موقع عقائد الشيعة الإمامية >> العلامة الحلي >> مناهج اليقين في أصول الدين
وفيه مباحث
البحث الأول: في تقسيم الأمثال إلى الحسنة والقبيحة
البحث الثالث: في أنه لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب
البحث التاسع: في الأرزاق والأسعار
البحث الأول: في تقسيم الأمثال إلى الحسنة والقبيحة
الفعل على ضربين: إما أن يكون له وصف زائد على حدوثه، وإما أن لا يكون، والثاني كحركة النائم والساهي، والأول على ضربين: حسن وقبيح، والحسن على ضربين: أحدهما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح، والثاني ان يكون له وصف زائد عليه وهو على قسمين: أحدهما أن يكون المدح متعلقا بفعله من غير ذم في تركه وهو المندوب، والثاني أن يكون المدح متعلقا بفعله والذم بتركه وهو الواجب، والقبيح هو الحرام وهو الذي يستحق فاعله الذم.
اذا عرفت هذا، فنقول: ذهبت المعتزلة الى أن الأفعال حسنت لوجوه تقع عليها وقبحت لوجوه تقع عليها من غير ان يكون للآمر والناهي في ذلك مدخل.
وعنوا بالوجوه اقتران أمور راجعة الى النفي أو الى الثبوت بحدوثها، فيقضي العقل عند العلم بتلك الوجوه أن للفعل مدخلا في الذم او لا مدخل له وكذلك في الإخلال.
وذهبت الأشاعرة الى أن الأفعال انما حسنت بأوامر الشرع وانما قبحت بنواهيه.
والحق عندي مذهب المعتزلة والدليل عليه أن العقلاء بأسرهم يمدحون راد الوديعة ويذمون الظالم، فاذا طلب منهم العلة في ذلك رجعوا الى أن الرد حسن يستحق فاعله المدح، والظلم قبيح يستحق الذم، ولو لا علمهم باستناد الحسن والقبح الى الوجوه والاعتبارات التي يقع عليها الأفعال والا لما صح لهم استنادهما إليها.
ولمشايخ المعتزلة طريق آخر، وهو ان الضرر مثلا انما يقبح إذا كان ظلما وإذا انتفى الظلم انتفى القبح، ودوران الأثر مع الوصف مشعر بالعلية، ونحن قد بينا فيما سلف ضعف الدوران.
مسألة: ذهبت المعتزلة الى أن العلم بحسن بعض الأشياء وقبحها عقلي، فبعضه ضروري كحسن رد الوديعة وحسن الصدق النافع، وبعضه نظري كحسن الصدق الضار.
وذهبت الأشاعرة الى أن ذلك معلوم بالشرع وأنه لا حسن ولا قبح في العقل، فالظلم لو أمر اللّه به لكان حسنا ولو نهى عن رد الوديعة لكان قبيحا.
وذهبت الأوائل الى أن العلم بحسن الأشياء وقبحها مستفاد من العقل العملي.
والعدلية قد استدلوا على مذهبهم بوجوه:
احدها: أنا نعلم بالضرورة حسن رد الوديعة وقبح الظلم، فان أحدا لو ضرب غيره على طوله أو قصره أو لونه أو كون الكواكب في السماء فإن العقلاء
بأسرهم يسارعون الى ذمه وإن فرض عدم الشرع.
الثاني: أن كثيرا من العقلاء قد اعترفوا بحسن الأشياء وقبحها كالهند والملحدة.
الثالث: لو لم نعلم بالعقل قبح بعض الأشياء وحسنها لم نعلمها بالشرع والتالي باطل اتفاقا والمقدم مثله، بيان الشرطية أنا اذا لم نعلم قبح الكذب ثم قال لنا اللّه تعالى: إن هذا الشيء قبيح أو نهانا عنه أو أمرنا [بشيء او قال لنا أنه حسن جوزنا الكذب في خبره وإن ينهانا عن الحسن ويأمرنا بالقبيح] لأنا حينئذ لم نكن عالمين بأنه حكيم لا يفعل القبيح، فوجب القول بسابقية العلم بوجوه الافعال وبحكمته تعالى.
الرابع: أن الحسن والقبح لو استندا الى الأوامر والنواهي مطلقا او بشرط القصد من الآمر والناهي، لزم تحسين الكفر الذي يأمر به الكافر وتقبيح الإيمان الذي ينهى عنه.
فإن قالوا: إنما المؤثر هو أمر اللّه من حيث إنه خالق ومنعم، قلنا: وأيّ تأثير لكونه خالقا ومنعما؟.
فإن قالوا: الخالق يجب طاعته، قلنا: علمكم بوجوب الطاعة إن استند الى العقل اعترفتم، وإن استند الى السمع فنحن إنما ألزمناكم في الشرع لم كان أمره واجب الاتباع.
فإن قالوا: الخالق المالك لعبيده لامره ونهيه تأثير في التحسين والتقبيح كالمالك منا لإذنه تأثير في حسن تناول ملكه ولنهيه تأثير في قبحه دون من ليس بمالك.
قلنا: ان استندتم في العلم بحسن تصرف المالك في ملكه الى العقل اعترفتم، وان كان الى الشرع سقط كلامكم لأنا الزمناكم فيه.
الخامس: لو جوزنا كون الهند اعتقدت حسن الصدق وقبح الظلم لشبهة لا لقضاء العقل، لجوزنا أن يكون بعض البلاد يعتقدون قبح القذف وذم من استعمله والاستخفاف بالمحسن والاساءة إليه والاحسان الى المسيء لاجل شبهة عرضت لهم، لأنّ العقل غير قاض بواحد منهما، ولما كان هذا باطلا قطعا، فإن العقلاء بأسرهم لو أخبرهم مخبر بذلك لسارعوا الى تكذيبه بناء منهم على أن ذلك ممتنع عقلا فكذلك الأول.
واحتجت الأشاعرة على مذهبهم بوجوه:
الأول: أنّ العلم بقبح الأشياء وحسنها لو كان ضروريا لوجب مساواته لاعتقاد كون الكل أعظم من الجزء لعدم التفاوت في الضروريات، ولكانت العقلاء بأسرهم مشتركة فيه، ولو كان نظريا لكان خرقا للإجماع، لأنّ العقلاء بين قائلين بعدم العلم بذلك مطلقا وبين قائلين بالعلم به بالضرورة.
الثاني: أن النبي إذا هرب من إنسان قاتل، فإخباره به مع السؤال إن كان حسنا لزم حسن الظلم، وإن كان قبيحا لزم قبح الصدق.
والثالث: أن اللّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان بجميع ما أخبر به ومن جملته أنه لا يؤمن فيكون مكلّفا بالجمع بين النقيضين.
الرابع: أن اللّه تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن، فتكليفه بالإيمان تكليف لما لا يطاق .
الخامس: أن من قال لأكذبنّ غدا، إن حسن صدقه لزم حسن الكذب، وان قبح لزم قبح الصدق.
السادس: أن اللّه تعالى فعل الجهل لأنه إنما يحصل عقيب النظر، والنظر مجموع علوم الا يستلزم الجهل والا لكان الصادق كاذبا هذا خلف.
السابع: لو كان الفعل قبيحا لكان إما من اللّه تعالى وهو باطل اتفاقا او من العبد وهو باطل، لأن افعال العبد اضطرارية على ما يأتي.
الثامن: لو كان الفعل حسنا وقبيحا لوجه عائد إليه لكان المعلول سابقا على العلة والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن قبح فعل الظلم حاصل قبل وجود الظلم فلو كان قبحه معللا به لزم التقدم.
التاسع: أن المعدوم قد يتصف بالحسن والقبح فلا يكونان وصفين ثبوتيين، بيان الأول أن ما كان حسنا كان تركه قبيحا والترك عدمي ولأن الأفعال الحسنة والقبيحة قبل دخولها في الوجود تكون حسنة وقبيحة.
العاشر: أن جهة قبح الكذب إن كانت عائدة الى مجموع حروفه الذي لا وجود له كان المعدوم موصوفا بالقبح الثبوتي، وإن كانت عائدة الى كل واحد من الحروف كان كل حرف كذبا وكل كذب خبر فكل حرف خبر.
الحادي عشر: إذا قال القائل: زيد في الدار ولم يكن فيها كان قبيحا، فالمقتضي للقبح إن كان ذات تلك الألفاظ مطلقا لزم القبح وإن طابق وان كان بانضمام عدم كونه في الدار كان العدمي مقتضيا للثبوتي، وإن كان المجموع كان العدم جزءا من العلة، وان كان امر آخر فذلك الآخر إن لم يكن لازما لتلك الألفاظ مع عدم كونه في الدار لم يكن الكذب قبيحا، وإن كان لازما فعلّة اللزوم إما تلك الألفاظ مطلقا أو مع العدم ويعود البحث.
الثاني عشر: لو كان القبح صفة حقيقية لما اختلف باختلاف الوضع والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة، وبيان بطلان التالي أن الواضع إذا وضع قولنا: قام زيد لغير الخبر لم يكن التلفظ به قبيحا عند عدم قيام زيد.
والجواب عن الأول، المنع من حصول التفاوت، سلمنا لكن لا نسلم أن التفاوت في العلوم يخرجها عن كونها ضرورية، فإن بعض التصديقات البديهية يكون أجلى من بعض عند كون تصوراتها أجلى.
وعن الثاني: ان المخبر يجب عليه التورية بحيث يخرج بها عن الكذب.
لا يقال: فيلزم من ذلك عدم الوثوق باخبار اللّه تعالى.
لانا نقول: لو أخبرنا اللّه تعالى بخبر يدل ظاهره على أمر مع عدم إرادة ذلك الظاهر وعدم قرينة صارفة عنه لكان الحكيم ملغزا وهو قبيح بخلاف ما نحن فيه.
وأيضا إذا تعارض قبيحان وجب المصير الى أقلهما قبحا.
وأيضا القبح قد يتخلف عن الكذب في بعض المواضع لمانع ولا يخرج ذلك الكذب عن مقتضاه ولا يلزم من ذلك أن يكون كل كذب محتملا لذلك المانع، كما أن الأحكام العقلية الضرورية قد يتخلف في بعض المواضع لمانع ولا ينثلم بما يذكره السوفسطائيون.
وأيضا هذا المطلوب فيه جهة حسن لا من حيث كونه كذبا بل من حيث اشتماله على المخلص، وفيه جهة قبح وهي كونه كذبا والجهتان متغايرتان وما فيه جهة القبح فهو ملازم لها وما فيه جهة الحسن فهو ملازم لها من غير تغير.
وعن الثالث، أنه كلّف أبا لهب من حيث إن الإيمان ممكن لا من حيث وقوع الإخبار بأنه لا يؤمن، وهذا بعينه جواب عن الرابع، فإن العلم لا يخرج الممكن عن إمكانه والكافر مكلف بالإيمان من حيث هو ممكن لا من حيث فرض العلم، فإنك إذا فرضت العلم بالكفر حاصلا فقد فرضت الكفر، لأن العلم لا بد فيه من المطابقة ومع فرض أحد طرفي النقيض لا يمكن فرض الآخر.
وعن الخامس، أنه يجب عليه ترك الكذب في غد، لأنه اذا كذب في الغد فعل شيئا فيه جهتا قبح وهو العزم على الكذب وفعله ووجها واحدا من وجوه الحسن وهو الصدق، واذا ترك الكذب يكون قد ترك تتمة العزم والكذب وهما وجها حسن وفعل وجها واحدا من وجوه القبح وهو الكذب، ولا شك أنّ الثاني أولى.
وعن السادس، أنّ الجهل لازم من المقدمات الفاسدة الحاصلة للإنسان بسبب قوته الوهمية وترك استعمال قوته العقلية.
وعن السابع، ما يأتي من كون الفعل مخلوقا للعبد.
وعن الثامن، أن الظلم إنما يقبح قبل وجوده على معنى أن الفاعل إذا فعله كان بحيث يستحق الذم، وهذه الحيثية ليست أمرا ثبوتيا كما يقول: النار علة في الاحراق وإن كانت النار معدومة على معنى أنها بحيث لو وجدت لصدرت عنها
الحرارة، وأيضا فنحن نمنع من كون الحسن والقبح وصفين ثبوتيين، وهذا هو الجواب عن التاسع.
وعن العاشر، أنكم بالاعتبار الذي عقلتم كون الكلام خبرا وصدقا وكذبا اعقلوا به كونه قبيحا وحسنا.
وعن الحادي عشر، أن العلة هي الخبر بشرط أن لا يكون مطابقا ولا يلزم من ذلك تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي.
وعن الثاني عشر، أن الإخبار الكاذب هو المقتضي للقبح وهو معنى معقول وإن اختلفت عليه العبارات.
ادعى أبو الحسين البصري وجماعة أنه ضروري، وهو الحق عندي.
وذهبت طائفة من المعتزلة وبعض الإمامية والزيدية الى انّ العلم بذلك كسبي.
وذهب جهم بن صفوان الى أنه لا فاعل الا اللّه تعالى.
وذهبت الأشاعرة والنجارية الى أنّ المحدث هو اللّه تعالى لا غير وانما العبد مكتسب، وهؤلاء اثبتوا للعبد قدرة ونسبوا الفعل الى اللّه تعالى.
وأما جهم فانه لم يثبت قدرة للعبد، ثم اختلف القائلون بالكسب في تفسيره:
فذهب الأشعري الى أن معناه أنّ اللّه تعالى أجرى العادة بأنّ العبد متى اختار الطاعة فعلها فيه وفعل القدرة عليها والعبد متمكن من الاختيار وان كانت القدرة عنده لا أثر لها في الفعل.
وذهب أصحابه الى أن معنى الكسب هو أن القدرة الحادثة لها أثر في الفعل،
وذلك الأثر غير الإحداث وزائد عليه.
وذهب بعضهم الى أنّ ذلك الأثر كون الفعل طاعة ومعصية وسفها وعبثا وغير ذلك من الصفات وهي متناول التكليف وبها يستحق المدح والذم.
وذهب آخرون الى أن ذلك الأثر غير معلوم.
وذهب أبو اسحاق الى أنّ الفعل يقع بقدرة اللّه تعالى وبقدرة العبد، ومذهب الأوائل أنّ اللّه تعالى يفعل الإرادة والقدرة في العبد ثم هما يوجبان الفعل، وهو قول أبي الحسين البصري وإمام الحرمين.
لنا أنّ كل عاقل يعلم بالضرورة حسن المدح على الإحسان وقبح الذم عليه وحسن الذم على الإساءة، ولو لا علمنا الضروري بكون الفعل صادرا عنا والا لما صح منا ذلك.
لا يقال: حسن المدح على الفعل إنما يكون بعد العلم بكون الفعل صادرا عن الممدوح وكذلك الذم، فلو جعلتموه مقدمة في العلم بذلك لزم الدور.
لأنا نقول: لا نجعله مقدمة للعلم بكون العبد فاعلا، وكيف ذلك مع أنا ادعينا الضرورة في ذلك، بل جعلناه مقدمة في كون ذلك العلم ضروريا.
ومشايخ المعتزلة يلزمهم هذا السؤال.
واستدلوا على مذهبهم بوجوه:
الأول: أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة للّه تعالى لما بقي فرق بين حركاتنا وحركات الجماد مع أن البديهية قاضية بالفرق.
الثاني: أن أفعالنا لو كانت مخلوقة للّه تعالى لقبح منه تكليفنا والتالي باطل
والمقدم مثله والشرطية ظاهرة.
الثالث: يلزم الظلم، فإنه يخلق فينا الفعل ويعذبنا عليه.
الرابع: أنّ أفعالنا توجد عند دواعينا وينتفي عند صوارفنا، فلولا استنادها إلينا لجاز أن يقع وإن كرهناها وتعدم وإن أردناها.
الخامس: أن اللّه تعالى قد أضاف الفعل الى العبد بقوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ، حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، كُلُّ امْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ، إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي .
السادس: أنه تعالى مدح المؤمن على إيمانه وذم الكافر على كفره ووعد بالثواب على الطاعة وتوعد بالعقاب على المعصية بقوله: اَلْيَوْمَ تُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ، فَالْيَوْمَ لاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لاٰ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَ إِبْرٰاهِيمَ الَّذِي وَفّٰى، لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا تَسْعىٰ، هَلْ جَزٰاءُ اَلْإِحْسٰانِ إِلاَّ الْإِحْسٰانُ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا، وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، أُولٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ، جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ.
السابع: أنه تعالى نزه نفسه عن أفعال المخلوقين من الظلم بقوله: وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ، وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ لاٰ ظُلْمَ الْيَوْمَ، وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً، ونسب الكفر والمعاصي الى العباد بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ، وَ مٰا ذٰا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا، مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ، فَمٰا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ، لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ .
ومن المعلوم القطعي أنه يستحيل أن يخلق في الكافر الكفر وفي العاصي العصيان ثم يوبخه عليه.
الثامن: أنه تعالى خيّر العباد بقوله: فَمَنْ شٰاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شٰاءَ فَلْيَكْفُرْ، فَمَنْ شٰاءَ اتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً .
التاسع: أنه تعالى أمر عباده بالمسارعة الى فعل الطاعات بقوله: وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وأمرهم بالطاعات في قوله: اِرْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ، وغير ذلك .
لا يقال: هذه الآيات معارضة بمثلها في قوله تعالى: وَ اللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ، اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ، وهو يريد الإيمان.
لأنا نقول: يجب تأويل هذه الآيات جمعا بين ما ذكرنا وما ذكرتم.
قال ابو الهذيل: إنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة على الكافرين لا لهم، ولو كان المراد من هذه الآيات إضافة الكفر إليه تعالى لكان النبيّ محجوجا بأن يقول له الكافرون: كيف تأمرنا بالإيمان واللّه قد خلق فينا الكفر.
قالت الاشاعرة: أقصى ما يمكنكم أن تقولوا: إنا لما قصدنا الى إيجاد شيء وحدث ذلك الشيء عقيب ذلك القصد علمنا استناد الفعل إلينا ولكن ذلك استناد الى الدوران.
ثم إنا نقول: هل تفرقون بين ما إذا أحدثتموه بحسب دواعيكم وبين ما اذا فعله اللّه تعالى عقيب دواعيكم أم لا؟فإن اعترفتم بالفرق فأظهروه، والاّ لم يبق لكم معرفة باستناد الفعل إليكم.
أجاب قاضي القضاة بأنا متى أحدثناه اقترن به علمنا ضرورة بأنه لو لا دواعينا لما حدث وأنه يجب حدوثها بحسبها ومتى خلق فينا لم يجزان يقترن به هذا العلم لأنه يكون جهلا غير علم.
وهذا غير لائق من قاضي القضاة، لانه يحصل العلم بكوننا فاعلين كسبيا، ويأتي من أبي الحسين.
واحتجت الأشعرية بوجوه:
الأول: أنّ العبد الفاعل إن لم يتمكن من الترك فهو المطلوب، وان تمكن فإن لم يفتقر ترجيح الفعل الى مرجح لزم ترجيح الممكن من غير مرجح، وإن افتقر فذلك المرجح إن كان من فعله تسلسل، وان كان من فعل اللّه تعالى، فان أمكن الترك افتقر الى مرجح آخر، والا لزم الجبر.
الثاني: لو كان العبد موجدا لأفعاله لكان عالما بها والتالي باطل والمقدم مثله.
بيان الشرطيّة أن القادر لا يخصص أحد مقدوريه الا مع الشعور، ولأنّ الجزئي لا ينبعث عن القصد الكلي والقصد مشروط بالعلم، وبيان بطلان التالي ظاهر، فإن المتحرك لا يعلم أجزاء المسافة ولا يعلم كيفيتي السرعة والبطء القائمين بالحركة والنائم فاعل غير عالم.
الثالث: دليل التمانع آت هاهنا.
الرابع: لو كان العبد قادرا لكان اللّه تعالى قادرا على عين مقدوره، لما بينا من أنه تعالى قادر على كل الممكنات، ولأنه قادر على مثله فهو قادر على عينه لتساوي المثلين، لكن التالي باطل والا لزم وقوع مخلوق بقادرين، لأنا اذا فرضنا أن العبد أراد فعلا علم اللّه تعالى أنه مصلحة فلا بد وأن يريده، ثم فرضنا أنه تعالى علم أن المصلحة يقتضي إيجاده منه تعالى، ثم إن العبد حاول فعله، فإنّ ذلك الفعل يقع بقادرين، وبيان بطلان اللازم أنه يستلزم استغناء الفعل وحاجته إليهما معا هذا خلف.
والجواب عن الأول، أن المختار يمكنه أن يرجح أحد الطرفين على الآخر من غير مرجح، وهذا عين مذهبكم في حق واجب الوجود.
وأيضا المرجح الموجب للفعل وهو الإرادة لا يخرج القادر عن كونه قادرا ولا يتنافى الاستواء والرجحان لأنهما حاصلان للفعل باعتبارين.
واعلم أن هذه الشبهة كما نفت القدرة عن العبد في اعتقاداتهم فهي بعينها نافية لقدرة اللّه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وطريق التخلص ما ذكرناه.
وعن الثاني، أن العلم التفصيلي ممنوع وإنما الشرط العلم الاجمالي، ونمنع عدم انبعاث الجزئي عن القصد الكلي، فإن القاصد لإيجاد الحركة إنما يقصد حركة مطلقة تتخصص بتخصص القابل، ولأنّ الاضافة الى الجزئي مسبوقة بتحققه، فلو كان تحققه متوقفا على الإضافة التي هي العلم لزم الدور، وفي الاخير نظر.
وعن الثالث، أن قدرة اللّه تعالى أقوى من قدرة العبد، فوقوع مقدور اللّه تعالى أولى، وهذا الدليل يتمشّى في الوحدانية ولا يتمشى هاهنا، وهذا بعينه هو الجواب عن الرابع.
قالت الأشاعرة: الذات غير مقدورة، لأنها ثابتة في العدم والوجود حال فلا يكون مقدورا فلا يكون العبد قادرا البتة.
لا يقال: المقدور هو الذات على كونها موجودة.
لأنا نقول: هذا فاسد، لأنّ معناه إن كان هو المقدور الذات وحدها او الوجود وحده او المجموع فقد ناقضتم، وإلا فلا معنى محصل له، وهذا يرد على من أثبت المعدوم من المعتزلة، وأما علينا نحن فلا.
مسألة: القائل بالكسب فرارا من إثبات الفعل للعبد ومن عدم الأمر والنهي غالط، لأنا نقول: العبد إما أن يكون له في فعله أثر ما أو لا يكون، فإن كان الأول فهو المطلوب، وإن لم يكن فهو قول لمذهب جهم.
ثم إنا نقول لأبي الحسن: كيف تتخلص من قول المعتزلة بأن العبد انما حسن مدحه وذمه بالفعل ولم يحسن مدحه وذمه باللون الذي فيه، لأنّ اللّه تعالى قد خلق مع الفعل قدرة غير مؤثرة لم يخلق في اللون قدرة، وايّ عاقل يرتضي القول بهذا ويستحسن المدح والذم لأنه خلق في العبد فعلان ولم يستحسن المدح والذم
في اللون لأنه خلق فيه فعل واحد.
مسألة: قد ذكرنا فيما سلف قسمة الأفعال الى المباشر والمتولد والمخترع.
واختلف الناس في المتولد .
فذهبت المعتزلة الى أنّ كل ما تولد من فعل العبد فهو فعل له، سواء تولد عن فعله المباشر او تولد عن فعله المتولد عن المباشر.
وذهب معمر الى أنه لا فعل للعبد الا الإرادة وما يحصل بعدها فهو من طبع المحل.
وقال آخرون من المعتزلة: لا فعل للعبد الا الفكر.
وقال النظام: لا فعل له إلا ما يوجد في محل قدرته، وما يتجاوز محل القدرة فهو واقع بطبع المحل.
وذهبت الأشاعرة الى أنّ المتولدات من فعله تعالى وليس فيها ما هو كسب للعبد .
والحق عندي المذهب الأول، ويدل عليه ما دللنا به في المسألة الأولى، فإنا نستحسن المدح على ما يقع من أفعالنا المتولدة كالكتابة والبناء، ونستحسن الذم على بعض آخر منها كالقتل، وهذا إنما ذكرناه استدلالا على ضرورية هذا الاعتقاد لا عليه نفسه.ويبطل قول من قال بأنّ الفعل صادر عن طبع المحل، أنه لو كان كذلك لدام ولما اختلف ولتشاركت المتساويات فيه والتوالي كلها باطلة فالمقدم مثله.
لا يقال: الأفعال الاختيارية يجوز أن لا تقع والمتولدات ليست كذلك فلا يكون اختيارية.
بيانه أنّ بعد حصول السبب بحسب المسبب والواجب لا يكون مقدورا.
لأنا نقول: لسنا نعني بقولنا: المتولد مقدور أنه يجوز أن لا يقع مع وجود السبب، بل معناه أنه يجوز أن لا يفعل السبب فلا يفعل المسبب .
لا يقال: لا دلالة في الحسن والقبح على كون المتولد من فعل العبد، فإنا نذم من القى صبيا في النار فاحترق مع أن المحرق هو اللّه تعالى بواسطة النار.
لانا نقول: الذم على الإلقاء مع العلم بحصول الاحتراق لا على الإحراق.
مسألة: بعض المتأخرين ظن التناقض في قولي أبي الحسن البصري وهما القول بالاختيار والقول بالوجوب عقيب القدرة والداعي، وهذا ظنّ فاسد، فإن الوجوب هاهنا غير مناف للقدرة، فإنّ القادر من حيث هو هو إنما هو الذي يجوز أن يفعل وأن لا يفعل، وهذا لا ينافي وجوب الفعل بشرط انضمام إرادة أو شيء آخر من شرائط التأثير.
مسألة: قالت الأشاعرة ردّا على المعتزلة: إنا نفعل اللون بحسب قصدنا، فإنا عند الخلط الماء العفص والزاج نكون فاعلين، وهذا باطل فما ذكرتموه باطل.
والتزم البغداديون وقوع اللون بالعبد، وأما البصريون فقالوا: إن اللون كاف في أجزاء الزاج فاذا اقترن بها ماء العفص ظهر، والقول بالكمون ظهر بطلانه.
واجاب محمود بأنّ اللون يقع عند الخلط لا بسببه بل بسبب مزاجي العفص والزاج، وفيه بعض القوة غير أنه تسليم ما لكلام الأشاعرة.
البحث الثالث: في أنه لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب
لأن له صارفا عن القبيح وداعيا الى الحسن وهو قادر عليهما أما وجود الصارف فلأنه عالم بقبح القبيح مع غناه عنه وهذان توجبان عدم القبيح.
وأما وجود الداعي فلأن الحسن كاف في إرادة المريد له إذا خلا عن جهات المفسدة.
وأيضا لو جاز أن يفعل القبيح، لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذّابين وأن يرسل رسلا يدعون الى أنواع الكفر من الشرك وعبادة إبليس وكفر النعمة وتحسين منع الوديعة.
لا يقال: لا يجوز أن يظهر المعجزة على يد الكذّابين، لأنه تعالى قادر على أن يعرفنا صدق الرسول ولا طريق الا المعجزة، فلو جوّزنا ظهوره على يد الكاذب لانتفت القدرة وهو محال.
لأنا نقول: عدم تجويز هذا الفرض إن كان لعدم قدرته تعالى لزمكم الوقوع فيما فررتم منه، فإنه ليس انتفاء إحدى القدرتين لإثبات الأخرى أولى من العكس،
وإن كان لكونه تعالى حكيما لا يلبس على المكلفين فهو اعتراف بالمقصود. لا يقال: إنه تعالى كلّف بالإيمان من علم منه عدمه وهو قبيح، لأنّه إن كان لا لغرض فهو عبث قبيح، وإن كان لغرض عائد إليه فهو محال، وإن كان الى المكلف وكان ضررا فهو قبيح، وإن كان نفعا فهو معلوم العدم فلا يحصل من التكليف الا الضرر، وإن كان الى غيره فهو قبيح، لأن نفع الغير بتكليف هذا قبيح.
لأنا نقول: النفع عائد الى المكلّف وهو تعريضه للثواب، ومعنى ذلك أن يجعله بحيث يتمكن من الوصول الى النفع وهذا الغرض قد حصل.
مسألة: إرادة القبح قبيحة وترك إرادة الحسن قبيح فلا يصدران من اللّه تعالى، فاللّه تعالى لا يريد القبائح ويريد الطاعة، ولأن له داعيا الى الطاعات من حيث إنه حكيم فله داع الى الحسن والطاعات حسنة وله صارف عن المعاصي لحكمته أيضا، ولأنه تعالى أمر بالطاعة ونهى عن المعصية وهما يستلزمان إرادة الطاعة وكراهة المعصية.
وقول الأشعرية: الأمر يدل على الطلب لا على الإرادة، سخيف.
أما أولا، فلعدم العلم بالزائد على الإرادة في حقه تعالى.
وأما ثانيا، فلأن الطلب لا يعقل مع مغايرته للإرادة انفكاكه عنها، ولأن مريد القبيح ناقص، تعالى اللّه عنه، ولأنّ السمع قد دل على ذلك.
وأما الأشاعرة فقد جوزوا على اللّه تعالى إرادة القبائح وكراهة الطاعة من العاصي وحبّ المعصية منه تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، وقد ألزمهم المعتزلة كون الكافر مطيعا بكفره من حيث إنه فعل ما أراد اللّه منه، ولأنه حكيم فكيف يأمر بالإيمان للكافر، والأمر بعث عليه وتقريب منه مع أنه يكرهه.
واحتجت الأشاعرة على مذهبهم بأنه تعالى فاعل لكل موجود على ما مضى والقبائح موجودة فهي من فعله بإرادته.
وأيضا لو أراد اللّه تعالى الطاعة من الكافر لصار مغلوبا والتالي باطل اتفاقا فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة، لأن المريدين إذا تعارضا فالمغلوب من لم يقع مراده، ولأنه تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن والحكيم لا يريد ما علم أنه لا يكون، وللسمع كقوله تعالى: لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّٰاسَ أُمَّةً وٰاحِدَةً، وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، وَ لَوْ شِئْنٰا لَآتَيْنٰا كُلَّ نَفْسٍ هُدٰاهٰا، وغير ذلك.
والجواب عن الأول، أنه مبني على الاصل الفاسد، وقد ثبت بطلانه فيما مضى.
وعن الثاني، أنه تعالى إنما لم يوصف بالمغلوبية من حيث إنه أراد الإيمان الاختياري من العبد لا الاضطراري، وهذا لازم عليكم أيضا، فإنه تعالى أمر الكافر بالإيمان مع أنه لا يقع.
وعن الثالث، لا نسلم أن الحكيم لا يريد ما لا يكون إذا كان ممكنا والإيمان ممكن من الكافر، والدليل السمعي متأوّل، ولا منافاة بين قولنا وبين إثبات المشية لله تعالى في خلق الإيمان والكفر فإنه تعالى قادر فلو أراد مهما أراد وقع.
مسألة: لما ثبت أنه تعالى حكيم ثبت أنه لا يفعل إلا لغرض، وإلا لكان عابثا تعالى اللّه عنه، والأوائل نازعوا في ذلك قالوا: والا لكان ناقصا، لأن كل من فعل الحسن فهو مستفيد صفة هي أنه قد فعل ما هو حسن به في نفسه وما هو أحسن به من غيره وكل مستفيد ناقص.
ثم إنهم قالوا: إنه تعالى عالم بكمالات الممكنات فهو يوقعها على تلك الكمالات، لا بأن يوجد الأشياء ناقصة ثم يكملها بعد ذلك بل لخلقه مشتاقا الى كماله اللائق به لا باستيناف تدبير والغرض هو استيناف ذلك التدبير في الكمال بالقصد الثاني.
والأشاعرة أخذوا هذا الدليل من الأوائل وحرفوا، فنفوا بسببه الغرض عنه تعالى وعن جميع الممكنات، ولم يثبتوا غاية لممكن من الممكنات، وأسقطوا علل الغائية بأسرها من الاعتبار، وأبطلوا علم منافع الأعضاء والطب وغيرها من العلوم، وهذا نقص عظيم في حقه تعالى.
والجواب عما قال الأوائل: المنع من كون كل فاعل مستفيدا، على ان الدليل المبني على الحسن والقبح خطابيّ لا برهانيّ.
واستحدثت الأشاعرة حجتين آخرين: إحداهما أن الغرض إن كان قديما لزم قدم الفعل ذي الغرض، وإن كان محدثا فإن كان محدثه اللّه تعالى تسلسل، وإن كان غيره فهو باطل بما مر من أنه تعالى فاعل لكل غرض.
وثانيتهما، أنّ الغرض ممكن ففعله بتوسط الفعل عبث.
والجواب عن الأول، أنّ الغرض محدث حاصل منه تعالى ولا يتسلسل لانقطاع الأغراض، أو نقول: إنه محدث من العبد وأصلهم فاسد.
وعن الثاني، أن بعض الأغراض يستحيل وجودها من دون الفعل والمستحيل غير مقدور.
وهو عبارة عن بعث من يجب طاعته على ما فيه مشقة على جهة الابتداء بشرط الإعلام، فإن إرادة الوالد الواجب الطاعة الصلاة من الولد ليس تكليفا، لسبق إرادة اللّه تعالى، وهو حسن لأنه فعله تعالى، ووجه حسنه التعريض للثواب الذي لا يمكن الابتداء به، وانما لم يمكن الابتداء بالثواب لأنه يتضمن التعظيم وهو لا يحسن الابتداء به.
فإن قيل: لا نسلم أنّ التفضل بالتعظيم قبيح ممن يستحيل عليه النفع والضرر.
سلمنا لكن استحقاق التعظيم لا يتوقف على الأفعال الشاقة، فإن التلفظ بالشهادة أسهل من الجهاد مع أن النفع المستحق به أعظم، ولأن التكليف دائر بين كونه مؤديا الى النفع والى الضرر وجلب النفع ليس بضروري ودفع الضرر ضروري فدفع الضرر آكد من جلب النفع، لكن بحصول التكليف يحصل النفع والضرر وبعدم التكليف يندفع الضرر ويفوت النفع، وكلما كان كذلك كان قبيحا.
ولأن الكل بخلقه وإرادته فلا تكليف، ولأن معلوم الوجود واجب ومعلوم العدم ممتنع فلا تكليف، ولأنّ الداعيين إن استويا فلا ترجيح فلا إمكان فلا تكليف، وان وجب أحد الطرفين فلا تكليف.
ولأن التكليف حال وقوع الفعل تحصيل الحاصل وقبله لا قدرة، لأنه لا معنى لكونه فاعلا إلا حصول المقدور عن القدرة، ويستحيل أن يكون فاعلا في الحال لفعل لا يوجد في الحال، فلم يكن في الحال مأمورا بشيء بل يكون ذلك إعلاما بصيرورته مأمورا في المستقبل.
ولأن الفائدة يستحيل عودها إليه تعالى أو الى المكلف، لأنها إن كانت ضررا فهو قبيح، وإن كانت نفعا فليس في الحال لأنه في الحال يتأذى ولا في ثانيه لأنه ممكن من غير التكليف فهو عبث.
ولأن التكليف على ما ذكرتم تجري مجرى القاء الغير في البحر ثم تكليفه بالخروج ليثيبه عليه، ولأن فائدة التكليف وهو الثواب يجري مجرى الأجرة فكيف يحسن منه تعالى فعلها من غير رضاه.
والجواب أن التعظيم والإجلال من غير مسبوقية الاستحقاق قبيح عقلا سواء صدر ممن ينتفع ويتضرر او ممن يستحيل عليه ذلك، وما ذكروه من المثال فغير صحيح، لأنّ الثواب لا يستحق بسبب الجهاد من غير الشهادة، فإذن الموجب للاستحقاق انما هو المجموع، ولا شك في أنّ الثواب الحاصل من المجموع أزيد من ثواب الأجزاء، والضرر الحاصل من التكليف قليل جدا بالنسبة الى تركه، والنفع الحاصل به أعظم من تعب التكليف بكثير، فوجه القبح منتف بالإطلاق.
وليست الأفعال بأسرها من خلق اللّه تعالى وإرادته على ما بينا فحسن التكليف، وقد بينا فيما سلف أن العلم بالوقوع تبع للوقوع الذي هو تبع للقدرة والاختيار فلا يؤثر في منعها، نعم إنه بحسب المعلوم وجوبا لاحقا.
وأجاب بعضهم بأنه تعالى يعلم الوقوع ويعلم القدرة للمكلف عليه، فليس إخراجه عن القدرة بسبب تعلق العلم بالوقوع بأولى من ثبوت القدرة له لتعلق العلم بها.
لا يقال: فيكون العبد متمكنا من أن يجعل علم اللّه تعالى غير علم على تقدير وقوع مخالف العلم منه.
لأنا نقول: ينتقض ما ذكرتم في حقه تعالى، فإنه عالم بأحد طرفي الفعل مع قدرته على الآخر.
وطريق الجواب فيهما أن فرض عدم الطرف المعلوم مع وصف العلم ملزوم للمحال، لأنه يتنزل منزلة وضع عدم الطرف مع الحكم بإمكان وجوده.
والترجيح لا يخرج المكلف عن القدرة كما أسلفناه، والتكليف جاز أن يقع حالة وقوع الفعل أو قبله لا على تقدير أن يوجد الفعل موجودا أو معدوما، والفائدة تقع لمكلف ويستحيل وجودها من دون التكليف، والفرق بين التكليف وإلقاء في البحر ظاهر، لأن الإلقاء ضرر عظيم يضطر معه الى الخروج وما يضطر إليه الغير ففعله لا تأثير له في استحقاق التعظيم والثواب.
أما التكليف فإنه طلب لمكارم الأخلاق التي يستحق بها المدح والتعظيم وليس إلجاء الى الفعل، وفارق الثواب الاجرة لأنّها يسيرة مستحقرة بالنسبة الى الثواب المقارن للتعظيم والإجلال فتوقف الاجرة على المرضاة بخلافه.
مسألة: التكليف واجب وإلا لزم إغراء اللّه تعالى بالقبيح والتالي باطل لقبحه فالمقدم مثله.
بيان الشرطية أن اللّه تعالى خلق المكلف وجعل له ميلا الى القبيح ونفورا عن الحسن، فلو لم يكلّفه بأن يقرر في عقله وجوب الواجب وقبح القبيح والا لزم الإغراء.
وخالف الأشعرية في ذلك، ولهم اعتراضات ومعارضات .
منها: أن هذا مبني على الحسن والقبح وقد سلف.
ومنها: أن الإغراء غير لازم، لأن العاقل يعلم أن العقلاء يمدحون على فعل الحسن ويذمون على فعل القبيح، فكان هذان العلمان باعثين للمكلف على فعل الواجب وترك القبيح وإن لم يحصل التكليف.
ومنها: أن التكليف إن توقف على العلم بالقبح والوجوب مع أنه لا يحصل الا بالتكليف لزم الدور، وإن لم يتوقف مع أن العلم بهما من جملة كمال العقل لزم تكليف من ليس بعاقل.
ومنها: أن التكليف لا بدّ فيه من معرفة المكلف وإلا فكيف يعرف أنه مكلف، ومعرفة المكلف لا بد لها من زمان من جملة زمان كمال العقل، ففي ذلك الزمان لا يكون مكلفا مع أنه مائل الى القبيح ونافر عن الواجب، فكما جاز في وقت جاز في كل وقت.
والجواب عن الأول، أنه قد مضى البحث في إثبات الحسن والقبح.
وعن الثاني، أن أكثر العقلاء يستسهلون الذم ويستحقرون المدح في قضاء أوطارهم، فلا بد من باعث آخر هو التكليف.
وعن الثالث، المنع من أن العلم بالقبح والوجوب لا يحصل الا بالتكليف.
وعن الرابع، أن المراد من التكليف هو البعث على ما يشق، والعالم بقبح القبيح ووجوب الواجب قبل علمه بالمكلف وجد له باعث وهو نفس العلم وقد قيل هاهنا أنه غير مكلف.
مسألة: لا يختص وجوب التكليف بالمؤمن دون الكافر، من حيث إنه بعث
له على تحصيل الثواب وعدم اختياره للنفع لا يوجب قبحه، ولأن الغرض بالتكليف هو أن يتمكن به المكلف من الوصول الى استحقاق الثواب، وهذا قد حصل في الحال فانه متمكن، ووصول الثواب غرض آخر لكنه مشروط باكتسابه وليس بغرض كلي في الحال.
والبغداديون قالوا: تكليف الكافر فيه مصلحة المؤمن .
لا يقال: كيف يحسن نفع الغير بضرر آخر.
لأنا نقول: ليس تكليف الكافر ضررا له بل الضرر حصل من قبله، فإذن لا عبث في تكليفه.
قال بعض الأشعرية الزاما على المعتزلة: لو مات الصبي قبل بلوغه وقال: يا اللّه لم لا كلفتني فاصل الى ثواب المؤمن، لكان الجواب: لأني لو كلفتك لكفرت فلما علمت هذا امتك قبل التكليف.
فيقول الكافر: يا اللّه لم لا أمتّني كالطفل؟فتنقطع حجة اللّه .
وهذا غير صحيح، بل جواب الطفل أن يقال: تكليفك كان فيه مفسدة لبعض المكلفين وذلك وجه قبيح وتكليف الكافر ليس كذلك، أو يقول: التكليف تفضل ولا يجب على المتفضل التفضل.
مسألة: متعلق التكليف علم وظن وعمل، والعلم منه عقل محض كالتكليف بكل ما يتوقف عليه السمع كإثبات الصانع، وسمعي محض كالعلم بوجوب الواجبات السمعية وقبح القبائح السمعية وندبية المندوبات السمعية وكراهية المكروهات السمعية وإباحة المباحات السمعية.
ومنه عقلي وسمعي كالعلم بالوحدانية، والظن سمعي محض كالظن بجهة القبلة عند الاشتباه، والعمل عقلي كرد الوديعة، وسمعي كالصلاة.
مسألة: يشترط في المكلف كونه عالما بصفات الأفعال لئلاّ يكلف ما لا يستحق به الثواب، وكونه عالما بمقدار المستحق من الثواب وإلا لأوصل البعض ومعهما يقبح التكليف، وأن يكون قادرا على الإيصال لذلك أيضا وأن لا يصح عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب وإلا لجاز منه إيصال بعض الثواب.
ويشترط في الفعل المكلف به أن يكون ممكنا، وأن يكون مما يستحق به الثواب كالواجب والمندوب وترك القبيح.
ويشترط في المكلف أن يكون قادرا على ما كلف به، مميزا بينه وبين ما لم يكلفه، متمكنا من الآلة المحتاج إليها ومتمكنا من العلم بما يحتاج إليه.
ويشترط في التكليف أن لا يكون مفسدة لأحد من المكلفين، وان يكون مقدّما على الفعل بزمان يمكن المكلف أن ينظر فيعلم ما تعبد به على الوجه الذي تعبد به، وهذا يدخل تحت ما سلف.
قاعدة: اذا علم الحكيم من أحد الفعلين المتضادين أنه اذا كلف به أطاع المكلف وإن كلفه بالآخر عصى وقدر الاستحقاق فيهما واحد، جمهور المعتزلة على أنه لا يحسن منه التكليف بما علم فيه العصيان، لأن غرضه بالتكليف هو التعريض بذلك القدر من الثواب، وهو يعلم أنه لا يحصل فيه بل في غيره، فلو كلفه ما لا يحصل به ذلك القدر كان نقضا للغرض، ويشكل على هذا تكليف الكافر.
قال قاضي القضاة: ويبتني على هذه القاعدة مسائل اختلف فيها الشيخان.
الفرع الأول: اذا علم اللّه تعالى أنه اذا زاد شهوة المكلف فإنه يعصي وإن لم يزدها لم يعص.
قال أبو علي: لا يحسن زيادته، وخالفه أبو هاشم.
احتج أبو علي بأن الزيادة تكون مفسدة، لأن المعصية توجد عندها.
حجة أبي هاشم أن في ذلك زيادة مشقة وفيها تعريض للثواب الزائد.
الثاني: تبقية إبليس وتمكينه من الوسوسة إن علم اللّه تعالى من العبد المعصية وإن لم يحصل الوسوسة لم يقبح التمكن من الوسوسة، وإن علم أن بها يحصل المعصية وإذا انتفت الوسوسة انتفت المعصية قبح منه تعالى ذلك.
وخالف في ذلك أبو هاشم، والدليل من الجانبين ما تقدم.
الفرع الثالث: تبقية الكافر المعلوم منه الايمان واستحقاق الثواب، أوجبها أبو علي، خلافا لأبي هاشم.
احتج أبو علي بأن تبقيته لطف فتجب حجة أبي هاشم أن التبقية تمكين وليس بلطف فحسن أن لا يفعل.
قال قاضي القضاة: واتفقا معا على أن تبقية المؤمن المعلوم منه الكفر حسنة، لأن تكليفه في المستقبل تعريض للثواب الزائد فتكون كالتكليف المبتدأ المعلوم منه الكفر.
وللفارق ان يقول: التكليف المبتدأ لم يحصل منه الغرض الذي هو التعريض فكان حسنا بخلاف هذا.
الفرع الرابع: المؤمن الفاسق المستحق للعقاب إذا علم اللّه انه لا يتوب هل يحسن تبقيته وتكليفه وإن علم منه الكفر؟قال قوم: نعم، وهو عندي ضعيف لما بيناه، لأنه لا يخرج بفسقه عن استحقاق الثواب على ما يأتي.
الفرع الخامس: المؤمن اذا علم اللّه منه أنه يفسق ويتوب بعد فسقه حسنت تبقيته إجماعا، أما اذا علم منه أنه يموت على فسقه قال محمود: يجب اخترامه، وهو عندي باطل، وهذا مبني على الوعيد، وسيأتي البحث فيه.
وهو ما أفاد المكلف هيئة مقربة الى الطاعة ومبعدة عن المعصية ولم يكن له حظ في التمكين ولم يبلغ به الهيئة الى الإلجاء، فالآلة ليست لطفا لأن لها حظا في التمكين والإلجاء ينافي التكليف بخلاف اللطف.
وذهبت المعتزلة الى انه واجب، الا ما يحكى عن بشر بن المعتمر قديما ثم نقل عنه الوجوب، وخالف في ذلك جماعة الأشاعرة.
والدليل على وجوبه أنه يتوقف عليه غرض المكلف فيكون واجبا في الحكمة.
بيان الصغرى، أن اللطف معناه ليس إلا ما يكون المكلف معه أقرب الى الطاعة وأبعد الى المعصية اللذين تعلقت إرادة المكلف بهما.
وأما الكبرى، فظاهرة، فإن العقلاء متى علموا إرادة شخص لفعل من آخر وعلموا أن ذلك الآخر لا يفعله الا بفعل يفعله المريد من غير مشقة، فمتى لم يفعل حكموا بأنه قد نقض غرضه.
لا يقال: اللطف إما أن تتوقف عليه الفعل أو لا، فان لم يتوقف جاز التكليف بدونه، وإن توقف كان له حظ في التمكين ويصير كالقدرة وليس البحث فيه، ولأن وجه الوجوب غير كاف في الوجوب ما لم ينتف وجوه القبح فلم لا يجوز وجود وجه من وجوه القبح فيه؟.
لأنا نقول: اللطف يتوقف عليه الفعل، لأن الفعل لا يقع الا بالداعي، والداعي متوقف عليه، ويفارق القدرة بأن القدرة يتوقف عليها إمكان الفعل لا نفسه وأما وجه القبح فهي محصورة لأنا كلفنا لمعرفتنا لاجتنابها وليست بأسرها ثابتة.
احتج المخالف بوجوه:
الأول: لو وجب اللطف لوجب أن يفعل في كل مكلف من الألطاف ما يقع الإيمان والطاعة وذلك يقتضي عدم الكفر والعصيان.
الثاني: أن اللطف ان لم يقتضي رجحان الفعل فلا فائدة فيه.
[وان اقتضى رجحانا غير مانع من النقيض فكذلك لجواز وجود الطرف المرجوح فلا أولوية].
وإن اقتضى رجحانا مانعا كان وجوبا فلا يكون التكليف ممكنا.
الثالث: ان أبا لهب لم يقع منه الإيمان، فإما أن يكون لعدم اللطف في حقه وذلك إخلال منه تعالى بالواجب، وإما أن يكون مع وجود اللطف وذلك باطل لأن اللطف هو الذي يحصل معه الطاعة.
الرابع: أن الحاكم هو اللّه تعالى فلا يجب عليه شيء لأنه لا حاكم فوقه.
الخامس: أن الداعية المقربة ممكنة لله تعالى فجاز خلقها ابتداء من دون الفعل الذي هو اللطف.
والجواب عن الأول، أن اللطف ليس لطفا بذاته بحيث يتساوى مقتضاه، بل اللطف إنما يكون لطفا لقرائن يقترن به من أحوال المكلف وغيرها، وإن كان مائلا الى الدين كان الفعل لطفا له، وان كان نافرا لم يكن ذلك الفعل لطفا له، ولأجل ذلك اختلف الألطاف كالعبادات الشرعية في الأوقات واختلفت شرائع الأنبياء.
وعن الثاني، أن اللطف ليس مما يقع الفعل عنده قطعا بل يكون أولى بالوقوع.
وعن الثالث، ما أجبنا به عن الأول، فإن اللطف إذا حصل ولم يحصل معه الفعل لا يدل على كونه غير لطف، بل إنما يحصل الفعل لوجود معارض هو أقوى منه عند العبد.
وعن الرابع، أن الوجوب لا يعني به هاهنا الوجوب الشرعي، بل كون الفعل بحيث يتعلق المدح بالفاعل بسببه.
وعن الخامس، نمنع عدم الإمكان.
مسألة: اللطف إن كان من فعله تعالى كان واجبا عليه أن يفعله لما مرّ، وإن كان من فعل المكلف وجب على اللّه تعالى أن يعرفه إيّاه وأن يكلفه به، وإن كان من فعل غيرهما لم يجز من اللّه تعالى أن يكلف العبد بما يتوقف على ذلك الاّ إذا علم أن ذلك الغير يفعله لا محالة، وهذه الأحكام ظاهرة.
قد مر البحث عن ماهيته وعن كثير من احكامه، فاعلم الآن أنه على قسمين: حسن وقبيح، فالقبيح ما يصدر عنا والعوض علينا، والحسن قد يقع منا على وجه الإباحة كالذبح للأكل وعلى وجه الندب كالذبح للأضحية وعلى وجه الوجوب كالذبح المنذور والعوض عليه تعالى في هذه، وقد يقع منه تعالى إما على جهة الاستحقاق كالعقاب أو على جهة الابتداء كآلام الدنيا غير المستحقة، واختلف الناس هاهنا:
فقالت الثنوية: يقبح جميع الآلام، وقالت المجبرة بحسنها أجمع، وفصل آخرون فقالت البكرية والتناسخية: إنه لا يحسن الاّ المستحق وما عداه فهو قبيح، وأهل العدل قالوا: إنه يحسن منه فعل آلام المستحق وفعل المبتدأ إذ كان ذلك الألم مصلحة لا يحصل من دونه وهو اللطف إما للمتألم أو لغيره بشرط أن يكون في مقابلته عوض يزيد عن الألم بحيث لو أظهر العوض لاختاره المتألم، وهذا عندي هو الحق، أما حسنه بهذه القيود فلا شك فيه، وأما قبح ما عداها فلأنه يتضمن الضرر الخالي عن النفع.
مسألة: ذهب أبو علي الى أن الألم لا يقبح إلا لكونه ظلما فقط، وشرط بعضهم في قبح الظلم علم الظالم بكونه ظلما او تمكينه من ذلك.
ونقل قاضي القضاة هذا القول عن أبي هاشم، قال القاضي: لا شك في قبح الظلم ممن ذكرنا إلا أنه لا يستحق به الذم، لأن استحقاق الذم مشروط بتمكين الفاعل من الاحتراز عنه لكونه ظلما.
قال أبو هاشم: وقد يقبح الألم لكونه عبثا كمن يستأجر غيره بنزح من ماء الفرات ويقبله فيها من غير عوض، فالظلم منتف لوجود العوض والقبح حاصل لحصول العبث، وكذلك من خلص غيره من الغرق بشرط كسر يده ولا غرض له في ذلك.
قال أبو علي: علة القبح هاهنا الظلم، فإن المستأجر ظلم نفسه من حيث أدخل عليه غما بسبب إخراج الأجرة وظلم الموجر من حيث منعه عن منافعه والمخلص ظلم نفسه من حيث منع نفسه من الشكر.
مسألة: نقل قاضي القضاة عن أبي هاشم أن الألم يقبح لكونه ضررا واذا حصل فيه نفع أو دفع ضرر خرج من كونه ضررا، فالبائع ثوبه بثمن المثل لا يقال إنه أضر بنفسه والمعاقب ليس بمتضرر لتعجيله اللذة في الدنيا، وألزمه قاضي القضاة بالتاجر بتحمل المشاق لرجاء الربح من غير ربح، وهو حسن.
لا يقال: إنه لسرّ في حال المشقة.
لأنا نقول: ينبغي اعتبار السرور، فإن كان موفيا على المضرة حسن والا فلا.
مسألة: الألم الذي يفعله اللّه تعالى لا بد وأن يكون حسنا لما تقدم وجهة حسنه في غير المكلف كونه لطفا لمكلف آخر مع عوض الزائد اذ لا وجه لاستحقاقه في حق الصبي، ولا يمكن أن يقال: أنه حسن لدفع الضرر، لأن الضرر المدفوع إن كان من فعله وهو قادر على ان لا يفعل من دون هذا الضرر لم يحسن منه، ولأن ابتداء الضرر بالصبي يكون ظلما فلو آلمه لأجل دفع الضرر لصار التقدير أنه ظلمه لأنه يدفع ظلمه، وإن كان من غير فعله فهو تعالى قادر على منع الظالم من الظلم من دون هذا الضرر.
لا يقال: لم لا يمرض الطفل ليصير لطفا للظالم فيمتنع من ظلمه بالإيلام؟.
لأنا نقول: لا يحسن ضرر الطفل لنفع الغير، أما المكلف فإن كان مستحقا للعقاب جاز للّه تعالى أن يولمه معاقبة كمرض الكافر، ومنع منه قاضي القضاة وقال: المرض محنة في حقه لا عقوبة ولا يجوز أن يولمه لدفع الضرر عنه كما قلنا أولا.
قيل: ولا يجوز أن يولمه ليسقط عنه بعض عقابه، لأن عقابه المستحق لا يصير مستوفى بتعجيل ذلك القدر، فلو أراد سقوط الباقي لأسقطه بالعفو.
فأما القصد الى أن يسقط ذلك من دون عفو بل بتعجيل ذلك البعض لم يصح، لأنه يقصد الى أن يسقط ما سقوطه متفضل به من دون أن يكون متفضلا وذلك قصد فاسد.
وعندي في هذا توقف، وان لم يكن مستحقا للعقاب لم يحسن منه الإيلام الا للنفع، وذلك النفع تارة يكون عوضا، وتارة يكون لطفا للمتألم، وتارة يكون هما معا.
تذنيب: قال ابو علي: الألم الصادر عنه تعالى إذا لم يكن عقابا يكون حسنا للعوض فقط سواء كان لطفا أو لم يكن.
وقال أبو هاشم: جهة حسنه العوض، وكونه لطفا اما للمتألم او لغيره، وقال آخرون: كونه لطفا كاف الحسن إن كان للمتألم.
احتج أبو هاشم بأن النفع ممكن من دون الألم فتوسط الألم عبث.
قال أبو علي: النفع المستحق مغاير للمتفضل به وللأول مزية فحسن الألم لتلك المزية، ثم قالا: فعل الملطوف فيه ليس لمنفعة، بل هو مشقة لا بد فيها من الثواب تقابل الملطوف فيه فيبقى الألم خاليا عن نفع يقابله.
قال المكتفون باللطف: إن الثواب المقابل للملطوف فيه يكون مقابلا له وللألم، فحسن الألم من دون العوض.
تذنيب: لو كان في مقدوره تعالى وجود لذة تقوم مقام الألم في كونها لطفا للمكلفين هل يحسن منه تعالى فعل الألم بدل اللذة؟جوزه أبو هاشم لأن الألم يخرج بكونه لطفا، وبالعوض عن كونه ظلما وعبثا ويصير كالمنفعة فيتخير الحكيم.
وبعض المشايخ منع منه وهو الأولى، لأن الألم انما يحسن باعتبار اللطف والعوض إذا لم يكن طريق الا هو، أما مع وجود طريق غير مؤدّ الى ضرر ويكون محصلا للطف فهو أولى ولم يجز فعل الألم.
وهو النفع المستحق الخالي من تعظيم وإجلال، وبقيد الاستحقاق يخرج المتفضل به، وبقيد الخلو يخرج الثواب، وهو إما أن يكون علينا أو عليه تعالى، والأول يكون مساويا للألم، والثاني يكون أزيد منه وهو واجب، خلافا للأشاعرة، والاّ لكان الألم قبيحا وكذلك الألم الذي اباحه اللّه تعالى أو أمر به.
واختلفوا فيما يصدر عن غير العاقل، فذهب بعضهم الى أن العوض عليه تعالى، لأنه مكّنه وجعل فيه ميلا الى ذلك مع إمكان أن لا يجعله كذلك ولم يجعل عقلا يصده عن ذلك ولا جعل له زاجرا يزجره فيكون العوض عليه قطعا.
وذهب من لا تحصيل له الى أن العوض يستحق على المولم، وآخرون قالوا: إنه لا عوض على ذلك، وقاضي القضاة ذهب الى أن العوض على المولم إلا أن يلجئه اللّه تعالى إليه بالجوع وشبهه فيجب العوض عليه لأنه تعالى لم يبعث السباع على المضار ولا الجاءها إليه بل مكنها، ولا ينتقل العوض إليه بالتمكين والا لانتقل العوض علينا إذا مكنا الغير بدفع السيف فقتل آخر، ولأن العوض لو كان عليه تعالى لكان موفيا على الألم فيقبح منّا المنع لها من ذلك.
مسألة: العوض المستحق عليه تعالى قال ابو علي بدوامه، لانه لو كان منقطعا للزم العوض بانقطاعه لحصول الغم بالانقطاع فيدوم الاستحقاق، ولأنه لو استحقه منقطعا لأمكن إيصاله إليه دفعة واحدة، ومثل هذا لا يختار المؤلم لأجله الألم.والوجهان عندي ضعيفان.
أما الأول، فلأنه لا يدل على الاستحقاق دائما بل يدل على لزوم إدامته، لأن انقطاعه يوجب حصول مثله.
وأما الثاني، فضعيف، لأن العوض إنما يجب فعله على وجه يرغب فيه المتألم، فاذا كان لا يرغب في حصوله دفعة وجب إيصاله إليه على التعاقب.
وقال أبو هاشم: بانقطاعه لأنه قد يستحسن الألم مع العوض الزائد المنقطع.
مسألة: العوض المستحق على الظالم يجب على اللّه تعالى استيفائه للمظلوم، لأنه قادر على ذلك وهو متمكن منه مع حسنه بحيث يذم العقلاء من لم يفعل ذلك شاهدا، فلو لا علمهم بوجوب الانتصاف والا لما حسن الذم.
مسألة: قال أبو هاشم وأبو القاسم الكعبي: يجوز أن يمكن اللّه تعالى الظالم من الظلم وإن لم يكن له عوض في الحال.
قال ابو القاسم: ويجوز خروجه من الدنيا من غير تحصيل عوض، ومنعه أبو هاشم، ومنع السيد المرتضى رضي اللّه عنه من ذلك وأوجب العوض في الحال.
قال البلخي: إنه تعالى يجوز أن يتفضل بالعوض عليه فحسن منه التمكين.
قال أبو هاشم: التفضل ليس بواجب والانتصاف واجب ولا يعلق به.
قال السيد المرتضى: والتبعية تفضل فلا يتعلق بها الانتصاف.
الأجل الوقت والوقت هو الحادث الذي جعل علما لحدوث غيره، وأجل الحيوان هو الوقت الذي علم اللّه تعالى أنه يبطل فيه، واختلفوا في المقتول:
فقال ابو الهذيل: إنه لو لم يقتل كان يموت قطعا، وهو منقول عن المجبرة، وقال البغداديون: إنه كان يعيش قطعا.
وذهب البصريون الى أنه يجوز الأمران.
احتج أبو الهذيل: بأنه لو جاز أن يعيش لكان القاتل قد قطع أجله، بمعنى قتله قبل الوقت الذي علم اللّه فيه أنه يموت، والتالي باطل لأن خلاف معلوم اللّه تعالى ممتنع فالمقدم مثله.
وهذا عندي ضعيف، لأن قطع الأجل إنما يكون لو علم اللّه تعالى بقاء حياته، أما مع علمه بالقتل فلا نسلم أنه يكون قاطعا للأجل.
لا يقال: إنه قد قتله قبل الوقت الذي علم أنه يعيش إليه وذلك الوقت هو الأجل.
لأنا نقول: إنه أجل تقديري لا مطلقا بل على تقدير عدم القتل.
واحتج القاطعون بالحياة بأن الإنسان قد يقتل جماعة كثيرة يعلم بمجرى العادة عدم موتهم في وقت واحد، ولأن القاتل حينئذ لا يكون ظالما لأنه يحصل ما
لا بد من حصوله لأنه يكون محسنا بذبح الشاة فلا غرامة.
والجواب عن الأول، المنع من امتناع موتهم والعادة قد تقضي بموت جماعة كثيرة بسبب كالغرق والحرق، ولأنا نجوز عليهم الحياة والموت فلا يرد ما ذكرتم.
وعن الثاني، أن الظلم انما توجه من حيث تجويزنا لحياته مع غلبة ظننا به، فإن الحيوان السليم يعيش في غالب الأوقات، ولأن الظلم حاصل لأنه لو مات من قبله تعالى لحصل له أعواض كثيرة، أما إذا قتله فإن العوض لا يزيد على الألم، وكذا القول في ذبح الشاة.
احتج المجوزون بقوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ .
لا يقال: فنقطع ببقائه لو لم يقتل.
لانا نقول: إنه أثبت حياة منكرة فلا تكون عامة.
البحث التاسع: في الأرزاق والأسعار
حدّ العدلية الرزق بأنه ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منع المنتفع منه، والمجبرة قالوا: إنه ما اكل، ويتفرع على هذا الخلاف الحرام عند المجبرة أنه رزق.
وخالف فيه العدلية مستدلين بقوله تعالى: وَ أَنْفِقُوا مِنْ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ أمر بالإنفاق، والحرام، يأمر اللّه بإنفاقه فليس برزق.
والاعتراض من وجهين:
الأول: ليس صيغة ما للعموم في معرض الجسم.
الثاني: يجوز تخصيص العام بما ذكرتم.
مسألة: منع الصوفية من طلب الرزق، لأن الحلال قد اختلط بالحرام بحيث لا يمكن تمييزه فيجب اجتنابه، ولأن فيه مساعدة للظالمين بطلب الخراج والضمان، ولأنه تعالى أمر بالتوكل وهو ينافي الطلب.
وهذا خيال ضعيف، فإن المكلف إذا عرف الشيء المعين قد اختلط فيه الحلال بالحرام اجتنبه، اما مع فقد العلم فلا، والمساعدة ليست مقصودة بالذات والتوكل لا ينافي الطلب.
مسألة: السعر هو تقدير البدل فيما يباع به الأشياء، وهو على ضربين:
رخص وغلاء، والرخص هو السعر القاصر عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت والمكان، وكل واحد من الرخص والغلاء قد يحصل من قبل اللّه تعالى وقد يحصل من قبل العبد.
اذا علم اللّه تعالى أنه اذا أعطى زيدا مالا انتفع به وليس فيه مفسدة ولا مضرّة ولا وجه قبح، أوجب البغداديون وأبو القاسم الإعطاء ومنع منه البصريون .
احتج الأولون بأنه إن كان الداعي موجودا والصارف مفقودا وجب الفعل، لكن المقدم حق والتالي مثله.
أما الشرطية فظاهرة، وأما بيان صدق المقدم فلأن جهة الإحسان جهة داع وانتفاء المفاسد انتفاء الصارف والتقدير حصولهما.
احتج الآخرون بأن الزائد على ذلك المثال بمثله إذا كان مساويا له في المصلحة إن وجب على اللّه تعالى فعله، فرضنا الزائد، فكان يجب وجود ما لا يتناهى وهو محال، وإن لم يجب لزم الإخلال بالواجب.
اعترض عليهم الأولون بأن الأصلح وإن لم يكن واجبا لكنه حسن اتفاقا وجائز فعله، فيلزم تجويز وجود ما لا يتناهى كما الزمتمونا.
أجاب القاضي بالفرق بين القول بالوجوب الذي يلزم منه وجود ما لا يتناهى وبين الجواز الذي لا يلزم منه ذلك، فإن الجواز لا يستلزم الفعل.
وعندي أن الإلزام غير وارد، لأن الفعل انما يجب على اللّه تعالى من حيث الحكمة إذا كان ممكنا، أما اذا كان ممتنعا فلا، وما لا يتناهى يستحيل إيجاده.
ثم قال البصريون اعتراضا على حجة البغداديين: إنّ الداعي المذكور داعي.
الإحسان وهو لا يوجب وجود الفعل.
واعلم أن البصريين عنوا بقولهم هذا أن الأصلح ليس له جهة وجوب وإن كان يجب اذا حصل الداعي والقدرة وانتفى الصارف.
وقال البصريون: لو وجب الأصلح لوجب علينا فعل النافلة لأنها أنفع.
وهذا غير وارد، لأن الأصلح ليس وجه وجوب بل إنما يجب مع خلوص الدواعي، ونحن نمنع منه لوجود المشقة بخلاف الإحسان منه تعالى فإنه لا مشقة له فيه ويدعوه الداعي وينتفي الصارف فيجب التحقق.