موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي >> مناهج اليقين في أصول الدين
المنهج الرابع
في إثبات واجب الوجود تعالى وبيان صفاته
وفيه مباحث
البحث الأول: في إبطال الدور والتسلسل
البحث الثاني: في بيان وجوده تعالى
البحث الثالث: في الصفة الذاتية
البحث الرابع: في أن الله تعالى قادر
البحث الخامس: في أن الباري تعالى عالم
البحث السابع: في أنه تعالى مريد وكاره
البحث الثامن: في أنه تعالى مدرك
البحث التاسع: في أنه تعالى باق
البحث العاشر: في أنه تعالى متكلم
البحث الحادي عشر: في المعاني والأحوال
البحث الثاني عشر: في كونه تعالى صادقا
البحث الثالث عشر: في بقية الكلام في الصفات الثبوتية
البحث الأول: في إبطال الدور والتسلسل
أما الدور فمن المعلوم القطعي بطلانه، وربما استدلوا باستحالة تقدم الشيء على نفسه على عدم تقدمه على المتقدم عليه فإن العلة متقدمة.
وأما التسلسل فقدماء المتكلمين استدلوا على بطلانه بأنه قابل للزيادة والنقصان، ضرورة أن كل موجود كذلك وكل ما قبلهما فهو متناه، وأيضا فهو ذو عدد وكل عدد إما زوج أو فرد وهما متناهيان، وهذان ضعيفان.
والحق أن نقول: كل واحد من آحاد التسلسل ممكن فالمجموع كذلك، فعلته إن كان هو الآحاد بأسرها كان الشيء مؤثرا في نفسه، وإن كان بعضها كان الشيء مؤثرا في علته وعلة علته.وأيضا لا يلزم من وجود جزء تتقوم الماهية منه ومن غيره وجود تلك الماهية، وإن كان أمرا خارجا عنها فهو واجب.
وللشيخ برهان آخر ، وهو أن المعلولات قد تساوت في كونها وسطا، وهاهنا طرف هو المعلول الأخير، فلا بد من طرف آخر هو العلة الأولى، ولبرهان التطبيق دلالة في هذا الموضع.
البحث الثاني: في بيان وجوده تعالى
لمّا بطل الدور والتسلسل قلنا: إن هاهنا موجودا بالضرورة، فهو إما واجب او ممكن، فان كان الأول فهو المطلوب، وان كان الثاني فلا بد له من مؤثر، فإما أن يدور او يتسلسل وهما باطلان، او ينتهي الى الواجب.
وهذه الطريقة هي أشرف الطرق وأمتنها وهي طريقة الأوائل.
وللمتكلمين طريقة أخرى قوية هي أن الأجسام محدثة فلا بد لها من محدث، فإن كان ذلك المحدث قديما فهو المطلوب، والاّ لزم تسلسل الحوادث وهو محال، لأن حادثا ما إن كان أزليا لزم التناقض والاّ فالكل حادث.
ولمشايخ المعتزلة طريقة أخرى ضعيفة هي أن أفعالنا كالقيام والقعود محتاجة إلينا لحدوثها فيكون مشاركها في الحدوث محتاجا الى المؤثر أما الأول فلحصولها عند خلوص الداعي وانتفائها عند خلوص الصارف فهي إذن محتاجة إلينا، وعلة الحاجة هي الحدوث لأنها إما هو او العدم او البقاء، والأخيران باطلان لأن العدم ليس بعلة ولا معلول والباقي مستغن.
وأما الثانية فلولاها لزم نقض العلة وهو محال.
وهذه الحجة ضعيفة قد تعلمت ضعفها وضعف أمثالها فيما سلف.
واعلم أن الوجود عند مشايخ المعتزلة أمر زائد على الذات وأن المعدوم ثابت، فهذه الحجة تدل على ثبوته لا على وجوده عندهم، واستدلوا على وجوده بأنه تعالى قادر فله تعلق بالمقدور والمعنى بالتعلق أمر لأجله يختص كونه قادرا
بمقدور دون مقدور وتعلقه بذلك المقدور لنفسه، لأن المتعلق بالغير على ضربين:
أحدهما المتعلق بغيره لأجل غيره كالأمر والنهي المتعلقين بالغير لأجل الوضع والاصطلاح وهما مغايران للأمر والنهي.
والثاني المتعلق بالغير لذاته كالقدرة والعلم، ولا شك أنه تعالى ليس من قبيل القسم الأول، واذا ثبت أنه متعلق بالمقدور لنفسه كان موجودا، لأن العدم يخرج المتعلق عن التعلق كالقدرة لما كانت متعلقة بالمقدور لنفسها كان عدمها يخرجها عن التعلق، لأنها لو تعلقت وهي معدومة، ولا شك أن في العدم ما لا نهاية له من القدر وما يختص به أحدنا من القدر المعدومة أيضا لا نهاية له، لوجب أن يكون أحدنا قادرا على ما لا نهاية له وذلك يرفع التفاوت بين القادرين وهو محال أدى إليه صحة تعلق القدرة المعدومة، فإذن العدم يخرج المتعلق عن التعلق، فلو كان اللّه تعالى معدوما لم يتعلق والتالي باطل لما تقدم فالمقدم مثله.
واعلم أن ما بني عليه هذا الاستدلال من ثبوت المعدوم من أعظم المحالات والاستدلال المذكور من أضعف الأدلة.
البحث الثالث: في الصفة الذاتية
اعلم أن أبا هاشم ذهب الى أن للّه تعالى صفة ذاتية يخالف بها ما يخالف كالجوهرية للجوهر، وأن له اربع صفات اخر، وهو كونه: قديما، حيّا، وقادرا، وعالما، وأن هذه الصفات مقتضاة عن صفة الذات.
ثم لما اتصف بهذه الصفات وجب لكونه على صفة القادرية أن يصح منه الفعل، ولكونه على صفة العالم أن يصح منه الإحكام، ولكونه حيّا ان يصح منه الإدراك ويجب عند وجوده.
وقاضي القضاة قسم صفاته الى خمسة اقسام:
الأول: الصفة الذاتية.
الثاني: ما هو مقتضاها، وهي الصفات الأربع المذكورة.
الثالث: ما يكون حكما للصفة المقتضاة، وهو صفة الإدراك التي تجب لكونه حيا.
الرابع: ما ثبت له بالمعنى وهو كونه مريدا وكارها.
الخامس: صفات الأفعال.
احتج أبو هاشم على إثبات الصفة الذاتية بأنه تعالى قادر، عالم، حيّ، قديم على سبيل الوجوب، فقد خالف باقي الذوات في ذلك، فعلّة المخالفة لا يجوز أن يكون هو مجرد الصفات الأربع لوقوع الاشتراك ولا وجوبها، فإن البصر يدرك السواد الواجب فرضا في المحل مساويا للسواد الممكن فلا بد من حالة أخرى ذاتية تختص به حتى تقع المخالفة.
وهذا الكلام سخيف، أما أولا فلأنه مبني على الاصل الفاسد وهو أن الذوات متساوية.
وأما ثانيا فللزوم التسلسل، فانا نقول: لو كان الاختصاص بالصفات الأربع يستلزم ثبوت صفة[لكان الاختصاص بتلك يستلزم ثبوت] أخرى.
وأما ثالثا فلأن هذه الصفات جاز أن يكون مختلفة فتقع المخالفة بأنفسها كما تقولون في القدر، فإنها عندهم مختلفة في الجنس وان تساوت في مسمى القدرة.
وأما رابعا فلأن الاختلاف جاز أن يستند الى الوجوب والإمكان والقياس على السواد غير مفيد، لأن الإدراك انما تعلق به من حيث هو لا من حيث الوجوب والإمكان، ولو فرض تعلق الإدراك من حيث الصفات لقد كان يدرك الإنسان المخالفة.
البحث الرابع: في أن اللّه تعالى قادر
والمعني بالقادر من يصح منه الفعل والترك.
ومشايخ المعتزلة على أنه من كان على حالة يصح عليها الفعل والترك بالنسبة إليه، والدليل على ذلك أنه لو كان موجبا لكان إما مطلقا او يتوقف على شرط، والأول باطل والاّ لزم القدم، والثاني باطل لأن ذلك الشرط ان كان قديما لزم القدم وان كان حادثا لزم التسلسل واللازمان باطلان فالقول بالموجب باطل.
والأوائل عندهم أنه ليس بقادر بهذا المعنى وان كان قادرا بمعنى أنه اذا شاء ان يفعل فعل واذا شاء ان يترك ترك، وهذا لا ينافي وجوب الفعل لعدم المنافاة بين القضية الشرطية والحملية لفقدان شرط التناقض وهو الاتحاد في الشرط.
واعترض على ما ذكرناه بوجوه:
أحدها: أن العالم إن كان صحيح الوجود في الأزل لم يلزم محذور، وإن كان محالا لم يلزم من حدوثه ثبوت القدرة لجواز كون العلة موجبة وهي غير مؤثرة في الأزل لتوقفها على القبول.
وثانيها: جاز أن يكون واجب الوجود لذاته أوجب موجودا قادرا أثّر في العالم.
وثالثها: أن الترك غير مقدور فالفعل غير مقدور، أما الأول فلأنه عدم الفعل والعدم نفي محض فلا تتعلق القدرة به، وأما الثاني فظاهر.
ورابعها: أن قدرة اللّه تعالى إن كانت أزلية لزم قدم صحة التأثير ولا صحة في الأزل، وإن كانت محدثة لزم التسلسل.
وخامسها: أن القدرة نسبة فتتوقف على ثبوت المنتسبين.
والجواب عن الأول: أن الاستحالة إنما حصلت على تقدير كون المؤثر قادرا، أما على تقدير كونه موجبا لم يكن العالم مستحيلا في الأزل، سلمنا استحالته في الأزل لكن لو حدث قبل حدوثه لم يكن أزليا فكان يجب وجوده قبل وجوده ضرورة وجود العلة وانتفاء المانع.
والجواب عن الثاني: أن الواسطة منتفية بإجماع المسلمين، ومثل هذا المطلوب لا استحالة في استفادته من السمع.
وعن الثالث: أن الترك عند بعضهم فعل الضد فلا استحالة وعند آخرين أنه عدم الفعل، ومعنى كونه مقدورا أن القادر يمكنه ان لا يوجد الفعل.
وعن الرابع: ان القدرة أزلية، ولا يلزم منه صحة تأثيرها في الأزل لأن شرط تأثيرها فقدانه.
وعن الخامس: أن القدرة تتوقف على ثبوت المقدور مطلقا الذي هو أعم من الثبوت الخارجي، والمستند الى القدرة هو الأخص.
تذنيب: قدرته تعالى تتعلق بجميع المقدورات، لأن علة صحة المقدورية هي الإمكان المشترك وعلة قدرته هي ذاته التي نسبتها الى الجميع على السوية، ولأن الباري يصح أن يقدر على الكل لأنه حيّ يصح أن يقدر ونسبة الصحة الى جميع المقدورات على السوية وإذا صح أن يقدر على الكل وجب، ولأن المقتضي لتلك الصحة ليس الاّ الذات فلو لم يجب لكانت متوقفة على امر خارج عن الذات وقد
فرضنا الذات هي المقتضية لا غير هذا خلف.
واعلم أن الآراء لم تتفق على هذا، فلنتجرد لذكرها وفسخ ما احتجوا به فنقول: اما الأوائل فقد زعموا أن اللّه تعالى واحد من كل جهة، وأن الواحد يستحيل أن يصدر عنه الاّ واحد، وقد مضى تقدير هذا وما يرد عليه، قالوا: فذلك الواحد يستحيل ان يكون علة الاّ لعقل على ما مضى، ثم ذلك العقل فيه جهتا وجوب وتعقل للأول باعتبارهما كان مبدأ العقل آخر وجهتا ماهية وامكان باعتبارهما كان مبدئا لهيولى الفلك المحيط وجهتا وجود وتعقل لنفسه باعتبارهما كان مبدئا لصورة الفلك المحيط، ثم هكذا الترتيب في العقول والأفلاك الى أن ينتهي الى الفلك التاسع المحيط بالأرض اعني فلك القمر والى العقل الأخير العاشر الذي هو العقل الفعال، ثم يفيض هيولى العالم العنصري وصوره والحوادث التي في هذا العالم بحسب استعدادات المواد الحاصلة بسبب الحركات الفلكية.
ونحن لمّا أثبتنا كونه تعالى قادرا اندفعت هذه الكلمات، وأيضا فقد جوزنا استناد الكثرة الى البسيط وأصول كلامهم قد سبق فسادها.
وأما النظام فانه قال: إن اللّه تعالى غير قادر على القبيح ، لأن صدوره عنه يستلزم الجهل او الحاجة وهما محالان فيكون الملزوم كذلك.
والجواب الجهل والحاجة لا زمان للوقوع لا للقدرة عليه.
سؤال: الوقوع إذا كان محالا لم تتحقق القدرة.
جواب: استحالة الوقوع بالنظر الى الداعي لا الى كون الفعل مستحيلا، والقادر ليس هو الذي يصح منه الفعل على كل وجه بل هو الذي يصح منه الفعل على بعض الوجوه، فالداعي لو تحقق على فعل القبيح لتحقق الفعل.
ويعارض بأن اللّه تعالى قادر على أن يخبر بأن العالم ليس بقديم فيكون قادرا على الإخبار بالقدم لأن القادر على المجموع قادر على الأجزاء ضرورة، وبأنه تعالى قادر على تعذيب الكافر، على تقدير موته على الكفر فاذا اسلم استحال خروجه عن القدرة لأن الذاتي لا يتغير.
وفي بعض هذه الوجوه نظر، وأما عباد فانه قال: معلوم اللّه تعالى إن كان هو الوقوع وجب وإن كان العدم امتنع وهما ينافيان القدرة.
وجوابه أن الوجوب والامتناع انما حصلا نظرا الى العلم، والفعل من حيث هو هو ممكن فصح تعلق القدرة به، ولأن العلم بالوقوع تبع الوقوع الذي هو تبع القدرة فيستحيل أن يكون مؤثرا فيها، ولأنه يلزم أن ينتفي قدرة اللّه تعالى، ولأن هذا الوجوب وجوب لاحق.
وأما الكعبي فانه زعم أن اللّه تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد، لأن مقدوره إما طاعة او سفه او عبث وهي منتفية في حقه تعالى.
وجوابه أن الفعل أمر مغاير لكونه طاعة او عبثا، فإن هذه صفات عارضة له لا يقدح في التماثل الذاتي وإن جاز تعلق قدرته تعالى به نظرا الى القدرة لا الى الداعي.
ونقل عنه: إنه تعالى لا يقدر على ان يخلق فينا علما ضروريا يتعلق بمعلوماتنا المكتسبة، والاّ لأمكن أن يخلق فينا العلم بقدرة زيد ويكون العلم بزيد مكتسبا ثم يشك في زيد فيلزم أن يشك في الضروري والاّ لكنا نقطع بقدرته مع الشك في وجوده.
وجوابه أن العلم بالقدرة منفكة عن الوجود محال والمحال غير مقدور عليه، ولا يلزم من استحالة القدرة على هذا الامر الراجع الى الخصوصية، استحالة القدرة مطلقا.
وأما أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما فزعموا أنه تعالى غير قادر على نفس مقدور العبد، وأجازه أبو الهذيل وأبو الحسن والأشاعرة للدليل على أنه قادر على كل مقدور، واحتج أبو علي وابنه بأنه يلزم اجتماع قادرين على مقدور واحد وهو محال على ما مرّ.
والجواب المنع من الاستحالة، وقد سلف، وهذا المذهب مما ذهب إليه السيد المرتضى.
البحث الخامس: في أن الباري تعالى عالم
لأنه تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة، وكل من كان كذلك فهو عالم بالضرورة والصغرى محسوسة.
فان قيل: ما معنى الإحكام إن عنيتم به مطابقة المصلحة من كل وجه منعنا الصغرى فإن مفردات العالم ومركباته لا تنفك عن مفسدة من وجه، او من بعض الوجوه منعنا الكبرى فإن كثيرا من الفاعلين يكون أفعالهم مطابقة للمصلحة من بعض الوجوه مع كونهم غير عالمين كالساهي والنائم.
وأيضا الأفعال المحكمة قد تصدر ممن ليس بعالم كالنحل والمحتذى.
وأيضا فان المحكم قد يصدر مرة من غير العالم فجاز ثانية وثالثة.
وأيضا لو كان عالما لكان علمه إما عين ذاته او غيرها، والقسمان باطلان، أما الأول فلأن العلم أمر نسبي يتوقف على المنتسبين فهو مغاير لهما ولأنا ندرك التفرقة بين قولنا ذاته وبين قولنا 1ذاته عالمة، ولأنا بعد العلم بثبوت ذاته قد نشك في علمه فدل على التغاير.
وأما الثاني فلأن المؤثر فيه لا يكون الاّ ذاته تعالى فيكون قابلا وفاعلا.
والجواب معنى الإحكام هو المطابقة للمنفعة من الجهة المطلوبة منه وهو دال على العلم بالضرورة ولا يسمع فيه التشكيك والنحل والمحتذى عالمان والاستبعاد ليس بحجة.
وقوله: إنه إذا صدر مرة جاز ثانية وثالثة مدفوع بالعلم الضروري بأن الذي يصدر عنه الفعل المحكم المتكرر فإنه عالم.
وجواب الأخير أن علمه زائد على ذاته في اعتبار المعتبرين وليس له تحقق منفصل عن تحقق ذاته، ولو سلم جاز أن يكون حالا فيه ولا استبعاد في حصول القبول والفعل لذات واحدة.
برهان ثان: الباري تعالى مختار فيكون عالما، لأن المختار لا بدّ وأن يتصور أولا ما يختار والاّ لكان توجه اختياره الى أحد الأشياء دون ما عداه ترجيحا من غير مرجح، على أن هذا امر ضروري.
تذنيب: علمه تعالى يتعلق بجميع المعلومات، لأنه حيّ يصح أن يعلم الجميع الذي نسبته الى الذات بالسوية، والمقتضي للصحة هو الذات فيجب أن يعلم الكل.
اوهام وتنبيهات: قال قوم من الأوائل: إن اللّه تعالى لا يعلم ذاته، لأن العلم أمر نسبي يستدعي تغاير المنتسبين، ولأن علمه بذاته زائد على ذاته فيكون قابلا او فاعلا.
ونحن نعارضهم في الأول بعلم الواحد بنفسه، وفيه جواب آخر ذكرناه فيما سلف.
وعن الثاني بالطعن في استحالة التالي.
وآخرون منهم منعوا أن يكون عالما بغيره بعد تسليم أنه عالم بذاته قالوا:
لأن العلم عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم، فلو كان اللّه تعالى عالما بغيره لكان محلا للصور مع أنه هو الفاعل لها فيكون قابلا وفاعلا، ولأن الصور غير متناهية فيكون لما لا يتناهى وجود.
وهذا المحال انما لزمهم حيث جعلوا العلم عبارة عن الصورة، أما نحن فلمّا
كان العلم عندنا عبارة عن النسبة بين العالم والمعلوم سقط عنا هذا المحال، وأفلاطن أثبت المثل فيسقط عنه هذا المحال وإن كان يلزمه المحال من جهة اخرى.
وجماعة المشائين قالوا: بالاتحاد خلاصا من هذا فلزمهم المحال الشنيع.
وبعض مشايخنا المحققين أجاب عن هذا بأنه تعالى لا يفتقر في علمه بالأشياء الى حصول صور مغايرة لصور تلك الأشياء الخارجية، فإن العاقل منا لشيء من الأشياء بصورة حاصلة في ذاته اذا عقل تلك الصورة لا يفتقر الى صورة أخرى بل يعقل ذلك الشيء بتلك الصورة وتعقل تلك الصورة بذاتها، فلما كان تلك الصورة الصادرة عن العاقل لا بانفراده بل بالمشاركة من غيره أعني المعقول لا يفتقر العاقل في تعقلها الى صورة مغايرة لها فكيف الفاعل للأشياء على سبيل الاستقلال، فإنه باقتضاء المعقولية لها لا لصورة زائدة عليها أولى.
وليس الحلول شرطا في المعقولية بل مجرد الحصول، فإن تحقق الحصول من غير حلول حصل التعقل، ومن المعلوم أن حصول الأثر لفاعله أقوى من حصول المقبول لقابله، وكما أن ذاته علّة للأشياء وتعقل ذاته علة لتعقل الأشياء مع أن ذاته وتعقله لها أمر واحد بالذات متغاير بالاعتبار كذلك المعلولان اللذان هما الأشياء والتعقل متحدان بالذات ومتغايران بالاعتبار.
وهذا الكلام دقيق، ومع ذلك قلنا فيه نظر ذكرناه في كتاب الأسرار.
وآخرون سلموا أنه تعالى عالم بالماهيات الكلية، أما الأشياء الجزئية فإنه تعالى غير عالم بها، والاّ لتغير العلم بتغيرها، فإنه إذا علم وجود زيد الآن في الدار
فبعد خروجه إن بقي العلم كان محض الجهل والاّ لزم التغير.
ولأن إدراك الجزئيات انما يكون بالآلات الجسمانية، ولأن إدراك الجزئيات يتوقف على حصولها فقبله لا يكون عالما.
أجاب ابو هاشم عن الأول بأن العلم بأن الشيء سيوجد نفس العلم بالوجود عند الوجود، وقد مرّ ضعف هذا القول.
والذي ذهب إليه متقدموا المعتزلة كأبي علي وأبي القاسم وأبي الحسين جواز التغير في ذلك، ثم إن أبا الحسين منع من زوال علمه بأنه سيوجد والتزم بتجدد علم بوجوده عند وجوده، ومحمود التزم بزوال الأول وتجدد الثاني.
قالوا: وهذا القول أولى من قول ابي هاشم وهو القول بأنه يبقى عالما بأنه سيوجد مع أنه موجود أولى من نفي العلم، فانه مع إمكان المعلومية لو لم يعلمه لزم القصور في عالميته تعالى.
قيل عليهم: العلم صفة ذاتية فلا يجوز عليها التغير.
أجابوا بان التغير في الصفة الذاتية لا يجوز إذا كانت مطلقة أما إذا كانت مشروطة فيجوز.
بيانه بأنه تعالى قادر على إيجاد العالم فيما لم يزل وهي صفة ذاتية لكن لا مطلقا بل بشرط عدم العالم فإذا وجد استحال بقاء القدرة والاّ لزم ايجاد الموجود، وكذلك نقول في الإدراك فإنه تعالى مدرك في الأزل لكن بشرط وجود المدرك بخلاف ذاته تعالى الواجبة على الاطلاق.
كذلك كونه عالما بالشيء مشروط بكون الشيء معلوما على ذلك الوجه، ثم
إذا وجد ما كان عالما بأنه سيوجد، فاما أن يبقى صحة المعلومية بأنه سيوجد فيلزم الجهل، وإما أن لا يبقى بل خرج من أن يكون معلوما سيوجد بعد الوجود وإنما يعلم بأنه موجود، فقد اعترفتم بتغير الشرط وهو تغير المعلوم فيلزم تغير المشروط.
واعلم أن كلام ابي الحسين ركيك، فان القول ببقاء العلم بأن الشيء سيوجد مع حصول العلم بالوجود حين الحصول، قول: باجتماع المتقابلين، ولقوة الشبهة المذكورة التزم هشام على ما نقل عنه ابو القاسم: بأنه تعالى لا يعلم الحوادث قبل وجودها ، والمتكلمون أجابوا عنه بما ذكرناه.
واعلم أن القول: بالتغير قول هشام بعينه وقول بكونه تعالى محلا للحوادث.
وفيه من المحذور ما فيه.
وآخرون أحالوا العلم بما لا يتناهى، لأن العلم يتعدد بتعدد المعلومات والمعلومات غير متناهية فالعلوم غير متناهية.
والجواب: أما من يجوّز تعلق العلم بمعلومات كثيرة فيندفع عنه هذا المحذور، وأما من يمنع فإنه يجوّز ذلك ويجعل العلم من قبيل الإضافات وعدم التناهي في الإضافات واقع، فإن الاثنين نصف الأربعة وثلث الستة وربع الثمانية وهكذا الى ما لا يتناهى.
وآخرون أحالوا العلم بجميع المعلومات والاّ لكان عالما بعلمه بالأشياء
ويتسلسل تسلسلا مرتبا وهو محال اتفاقا.
والجواب أن العلم بالعلم نفس العلم بالذات وغيره بنوع من الاعتبار، ومع تسليم التغاير فعدم التناهي في الإضافات قد جوز وقوعه.
وآخرون أحالوا علمه بالمعدوم والاّ لتميّز والمتميز ثابت.
والحق أنه معلوم والاّ لاستحال منه تعالى الايجاد على سبيل الإحكام، لأن مسبوقية العلم واجبة للمختار الفاعل بالإحكام.
والجواب عما ذكروه من وجوه:
الأول: أن الثبوت أعم من الخارجي والعلم بالمعدوم يستلزم الثبوت بالمعنى الأعم.
الثاني: المعدوم ثابت في الخارج وهو قول أبي هاشم القائل بأن المعدومات تتميز بصفات ثابتة لها حتى تعلق العلم بها.
الثالث: أنه يجب أن يكون متميزا بصفات مترقبة متجددة كما نعلم تميز الأجسام بعضها عن بعض في عدمها وبالاتفاق أنها ليست ثابتة وكذلك الصور والأشكال.
وفي هذه الأجوبة نظر.
أما الأول، فلأن الثبوت وإن كان أعم لكنه لا يوجد الاّ في أحد أخصيه، وهاهنا لما انتفى الثبوت الخارجي والذهني محال على اللّه تعالى ولا ذهن في الأزل، بطل القول بالثبوت مطلقا.
وأما الثاني، فاستحالته ظاهرة وقد بيّن.
واما الثالث، وهو الذي ذهب إليه الشيخ أبو جعفر الطوسي من أصحابنا فإنه أقربها، وتحريره أن نقول: العدم إما ان يوجد على الإطلاق او بحسب الإضافة،
أما الأول فقد اختلف الناس في تعلق العلم به، والحق أنه يصح تعلق العلم به، لأن الوجود المطلق معلوم فعدمه يكون هو العدم المطلق ويكون متميزا باعتبار ملكته وهو مطلق الوجود، ونقل عن بعض الأوائل المنع.
وأما الثاني فانه يعلم أيضا متميزا عن غيره باعتبار تميز ملكته عن ملكة الغير، وأما المعدوم فانه ذات اتصفت بالعدم ويصح تعلق العلم بها للامتياز عن غيره عند وجوده، فان الباري تعالى إذا علم سوادا يوجده استحال أن يقال بثبوت السواد وأن السواد ليس بمتميز اصلا عن البياض والاّ لم يتعلق العلم به والإرادة، والتميز حال عدم السواد إما أن يكون باعتبار حصول صفة له حال العدم وهو قول بثبوت المعدوم، وإما أن يكون باعتبار حصول صفة له متجددة وهو المطلوب، على أن هذا القول عند استقصاء النظر لا يخلو من بحث.
تذنيب: قسّم الأوائل العلم الى فعلي وانفعالي، وقد سبق، وزعموا أن علم اللّه تعالى ليس بانفعالي بل إما فعلي وإما غيرهما كعلمه بذاته، واستدلوا على أنه تعالى عالم بأنه مجرد وكل مجرد عالم، والصغرى ستأتي، والكبرى مضى البحث فيها والاعتراض عليها.
وقالوا: أيضا إنه تعالى عالم بذاته وذاته علة للأشياء والعلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول فيكون عالما بالكل.
ونحن قد بينا قبح مقدماتهم.
وأبو هاشم ذهب الى أنه تعالى عالم بمعنى أنه على حال يصح عليها تبينه للأشياء، وسيأتي الكلام عليه.
البحث السادس: في أنّه تعالى حيّ
وهذا حكم متفق عليه، والخلاف إنما وقع في معناه، فقال الأوائل وأبو الحسين البصري وأبو القاسم الكعبي ومحمود الخوارزمي: أن معناه هو أنه لا يستحيل أن يقدر ويعلم ولم يثبتوا له صفة زائدة على ذلك ثبوتية.
وذهبت الأشاعرة وجماعة من المعتزلة الى إثبات صفة لأجلها يصح أن يعلم ويقدر.
والحق هو الأوّل، وسيأتي إبطال الثاني، واعلم أن على تفسيرنا الحي يظهر بأدنى سرعة أنه تعالى حي لأنّه قادر عالم.
والمثبتون للصفة قالوا: إنه تعالى قادر عالم فلا بد له من صفة تخصصه بذلك وإلا لما كان صحة أن يعلم ويقدر أولى من هذه الصحة.
والجواب: مستند الصحة هو الذات، وعند الأوائل أن الحي هو الدّراك الفعّال، وهذان الوصفان ثابتان له تعالى، وهذا الكلام قريب مما ذكرناه.
قال فخر الدين اعتراضا على أبي الحسين: إذا كان الحي هو الذي لا يستحيل عليه أن يقدر ويعلم، فهو صفة ثبوتية، لأن نفي الاستحالة سلب السلب وهو غير الذات، لأنا نعلم الذات ونشك في الحياة.
وهذا غير وارد، فإن سلب السلب لا يجب أن يكون أمرا موجودا، وكيف فإن سلب السلب داخل تحت مطلق السلب العدمي، فكيف يكون الأمر الوجودي متقدما بالأمر العدمي؟.
البحث السابع: في أنه تعالى مريد وكاره
مقدمة: اعلم أن الواحد منا إذا صدر عنه فعل فقبل صدور ذلك الفعل يجد من نفسه حالة يقتضي ترجيح الفعل على الترك، فجماهير المعتزلة على أن تلك الحالة هي الداعي أعني الاعتقاد باشتمال الفعل على صلاحية ما راجحة على الترك.
وذهب آخرون الى أن تلك الحالة زائدة على الداعي، فإنها قد توجد منفكة عنه، فإن العطشان إذا حضره إناءان رجح أحدهما على الآخر وحصل له الميل مع تساويهما في المصلحة.
وأيضا فإنا متى علمنا اشتمال الفعل على المصلحة حصل لنا ميل الى ايجاده فبينهما مغايرة.
وأبو الحسين أثبت هنا الزائدة شاهدا لا غائبا، والأشاعرة وأبو علي وأبو هاشم وقاضي القضاة ذهبوا الى ثبوته شاهدا وغائبا زائدا على الداعي، والأوائل من المعتزلة الى انتفائه زائدا في الشاهد والغائب.
ثم النجار فسر الإرادة له تعالى بأنه غير مغلوب ولا مستكره، وفسرها البلخي بأنه تعالى موجد لأفعاله إن كانت الإرادة لأفعاله وآمر بافعال غيره إن كان مريدا لها.
والدليل على كونه تعالى مريدا تخصيص أفعاله بالوقوع في وقت دون آخر، مع أن نسبة الفعل والقدرة الى الأوقات على السوية، فلا بد من زائد هو الإرادة، وأيضا قد ثبت انه فاعل مختار فيكون نسبة المقدورين إليه على السوية فلا بد من مخصص لأحدهما زائد على القدرة هو الإرادة.قال فخر الدين: وهي غير العلم ، لأنه تابع للوقوع فلا يكون علة في الوقوع.
ونحن نقول: إن عنيت أنها غير العلم بالوقوع فهو حق، وذلك شيء لم يقل به أحد فيما أحسب، وإن عنيت أنها غير العلم باشتمال الفعل على المصلحة فهو ممنوع ولا نسلم تبعيته للوقوع، وقد انهدم بهذا القول قاعدته المشهورة في خلق الأعمال.
وأيضا فإنه تعالى أمر ونهى هما دليلان على الإرادة والكراهة.
فإن قيل: يحتمل أن يكون المخصص هو الحركات الفلكية، سلّمنا فلم لا يكون المخصص هو القدرة؟.
قوله: القدرة لا تؤثر في التخصص بل في الإيجاد وهو متساوي النسب الى الأوقات.
قلنا: الإرادة أيضا تأثيرها التخصص وهو تساوي النسب، فإن أحوج تساوي النسب في القدرة الى زائد هو الإرادة، أحوج في الإرادة الى زائد ويتسلسل.
سؤال: يجوز أن يكون الإرادة شأنها التخصص في وقت معين فيستغني عن زائد بخلاف القدرة.
جواب: يلزم الإيجاد.
وأيضا الأوقات متساوية، فلو اختص وقت منها بالتخصيص مع عدم الأولوية فليكن له صلاحية التأثير، وأيضا فلم لا يجوز أن تكون القدرة كذلك حتى يكون لها صلاحية الإيجاد في وقت معين؟.
والجواب عن الأول، أن الكلام آت في سبب تخصيص الحركات، فإن أسندوها الى حركات اخر تسلسل.
وعن الثاني، أن إرادة الإيجاد في وقت معين علة للتخصيص في ذلك الوقت دون غيره بخلاف القدرة، ولزوم الإيجاب ممنوع، فإن الموجب هو الذي يفعل من غير توسط القدرة والإرادة، وكون الفعل واجبا نظرا الى الإرادة غير مناف للاختيار، بل المنافي له انما هو الموجب، فإنه وجوب سابق مناف للإمكان وذلك وجوب لاحق غير مناف له.
وعن الثالث، أن التخصيص غير مستند الى الأوقات حتى يلزم منه تجويز تأثيرها، وإنما التخصيص مستند إلى الإرادة والوقت ظرف له.
وعن الرابع، أن القدرة متساوية النسبة الى الأوقات الّتي يمكن وقوع الفعل فيها بالضرورة.
والأوائل نفوا الإرادة عنه تعالى، لأن القاصد الى إيجاد شيء يكون مستكملا بذلك الشيء من حيث إنه إذا فعله حصل ما هو أولى به أن يفعله، فإن القاصد لإيجاد شيء لو لم يكن ذلك الشيء أولى به 2لما توجه القصد نحوه.
ثم سألوا أنفسهم فقالوا: يجوز أن يقصد القاصد الى إيجاد شيء بكون ذلك الشيء حسنا في نفسه، فإن نفع الغير حسن في نفسه.
وأجابوا بأنّ كون الشيء حسنا في نفسه لا مدخل له في أن يقصده القاصد، بل لا بد وأن يكون فعل ذلك الحسن في نفس الأمر مما يفيد الفاعل حسنا ما، فيكون مستفيدا للكمال من الغير.
ولأن إرادته إما أن يكون قديمة أو حادثة، والقسمان باطلان.
أما الأول، فلأن القصد إلى الإيجاد إنما يتحقق حال حصول الإيجاد، أما قبله فيكون عزما، ولأن عند حصول المراد لا تبقى الإرادة وإلاّ لزم إرادة إيجاد الموجود وهو محال، ولأن الإرادة المتعلقة بالحصول في وقت معين استحال تغيرها لكونها قديمة فيستحيل أن يقع ذلك الفعل إلاّ في ذلك الوقت المعين فيكون اللّه تعالى موجبا.
وأما الثاني، فلأنّه يلزم منه التسلسل، ويلزم أن يكون محلا للحوادث.
والجواب عن الأول أن القادر يفعل أحد المقدورين لا لمرجح كما مثلناه من العطشان والجائع.
وأيضا ما معنى الاستكمال، إن عنيتم به أنه لو لم يفعل الفعل لم يحصل ما هو الأولى وعند فعله حصل ما هو الأولى، فهو مسلم ولا استحالة في ذلك والأولوية ليست من الصفات الحقيقية لله تعالى.
وإن عنيتم شيئا آخر فاذكروه، وهذا جواب حسن، والأول يسد باب إثبات الإرادة رأسا.
وعن الثاني أن الإرادة إن قلنا بزيادتها قلنا هي قديمة، قوله: إنها قبل الفعل عزم، قلنا: نزاع في اللفظ، قوله: عند حصول المراد ينتفي الإرادة، قلنا: ممنوع بل الذي يعدم هو التعلق، قوله: يلزم أن يكون موجبا، قلنا: مرّ الجواب، على أن الحق أن الإرادة ليست بزائدة على الداعي ويندفع بهذا جميع شبهاتهم.
مسألة: الحق عندي أن الإرادة ليست زائدة على الداعي في حق اللّه تعالى،
لأنه لو كان مريدا بإرادة زائدة على ذاته، لكان إما أن يكون الإرادة ذاته فيلزم عدم اختصاصها بمراد دون مراد كما قلنا في القادر لذاته، العالم لذاته.وإما أن يكون لإرادة أخرى صدرت عنه، فيلزم التسلسل.
وأما الأشاعرة فإنهم قالوا: إنه تعالى مريد بإرادة قديمة زائدة على العلم ، وسيأتي الكلام معهم.
وأبو هاشم ذهب الى أنه مريد بإرادة محدثة لا في محل، واستدل على ذلك بأنه لو كان مريدا لذاته أو بإرادة قديمة لما اختص بمراد دون مراد، والتالي باطل والمقدم مثله والشرطية ظاهرة، وبطلان التالي ظاهر أيضا، فلا بد وأن يكون مريدا بإرادة محدثة، فإن كانت حالة في ذاته لزم أن يكون محلا للحوادث وهو محال، أو في غيره، فإن كان حيوانا كان حكمها راجعا إليه، وإن كان جمادا فهو غير معقول، فلم يبق الاّ أن يكون لا في محل.
وهذا الكلام ساقط، أما أولا فلان وجود عرض لا في محل غير معقول.
وأما ثانيا فلأنه لا اختصاص له حينئذ بتلك الصفة دون غيره من المريدين.
أجابوا عن الأول بأن وجود عرض لا في محل ليس معلوم البطلان بالضرورة، بل لا بد من النظر، وليس عليه دليل.وعن الثاني أن الاختصاص حاصل، فإن واجب الوجود ليس في محل والإرادة ليست في محل فقد تشاركا في هذا الوصف بخلاف غيره من المريدين.
والجواب عن الاول إن العلم القطعي حاصل بأن وجود صفة لموصوف لا في ذلك الموصوف محال.وعن الثاني أن هذا الذي ذكرتموه ضعيف، لأن الإرادة
إما أن يحتاج لاقتضائها صفة المريد للحي إلى الحلول في بعض منه كما يقولون في الأحياء هنا أو لا يحتاج، فإن كانت تحتاج وقد استحال ذلك في حق اللّه تعالى وجب أن يستحيل اقتضائها صفة المريد له، وان لم يحتج كانت الإرادة في ذاتها وفي اقتضائها صفة المريد غنية عن المحل والأحياء بأسرهم قابلون لصفة المريد، فيكون نسبة الإرادة الى كل الأحياء على السوية واختصاص البعض بالحيز لا يخرجه عن القبول.
البحث الثامن: في أنه تعالى مدرك
قد بينا فيما سلف من كتابنا أن السمع والبصر لا يتوقفان على الانطباع والشعاع ولا على تموّج الهواء الواصل الى سطح الصماخ، خلافا للأوائل، وإن توقف شاهدا فجاز أن يكون في الغائب غير مشروط بهما وكذلك في بقية الحواس.
وإذا لم يتوقف على ذلك لم يكن في العقل مانع من وصف الباري تعالى بالإدراك، والقرآن وارد بوصفه به، فيجب المصير إليه حتى يأتي دليل عقلي يمنع من إجرائه عليه تعالى، فيجب التأويل، والخصم إذن في مقام التوقف من دون الدليل، والأوائل لما اشرطوا في الإدراك الآلات مطلقا وكانت ممتنعة في حقه تعالى نفوا الإدراك عنه.
والأشاعرة قد احتجوا بدليل عقلي على ذلك ، فقالوا: الباري تعالى حيّ وكل حيّ يصح وصفه بالإدراك وكل من يصح وصفه به فإنه يجب اتصافه به أو بضده، وضده العمى والصم وعدم الشم الى غير ذلك وهي نقائص في حق اللّه تعالى، فيجب وصفه بالضد.
وهذا الدليل مدخول من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن كل حي فإنه يصح وصفه بالسمع والبصر، والقياس على الشاهد لا يقتضي اليقين على ما أوضحناه في كتبنا المنطقية.
الثاني: ان في الشاهد كل حي، فإنه يوصف باللذة أو بضدها أعني الألم، فيجب في الغائب كذلك مع اعترافكم ببطلانه.
الثالث: لم قلتم إن كل حي إذا لم يوصف بما يصح اتصافه به وجب اتصافه بضده؟فإن الهواء خال عن الألوان والطعوم، اللهم إلا إذا جعلوا الضد عبارة عن عدم الصفة، فحينئذ يجب عليهم بيان استحالة اتصافه تعالى بعدم السمع والبصر الذي هو المطلوب.
الرابع: سلمنا أن كل حي إذا لم يتصف بالصفة الصحيحة فإنه يتصف بضدها الوجودي، لكن على تقدير وجود ضد لتلك الصفة، فلم قلتم إن مقابلة السمع والبصر للصمم 1و العمى تقابل الضدية.وجماعة من العقلاء يجعلون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.
الخامس: لم قلتم أن النقائص على اللّه تعالى محال؟فإن عوّلتم في ذلك على الدليل العقلي فأبرزوه، وإن عولتم على الإجماع الذي دلالته مستفادة من السمع فالتزموا في إثبات المطلوب بالسمع من غير أن تدخلوا في مثل هذه الظلمات.
مسألة: مذهب أبي هاشم وأصحابه أن معنى كونه مدركا أنه لا يستحيل أن يدرك المدرك إذا وجدوا لذلك يوصف اللّه تعالى في الأزل بأنه سميع بصير وجعل الإدراك أمرا زائدا على العلم، والبغداديون فسروه بأنه تعالى عالم بما يسمعه الأحياء منا وما يبصره ونفوا الزائد على ذلك.
واحتج الأولون بأن الواحد منا إدراكه زائد على علمه، وقد سلف، فيجب أن يكون الباري كذلك، لأن المقتضي لكون الإدراك فينا زائدا على العلم موجود للّه تعالى.
بيانه إن الإدراك يتوقف على كون المدرك حيا، وعلى صحة حواسه، وعلى ارتفاع الموانع وعلى انتفاء الآفات، وعلى وجود المدرك، ثم يجعلون العلة في
الإدراك ليس إلا الأول، أما المجموع فلا يصلح لذلك، لأن كل واحد من أفراده ليس بعلة على ما يأتي، فيكون المجموع كذلك.
وأما صحة الحاسة، فإنما لم يكن علة لذلك لأن صحة الحاسة يرجع الى وجود معان في المحل نحو صحة البنية والتأليف، وما يرجع الى المحل فإنه لا يقتضي حكما راجعا الى الجملة، فإن المحل والجملة متغايران كتغاير زيد وعمرو، فكما لا يقتضي الحكم الراجع الى زيد حكما راجعا الى عمرو، فكذلك المحل والجملة.
واما ارتفاع الموانع وانتفاء الآفات فلكونهما عدميين لا اختصاص لهما بذات دون أخرى، استحال أن يكونا علة لما يرجع إلى بعض الذوات.
وأيضا انتفاء الآفات عبارة عن صحة الحاسة الذي لا يصلح للعلية.
واما وجود المدرك فإنه لا يصلح لذلك، وإلا لما أدرك المدرك السواد والبياض دفعة واحدة، لأن تضاد العلة يقتضي تضاد المعلول فلم يبق إلا الأول، وهو ثابت في حق اللّه تعالى فيكون إدراكه زائدا على علمه.
وهذا الكلام سخيف، أما أولا، فلأن الحصر ممنوع، فإن استندتم فيه الى الاستقراء كان ضعفه ظاهرا.
وأما ثانيا، فلان المجموع لم لا يكون علة؟قوله: الأفراد ليس بعلة فكذلك المجموع، قلنا: بالاعتبار الذي عقلتم كون المجموع متصفا بالمجموعيّة، اعقلوا كونه متصفا بالعلية.
وأما ثالثا، فلأن صحة الحاسة جاز أن يكون علة، قوله: صحة الحاسة حكم يرجع الى المحل فلا يفيد الحكم الراجع الى الجملة، قلنا: هذا ينتقض عليكم بالحياة الحالة في المحل المقتضية حكم الحيية للجملة.
وأما رابعا، فلأن انتفاء الموانع أو الآفات صالحة لذلك، قوله: إنها عدمية، قلنا: إن عنيتم بها العدم المطلق فهو ظاهر البطلان، وإن عنيتم بها عدم الملكة فله حظ من الوجود، فجاز أن يكون علة في الإدراك الذي هو أمر نسبي لا تحقق له عينا.
وأما خامسا، فلأن الوجود صالح لذلك، قوله: التضاد في المقتضي يستلزم التضاد في الاقتضاء، قلنا: مذهبكم إن الوجود زائد على الماهيات وإنه متماثل فكيف يصح منكم هذا في الوجود؟نعم لو عللنا بالماهية لزم ما ذكرتم.
واما سادسا، فلأنا لو سلمنا أن الوجودين متضادان لكن لا نسلم أن تضاد العلة يقتضي تضاد المعلول، وقد أسلفنا في هذا قانونا.
وأما سابعا، فلم لا يجوز أن يكون الحياة علة لذلك بشرط أحد هذه الأمور التي عددتموها او غيرها.
واما ثامنا، فلو سلمنا جميع ما ذكرتموه، لكن جاز أن يكون حياة اللّه تعالى مخالفة لحياتنا، فلا يلزم اشتراكهما في المقتضى، فهذا خلاصة ما يقال عليهم.
وأما النافون للزائد، فاحتجوا بأن الإدراك إن كان غير العلم، فإن كان هو الإحساس استحال تحققه في ذاته تعالى، وإن كان غيره فهو غير معقول.
وهذا ضعيف، لأنه إن عني بعدم المعقولية استحالة اتصافه تعالى به كما يقال كون الجسم مجردا غير معقول، فهو نفس المتنازع فلا يصادرون به، وإن عني به عدم التعقل فإنه لا يصح منهم نفيه، فإن النفي يستدعي التعقل كما يستدعيه الثبوت.
واحتجوا أيضا بأنه لو كان مدركا لجاز أن يدرك بعده ان لم يكن مدركا فيتغير.
والجواب أن التغيير في التعلق فلا يلزم منه التغيير في الصفات الحقيقة.
واحتجوا أيضا بأنه يلزم أن يكون ملتذا متألما من حيث أنه يدركهما.
والجواب إن اللذة والألم نوعان من الإدراك لا يتحققان إلا بتحقق الشهوة والنضرة المستحيلين في حقه تعالى.
البحث التاسع: في أنه تعالى باق
لما بينا أن الممكنات تنتهي الى واجب الوجود وهو اللّه تعالى، كان هذا كافيا في المطلوب، لأنه لو جاز عليه العدم لكان الشيء خارجا من حد الوجوب الذاتي الى الإمكان الذاتي وهو محال بالضرورة.
واحتج جمهور المشايخ بأنه لو عدم بعد وجوده لكان مستندا الى علّة ولا علة، والملازمة ظاهرة، وتحقيق بطلان التالي أن العلة منحصرة في الفاعل وطريان الضد وانتفاء الشرط، والكلّ باطل، أما الفاعل فلأنّ القدرة صفة مؤثرة والعدم نفي محض فاستحال استناده الى القدرة، وأما الضد فلأنه محدث والباري تعالى قديم والقديم أقوى من المحدث فكان اندفاع الضد بالقديم أولى من اندفاع القديم بالضد، وأما انتفاء الشرط فلأن ذلك الشرط يجب أن يكون قديما فإن المحدث لا يكون شرطا للقديم وإذا كان قديما كان البحث في علة عدمه كالبحث في عدمه.
وهذه الحجة لا يخفى ضعفها، فالأولى الاعتماد على الأولى.
البحث العاشر: في أنه تعالى متكلم
لا خلاف في ذلك بين المسلمين، وانما الخلاف في المعنى، فالمشهور عند المعتزلة إن الكلام هو الحروف المسموعة المترتبة المنتظمة، واللّه تعالى متكلم بمعنى أنه فاعل للكلام في جسم من الأجسام، والدليل على التفسير إنّ المعقول من الكلام هو هذا وغيره غير معقول وما لا يعقل لا يجوز إثباته، وعلى إمكان الثبوت، إنه تعالى قادر على كل مقدور وعلى وقوعه السمع.
لا يقال: الاستدلال بالسمع في هذا المقام دور لتوقفه على ثبوت الكلام، وأيضا فكلامه إن كان قديما لزم الكذب في الإخبارات والسفه فيها وفي غيرها، وإن كان حادثا فإن كان فيه لزم حلول الحوادث في ذاته وهو محال، وإن كان في غيره فهو أولى بالصفة، وإن كان لا في محل فهو غير معقول.
لأنا نقول: أما الأول فضعيف، لأن السمع يتوقف على صدق الرسول، وصدق الرسول يتوقف على ظهور القرآن الذي هو معجز وإنه مستند إلى اللّه تعالى، وكيفية استناده إليه غير معلوم الآن، فإنه يجوز أن يكون قد فعله هو ويجوز أن يكون قد أقدره عليه، فإذا أخبر النبي الصادق باستناد الكلام إليه بالفعل وجب المسير إليه.
وأما الثاني فإنا نقول: إنه حال في غيره ولا يجب اتصاف ذلك الغير به، فإن المتكلم من فعل الكلام كالقاتل والضارب وإن كان ذلك الفعل قائما بالغير.
وأما الاشاعرة فإنهم عنوا بالمتكلم من قام به معنى نفساني مغاير للعلوم والإرادات وغير ذلك من المعاني النفسانية.
والمعتزلة قالوا: إن عنيتم به العلم فهو معقول، وإلا فلا، وسيأتي تتمة الكلام في هذا.
واستدلت الاشاعرة على أنه تعالى متكلم بانه تعالى حي فيجب اتصافه به أو بضده وضده نقص، والاعتراض عليه بمثل ما مر في السوالف.
البحث الحادي عشر: في المعاني والأحوال
لا خلاف في إثبات تعلق بين العالم والمعلوم والقادر والمقدور، وإنما الخلاف في أن ذلك التعلق هل هو بين الذات العالمة وبين المعلوم وبين الذات القادرة والمقدور أو بين صفة قائمة بالذات حقيقة مغايرة لها وبين المعلوم والمقدور؟فجماعة قالوا: إن التعلق بين الذات وبينهما وهو مذهب الأوائل، وآخرون قالوا بالثاني، ثم اختلفوا فذهبت الأشاعرة الى أن تلك الصفة معلومة ثابتة في حد نفسها عبّروا عنها بالمعنى، وذهب أبو هاشم الى أن تلك الصفة غير معلومة ولا مجهولة ولا معدومة عبر عنها بالحال.
احتجت الأشاعرة بأن كونه تعالى عالما إما أن يكون وصفا عدميا أو ثبوتيا، والأول باطل وإلا لكان عدم المقابل، والمقابل إن كان جهلا بسيطا أعني عدم العلم كان العلم ثبوتيا ضرورة كونه عدم العدم، وإن كان مركبا فهو محال، لأنه لا يلزم من عدم هذا المقابل حصول العلم للمحل، وإذا كان ثبوتيا فهو غير الذات، لأن المفهوم من القادرية والعالمية متغاير، فلو كانا نفس حقيقته لزم مغايرة الحقيقة لنفسها، ولا يجوز أن يكون أمرا إضافيا وإلا لتوقف على ثبوت المعلوم والمقدور هذا خلف، فثبت أن كونه قادرا عالما أمر ثبوتي ليس إضافيا وهو زائد على ذاته وهو المعني بالصفات والمعاني.
وأيضا إنا نعلم كونه عالما ونعلم كونه قادرا، ولو كان المرجع بهذين الى الذات لكان العلمان واحدا، والتالي باطل لاختلافهما، ولأن أحدهما لا ينوب مناب صاحبه فلا بد من أمر زائد على الذات هو القدرة والعلم.
وأيضا الواحد منا عالم بعلم فكذا في الغائب، والجامع بينهما ما يشتركان فيه من كون كل واحد منهما يفعل الأفعال المحكمة الدالة على ثبوت هذا المعنى 1.
والجواب عن الأول أن نقول: لم لا يجوز ان يكون العلم عبارة عن حضور الماهية عند العالم؟وحضور الشيء عند نفسه ليس أمرا زائد على ذاته، أو نقول:
إن العلم عبارة عن عدم المادة، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون القدرة والعلم عين الذات في الخارج وإن تغايرا في الذهن؟سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون إضافيا وثبوته في الذهن؟وأما في الخارج فالثابت منه كون الذات بحيث يحصل لها نسبة بين المعلوم والمقدور.
وعن الثاني إن التغاير في العلم يستلزم تغاير الحيثيات والاعتبارات لا تغاير الحقائق، فإنا نعلم وجود واجب الوجود ونشك في أن وجوده زائد على ذاته أم لا، ولا يستلزم ذلك المغايرة في الخارج بين الوجود وكون الوجود زائدا.
وأيضا نعلم الذات ونشك في سلب أشياء عنها مع عدم استلزام ذلك كون السلب مغايرا للذات خارجا.
واعلم أن الخطأ نشأ لهؤلاء القوم من حيث أخذ الاعتبارات الذهنية مقيسة على الأمور الخارجية.
وعن الثالث ما قدمناه مرارا.
وأما أبو هاشم وأصحابه فقد أثبتوا للّه تعالى حالة بكونه قادرا وحالة بكونه عالما وبكونه حيّا وكونه موجودا ومريدا وكارها، ويثبتون هذه الأحوال في الشاهد، ويثبتون له تعالى حالة ذاتية غير هذه الأحوال توجب هذه الأحوال، إلا كونه مريدا وكارها فإنهما يجبان له لوجود إرادة وكراهة لا في محل.
والسابقون زمانا على أبي هاشم لم يتعرضوا لهذه الأحوال بثبوت ولا انتفاء، وأبو علي وأبو القاسم وأبو بكر الأخشاد وأبو الحسين البصري صرحوا بانتفائها.
واحتج أبو هاشم على إثبات الأحوال مطلقا بأنا نعلم ذاته تعالى ثم نعلمه قادرا عالما وغير ذلك من صفاته، وهذه العلوم متخالفة، لأن أحدها لا ينوب مناب الآخر، فلو كانت هذه العلوم تتعلق بذاته فقط لما اختلفت، فلا بد من امر زائد يدخل في ضمن العلم لكل واحد من صفاته، والمعاني باطلة فلا بد من القول بالأحوال.
واحتج لإثبات حالة القادر بأنّ صحة الفعل إن دلّت عليها في الشاهد دلّت عليها في الغائب، والمقدم ثابت فالتالي مثله.
بيان الشرطية: القياس والجامع ما اشتركا فيه من الصّحة، وبيان صدق المقدم، إنا نجد جملتين في الشاهد اشتركتا في سائر الصفات وصح من إحداهما الفعل دون الأخرى، فلا بد من مائز وذلك المائز يرجع الى الجملة، لأن الفعل صح من الجملة فيكون المؤثر فيه أمرا راجعا الى الجملة، لأن ما يضاف الى بعض الجملة فهو كالمضاف الى غير تلك الجملة.
لا يقال: لم لا يجوز أن يكون المصحح هو القدرة او البنية؟.
لأنا نقول: القدرة والبنية موجودتان في بعض الجملة فيكون الصحة راجعة الى ذلك البعض.
واحتج لإثبات حالة العالم بأن الواحد منّا إن كان ذا حال راجعة الى الجملة بكونه عالما كان الغائب كذلك، والمقدم ثابت فالتالي مثله والشرطية قد مرت.
وبيان صدق المقدم إنّه لو لم يكن لنا حالة بكوننا عالمين راجعة الى جملتنا لما كان هناك الاّ العلم القائم بالقلب، وذلك يستلزم جواز تعلق العلم القائم بجزء من القلب بزيد وتعلق الجهل القائم بالآخر به، فلا يتنافى الجهل والعلم مع اتحاد المتعلق لتغاير المحل وهما ضدان هذا خلف.
أما إذا جعلنا العلم عائدا الى الجملة وكذلك الجهل لزم التضاد وإن تغاير المحل، لاستحالة وجودهما غير موجبين.
واحتج لإثبات حالة الحيّ بالقياس على الشاهد، والجامع ما ذكروه، وبيان ثبوت الحكم في الأصل أن الواحد منا يصح أن يقدر ويعلم فيفارق الجماد، فلا بد له من أمر وذلك الأمر لا يرجع الى المحل بل الى الجملة، لأن الجملة هي التي يصح عليها أن تقدر وتعلم فلا بد وأن يكون المصحح راجعا إليها، ولا يجوز أن يكون معنى والا لكان مثلا للتأليف فبقي أن يكون صفة.
وهذه الحجج عندي ضعيفة.
أما الأولى، فلأنا نقول: إنه لا بدّ من أمر زائد في التعقل، أما في الخارج فلا، سلمنا لكن لم لا يكون الزائد هو الأحكام المعلولة لذاته تعالى كصحة الفعل الداخلة في ضمن العلم بأنه تعالى قادر وتبيّنه للمعلوم وتعلقه به الداخل في ضمن
العلم بأنه تعالى عالم وكذا في سائر الصفات.
وأبو الحسين البصري قال: إن تبينه للمعلوم حالة لذاته، ويجوز أن يكون أبو الحسين قد أطلق على هذا اسم الحالة بالمجاز من وضعهم، فإنّهم يطلقون الحالة على كل وصف مقصور على الذات لا يحتاج في العلم به الى غير الذات.
نعم التبين حكم، والحكم قد بيّنا أنه لا بد فيه من العلم بأمر غير الذات، والتبين للمعلوم لا بدّ فيه من المعلوم، ولا شك في أنّه زائد على الذات فليس كونه عالما مقصودا على الذات، فهو حكم لا حال.
وأما الثانية، فلأن الشرطية فيه ممنوعة، والقياس قد بينا إنه غير مفيد لليقين خصوصا مع قيام الفارق، ولا شك في ثبوت الفرق بين الشاهد والغائب والا لما صدق قياس أحدهما على الآخر، فيجوز أن يكون مستند الفرق في الحكم هو الفرق في الذات.
وأيضا أثبتم الحالة في الشاهد لحصول ذاتين متساويتين فيه مع صحة الفعل من إحداهما دون الأخرى، فأوجبتم المائز، وهذه الدلالة لا تتم في الغائب إلا إذا أثبتم له ذاتا متساوية له ثم وجدتم الفرق في الصحة فاسندتموه الى الحال.
سلمنا، لكن لا نسلم صدق المقدم فإنه مبني على تساوي الذات ، وقد بينا بطلانه، وكيف يعقل التساوي من كل وجه مع حصول إلا الاثنينية؟.
سلمنا، لكن قولكم: إنه لا بدّ من مائز راجع الى الجملة، غير معقول، فإنكم إن عنيتم به أن ذلك الأمر الواحد مع وحدته يكون حاصلا في جميع ابعاض الجملة فهو باطل قطعا، لامتناع حصول عرض واحد في محال كثيرة، وإن عنيتم به توزّع أجزاء ذلك المائز بأجزاء الجملة، لم يكن ذلك المائز حالة واحدة راجعة الى الجملة.
سلمنا، لكن لا نسلم أن ذلك المائز يرجع الى الجملة، قوله: لأن الفعل صح من الجملة، قلنا: ما تعني بالصحة من الجملة؟ان عنيتم به أن صحة الفعل بإعمال كل الجملة فهو باطل، لأنا نشاهد أن المشي يحصل بالرجل والكتابة باليد وغير ذلك، وإن عنيتم به أن صحة وقوع الفعل إنّما يحصل باعتبار أحوال راجعة الى الجملة وهو الداعي والإرادة فهو باطل.
أمّا أوّلا، فللمنع من وجود حالة راجعة الى الجملة، فإن ذلك عين النزاع.
وأما ثانيا، فلأنا بعد تسليم أن الصحة لا بدّ لها من حالة راجعة الى الجملة، نمنع أن يكون الصحة راجعة إليها.
سلمنا أن الصحة راجعة الى الجملة، لكن لا نسلم أن المقتضي لها راجع الى الجملة، قوله: لأنه لو كان راجعا الى البعض لكان كالمضاف الى غير الجملة، قلنا: هذا ممنوع.
واما الثالثة فضعيفة، وقد عرفت بطلان القياس، وعرفت أن قولهم: الصفة راجعة الى الجملة، غير معقول، قوله: لو لم يكن الحالة لنا بكوننا عالمين راجعة الى الجملة، لجاز قيام العلم بجزء من القلب والجهل بآخر ويتعلقان بواحد، قلنا: لم لا يجوز أن يكون جزء واحد من القلب يتعين للمحلية للعلم والجهل على البدل؟ كما يتعين القلب لها من دون أجزاء البنية.
سلمنا، فلم لا يجوز أن يكون مجموع أجزاء القلب محلا لها على التعاقب؟ قالوا: لأنه يكون مثلا للتأليف، قلنا: مدفوع، أما أولا فللمنع من ثبوت التأليف حتى يتحقق المماثلة وأما ثانيا فلان التأليف يختص لمحلّين لا غير والعلم بأكثر، وأما ثالثا فلأن التساوي من هذه الجهة لا يستلزم التساوي مطلقا.
لا يقال: يلزم انقسام العلم لانقسام المحل.
لأنا نقول: يرد في التأليف والحال ذلك.
وأما الرابعة، فقد بينا ضعف قياسها وما يرجع الى الأصل من الأعراض، وقد مضى.
ونزيد هنا أن نقول: إن عنيتم بصحة العلم والقدرة صحة التبين وصحة صدور الفعل بحسب الداعي، لم يصح قياس الغائب عليه في إثبات الحال، وإن عنيتم بهما صحة اختصاصه بحالة القادر والعالم، منعنا ثبوت الأحوال، فإنه أول المسألة، وباقي الإيرادات الماضية آتية هاهنا ولا يخفى ضعف هذه الحجج مع أن المطلوب منها في غاية الاستبعاد.
واحتج نفاة المعاني بوجوه:
الأول: لو ثبت للواجب صفة فتلك الصفة إن كانت واجبة لزم اثنينية الواجب، وسيأتي بيان وحدته، وإن كانت ممكنة، فإن كان المؤثر غيره لزم انفعاله عن الغير هذا خلف، وإن كان ذاته لزم اجتماع القبول والفعل لذات واحدة هذا خلف.
الثاني: لو كان الباري مفتقرا في كونه عالما وقادرا الى القدرة والعلم، لزم احتياج الواجب، وسيأتي بيان غناه.
الثالث: لو كانت الصفات قديمة لكان مساوية لذات الواجب تعالى أو يكون الواجب مركبا، والتالي بقسميه باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطيّة إن الصفات قد شاركت الذات في القدم، فإما أن يكون نفس الحقيقة أو داخلا فيها او خارجا عنها، فإن كان الأول، لزم الأول وإن كان الثاني، لزم الثاني وإن كان الثالث لزم الأول لأنه من الصفات المميزة الكاشفة عن الحقيقة.
فإنا إذا أردنا تمييز اللّه تعالى عن غيره لا يمكننا ذلك إلا بكونه قديما، والصفات المميزة إذا اشتركت بين الشيئين كانا متساويين والا لم يكن مميزة.
الرابع: كونه قادرا عالما من الصفات الواجبة فلا يعلل، أما المقدم فلأنه لو لا ذلك لجاز خروجه من كونه قادرا عالما الى عدمها وذلك محال، وأما الشرطية فظاهرة.
الخامس: يلزم ثبوت قدماء كثيرة، وذلك كفر بإجماع المسلمين.
السادس: لا دليل على هذه الصفات، فيجب نفيها.
السابع: لو كان الباري عالما بالعلم لكان علمه مثل علمنا والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية إنه إذا كان عالما بالعلم كان له تعلق بالمعلوم على الوجه الذي يتعلق به علمنا 3فيكون مماثلا له، لانهما معنيان غير متضادين ينتفيان بضد واحد.
أما عدم تضادهما فظاهر، وأما انتفائهما بضد واحد فلأنا لو قدرنا حلول علم اللّه تعالى في قلوبنا مع حلول علمنا بذلك المعلوم فينا ثم اطراء الجهل، فلا شك في انتفاء علمنا.
فإن انتفى العلم القديم ثبت المطلوب، وإلا لزم علمنا بشيء مع الجهل به هذا خلف، واذا اتصف العلمان بهذه الصفات ثبت تماثلهما، لأن السواد معنى لا ينفي البياض والحموضة ولا فرق بينهما الا أن البياض والحموضة مختلفان وأن البياضين متماثلان فعلمنا أن الواحد لا ينفي المختلفين غير المتضادين، وبيان بطلان التالي إنه يلزم منه إما قدم علمنا أو حدوث علمه تعالى وهما محالان.
الثامن: واجب الوجود يعلم ما لا يتناهى ويقدر على ما لا يتناهى فيلزم أن يكون فيه علوم وقدر لا يتناهى، ووجود ما لا يتناهى محال، ولأن العلم بالعلم يقتضي ثبوت علم آخر ويتسلسل.
التاسع: لو كان اللّه تعالى قادرا بالقدرة لما كان قادرا على خلق الأجسام، والتالي باطل والمقدم مثله، بيان الشرطية إنا غير قادرين عليها ولا علة لذلك إلا كوننا قادرين بالقدر فوجب مساواته تعالى لنا.
أمّا المقدمة الأولى: فلأنا لو قدرنا عليها لكان إما أن يكون على سبيل الاختراع أو التولد، والأول باطل بالضرورة، فإنا نعلم أنا غير قادرين على وجود الأجسام وإلا لصح منّا اختراعها في أوعية مشدودة الرءوس عند حصول الداعي.
والثاني باطل، لأن السبب المولد لا بد وأن يختص بجهة وإلا لكان توليده للجسم في جهة دون غيرها ترجيحا من غير مرجح، ولا سبب لذلك الا الاعتماد، ونحن قادرون على أجناسه، ومع ذلك يستحيل أن يقع الأجسام به وإلا لكنا إذا أدخلنا أيدينا في الزق المشدود واعتمدنا بأيدينا فيه، نكون فاعلين للأجسام، وهو باطل وإلا لزم أن يظهر ذلك في الزّق وان يمتلئ كامتلائه بالهواء.
لا يقال: لم لا يحصل مانع يمنع وجود الأجسام؟.
لأنا نقول: المانع لا يعقل إلاّ وأن يكون له علاقة بالأجسام، وذلك إما بأن يكون ضدا لها كالفناء أو بأن يكون مانعا لوجود الشرط كالماء المانع من وجود الحيّز، والأول باطل وإلاّ لزم فناء جميع الأجسام به، والثاني كذلك لأنا متحركون قطعا، فإما أن يقال بالخلاء وهو يدفع ما ذكرتم، أو بالتخلخل والتكاثف فيجوز مثله في مسألتنا.
واما المقدمة الثانية ، فلأن القدر في الشاهد قد اشتركت في هذا الامتناع فلا بد لها من مشترك يقتضيه ولا مشترك الا كونها قدرا.
واعلم أن هذه الوجوه وان كان بعضها لا يخلو من ضعف إلا أن في جملتها ما يوجب الجزم بهذا المطلوب.
تتمة كلام في هذا الباب تشتمل على مسائل:
مسألة: قد بينا فيما سلف من كتابنا أن الوجود زائد على الماهية، وعنينا به هناك أن وجود الممكنات كذلك، أما وجود واجب الوجود، فقال قوم: إنه كذلك، وقال آخرون: إنه نفس حقيقته، وهو الحق عندي لوجهين:
الأول: أنه لو كان زائدا لكان ممكنا، لافتقاره الى ذات يقوم بها، ضرورة عدم استقلاله بنفسه في القيام، والتالي باطل لأن علّته إن كانت خارجية افتقر الى الغير، وإن كان نفس الماهية، فإن كانت مع الوجود المعلول لزم اشتراط الشيء بنفسه، او مع وجود آخر لزم ترامي الوجودات، وإن كانت لا مع الوجود لزم تأثير المعدوم في الموجود.
هذا خلاصة ما عوّل عليه الشيخ في كتبه.
الثاني: أن الوجود ممكن لما بينا، والامكان لا يعرض للوجود من حيث هو والاّ لزم جواز اتصاف الوجود بالوجود والعدم هذا خلف، فإذن إنّما 1يعرض للماهية بالنسبة الى الوجود، فلو كانت الماهية مؤثرة فيه مع أن المؤثر نسبته الى الأثر نسبة الوجود، لزم توارد نسبتي إمكان ووجوب لشيء واحد بالقياس إلى واحد، هذا خلف.
اعترضوا على الأول من وجوه:
الأول: أنه مغالطة، لأن الوجود لا ينسب الى الوجود والعدم فلا يصدق عليه الإمكان.
الثاني: أن المؤثر فيه الماهية من حيث هي هي لا بقيد الوجود والعدم، ولا يلزم من سقوط درجة الوجود عن الاعتبار إدخال العدم فيه، فإن لوازم الماهية كزوجية الاثنين معلولة لها، سواء أخذت بقيد الوجود أو لا به.
الثالث: أن هذا يرد في العلّة القابلة للوجود، مع أنه باطل بالاتفاق.
الرابع: الجنس علة لقوام النوع، لا على معنى أن يكون الجنس موجودا ثم يكون علة للنوع، بل هو من حيث هو هو علة للنوع.
والجواب عن الأول، أنه مؤكد لقولنا لا انه مبطل لأنا قلنا: لو كان زائدا لكان ممكنا في نفسه، من حيث افتقاره الى محل يقوم به، وهذا قطعي لكن الإمكان لا يعرض الموجود بانفراده.
وعن الثاني، أن الماهية لا تخلو أن تؤخذ مع الوجود أو مع العدم أو تؤخذ لا معهما أو تؤخذ من حيث هي هي ، والماهية مأخوذة بالثاني والثالث، ولا شك في انّها غير صالحة للإيجاد، ضرورة أن المعدوم لا يؤثر في الموجود وهي بالمعنى الرابع لا توجد إلا في العقل فيستحيل أن يكون علة لأمر موجود.
وبالجملة فالعقل قاض بوجوب وجود الموجد وزوجية الاثنين، وإنما تكون الماهية مأخوذة من حيث هي هي إذا كانت ذهنية، أما إذا أخذت الزوجية في الخارج استحال أن يكون الماهية مأخوذة من حيث هي هي.
وهاهنا نوع من التحقيق، وهو أن لوازم الماهية إذا أخذت من حيث هي موجودة في الذهن، غير.وإذا أخذت من حيث هي موجودة في الخارج، غير.
وبالمعنى الأول يستند الى الماهية من حيث إنها في الذهن، وبالمعنى الثاني يستند إليها من حيث إنها في الخارج، وإذا أخذت من حيث هي هي كانت معقولة صرفة وكانت معلولة لماهية هي كذلك، ولما اتفقت اللوازم في الأحوال الثلاث اتفاق المعنى المعقول والخارجي، ظن أنها واحدة بالشخص في الجميع، فأورد الظانّ ما أورد لمقتضى ظنه، والتحقيق ما قلناه.
وعن الثالث، أن قبول الماهية للوجود أمر اعتباري ليس كقبول الجسم للسواد، وأكثر الخطأ في هذه المواضع إنما نشأ من أخذ الأمور الذهنية مقيسة على الأمور الخارجية، وهذا هو الجواب عن الرابع، فهذا ما ذكروا على هذه الحجة.
وأما الثانية فهي عندي ضعيفة، لأن الوجود إذا نسب الى الماهية من حيث هي قابلة، كان مغايرا له إذا نسب إليها من حيث هي فاعلة، ومع تغاير النسب لا يلزم ما ذكروه.
واحتج القائلون بالزيادة بوجوه:
احدها: أن الوجود من حيث هو هو واحد لما بينا، فهو إن اقتضى العروض ثبت المطلوب، وإن اقتضى عدم العروض لزم إما كون الممكنات نفس وجوداتها أو عدمها، وإن لم يقتض أحدهما افتقر الى علة.
الثاني: أن حقيقته تعالى غير معلومة ووجوده معلوم.
الثالث: أن المقتضي للتأثير إن كان هو الوجود من حيث هو فكل وجود كذلك فلا ممكن، وإن كان هو المجرد كان للسلب مدخل في التأثير.
الرابع: الوجود طبيعة نوعية، فإن اقتضى العروض في البعض اقتضاه في الكل.
أجاب بعض المحققين عن الأول، بأن الوجود مقول بالتشكيك على ما تحته من الوجودات، فليس نفس ماهياتها ولا جزء منها بل هو لازم عارض عروض البياض للبياضات الخاصة، والمقول بالتشكيك لا يلزم من اشتراكه اشتراك أنواعه فيما يقتضيه كالنور المقتضي في بعض معروضاته كنور الشمس لإبصار الأعشى دون غيره.
وعن الثاني، أن المعقول هو المقول بالتشكيك وهو أمر ذهني لازم للحقيقة التي هي الوجود الخاص.
وعن الثالث، أن المقتضي إنما هو وجوده الخاص به المخالف لغيره في نوعيته وإن شاركه في مطلق الوجود الذهني.
وعن الرابع، بالمنع.
واعلم أن حاصل هذه الأجوبة يرجع الى شيء واحد، وهو أن الوجود مقول بالتشكيك على الوجودات، والمقول على أشياء بالتشكيك خارج عنها، وعندي فيه إشكال.
وتحريره ما أقوله، وهو: ان الوجود من حيث هو إما أن يكون صدقه على الواجب والممكن بالاشتراك اللفظي أو المعنوي، فإن كان الأول سقطت هذه الوجوه إلا أنه مخالف للجواب، وإن كان الثاني فلا بد وأن يكون لكل ما صدق عليه ذلك الوجود العام حصّة منه خاصة به نوع له، لأن ذلك الوجود يكون جنسا لاستحالة تعقل ذلك الخاص دون العام وتقدمه في الوجودين إن كان يلحقه الوجود وهذه خواص الذاتي.
وإذا ثبت ذلك فنقول: ذلك النوع إن كان مغايرا لماهية اللّه تعالى ثبت مطلوب القوم، وان كان نفس حقيقته لزم ما ذكره السائل من الوجوه، فالخلاص حينئذ إنما هو بكون الوجود مقولا بالاشتراك اللفظي بين الواجب وغيره من الممكنات.
مسألة: استمرار وجود الشيء هل هو صفة زائدة على ذاته أم لا؟الحق أنه زائد في الاعتبار، أما في الخارج فلا، لأن المعدوم قد يتصف بالاستمرار، فإنا كما نعقل مقارنة الوجود لزمانين كذلك نعقله في العدم، ولو كان صفة ثبوتية لزم اتصاف المعدوم بالصفة الثبوتية هذا خلف.
واعلم أن بعض المعاني المعقولة قد يعرض لبعضها البقاء الذي هو الاستمرار بهذه المثابة، فإنه قد يعقل الذهن له بقاء آخر وينتهي بانقطاع الاعتبار العقلي، وأثبت أبو الحسين البقاء صفة لله تعالى قديمة قائمة به، ونفاه القاضي وجماهير المعتزلة، وأثبت الكعبي البقاء شاهدا ونفاه غائبا.
واحتج المثبتون له بأن الذات لم تكن باقية ثم صارت باقية، فتجدد البقاء مع عدم تجدد الذات دال على الزيادة، وهو ضعيف، فإنه يدل على الزيادة الاعتبارية لا على الخارجية، ونوقضوا بالحدوث فإن الذات لم تكن حادثة ثم تصير حادثة.
وأيضا المعاد لم يكن معادا ثم صار معادا، فيلزم أن يكون كون ذاته معادة زائدا عليها، وقد التزم به القاضي من الأشاعرة، فقد ظهر من هذا أن اللّه تعالى باق لذاته.
وأيضا فإنه لو كان باقيا بالبقاء لكان ممكنا من حيث افتقاره في وجوه الى تلك الصفة.
وأيضا إن قام البقاء بذاته تعالى لزم احتياجه إليه، فيستحيل احتياج اللّه تعالى الى تلك الصفة والاّ جاء الدور والاّ لزم وجود صفة لموصوف غير قائمة به هذا خلف.
وأيضا صفاته باقية فيلزم قيام المعنى بالمعنى.
وأيضا البقاء إن لم يكن باقيا لم تكن الذات باقية به، وإن كان باقيا لزم التسلسل.
أجابوا عن هذين بوجوه:
الأول: أن صفاته يبقى ببقاء الذات فلا تسلسل ولا يلزم قيام المعنى بالمعنى.
لا يقال: لو جاز بقاء الصفات ببقاء الذات جاز أن يعلم الصفات بعلم الذات ويقدر بقدرتها.
لأنا نقول: التلازم حاصل بين الذات والصفات، فبقاء احدهما يستلزم بقاء الآخر بخلاف العلم والقدرة.
الثاني: الذات باقية بالبقاء والصفات باقية لذاتها.
الثالث: قال بذاته تعالى بقاءان: أحدهما يقتضي بقاء الذات، والاخر يقتضي بقاء الصفات.
وهذه الأجوبة عندي ضعيفة.
اما الأول، فلأن البقاء من جملة الصفات، فلو بقي ببقاء الذات لزم الدور.
وأما الثاني، فلأنه يلزم منه كون الصفات أولى بالذاتية من الذات، ولأنه لما عقل في بعض الأشياء البقاء من غير أمر زائد، فلم لا يعقل في الذات؟.
وأما الثالث، فلأن بقاء الصفات مغاير لها ومن جملتها البقاء فيكون له بقاء حال في الذات مغاير له ويلزم التسلسل ، الا أن يقولوا: انّ بقاء الصفات باق لذاته وحينئذ يعود الكلام الى الوجه الثاني.
مسألة: ذهبت الأشاعرة الى أن اللّه تعالى متكلم بكلام قائم بذاته تعالى قديم، وأنه واحد ليس بأمر ولا نهي ولا خبر أوجب له كونه تعالى متكلما بوجوه:
أحدها: أن الطلب معنى من المعاني المعقولة ولا يجوز أن يكون هو القدرة والعلم والحياة وغير ذلك من الصفات، وهو ظاهر إلا في الإرادة.
وإنما كان مغايرا لها لأن وجود كل واحد منها قد يحصل بدون الآخر، أما الإرادة فكثير ما يريد الإنسان شيئا ولا يطلبه لتعذره، واما الطلب فلأن السيد إذا أمر عبده عند السلطان طالبا إظهار تمرّده ليتضح عذره في عقوبته فإنه في تلك الحالة طالب غير مريد وذلك الطلب هو نفس الكلام.
وثانيها: أن ذلك المعنى أعني الطلب باق مع تغير الألفاظ الدالة عليه أعني الكلام اللفظي فدل على التغاير.
وثالثها: قول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد
وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ورابعها: أنه تعالى موصوف بأنه متكلم إجماعا، فذلك الوصف إما أن يكون قديما
أو محدثا، والثاني باطل
والاّ لزم أن يكون محلاّ للحوادث،
والأول هو المطلوب.
ثم نقول: ذلك القديم إن كان هو الحروف والأصوات فهو باطل، لأن كل واحد من الحروف حادث، لأن اللفظ مركب من الحروف المتتالية والمتأخر محدث لتأخره والسابق كذلك لتقدمه على المحدث بزمان متناه، فثبت أن القديم معنى من المعاني غير الحروف والأصوات.
وهذه الوجوه فاسدة:
أما الأول، فلأنا لا نعقل معنى يغاير الإرادة هو الطلب، وما ذكروه من وجود كل واحد منهما بدون الآخر فهو باطل، فإنا دائما متى كنا مريدين كنا طالبين، ولا فرق بين امتناع الطلب لتعذر المطلوب وامتناع الإرادة لتعذر المراد، وما ذكروه من المثال فهو ضعيف، فإنا نقول: ان السيد إنّما يأمر بذلك من غير إرادة ولا طلب.
واما الثاني، فانه يدل على ثبوت معنى غير الألفاظ، ونحن نقول: ذلك المعنى هو الإرادة، فإن أثبتوا شيئا آخر فعليهم البرهان.
واما الثالث، فهو ضعيف، أما أولا فلعدم إفادته اليقين بل والظن الغالب، وأما ثانيا فلأنه يحتمل أن يكون أراد بذلك تصور الكلام.
واما الرابع، فلأنا نقول: إنه تعالى متكلم بمعنى أنه فاعل للكلام لا على أنه صفة حقيقية في ذاته تعالى.
البحث الثاني عشر: في كونه تعالى صادقا
المسلمون اتفقوا على ذلك وأدلّتهم مختلفة، أما طريقة المعتزلة في أن الكذب قبيح وهو على اللّه تعالى محال لما يأتي.
واما الاشاعرة فلهم في ذلك طريقان:
الأولى: أن الكذب نقص وهو على اللّه محال.
الثاني: أن كلامه تعالى نفساني فيستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل، إذ الخبر يقوم به النفس على وفق العلم والجهل.
واستحدث لهم طريقتان أخريان:
إحداهما: أن الرسول عليه السلام أخبر عن صدقه والرسول صادق.
الثانية: أنه إن كان كاذبا بكذب محدث لزم قيام الحوادث به هذا خلف، وإن كان كاذبا بكذب قديم لزم استحالة صدقه، لأن القديم لا يزول واللازم باطل قطعا، لأن كل من كان قادرا على الكذب فهو قادر على الصدق، فإن من قدر على أن يقول: العالم ليس بمحدث، كان قادرا على أن يقول: العالم محدث، لأن القادر على مجموع قادر على أفراده.
والحق طريقة المعتزلة وحجج الأشاعرة مدخولة.
اما الأولى، فلأن الحكم بكون الكذب نقصان إن كان عقليا فهو خلاف مذهبهم ورجوع الى طريقة المعتزلة، وإن كان سميعا لزم الدور.
وأما الثانية، فلا نسلم استحالة قيام الكذب لمن يستحيل عليه الجهل.
وأيضا فلو سلمنا صدق الكلام القائم بالنفس فلا نسلم صدق هذه الألفاظ الدالة عليه.
وأما الثالثة، فلأن إخبار الرسول عليه السلام يدخله التخصيص والنسخ وغير ذلك من المعاني الموجبة لعدم اليقين عندهم، فلا يبقى القطع حاصلا.
واما الرابعة، فضعيفة لجواز انقسام كلام اللّه تعالى الى ما هو صدق دائما والى ما هو كذب دائما.
وقد يورد على طريقة المعتزلة أنه يحتمل دخول التخصيص والمجاز والإضمار وغير ذلك في خبر اللّه تعالى، فلا يبقى وثوق به كما لا يبقى وثوق بخبره لو كان كاذبا.
والجواب أنه قد يحصل في خبر اللّه تعالى من القرائن ما يفيد القطع بانتفاء هذه المفاسد.
البحث الثالث عشر: في بقية الكلام في الصفات الثبوتية
مسألة: مثبتوا المعاني من الأشاعرة اختلفوا.فذهب قوم الى أنه تعالى عالم بعلم واحد وقادر بقدرة واحدة ومريد بإرادة واحدة، وذهب أبو سهل الصعلوكي الى خلاف ذلك، والقاضي أبو بكر قال: إن الإجماع على الأول وخلاف أبي سهل حاصل بعده فيكون محجوجا به، وذلك لأن الناس قائلان: منهم من أثبت المعاني فجعلها واحدة، ومنهم من نفاها، فالقول بكثرتها خارق للإجماع.
مسألة: المشهور عندهم أن كلام اللّه تعالى واحد، وقد نقل عن بعض قدمائهم إن اللّه تعالى خمس كلمات: الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء، وذهب عبد اللّه بن سعيد منهم الى أنه في الأزل واحد ثم يصير فيما لا يزال متعددا.
والمعتزلة أنكروا الجميع، لبطلان الأصل الّذي بنوا عليه وهو الكلام النفساني، ومع تسليمه أبطلوا الأول، فإنه من المحال ان يعقل كلام مغاير لهذه، وأبطلوا الثاني بأنه من المحال أن يكون اللّه تعالى آمرا في الأزل من دون مأمور ولا منهي فإن ذلك سفه.
وقول عبد اللّه بن سعيد باطل، لأن التغير لا يمكن إلا بزوال شيء كان والأزلي لا يتغير.
مسألة: اختلف مثبتوا المعاني السبعة في أنه تعالى هل يوصف بالأحوال السبعة، فذهب القاضي ومثبتوا الأحوال من الأشاعرة الى أن العلم القديم معنى تقتضي لله تعالى حالة العالمية وكذلك القدرة والحياة وغيرها، ونفاة الأحوال منهم ذهبوا الى ان العلم نفس العالمية وكذلك البواقي.
مسألة: لا نزاع فيما بينهم في أن الحالة متعلقة بالمتعلق كالعالمية المتعلقة بالمعلوم، وهل للمعنى الذي هو العلم تعلق به أم لا؟فالظاهر تعلقه به أيضا.
قالوا: وإلاّ لم يكن بأن يوجب العالمية بذلك المعلوم أولى من ان يوجبها بمعلوم آخر، وهذا لا شك في ركته.
مسألة: اختلفوا في تعلقات الصفات هل هي ثبوتية أم لا؟والحق عندي أنها ليست بثبوتية والا لزم التسلسل.
احتجوا بأن تعلق العلم بالمعلوم مغاير لهما لكونه نسبة، وهو ثبوتي لأنه نقيض اللاتعلق الصادق على المعدوم فيكون ثبوتيا.
والجواب الكذب في قولكم إن نقيض العدمي ثبوتي، ولو سلم فلا نسلم أن لا تعلق عدمي، والاستدلال بصورة السلب عليه دور.
مسألة: اعترف بعض الأشاعرة تغير هذه التعلقات، لأن اللّه تعالى كان قادرا في الأزل على ايجاد زيد، فبعد إيجاده يستحيل بقاء ذلك التعلق وإلا لزم جواز إيجاد الموجود.
لا يقال: إنه قادر على إيجاده بأن يعدم فيوجده فلا تغير.
لأنا نقول: الكلام في الإيجاد المبتدأ، لا فيه مطلقا، ونحن لما أثبتنا التعلقات ذهنا سقط عنا هذا الفرع.
مسألة: ذهب فقهاء ما وراء النهر الى إثبات صفة للّه تعالى سموها التكوين وهي قديمة والتكوّن محدث، واستدلوا بأنه يصدق أن اللّه تعالى خالق وموجد ومكوّن، ولا يجوز أن يكون المرجع بهذه الأمور الى القدرة، فإن القدرة قد يصدق وإن كان التكوين معدوما، فإن اللّه تعالى قبل أن يوجد الفعل يصدق عليه أنه قادر غير مكوّن وظاهر أنه ليس باقي الصفات.
وأيضا قوله تعالى: إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فجعل قوله كن متقدما على الكون.
والحجتان ضعيفتان.
أما الأولى، فلأن المرجع بالتكوين الى نفس الفعل في الخارج وإن كان وصفافي الذهن اعتباريا مغايرا له.
وأما الثانية، فلفظية لا تراد منها الحقيقة.
واستدل بعضهم على النفي بأنه إن عنيتم بهذه الصفة مؤثرية القدرة في المقدور فهي صفة نسبية لا يوجد بدونهما، وإن عنيتم بها صفة مؤثرة في صحة الفعل فهي القدرة، وإن عنيتم بها امرا آخر فاذكروه.
فإن قالوا: عنينا ما يؤثر على سبيل الوجوب.
قلنا: فيلزم أن يكون اللّه تعالى موجبا.
وهذه الحجة ضعيفة، لأن الوجوب اللاحق لا يؤثر في القدرة السابقة والإمكان السابق.
والتحقيق هاهنا ما أقوله، وهو أنهم إن عنوا بهذه الصفة النسبة الحاصلة بين الأثر والمؤثر فهو باطل لوجوب تأخرها، وإن عنوا بها كون الذات بحيث يصح منها الفعل فهو راجع إلى كون الذات قادرة فإن هذا حكم راجع الى القدرة، وإن عنوا بها كون الذات بحيث يجب عنها الفعل فهو أمر راجع الى القدرة والإرادة جميعا فإنهما كافيان في ذلك.
مسألة: أثبت ابو الحسين اليد صفة مغايرة للقدرة والعين مغايرة للبصر والاستواء عبارة عن صفة بها يصير مستويا على العرش والوجه مغايرا للوجود ووافقه على ذلك أبو اسحاق الأسفرائيني، وأثبت أبو اسحاق صفة توجب الاستغناء عن المكان، والقاضي أثبت ثلاث صفات اخرى: ادراك الشم واللمس والذوق.
وأثبت عبد اللّه بن سعيد القدم صفة مغايرة للبقاء، والرحمة والكرم والرضا صفات مغايرة للإرادة، واستدلوا على ذلك بالسمع، ونحن في مقام التوقف.
والمتكلمون نفوا ما عدا الصفات السبعة قالوا: لأنا كلّفنا كمال المعرفة فلا بد لها من طريق ولا طريق الى إثبات هذه الصفات، وهذه الطريقة انما تدل على نفي معرفة بزائد أما على النفي في نفس الأمر فلا.
مسألة: ذهب جمهور المعتزلة والأشاعرة الى أن حقيقة اللّه تعالى معلومة للبشر لأن وجوده تعالى نفس حقيقته وهو معلوم والمقدمتان سلفتا، وذهب الأوائل وضرار من متقدمي المتكلمين والغزالي من متأخريهم الى أنها غير معلومة، لأن المعقول لنا إما صفاته السلبية ككونه ليس بجسم ولا عرض أو الإضافية ككونه قادرا عالما خالقا، أما غير ذلك فلا.
وهذا عندي هو الحق، وما ذكره المتكلمون في حجتهم فهو مبني على أن حقيقته نفس وجوده، وللمنازع أن ينازع فيه وأما نحن فنجيبهم بالمنع من العلم بوجوده، والأوائل أجابوا بهذا وجعلوا المعلوم هو الوجود المطلق المقول بالتشكيك، وأيضا المعقول منه صادق على كثيرين وذاته صادقة على كثيرين.
واستدلت الأوائل بأن العلم يستدعي حصول صورة مساوية للمعلوم، فيكون واجب الوجود مقولا على كثيرين أعني الذهني والخارجي، ولأن من عقله عقل معلولاته، لأن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول.
وهذان عندي ضعيفان، أما الأول فلأن الممتنع تكثر الواجب في الخارج على أن لنا في قولهم العلم يستدعي صورة بحثا قد سلف.
وأما الثاني فلجواز أن يكون من عقل الواجب يعقل جميع المعلولات، على أن المنع قائم في أنه علة وفي أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول.