى أوهامهم، وهو مذهب القاضي ، فانه جوز النظر مع الظن، وأبو عبد اللّه جوز النظر مع القطع اذا لم يكن القطع علما.
مسألة : ذكر قاضي القضاة أن النظر منه مختلف ومتماثل، فالمختلف ما يغاير متعلقه، فان تغاير المتعلقات تستلزم اختلاف المتعلقات والمتماثل ما يتحد متعلقه، وهذا بناء منه على أن النظر جنس بانفراده من أفعال القلوب وأنها معان وذوات.
ونحن عندنا أن النظر ترتيب مقدمات فهو من جملة الأفعال ، فإن عني بالمتماثل أن استدلال زيد بمقدمات تماثل استدلال عمرو بتلك المقدمات مع اتحاد الترتيب فهو مسلم، وإن عني بالاختلاف أن الاستدلال بدليل على مطلوب يخالف الاستدلال بدليل آخر على مدلول آخر فهو مسلم، وغير هذا التفسير نحن فيه من وراء المنع.
تذنيب : ذكر القاضي عن أبي علي أن المختلف من النظر متضاد، لامتناع اجتماع نظرين دفعة، وعن أبي هاشم أنها غير متضادة، لأن النظرين يتعلقان بشيئين، ومن شرط التضاد في المتعلقات اتحاد المتعلق وتعلق كل من المتعلقين على عكس ما تعلق به الآخر، وامتناع الاجتماع لامتناع الداعي إليهما دفعة، فانا متى
فرغنا أذهاننا للتوجه الى مطلوب والاستدلال عليه بمقدمات معينة تعذر علينا توجهه نحو آخر.
مسألة : ذهب أبو علي الى أن النظر كله حسن الاّ ان يكون مفسدة أو يقصد به فاعله وجه فساد.
وذهب أبو هاشم الى أنه كله حسن الاّ ان يكون مفسدة، وامّا القصد فلا يؤثر في القبح نعم القصد قبيح وهذا كما في ردّ الوديعة فانها إذا قصد بها الخديعة كان القصد قبيحا والردّ حسنا.
وصار القاضي الى مذهب أبي هاشم، فانه قال: النظر طريق الى الكشف وكل استكشاف حسن وبالقصد القبيح لا يخرج عن هذا الوجه الاّ أنه فعل من أفعال المكلف متى كان مفسدة كان قبيحا، وكذلك النظر الذي ليس بواجب إذا منع من النظر الواجب كان قبيحا.ومحمود أوجب القبح فيما يكون مفسدة وفيما يمنع من الواجب وفيما يقصد به الفساد، قال: ان وضع الشبه لإضلال الناس قبيح قطعا.
ثم قال: النظر اذا كان مفسدة انما كان قبيحا لأنه يؤدي الى القبيح والإخلال بالواجب، وهذا المعنى قائم في النظر إذا قصد به المفسدة، فإن وضع الشبه داع الى القبيح لأنه يتمكن به من الإضلال ومنع حسن ردّ الوديعة قال: إن العقلاء متى عرفوا وجه الردّ ذموه فدل على قبحه وإن كان الواجب يسقط به.
مسألة : النظر واجب، وخالف فيه الحشوية.
لنا أن النظر دافع للخوف الحاصل من الاختلاف فيكون واجبا.
وأيضا معرفة اللّه تعالى واجبة لكونها دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ولا تتم الاّ بالنظر فيكون واجبا.
فان قيل: لا نسلم أن النظر دافع للخوف مطلقا، فان الخوف كما يكون بسبب الإهمال يكون بسبب النظر، فإن الناظر ربما يخطر له أنه ملك الغير وأن اشتغاله بالنظر تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيكون معاقبا.
قلنا: لا نسلم، وبيانه من وجوه:
احدها: أن إيجابها إما أن يكون على العارف أو لا والقسمان باطلان، أما الأول فلأنه يلزم منه تحصيل الحاصل أو الجمع بين المثلين، أما الثاني فلأنه يلزم منه تكليف ما لا يطاق لأن معرفة الايجاب يتوقف على معرفة الموجب.
الثاني: أنا نعلم من دين النبي عليه السلام أنه اذا أتاه الأعرابي أمره بالشهادة من دون تكليف المعرفة المتوقفة على النظر الدقيق.
الثالث: العلم غير مقدور، لأن الضروريات من فعله تعالى والنظريات لازمة لها لذواتها، سلمنا أنها واجبة لكن لا نسلم أنها لا تتم الاّ بالنظر، فإن المعارف قد تحصل بتصفية الخاطر والإلهام وقول المعلم.
سلمنا لكن لا نسلم أن ما لا يتم الواجب الاّ به فهو واجب، فإن النظر واجب ولا يتم الاّ بالجهل فيكون الجهل واجبا.
فالجواب العقلاء يلتجئون الى النظر عند الحيرة والخوف من غير خطور ما ذكرتموه.
قوله: معرفة الايجاب تتوقف على معرفة الموجب، قلنا: لا نسلم فإن العاقل
يجد من نفسه العلم بوجوب دفع الضرر وأن معرفة اللّه تعالى هي الدافعة فيحصل له اعتقاد وجوبها.
وهذا الايراد انما يرد على الاشاعرة القائلين بكون الوجوب مستفادا من السمع.
قوله: المعلوم من الدين عدم التكليف بالمعرفة، قلنا: لا نسلم وكيف لا والقرآن دال على وجوب المعرفة والنظر، وحكم النبي عليه السلام غير دال على عدم وجوب النظر فان الحكم بالاسلام لا يستلزم الحكم بالايمان كما في قوله تعالى:
قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا.
قوله: العلم غير مقدور، قلنا: ممنوع، فإن النظريات إنما تحصل بواسطة الترتيب المفعول باختيارنا .
قوله: لا نسلم عدم انحصار الطريق في النظر، قلنا: لما بينا من أن العقلاء عند وقوعهم في الحيرة يلتجئون إليه من غير التفات الى طريق آخر، وقول المعلم لا بد فيه من نظر، قوله: لمنع وجوب ما لا يتم الواجب الاّ به، قلنا: لو لم يجب لزم تكليف ما لا يطاق، تقرير هذا ذكرناه في اصول الفقه، والمعارضة غير آتية هاهنا، فإن النظر ليس بواجب على الإطلاق بل بشرط حصول الجهل، والوجوب إذا توقف على شرط لا يلزم منه وجوب الشرط.
تذنيب : الحق عندنا أن وجوب النظر عقلي لما بينا من الدليل العقلي الدال على وجوبه، ولا يجوز أن يكون السمع هو الطريق الى وجوبه والاّ لزم منه إفحام الأنبياء.
وخالف في ذلك الأشاعرة مستدلين بالعقل والنقل.
أما العقل فهو أنه لو وجب لوجب إما لفائدة أو لا لفائدة، والثاني عبث، والأول إما أن يكون الفائدة فيه عاجلة أو آجلة، والأول باطل لأن الحاصل عاجلا إنما هو التعب، والثاني باطل لأن حصول تلك الفائدة ممكن من دون النظر، فتوسط وجوب النظر عبث.
وهذه اقوى شبههم النافية للوجوب العقلي الذي تدعيه المعتزلة في أكثر الواجبات.
وأما النقلي فقوله تعالى: وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً نفي التعذيب من دون البعثة فلو وجب شيء بالعقل لحصل العذاب وإن لم يوجد الرسول.
ثم عارضونا بما أبطلنا به مذهبهم فقالوا: إن وجوب النظر وإن كان عقليا عندكم الاّ أنه نظري ويلزم من ذلك الإفحام.
والجواب أن الوجوب لا بد له من فائدة آجلة هي تحصيل الثواب، قوله: إنه ممكن من دون النظر، قلنا: لا نسلم فان الثواب انما يكون بواسطة العمل.
وأما الآية فلها تأويلان: أحدهما أن المراد من الرسول العقل، الثاني أن المراد: وما كنّا معذبين على الواجبات السمعية حتى يبعث رسولا.
وطريق الخلاص عن المعارضة أن وجوب النظر وإن كان نظريا الاّ أنه فطري القياس، وقد أوضحنا ذلك في كتاب«معارج الفهم» .
تذنيب : إنه وإن وقع الاتفاق على وجوبه لكن اختلف في أوليته، فذهبت المعتزلة إليه وهو منقول عن ابي اسحاق.
وذهب الأشعري الى أن أوّل الواجبات هو العلم.
ونقل عن امام الحرمين أن أوّل الواجبات هو القصد الى النظر.
وذهب أبو هاشم الى أن اوّل الواجبات هو الشك .
والحق عندي أن أول الواجبات هو المعرفة إن عني بالأولية ما يجب بالذات والاّ فهو القصد الى النظر، وقول ابي هاشم سخيف.
خاتمة: تشمل على الكلام في الدليل
وفيه مقاصد:
المقصد الأول: الدليل هو الذي يلزم من العلم به العلم بالشيء.
والأمارة هي التي يلزم من العلم بها ظن وجود الشيء، ولا بد في كل دليل من مقدمتين لاستحالة كون المقدمة دليلا على نفسها، فالمقدمتان إما عقليتان وإما أن يكون إحداهما عقلية والاخرى سمعية، ولا يجوز أن يكون الدليل مركبا من السمعي المحض فان إحدى المقدمات كون النّبي صادقا وهو لا يستفاد من السمع والاّ لزم الدور.
وقد قيل: إن اللفظي لا يفيد اليقين لتوقفه على نقل اللغة والنحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والاضمار والتخصيص والنسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي، وقد يقترن بالأدلة اللفظية من القرائن ما يعلم معها عدم هذه المحاذير.
واعلم أن كل ما يتوقف على صدق الرسول لم يجز إثباته بالنقل وكل ما يجوز العقل وجوده وعدمه لم يجز إثباته بالعقل، وما عدا هذين امكن اثباته بهما.
مسألة : لا تكفي المقدمتان في الإنتاج ما لم تتركبا على هيئة مخصوصة والاّ لزم حصول العلوم النظرية بأسرها، إذ لا مستند لها الاّ الضروري الحاصل عند العاقل، وليس كذلك، والمراد من تلك الهيئة التفطن لاندراج الأصغر تحت الأوسط حتى يثبت له ما يثبت للأوسط.
وما قيل: من أن الاندراج إن كان مغايرا فلا بد من اندراج آخر ويتسلسل، وان لم يكن مغايرا استحال اشتراطه، فهو خطأ، لأنه لا يلزم من المغايرة حصول
اندراج آخر، لأن الاندراج إنما يكون للمقدمات لا للأجزاء الصورية.
وعن أبي الحسين أن المنتج هو المقدمة الكلية بشرط حصول المقدمة الجزئية.
مسألة : ذهب كثير من المتكلمين الى أن العلم بوجه دلالة الدليل على المدلول هو عين العلم بالمدلول، قالوا: لأنا اذا استدللنا بوجود ما سوى اللّه تعالى على وجوده فلا يجوز أن يكون وجه دلالة وجود ما سوى اللّه تعالى على وجوده مغايرا لهما، فان المغاير لوجوده داخل في وجود ما سواه والمغاير لوجود ما سواه هو وجوده فقط.
والحق خلاف ما ذكروه، وأن هاهنا أمور ثلاثة: العلم بالدليل والعلم بالمدلول والعلم بالدلالة، فهي إضافة معينة متأخرة عن العلم بالمضافين، وشبههم ساقطة بالكلية، فإن المغايرة الذهنية لا تستدعي المغايرة الخارجية.
المقصد الثاني: في تقسيم الادلة
الاستدلال قد يكون بالعلة على المعلول ويسمى برهان لمّ، وقد يكون بالعكس، وقد يكون بأحد المعلولين على الآخر ويشملهما برهان إنّ، ويختص الاوّل منهما باسم الدليل.
والأول أقوى، لاستلزام العلم بالعلة العلم بالمعلول المعين، ولا يستلزم العلم بالمعلول العلم بالعلة المعينة، والأخير مركب من الأولين.
مسألة : الاستدلال قد يكون بالعام على الخاص، وقد يكون بالعكس، وقد يكون بأحد المتساويين على الآخر، والأول القياس، والثاني الاستقراء، والثالث التمثيل وهو مركب من الأولين.
والقياس منه اقتراني ومنه استثنائي.
والأول على أربعة أقسام، لأن الأوسط إن كان محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى فهو الأول، وعكسه الرابع، فإن كان محمولا فيهما فهو الثاني، وان كان موضوعا فيهما فهو الثالث.
ويشترط في الأول ايجاب الصغرى وكلية الكبرى، فضروبه الناتجة أربعة، لأن الثابت لكل شيء أو المنفي عنه الثابت لكل غيره أو بعضه ثابت لكل ذلك الغير او لبعضه او منتف عنهما.
ويشترط في الثاني الاختلاف بالكيف مع كلية الكبرى، وعدم استعمال الممكنة الاّ مع الضرورية، ودوام احدى المقدمتين أو كون الكبرى من القضايا المنعكسة السوالب، وضروبه أيضا أربعة بحسب الكيف والكم، لأن الثابت لكل شيء أو المسلوب عنه إذا كان ثابتا لغيره أو مسلوبا عنه، كان بين ذلك الشيء والغير مباينة كلية او جزئية.
ويشترط في الثالث إيجاب الصغرى وكلية إحداهما، وضروبه ستة، فإن الشيء إذا ثبت له وصف ثبوتا كليا أو جزئيا وثبت له آخر أو انتفى عنه كذلك، كان بين الوصفين مباينة أو ملاقاة جزئيتان.
ويشترط في الرابع عدم اجتماع الخستين إلاّ إذا كانت الصغرى موجبة جزئية، وان لا يستعمل الصغرى الموجبة الجزئية الاّ مع الكبرى السالبة الكلية وفعليتهما وانعكاس السالبة فيه، ودوام السالبة الصغرى في الثالث أو كون الكبرى من المنعكسة سلبا.
وضروبه بحسب الكيف والكم خمسة، فان الثابت لكل شيء أو لبعضه أو المسلوب عن كله إذا ثبت لكله شيء أو لبعضه أو سلب عن كله، كان بين الشيئين ملاقاة أو مباينة جزئيتان أو مباينة كلية.
والاستثنائي مركب من شرطية ووضع لأحد طرفيها أو رفع.
فالمتصلة يشترط فيها اللزوم وكليتها أو كلية الاستثناء أو اتحاد الوقتين، وينتج باستثناء عين مقدمها عين تاليها وباستثناء نقيض تاليها نقيض مقدمه، وعكساهما عقيمان لجواز عمومية اللازم للملزوم وغيره ولا يلزم من رفع الخاص ولا من وضع العام شيء.
والمنفصلة الحقيقية ينتج باستثناء ايّ جزء كان منهما نقيض الاخر لاستحالة الجمع، وباستثناء نقيض أيّهما كان عين الآخر لاستحالة الخلو، والمانعة الجمع تنتج باستثناء عين أيّهما كان نقيض الآخر ولا ينتج باستثناء النقيض، ومانعة الخلو بالعكس، فهذا بيان إجمالي، وامّا التفصيلي فقد ذكرناه في كتاب الأسرار .
المقصد الثالث: في ذكر أدلة فاسدة اعتمد عليها المتكلمون
فمنها الاستقراء، وهو عبارة عن ثبوت الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته، كمن يحكم أن كل حيوان يحرك فكه الأسفل لما استقرأه من أحوال الناس والدواب، وجائز أن يكون ما لم يستقرأ بخلاف ما استقرئ، فإن عمموا الجزئيات فهو استقراء تام يصح الاستدلال به في البراهين.
ومنها التمثيل، وهو دعوى ثبوت الحكم في جزئي لثبوته في الآخر، ويسمونه القياس واركانه أربعة: الأصل والفرع والعلة والحكم ونوع منه يسمى قياس الغائب على الشاهد، وكثيرا ما يستدل به البصريون على مطالبهم ويستدلون على علية العلة التي لهم تارة بالدوران وتارة بالسبر والتقسيم.
وليس هو عندنا من الدلائل الحقة، والدوران ضعيف فان كثيرا من المدارات ليست عللا للدائر معها كأجزاء العلل وشروطها وأحد المتضايفين مع الآخر، والسبر والتقسيم ضعيف أيضا، فإنه مبني على أن الحكم معلل وليس يجب تعليل كل حكم والاّ لزم التسلسل، وعلى ثبوت الحصر، وعلى أن العلة ليست مركبة من قسمين من أقسامهم التي ذكروها أو ليست جزئي أحدها، وعلى حصول الشرائط التي وجدت في الأصل، وعلى ارتفاع الموانع التي يمكن وجودها في الفرع.
ومنها الاستدلال بعدم الدليل على العدم قالوا: لأنه لو لم يلزم من نفي الدليل نفي الشيء لزم القدح في العلوم الضرورية، لجواز أن يقال: إن بين أيدينا جبالا وأنهارا ونحن لا نعلمها لأن اللّه تعالى خلق في أعيننا مانعا من إدراكها، والقدح في العلوم النظرية، لأنه متى استفيد علم نظري بدليل لم يبعد في العقل وجود معارضة قادحة في إحدى مقدماته، وأيضا لو جاز إثبات ما لا دليل عليه لجاز إثبات ما لا نهاية له.
والشبهتان رديتان والمطلوب فاسد.
أمّا الأوّل فلأن العلم بعدم الجبل بحضرتنا إن توقف على العلم بانتفاء ما لا دليل عليه كان نظريا، وإن لم يتوقف جاز حصوله حال الجهل بأن ما لا دليل عليه يجب نفيه.
وأما العلوم النظرية، فإنما يحصل العلم عقيب المقدمات عند العلم البديهي بتلك المقدمات أو العلم اللازم للعلم البديهي بها لزوما بديهيا لا عند عدم العلم بفساد المقدمات.
وأمّا الثانية فباطلة، لأنه لا يلزم من تجويز إثبات ما لا دليل عليه بالثبوت ولا بالانتفاء إثبات ما لا نهاية له، لقيام الدليل على امتناعه.
وأما فساد المطلوب فلانا نقول: إن عنيتم أنه يلزم من عدم الدليل عندكم عدم المدلول فباطل قطعا وإلاّ لكان الجهال أكثر علما من العلماء!وإن عنيتم أنه يلزم من عدم الدليل في نفس الأمر عدم المدلول، فلم قلتم أنه في نفس الامر الدليل ليس بثابت؟ على أنا نقول على سبيل المعارضة: لو دل عدم دليل الثبوت على النفي، لدل عدم دليل النفي على الثبوت، فالشيء الذي تردد الذهن في إثباته ونفيه إذا لم يظفر بما
يدل على أحدهما يلزم أن يكون ثابتا منتفيا معا هذا خلف.
ومنها الاستدلال بعدم الأولوية على مطلوبهم الإيجابي والسلبي، كما يقولون في طرف الإيجاب: اللّه تعالى قادر على بعض الممكنات ببراهينهم فيجب ان يكون قادرا على الجميع، لأنه ليس عدد أولى من عدد، فإما أن لا يقدر على شيء اصلا أو يقدر على الجميع، وكما يقولون في طرف الانتفاء: قد ثبت وجود واجب الوجود فلو جاز إثبات آخر لم يكن عدد أولى من عدد، فإما أن لا يثبت شيء من الأعداد وهو المطلوب، أو يثبت ما لا نهاية له وهو محال.
وهذه المقدمة فاسدة جدا، فإنا نقول: إن عنيتم بعدم الأولوية عدم العلم بها فلم قلتم إنه يلزم من عدم العلم بالأولوية عدمها؟وإن عنيتم عدم الأولوية في نفس الأمر طالبناكم بالحجة عليه.
البحث السابع عشر: في الإرادة والكراهة
الحق عندي أن الإرادة والكراهة أمران زائدان على الاعتقاد في حقنا، فإنا نعتقد ثم نريد وهذا أمر وجداني، أما في حق واجب الوجود ففيه نظر، وهي مغايرة للشهوة، فإنا قد نريد تناول الدواء ولا نشتهيه ونشتهي ما لا نريد.
مسألة : قسم بعض معتزلة البصرة الإرادة الى قسمين:
منها ما لا متعلق لها، ومنها ما لها متعلق.
وجعل القسم الثاني هو ما يمكن حدوثه، والأول هو الذي لا يمكن حدوثه أصلا كالبقاء وغيره، فإن إرادته إرادة لا متعلق لها ولا تصير متعلقة لأجل اعتقاد المريد صحة حدوث البقاء، لأن ما لا متعلق له كيف يصير متعلقا في الحقيقة لمكان اعتقاد المعتقد؟ وربما خالف أبو هاشم في ذلك فقال: اذا اعتقد المريد صحة حدوث البقاء صحت ارادته، وهذا عندي هو الحق.
مسألة : ذهب جماعة من المعتزلة الى أن الإرادة انما تتعلق بالأحداث فلا تتعدّاه، وجوّز أبو عبد اللّه تعلقها بالمتجددات من الصفات.
وذهب المجبرة الى أنها متعلقة بالاعدام.
استدل الأولون بأنها لو تعدت في تعلقها طريقة الاحداث لم ينحصر متعلقها والتالي باطل فالمقدم مثله.
وبيان الشرطية عدم الأولوية، فإنه لا متعلق حينئذ أولى من غيره.
وبيان بطلان التالي أن الماضي والباقي غير مرادين، وأيضا الاعتقاد لا ينحصر متعلقه فكذلك الإرادة على هذا التقدير، والجامع كون كل واحد منهما قد تعدى في التعلق عن الوجه الواحد.
والجواب عن الأول المنع من صحة الشرطية، وما ذكروه من عدم الأولوية فقد أسلفنا ضعف التمسك به، والقياس على الاعتقاد ضعيف مع قيام الفارق.
والأولى عندي صحة تعلق الإرادة بكل متجدد سواء كان وجوديا أو عدميا.
مسألة : لما كان كل متجدد يصح تعلق الإرادة به والإرادة من جملة المتجددات صح تعلق الإرادة بها، وهو مذهب لأبي علي، والمحكي عن أبي القاسم المنع والاّ لزم التسلسل.
والإلزام فاسد، فإن التسلسل لازم على تقدير وجوب إرادة الإرادة، أما على تقدير الصحة فلا.
وهل تراد الإرادة بنفسها أم بغيرها ؟الأولى هو الأخير والاّ لتعلقت الإرادة بشيئين على وجه التفصيل وهو عندهم ممنوع لأنه لا مرادان الاّ ويصح أن يراد أحدهما دون الآخر، وفي هذا نظر.
مسألة : قالوا: الإرادة منها ما هو متماثل ومنها ما هو مختلف، وشرطوا في التماثل اتحاد المتعلق في الوقت والوجه والطريقة.
واستدلوا على تماثل ما اجتمع فيه هذه الشرائط بأن موجبها متماثل وتماثل المعلول يستلزم تماثل العلل، ولأن الكراهة الواحدة تضاد كلا منهما والشيء الواحد
لا يضاد الاّ مثلين أو ضدين، فأما المختلفان فلا يضادهما شيء واحد.
والحجتان رديتان، فان الحق عندنا أن التماثل في المعلول لا يستلزم التماثل في العلل ولم يتضح لنا أن الواحد لا يضاد المختلفين، فسيأتي لهذين زيادة تقرير.
قال المجوزون لاجتماع الأمثال: أنه لا استحالة في اجتماع إرادات متماثلة في محل واحد، ولكن لا تأثير لهذه الزيادة فيما يؤثر فيه، لأنا حال إخبارنا عن زيد بإرادة واحدة وبإرادات لا نجد تفرقة من حيث إن الحكم الجزئي لا يتزايد، نعم قد يكون للزيادة حظ في المنع فان القديم تعالى لو حاول ايجاد 1كراهة واحدة وقد فعلنا إرادات كثيرة، لم يكن مراده أحق بالوجود، وأما المختلف من الإرادات فهو ما فقد أحد الشرائط السالفة، وذلك بأن يتغاير المتعلق أو الوقت أو الوجه كما يريد أحدهما حدوث الشيء والآخر يريد حدوثه على وجه أو الطريقة، كما يريد أحدهما الشيء مجملا والآخر مفصلا.
ولا تضاد في الإرادة على رأي جماعة، وهو مذهب ابي هاشم اخيرا، وذهب أبو علي الى تضاد ارادتي الضدين.
استدل الفريق الأول بأن من شرط التضاد في المتعلقات اتحاد متعلقها وتعلق كل واحد من المتعلقين على عكس ما تعلق به الآخر، واذا كان تعلق الإرادة لا يكون الاّ على وجه واحد فلو أن هاتين الارادتين تعلقتا بمتعلق واحد لكانا مثلين لا ضدين.
واستدل الآخرون بأن إرادة الحركة ترجيح لوجودها وإرادة السكون ترجيح لوجوده، فكما أنهما متقابلان لذاتيهما فكذلك إرادتهما.
واتفق الفريقان على أن الكراهة ضد الإرادة لحصول المنافاة بينهما.
ومن قال إن إرادة الشيء هي كراهة ضده، خطأ، فإن الشيء قد يراد حال
الغفلة عن الضد، نعم إرادة الشيء يلزمها كراهة الضد بشرط اعتبار الضد، فالخطأ نشأ من أخذ لازم الشيء مكان الشيء.
وأثبت أبو القاسم السهو معنى يضاد الإرادة.
وردوا عليه بأن القدرة على أحد الضدين يستلزم القدرة على الضد الآخر، فوجب ان يكون قادرين على السهو كما كنّا قادرين على الإرادة.
وجعل أبو علي الأعراض ضدا ثالثا للإرادة والكراهة.
وردوا عليه بأن الأعراض لو كان معنى لوجب أن يتوصل إليه بصفة صادرة عنه أو حكم صادر عنه، ومعلوم انتفاء ذلك فوجب نفيه.
والدعاوى بعيدة والحجج ضعيفة والردود مختلفة.
مسألة : ذهب جماعة الى امتناع بقاء الإرادة، وهو مذهب السيد المرتضى والشيخ أبو جعفر، واستدلوا بأنها لو كانت باقية لزم أحد الأمرين وهو إما دوامها أو عدمها لا بطريان الضد، والتالي باطل بقسميه فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أنها إن بقيت دائما لزم أحد الامرين، وإن عدمت فعدمها إما بطريان الضد أو لا، والأول باطل والاّ لزم أن لا يخرج أحدنا من الإرادة إلا بكراهة وهو باطل، فإنا قد نريد الشيء ثم نخرج عن ارادته مع عدم كراهته، والثاني هو الأمر الآخر.
وأما بطلان القسمين، اما الأول فظاهر، واما الثاني فلما عرف أن الاعدام انما تكون بطريان الضد.
ولقائل أن يقول: هذا الدليل مبني على إن الاعدام لا يكون بفاعل، وهو عندنا ضعيف.
مسألة : ذهب جماعة من المعتزلة الى أن الإرادة يجوز أن تتقدم الفعل سواء تعلقت بفعل الإنسان نفسه أو بفعل غيره، وادعوا فيه الوجدان.
وأوجب أبو القاسم التقدم لأنها سبب والسبب متقدم، والأصلان فاسدان.
مسألة : قالوا: الإرادة غير موجبة للفعل والاّ لما جاز تقدمها والتالي باطل بما تقدم فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة.
الحق عندي أن الإرادة غير موجبة للفعل الاّ بانضمام القدرة وشرائط الفعل بأسرها.
مسألة : قالوا: الإرادة لا تقع متولدة عن الاسباب بالاستقراء، فإنا لما استقرينا الأجناس المفعولة في القلب من غير ان يتولد عنها الإرادة حكمنا بعدم التوليد مطلقا.
وانت خبير بضعف الاستقراء.
البحث الثامن عشر: في الالم واللذة
الذي ذكره الأوائل في تعريفهما ان اللذة هي إدراك الملائم والألم إدراك المنافي.
والمعتزلة قالوا: إن المدرك إن كان متعلق الشهوة كالحكة في الأجرب كان الإدراك لذة، وإن كان متعلق النفرة كان ألما.
ونقل عن ابن زكريا: أنه قال: إن اللذة خروج من الحالة الطبيعية.
وهذا خطأ، وسببه أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات، فإن الإدراك إنما يحصل بانفعال الحاسة يقتضيه تبدل حال ما.
مسألة : المشهور عند الأوائل والمعتزلة أن تفريق الاتصال سبب موجب للألم، وربما ادعوا فيه الضرورة، ونازع فيه بعض المتأخرين قائلا: إن التفريق عدمي والألم وجودي، وأيضا فالغذاء ينفذ في أجزاء المغتذي بأن يفرق اتصالها وهو غير مؤلم.
والجواب عن الأول أن العدم لا يكون علة للوجود، أما العدمي فإنه يجوز أن يكون علة كعدم الحركة فإنه علة للسكون وعدم السمع علة للخرس وعدم الغذاء في الحيوان الصحيح علة للجوع.
وهذا الجواب ضعيف، فإن العقل قاض بالمنع من استناد الوجودي الى العدمي، وما ذكر من الأمثلة فغير صحيحة.
والجواب عن الثاني أن النفوذ في الغذاء طبيعي فليس بمناف فإدراكه لا يكون إدراكا للمنافي.
هل للألم سبب آخر غير تفريق الاتصال؟جزم جالينوس بنفيه، والشيخ زعم أن سوء المزاج سبب له فان عناصر الحيوان يقتضي كل واحد منها كيفية مخالفة لكيفية الآخر، فما دام الاتصال موجودا يكون الانكسار حاصلا ويتم الاعتدال، فاذا تفرقت بقيت طبيعة كل واحد منها خالية عن المعاوق فيقع الإحساس بالمنافي فيوجد الألم.
مسألة : لما كان الألم عندنا عبارة عن إدراك المنافي أو ما يلازمه هذا المعنى لم يصح وجوده الاّ في الحيّ.
وأبو هاشم جوّز وجوده في الجماد ، واستدل بأن الألم لا يوجب حكما للحيّ وكلما كان كذلك كفى في وجوده مجرد المحل.
أما الصغرى فلأنه لو أوجب حكما للحيّ كما يقولون في العلم والإرادة لوجب كونه ألما عند وجود ذلك المعنى فيه على كل حال وإن لم يدركه كما يجب ذلك في الإرادة والاعتقاد، والتالي باطل فالمقدم مثله.
وأما الكبرى فادعوا فيه الظهور، فإن الحرارة والبرودة وغيرها لما لم توجب أحوالا للجملة صح وجودها في كل محل، والحجة لا يخفى ضعفها والمطلوب ظاهر الإحالة.
مسألة : ذهب بعض المعتزلة الى أن الآلام غير باقية، وهو مذهب السيد المرتضى، واستدل بأنها لو كانت باقية لما انتفت عن المحل القابل لها الاّ بضد والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله والملازمة عندهم ظاهرة.
وهي عندنا فاسدة.
البحث التاسع عشر: في الشهوة والنفار
وهما من المعلومات الضرورية، ولا بد لهما من محل وهو ظاهر، ويفتقران الى الحياة ولا يحلان الاّ جزءا واحدا عندنا وعند المعتزلة.
واستدلوا بأنها لو وجدت في أزيد من محل واحد وإن افتقرت الى البنية لساوت التأليف والتالي باطل فالمقدم مثله.
وبيان الشرطية عندهم بأن التساوي في بعض الأحكام يستلزم التساوي في العلل وهو ضعيف.
ثم اعترضوا على أنفسهم بأنه لا استبعاد في حلول الشهوة والنفرة في أزيد من المحلين فيخالف التأليف فإن التأليف لا يحل الاّ بمحلين.
أجابوا بأنه يلزم تزايد الشهوة والنفرة عند تزايد الأجزاء، والتالي باطل- فانا نجد السمين إذا هذل قد لا ينتقص شهوته-فالمقدم مثله.
وعندي أن هذه الحجة ضعيفة، فإنه لا استبعاد في أن يكون الزائد من الأجزاء في السمين ليست هي المحتاج إليها في الشهوة.
مسألة : قالوا: الشهوة غير مدركة لأنها إن أدركت بمحل الحياة فيه كانت مماثلة للألم، فإن الألم قد اختص بأنه يدرك بمحل الحياة في محل الحياة دون غيره من الأعراض ولا يدرك بإحدى الحواس الخمس، وهو ظاهر.
قالوا: وهما لا يتعلقان الاّ بالمدركات، لأنا متى وجدنا الشيء مدركا صحّ تعلق الشهوة والنفرة به، ومتى لم يكن مدركا استحال تعلقهما به، وبنوا على هذين الأصلين أن الشهوة لا يشتهى وكذلك النفار لا ينفر الطبع عنه لأنهما غير مدركين.
مسألة : قالوا: إنهما غير باقيتين، لأن أحدنا يخرج من كونه مشتهيا الى غير ضد مع قبول المحل، وهذا الطريق ضعيف لما مرّ.
مسألة : الشهوة تضادّ النفرة، واستدلوا بعدم اجتماعهما على تضادهما ونفوا ضدا ثالثا لهما قالوا: لأن المدرك إما أن يلتذ بإدراكه فيكون مشتهى او يتألم به فيكون منفورا عنه، ولا واسطة بين هذين الاّ عدمهما ولا يفتقر عدمهما الى علة، فلو ثبت ضد ثالث لم يكن له حكم صادر عنه.
وهو باطل، فان من شرط الضدية تعلق كل واحد من الضدين بصفة على عكس ما تعلق به الضد الآخر.
وهو من المعلومات الضرورية، ومغايرته للقدرة والإرادة وغيرهما من الأعراض المختصة بالحي معلوم قطعا، وانما وقع النزاع في مغايرته للعلم، فذهب الأشاعرة الى زيادته قالوا: لأنا نجد تفرقة بين حالنا اذا علمنا وبين حالنا اذا علمنا وفتحنا العين ومستند الفرق انما هو الزيادة.
والأوائل والكعبي وأبو الحسين زعموا أن الزيادة راجعة الى تأثر الحاسة.
والإدراكات خمسة: الإبصار والسماع والشم والذوق واللمس.
مسألة : اختلفوا في كيفية الإبصار، فقال قوم من الاوائل: إنه إنما يكون بخروج شعاع من العين يلاقي المبصر، وهو مذهب جماعة من معتزلة البصرة والشيخ أبي جعفر.
وذهب آخرون من الأوائل الى أنه إنما يكون بانطباع صورة المرئي في العين.
والقولان باطلان، أما الأول فلاستحالة خروج جسم من العين يلاقي نصف كرة العالم ويلاقي كرة الثوابت واستحالة الانتقال على الأعراض.
واما الثاني فلاستحالة انطباع العظيم في الصغير، والعذر عنه بانطباع المبصر في المادة التي لا حظ لها في الصغر والعظم غير تام، وقد بيناه في كتاب الأسرار.
مسألة : شرط الأوائل والمعتزلة للإبصار بعد سلامة الآلة مكثافة المبصر، بمعنى أن يكون ذا لون أو ضوء وإضاءته من ذاته أو من غيره، وأن لا يكون في غاية الصغر، وأن لا يكون بينهما حجاب وعدم البعد والقرب المفرطين وحصول المقابلة أو حكمها.
ثم إن المعتزلة والأوائل أوجبوا حصول الإبصار عند حصول هذه الشرائط، وخالفهم في ذلك الأشاعرة.
والأولون التجئوا الى الضرورة، والأواخر استدلوا على عدم الإيجاب بأنا نبصر الكبير من البعيد صغيرا مع تساوي نسبة أجزائه الى العين.
وأصحاب الانطباع أجابوا عن ذلك بأن انطباع الصورة في المقدار الصغير سبب لرؤيتها أصغر منها إذا انطبعت في المقدار الكبير، والمرئي إذا بعد يوهم مخروط قاعدته المرئي وزاوية العين، فكلما بعد المرائي صغرت الزاوية فكان المنطبع فيه أصغر.
وأصحاب الشعاع أجابوا بأن بعد المسافة سبب لتفرق الأشعة فلا يقوى على الإدراك التام.
مسألة : قال أصحاب الانطباع: إن صورة المرائي ينطبع في الرطوبة الجليدية ولا يقع عندها الإحساس وانما يقع عند ملتقى القصبتين المجوفتين وهناك روح مدركة، وكذلك تكون الصورة المدركة واحدة بخلاف اللمس باليدين، فامّا اذا لم يمتد المخروطان على هيئة التقاطع بل انتهى كل مخروط الى جزء من الروح الباصر، أدركت الصورة الواحدة صورتين.
وأصحاب الشعاع قالوا: إن الشعاع الخارج من العين على هيئة مخروط يكون رأسه عند العين وقاعدته عند المرائي، وهذا الشعاع في سهمي المخروط وهما يلتقيان عند المبصر ويتحدان، والأحول لا يلتقي سهما مخروطية على شيء واحد، بل يرى الأشياء بطرف المخروط لا بوقوع السهمين عليه، والطرفان متباينان فتباين مدركاهما.
والعذران عندي باطلان، أما الأول فلأن الروح جسم لطيف فمن المتعذر بقائه في الملتقى دائما بحيث لا يتقدم ولا يتأخر فكان يجب حصول الحول لأكثر الناس في أكثر الأوقات.
وأما الثاني فلأن الطرفين إن اتحدا عند المرئي كان واحدا، كما إذا اتحد سهما المخروطين، وإن لم يتحدا كان المدرك بكل واحد منهما بعض المرئي لا المرئي نفسه.
مسألة : قال أصحاب الانطباع: إن صورة الوجه ينطبع في المرآة فيدركها الإنسان إذا قابلها لانطباع تلك الصورة مرة ثانية في العين.
وهذا خطأ، والاّ لزم انطباع العظيم في الصغير، ولأنه يلزم أن لا يظهر لون المرآة عند انطباع الصورة فيها، كما أن الجدار اذا اخضر بالانعكاس لم يظهر لونه.
وأصحاب الشعاع قالوا: إنه يخرج الشعاع من العين ويلاقي المرآة وينعكس عنها الى ما يقابلها.
وهذا أيضا ضعيف لما مرّ.
في المشهور أن السماع إنما يكون بسبب تأدي الهواء المنضغط بين قارع ومقروع الى الصماخ.
وأما الشم فقد اختلفوا فيه، فقال قوم: إنه لتكيّف الهواء المتصل بالخيشوم بكيفية ذي الرائحة.
وقال آخرون: إنه يكون لانفصال أجزاء لطيفة من ذي الرائحة الى الخيشوم.
وهذان الوجهان عندي جائزان.
وهاهنا وجه بعيد قال به من لا مزيد تحصيل له ، وهو أن القوة الشامة تتعلق بمدركها وهو هناك.
وأما الذوق، فانما يحصل بتوسط الرطوبة اللعابية الخالية عن الطعوم، وهل الإدراك بانفعال تلك الرطوبة بكيفية الجسم أو بانفعال أجزاء من الجسم غائصة في اللسان مخالطة له؟فيه احتمال.
وأما اللمس فانه أنفع الإدراكات للحيوان، لأنه باعتباره يبعد من المنافي وباعتبار الذوق يجتلب النفع، ولما كان دفع الضرر أقدم من جلب النفع كان اللمس أقدم.
وقد ظهر من هذا أن كل ذي قوة لمس فإن فيه قوة تحريك، واختلفوا فذهب قوم الى أن اللمس ليس قوة واحدة بل هو قوى أربع:
الأولى: الحاكمة بين الحار والبارد.
والثانية: الحاكمة بين الرطب واليابس.
والثالثة: الحاكمة بين الصلب واللين.
والرابعة: الحاكمة بين الخشن والأملس.
وآخرون جعلوها واحدة، وهو الأولى.
البحث الحادي والعشرون: في احكام الأعراض
مسألة : الأعراض باقية عند جماهير المعتزلة، خلافا للاشاعرة، وادعى ابو الحسين الضرورة في ذلك .
واستدل غيره بأنها ممكنة في الزمان الأول فتكون ممكنة في الزمان الثاني والاّ لزم انتقال الشيء من الإمكان الذاتي الى الامتناع الذاتي وهو محال، وهذه حجة عول عليها الجمهور وارتضاها أكثر الناس.
واقول: إنها عند التحقيق غير مرضية، فانهم إن عنوا بكونه ممكنا في الزمان الثاني كونه ممكن الوجود في الزمان الثاني بدلا عن الوجود في الزمان الأول فهو حق، ولكن ذلك لا يدل على جواز البقاء.
وإن عنوا به أنه إذا كان ممكن الوجود في الزمان الأول ثم وجد فيه كان ممكن الوجود في الزمان الثاني عقيب وجوده في الزمان الأول فهو ممنوع، ولا يلزم من عدم إمكانه بهذا المعنى انتقال الشيء من الامكان الى الامتناع، وذلك لأن الممتنع هاهنا ليس هو الوجود المطلق، وانما الممتنع هاهنا هو الوجود المقيد بكونه بعد وجود أول أعني البقاء وهو نفس المتنازع، ولا يلزم من امتناع الوجود المقيد كون الشيء ممتنعا في نفسه، ومثال هذا الصوت، فإنه ممكن الوجود في الزمان الأول غير ممكن الوجود في الزمان الثاني، وكذلك الحركة عند من يقول: بأن الأكوان غير باقية، فلتلمح هذه الفائدة.
حجة الأشاعرة أن البقاء عرض، فلو كانت الأعراض باقية لزم قيام العرض بالعرض، ولأنها لو بقيت لاستحال عدمها، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أن عدمها يستحيل استناده الى الذات والاّ لكان الممكن لذاته ممتنعا لذاته، ولا الى الضد لأن طريانه على المحل مشروط بعدمه فلو علل به لزم الدور، ولا الى المختار لأن التأثير إنما يكون في أمر وجودي وليس الأعدام بوجودي، ولا الى انتفاء الشرط لأن شرطه الجوهر وهو باق والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض.
والجواب عن الأول بالمنع من جعل البقاء عرضا وإلاّ لزم الدور، وبالمنع من قيام العرض بالعرض.
وعن الثاني لم لا يستند عدمه الى الضد؟قوله: لأن وجود الضد مشروط بانتفائه، قلنا: ممنوع بل عدمه معلل بطريان الضد، فليس أحد القولين أرجح من الآخر، سلمنا لكن لم لا يستند الى المختار؟قوله: المختار إنما يؤثر في أمر وجودي، قلنا: ممنوع فإن الممكن إذا جعل معه ترجيح أحد الطرفين وجب حصوله، سواء كان وجودا أو عدما، ضرورة تساوي نسبتهما الى الماهيّة.
سلمنا لكن لم لا يستند الى انتفاء الشرط، قوله: الشرط هو الجوهر، قلنا:
دعوى الانحصار ممنوعة، فأين البرهان؟ سلمنا لكن لم لا ينتفي في الزمان الثالث او ما بعده لا لسبب بل لذاته كما يقولون: إنه ينتفي في الزمان الثاني كذلك؟ مسألة : ذهب الأوائل ومعمّر الى صحة قيام العرض بالعرض، وهو الحق عندي.
وذهب جماعة من المتكلمين الى الامتناع.
لنا أن السرعة عرض قائم بالحركة وكذلك البطء.
احتجوا بأنه لا بدّ من الانتهاء الى الجوهر، وحينئذ يكون الجميع في حيز الجوهر تبعا لحصول الجوهر فيه.
والجواب لا منازعة في ذلك، فانا مقرّون بالانتهاء الى الجوهر، ولكن المنازعة في قيام البعض بالبعض وقيام ذلك البعض بالجوهر، وما ذكروه لا ينفي ذلك.
مسألة : المشهور عند المعتزلة والأشاعرة امتناع قيام العرض بمحلين، وجوّز أبو هاشم قيام التأليف بمحلين ومنع من الزائد.
والأوائل ذهبوا الى أن العرض الواحد قد يحل في محلين، لا بمعنى أن يكون العرض الذي هو حالّ في أحد المحلين حالاّ في المحل الآخر، بل أن العرض الواحد حال في مجموع شيئين صارا باجتماعهما محلا واحدا له كالحياة والعلم وغير ذلك.
احتج الأولون بأن العرض مستغن بكل واحد من المحلين عن الآخر حال احتياجه إليه هذا خلف، ولقائل أن يمنع ذلك.
مسألة : اتفق المتكلمون والأوائل على امتناع الانتقال على العرض، واستدلوا عليه بأنه محتاج في تشخصه الى المحل فيستحيل انتقاله عنه.
أما الصغرى فلأنه لو لا ذلك لما حلّ فيه والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أنه حينئذ يكون مستغنيا عنه، أما في الوجود فبعلته، وأمّا في التشخص فبما يشخصه والاستغناء ينافي الحلول، وبيان بطلان التالي ظاهر.
والكبرى غنية عن البيان.
وهذه الحجة لا تخلو من بعد .
البحث الثاني والعشرون: في بقية الأعراض وقع فيها الخلاف بين المتكلمين
مسألة : ذهب البغداديون وجماعة من الأشاعرة إلى إثبات البقاء، ونفاه جماعة من المعتزلة.
احتج الأولون بأن الذات لم تكن باقية حال الحدوث ثم صارت باقية.
والجواب لا نسلم أن تغير الذات في ذلك يدل على الثبوت.
واحتج الآخرون بأنه لو كان البقاء ثابتا لزم التسلسل واللازم باطل فالملزوم مثله.
والحق عندي أن البقاء أمر اعتباري هو مقارنة الوجود لزمان بعد الزمان الأول، وقد يعرض له هذا المعنى وينقطع بانقطاع الاعتبار.
مسألة : أثبت أبو هاشم واتباعه الفناء معنى، ونفاه الباقون وهو الحق.
واستدل بأن الجواهر باقية يصح عدمها ولا يمكن ذلك الاّ بثبوت الفناء، أما أنها باقية فقد مضى، وأما صحة عدمها فلما يأتي، وأما أن ذلك يستلزم ثبوت الفناء فلأن الأعدام إما أن يكون للذات وهو محال، أو للفاعل وهو محال، لأن تأثير المؤثر إنما يكون في الإيجاب لا في الإعدام لأن التأثير هو إيجاد أثر أو لطريان الضد وهو الفناء.
والنظام لما قال: بأن الجواهر لا تبقى، استغنى عن التزام هذا المحال، وإن كان بقوله ذلك قد ارتكب محالا.
والأوائل لما قالوا: إن الإيجاب والإعدام متساويان في صحة الاستناد الى المؤثر، اندفع عنهم هذا المحال.
والبغداديون لما أثبتوا البقاء معنى باعتباره تبقى الذات وباعتبار عدمه تفنى، استغنوا عن التزام هذا المحال.
وبعد هذا فالحق ما ذهب إليه الأوائل.
الذي ذهب إليه مشايخ المعتزلة أن الفناء متماثل ولا يوجد فيه اختلاف ولا تضادّ، قالوا: لأن اخص صفاته كونه منافيا للجوهر وهو مشترك بين افراده، والاشتراك في اخص الصفات يستلزم الاشتراك في الذات.
وهو عندي ضعيف لما مرّ غير مرة، والشيخ أبو جعفر وقف في ذلك.
مسألة : قالوا: الفناء لا يبقى والاّ لزم أحد الأمرين: إما التسلسل أو يبقى مع اللّه تعالى شيء دائما، والتالي بقسميه باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أن الباقي لا ينتفي الاّ بضد، فالفناء الباقي إما أن لا ينتفي، أو ينتفي والأول أحد القسمين، والثاني يلزم منه القسم الثاني لأن الكلام في ضده كالكلام فيه.
واما بيان بطلان القسمين، أما الأول فبالبرهان، وأما الثاني فبالإجماع.
مسألة : قالوا: الفناء غير مقدور بالقدرة والاّ لزم القدرة على الجواهر والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أن القادر على الشيء قادر على ضده.
وبيان بطلان التالي أن القدرة لا يمكن أن تقع المخترع من الأفعال لما مرّ، وإنما يقع منها المباشر والمتولد، والأول يستحيل وقوع الجوهر به والاّ لزم التداخل.
والثاني على قسمين: منه ما يقع في محل القدرة كالنظر مع العلم والتأليف مع
المجاورة وهو أيضا يلزم منه التداخل.
ومنه ما يقع خارجا عن محل القدرة، وهو باطل، لأنه لا سبب يعدي الفعل عن محل القدرة الاّ الاعتماد وأجناسه ستة، وهي مقدورة لنا وليس تقع الجواهر به، لأنا لو اعتمدنا طول الدهر على زقّ مشدود الرأس لم يتولد فيه الجواهر.
فهذا ما قيل في هذا الباب، وهو ضعيف، وهاهنا أعراض وقع فيها الخلاف مضى البحث عنها.