غرض عظيم جليل، وهو الذي تقدم بيانه. ولو كان هذا الغرض غير كاف فيه ولا يخرجه من العبث لما أخرجه من ذلك إذا لم يكن هناك ما يقوم مقامه، وليس لهم أن يقولوا إنه إنما قبح وصار عبثا من حيث كان هناك ما يغني عنه، لأن ذلك يؤدي إلى أن كل فعلين ألمين كانا أو لذتين، أو ليسا بألمين ولا لذتين، أو أفعال تساوت في وجه المصلحة يقبح فعل كل واحد منهما، لأن العلة التي ادعيت حاصلة. وليس له أن يقول إن الألم إنما يقبح إذا كان فيه من المصلحة، مثل ما في فعل هو لذة من حيث كان يغني عنه ما ليس بألم، وذلك أن العوض الذي في مقابلته يخرجه من كونه ضررا ويدخله في أن يكون نفعا، ويجريه على أقل الأحوال مجرى ما ليس بضرر، فقد عاد الأمر إلى أن الألم بالعوض قد ساوى ما ليس بألم وحصل فيه من الغرض المودي إلى المصلحة مثل ما فيه، فيجب أن يكون مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء.
فإن قيل: ما أنكرتم أيكون الفرق بين الأمرين إن اللذة قد يحسن أن يفعل بمجرد كونها لذة، ولا يفتقر في حسن فعلها إلى أمر زايد، والألم ليس كذلك، فإنه لا يحسن أن يكون مجردا ولا بد من أمر زايد يجعله حسنا.
قلنا: هذا فرق بين الأمرين في غير الموضع الذي جمعنا بينهما فيه، لأن غرضنا إنما كان في التسوية بين الألم واللذة إذا كان كل واحد منهما مثل في صاحبه من المصلحة، وأن يحكم بصحة التخيير في الاستصلاح بكل واحد منهما، وإن كنا لا ننكر أن بينهما فرقان من حيث كان أحدهما نفعا يجوز الابتداء به واستحقاق الشكر عليه، والآخر ليس كذلك، إلا أن هذا الوجه وأن لم يكن في الألم فليس يقتضي قبحه، ووجوب فعل اللذة. ألا ترى أن اللذة قد يساويها في المصلحة فعل ما ليس بألم ولا لذة، فيكون المكلف تعالى مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء، وإن كان يجوز ويحسن أن يفعل اللذة بمجردها من غير عوض زايد، ولا يحسن ذلك الفعل الآخر الذي جعلناه في مقابلتها متى تجرد، وإنما يحسن لغرض زايد ولم يخرجهما اختلافهما في هذا الوجه من تساويهما فيما ذكرناه من الحكم. وإذا كانت اللذة قد تساوي
|
فإن قيل: ما أنكرتم ما يكون الاستصلاح بالألم إذا كان هناك ما يستصلح به، وليس بألم يجري في القبيح والعبث مجرى من بذل المال لمن يحتمل عنه ضرب المقارع، ولا غرض له إلا إيصال المال في أن ذلك عبث قبيح؟.
قلنا: أما قبح ما ذكرته فالوجه فيه غير ما ظننته من أن هناك ما يقوم مقامه في الغرض، لأنا قد بينا أن ذلك لو كان هو وجه القبح لكان كل فعل فيه غرض يقوم غيره فيه مقامه عبثا وقبيحا، وقد علمنا خلاف ذلك. وإنما قبح بذل المال لمن يحتمل الضرب، والغرض إيصال المال إليه من حيث حسن أن يبتدئ بدفع المال الذي هو الغرض من غير تكلف الضرب، فصار عبثا وقبيحا من هذا الوجه وليس يمكن مثل ذلك في الألم إذا قابله ما ليس بألم لأن ما فيه من العوض لا يمكن الابتداء به.
|
شعيب عليه السلام
في قول شعيب (ع) استغفروا ربكم ثم توبوا:
(مسألة): فإن قيل: ما معنى قوله تعالى في الحكاية عن شعيب عليه السلام: (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (1) والشئ لا يعطف على نفسه لا سيما بالحرف الذي يقتضي التراخي والمهلة وهو (ثم) وإذا كان الاستغفار هو التوبة فما وجه هذا الكلام؟.
(الجواب): قلنا في هذه الآية وجوه:
أولها: أن يكون المعنى اجعلوا المغفرة غرضكم وقصدكم الذي فيه تجئرون ونحوه يتوجهون، ثم توصلوا إليها بالتوبة إليه، فالمغفرة أول في الطلب وآخر في السبب.
وثانيها: أنه لا يمتنع أن يريد بقوله: (استغفروا ربكم) أي اسألوه التوفيق للمغفرة والمعونة عليها ثم توبوا إليه، لأن المسألة للتوفيق ينبغي أن يكون قبل التوبة.
وثالثها: أنه أراد بثم الواو، والمعنى استغفروا ربكم وتوبوا إليه، وهذان الحرفان قد يتداخلان فيقوم أحدهما مقام الآخرة.
____________
(1) هود الآية 90.
|
وخامسها: أنه خاطب المشركين بالله تعالى فقال لهم: استغفروه من الشرك بمفارقته ثم توبوا إليه، أي ارجعوا إلى الله تعالى بالطاعات وأفعال الخير، لأن الانتفاع بذلك. لأن ذلك لا يكون إلا بتقديم الاستغفار من الشرك ومفارقته. والتائب والآئب والنايب والمنيب بمعنى واحد.
وسادسها: ما أومى إليه أبو علي الجبائي في تفسير هذه الآية لأنه قال أراد بقوله (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) أي أقيموا على التوبة إليه، لأن التائب إلى الله تعالى من ذنوبه يجب أن يكون تائبا إلى الله في كل وقت يذكر فيه ذنوبه بعد توبته الأولى، لأنه يجب أن يكون مقيما على الندم على ذلك، وعلى العزم على أن لا يعود إلى مثله. لأنه لو نقض هذا العزم لكان عازما على العود، وذلك لا يجوز. وكذلك لو نقض الندم لكان راضيا بالمعصية مسرورا بها وهذا لا يجوز. وقد حكينا ألفاظه بأعيانها، حمله على هذا الوجه أنه أراد التكرار والتأكيد والأمر بالتوبة بعد التوبة. كما يقول أحدنا لغيره: " اضرب زيدا ثم اضربه " " وافعل هذا ثم افعل ". وهذا الذي حكينا عن أبي علي أولى مما ذكره في صدر هذه السورة، لأنه قال هناك وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، أن معناه استغفروا ربكم من ذنوبكم السالفة ثم توبوا إليه بعد ذلك من كل ذنب يكون منكم أو معصية، وهذا ليس بشئ، لأنه إذا حمل الاستغفار المذكور في الآية على التوبة فلا معنى لتخصيصه بما سلف دون ما يأتي، لأن التوبة من ذلك أجمع واجبة، ولا معنى أيضا لتخصيص قوله ثم توبوا إليه بالمعاصي المستقبلة دون الماضية، لأن الماضي والمستقبل مما يجب التوبة منه. فالذي حكيناه أو لا عنه أشفى وأولى.
حول إنكاح ابنته (ع):
(مسألة): فإن قيل فما الوجه في عدول شعيب عليه السلام عن جواب
|
(الجواب): إنها لما سألته أن يستأجره ومدحته بالقوة والأمانة، كان كلامها دالا على الترغيب فيه والتقريب منه والمدح له بما يدعو إلى إنكاحه، فبذل له النكاح الذي يقتضي غاية الاختصاص، فما فعله شعيب (ع) في غاية المطابقة لجوابها ولما يقتضيه سؤالها.
في قول شعيب (ع) فإن أتممت عشرا فمن عندك:
(مسألة): فإن قيل فما معنى قول شعيب عليه السلام: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إنشاء الله من الصالحين) (2) وكيف يجوز في الصداق هذا التخيير والتفويض، وأي فايدة للبنت فيما شرط هو لنفسه وليس يعود عليها من ذلك نفع؟.
(الجواب): قلنا: يجوز أن تكون الغنم كانت لشعيب (ع)، وكانت الفايدة باستيجار من يرعاها عائدة عليه، إلا أنه أراد أن يعوض بنته عن قيمة رعيها فيكون ذلك مهرا لها. وأما التخيير فلم يكن إلا ما زاد على الثماني حجج ولم يكن فيما شرطه مقترحا تخيير، وإنما كان فيما تجاوزه وتعداه.
ووجه آخر أنه يجوز أن تكون الغنم كانت للبنت وكان الأب المتولي لأمرها والقابض لصداقها، لأنه لا خلاف أن قبض الأب مهر بنته البكر البالغ جايز،
____________
(1) القصص الآية 26.
(2) القصص الآية 27.
|
ووجه آخر: وهو أن يكون حذف ذكر الصداق، وذكر ما شرطه لنفسه مضافا إلى الصداق، لأنه جائز أن يشترط الولي لنفسه ما يخرج عن الصداق.
وهذا الجواب يخالف الظاهر، لأن قوله تعالى (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) يقتضي ظاهره أن أحدهما جزاء على الآخر.
ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يكون من شريعته عليه السلام العقد بالتراضي من غير صداق معين، ويكون قوله (على أن تأجرني) على غير وجه الصداق. وما تقدم من الوجوه أقوى.
|
موسى عليه السلام
تنـزيه موسى عن العصيان بالقتل:
(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في قتل موسى عليه السلام للقبطي وليس يخلو من أن يكون مستحقا للقتل أو غير مستحق، فإن كان مستحقا فلا معنى لندمه (ع)، وقوله: (هذا من عمل الشيطان) وقوله: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي) (1)، وإن كان غير مستحق فهو عاص في قتله، وما بنا حاجة إلى أن نقول إن القتل لا يكون صغيرة لأنكم تنفون الصغير والكبير من المعاصي عنهم عليهم السلام.
(الجواب): قلنا مما يجاب به عن هذا السؤال إن موسى عليه السلام لم يعتمد القتل ولا أراده، وإنما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته على رجل من عدوه بغى عليه وظلمه وقصد إلى قتله، فأراد موسى (ع) أن يخلصه من يده ويدفع عنه مكروهه، فأدى ذلك إلى القتل من غير قصد إليه، فكل ألم يقع على سبيل المدافعة للظالم من غير أن يكون مقصودا فهو حسن غير قبيح ولا يستحق عليه العوض به، ولا فرق بين أن تكون المدافعة من الانسان عن نفسه، وبين أن يكون عن غيره في هذا الباب والشرط في الأمرين أن يكون
____________
(1) القصص الآية 16.
|
ومن العجب، أن أبا علي الجبائي ذكر هذا الوجه في تفسيره، ثم نسب مع ذلك موسى (ع) إلى أنه فعل معصية صغيرة، ونسب معصيته إلى الشيطان. وقد قال في قوله (رب إني ظلمت نفسي) أي في هذا الفعل الذي لم تأمرني به، وندم على ذلك وتاب إلى الله منه، فيا ليت شعري، ما الذي فعل بما لم يؤمر به، وهو إنما دافع الظالم ومانعه، ووقعت الوكزة منه على وجه الممانعة من غير قصد. ولا شبهة في أن الله تعالى أمره بدفع الظلم عن المظلوم، فكيف فعل ما لم يؤمر به، وكيف يتوب من فعل الواجب؟
وإذا كان يريد أن ينسب المعصية إليه فما الحاجة به إلى ذكر المدافعة والممانعة، وله أن يجعل الوكزة مقصودة على وجه تكون المعصية به صغيرة.
فإن قيل: أليس لا بد أن يكون قاصدا إلى الوكزة وإن لم يكن مريدا بها إتلاف النفس؟.
قلنا: ليس يجب ما ظننته، وكيف يجعل الوكزة مقصودة، وقد بينا الكلام علي أن القصد كان إلى التخليص والمدافعة، ومن كان إنما يريد المدافعة لا يجوز أن يقصد إلى شئ من الضرر، وإنما وقعت الوكزة وهو لا يريدها، إنما أراد التخليص، فأدى ذلك إلى الوكزة والقتل.
ووجه آخر: وهو أن الله تعالى كان عرف موسى عليه السلام استحقاق القبطي للقتل بكفره، وندبه إلى تأخير قتله إلى حال التمكن، فلما رأى موسى (ع) منه الإقدام على رجل من شيعته تعمد قتله تاركا لما ندب إليه من تأخير قتله.
فأما قوله: (هذا من عمل الشيطان) ففيه وجهان:
|
والوجه الآخر: أنه يريد أن عمل المقتول من عمل الشيطان، مفصحا بذلك عن خلافه لله تعالى واستحقاقه للقتل.
وأما قوله (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)، فعلى معنى قول آدم عليه السلام (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (1) والمعنى أحد وجهين: إما على سبيل الانقطاع والرجوع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه وإن لم يكن هناك ذنب، أو من حيث حرم نفسه الثواب المستحق بفعل الندب.
وأما قوله (فاغفر لي) فإنما أراد به: فاقبل مني هذه القربة والطاعة والانقطاع. ألا ترى أن قبول الاستغفار والتوبة يسمى غفرانا؟ وإذا شارك هذا القبول غيره في معنى استحقاق الثواب والمدح به جاز أن يسمى بذلك، ثم يقال لم ذهب إلى أن القتل منه (ع) كان صغيرة، ليس يخلو من أن يكون قتله متعمدا وهو مستحق للقتل، وقتله عمدا وهو غير مستحق، أو قتله خطأ، وهو مستحق. والقسم الأول يقتضي أن لا يكون عاصيا جملة والثاني لا يجوز مثله على النبي (ع)، لأن قتل النفس عمدا بغير استحقاق لو جاز أن يكون صغيرة على بعض الوجوه جاز ذلك في الزنا وعظائم الذنوب، فإن ذكروا في الزنا وما أشبهه التنفير، فهو في القتل أعظم. وإن كان قتله خطأ غير عمد وهو مستحق أو غير مستحق، ففعله خارج من باب القبيح جملة. فما الحاجة إلى ذكر الصغيرة؟.
____________
(1) الأعراف الآية 23.
|
تنـزيه موسى عن الضلالة والاستغفار عن الرسالة:
(مسألة): فإن قيل: كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه: (إنك لغوي مبين)؟.
(الجواب): إن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظا جفاة، ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات لما رأوا من يعبد الأصنام (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) وإنما خرج موسى (ع) خائفا على نفسه من قوم فرعون بسبب قتله القبطي، فرأى ذلك الرجل يخاصم رجلا من أصحاب فرعون فاستنصر موسى (ع)، فقال له عند ذلك إنك لغوي مبين. وأراد أنك خائب في طلب ما لا تدركه وتكلف ما لا تطيقه، ثم قصد إلى نصرته كما نصره بالأمس على الأول، فظن أنه يريده بالبطش لبعد فهمه، فقال له (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) (1). فعدل عن قتله، وصار ذلك سببا لشيوع خبر القبطي بالأمس.
في تنـزيه موسى (ع) عن الضلال:
(مسألة): فإن قيل: فما معنى قول فرعون لموسى (ع): (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) (2) إلى قوله (ع) (فعلتها إذا وأنا من الضالين) (3) وكيف نسب (ع) الضلال إلى نفسه، ولم يكن عندكم في وقت من الأوقات ضالا؟.
(الجواب): قلنا: أما قوله (وأنت من الكافرين) فإنما أراد به
____________
(1) القصص الآية 19.
(2) الشعراء الآية 19.
(3) الشعراء الآية 20.
|
وأما قول موسى (ع) (فعلتها إذا وأنا من الضالين)، فإنما أراد به الذاهبين عن أن الوكزة تأتي على النفس، أو أن المدافعة تفضي إلى القتل.
وقد يسمى الذاهب عن الشئ أنه ضال ويجوز أيضا أن يريد أنني ضللت عن فعل المندوب إليه من الكف عن القتل في تلك الحال والفوز بمنزلة الثواب.
بيان خيفة موسى والوجه فيها:
(مسألة): فإن قيل: كيف جاز لموسى عليه السلام وقد قال تعالى:
(أن ائت القوم الظالمين) أن يقول في الجواب (إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون) (2) وهذا استعفاء عن الرسالة.
(الجواب): أن ذلك ليس باستعفاء كما تضمنه السؤال، بل كان (ع) قد أذن له في أن يسأل ضم أخيه في الرسالة إليه قبل هذا الوقت، وضمنت له الإجابة، ألا ترى إلى قوله تعالى (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نار فقال لأهله امكثوا) إلى قوله (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون) (3) فأجابه الله تعالى إلى مسألته بقوله (فقد أوتيت سؤلك يا موسى). وهذا يدل على أن ثقته بالإجابة إلى مسألته التي قد تقدمت، وكان مأذونا له فيها. فقال: (إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق
____________
(1) الشعراء الآية 18.
(2) الشعراء الآية 12 - 13.
(3) طه الآية 29 - 30.
|
في تنـزيه موسى (ع) عن الكفر والسحر:
(مسألة): فإن قيل: كيف جاز لموسى (ع) أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصي وذلك كفر وسحر وتلبيس وتمويه، والأمر بمثله لا يحسن؟.
(الجواب): قلنا لا بد من أن يكون في أمره عليه السلام بذلك شرط، فكأنه قال ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين، وكانوا فيما يفعلونه حجة. وحذف الشرط لدلالة الكلام عليه واقتضاء الحال له، وقد جرت العادة باستعمال هذا الكلام محذوف الشرط، وإن كان الشرط مرادا، وليس يجري هذا مجرى قوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) (1) وهو يعلم أنهم لا يقدرون على ذلك وما أشبه هذا الكلام من ألفاظ التحدي، لأن التحدي وإن كان بصورة الأمر لكنه ليس بأمر على الحقيقة ولا تصاحبه إرادة الفعل، فكيف تصاحبه الإرادة والله تعالى يعلم استحالة وقوع ذلك منهم وتعذره عليهم وإنما التحدي لفظ موضوع لإقامة الحجة على المتحدي وإظهار عجزه وقصوره عما تحدى به، وليس هناك فعل يتناوله إرادة الأمر بإلقاء الحبال والعصي بخلاف ذلك، لأنه مقدور ممكن. فليس يجوز أن يقال أن المقصود به هو أن يعجزوا بها عن إلقائها ويتعذر عليهم ما دعوا إليه، فلم يبق بعد ذلك إلا أنه أمر بشرط، ويمكن أن يكون على سبيل التحدي بأن يكون دعاهم إلى الإلقاء على وجه يساوونه فيه، ولا يخيلون فيما ألقوه من السعي والتصرف من غير أن يكون له حقيقة، لأن ذلك غير مساو لما ظهر على يده من انقلاب الجماد حية على الحقيقة دون التخييل. وإذا كان ذلك ليس في مقدورهم فإنما تحداهم به لتظهر حجته ويوجه دلالته وهذا واضح، وقد بين الله تعالى
____________
(1) البقرة الآية 23.
|
تنـزيه موسى (ع) عن الخوف:
(مسألة) فإن قيل: فمن أي شئ خاف موسى عليه السلام حتى حكى الله تعالى عنه الخيفة في قوله عز وجل: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) (2) أوليس خوفه يقتضي شكه في صحة ما أتى به؟.
(الجواب): قلنا: لم يخف من الوجه الذي تضمنه السؤال، وإنما رأى من قوة التلبيس والتخييل ما أشفق عنده من وقوع الشبهة على من لم يمعن النظر، فأمنه الله تعالى من ذلك وبين له أن حجته ستتضح للقوم بقوله تعالى: (لا تخف إنك أنت الأعلى) (3).
تنـزيه موسى عن نسبة الاضلال لله تعالى:
(مسألة): فإن قال: فما معنى قوله تعالى حاكيا عن موسى (ع):
(ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (4).
____________
(1) الأعراف الآيات 113 - 119.
(2) طه الآية 67.
(3) طه الآية 68.
(4) يونس الآية 88.
|
أولها أنه أراد لئلا يضلوا عن سبيلك، فحذف (لا) وهذا له نظائر كثيرة في القرآن، وكلام العرب فمن ذلك قوله تعالى: (وإن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) وإنما أراد (لئلا تضل) وقوله تعالى: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)، وقوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم).
وقال الشاعر:
نزلتم منزل الأضياف منا | فعجلنا القرى أن تشتمونا |
والمعنى أن لا تشتمونا.
فإن قيل: ليس هذا نظيرا لقوله تعالى (ربنا ليضلوا عن سبيلك) لأنكم حذفتم في الآية (أن) و (لا) معا وما استشهدتم به إنما حذف منه لفظة (لا) فقط.
قلنا: كلما استشهدنا به فقد حذف فيه الكلام ولا معا، ألا ترى أن تقدير الكلام لئلا تشتمونا. وفي الآية إنما حذف أيضا حرفان وهما أن ولا، وإنما جعلنا حذف الكلام فيما استشهدنا به بإزاء حذف أن في الآية من حيث كانا جميعا ينبئان عن الغرض ويدلان على المقصود ألا ترى أنهم يقولون جئتك لتكرمني، كما تقولون جئتك أن تكرمني. والمعنى أن غرضي الكرامة، فإذا جاز أن يحذفوا أحد الحرفين جاز أن يحذفوا الآخر.
ثانيها: إن اللام ها هنا لام العاقبة وليست لام الغرض، ويجري مجرى قوله تعالى (فالتقطة آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) وهم لم يلتقطوه
____________
(1) القصص الآية 8.
|
وللموت تغذو الوالدات سخالها | كما لخراب الدور تبنى المساكن |
ونظائر ذلك كثيرة. فكأنه تعالى لما علم أن عاقبة أمرهم الكفر، وأنهم لا يموتون إلا كفارا، وأعلم ذلك نبيه، حسن أن يقول إنك آتيتهم الأموال ليضلوا.
وثالثها: أن يكون مخرج الكلام مخرج النفي والانكار على من زعم أن الله تعالى فعل ذلك ليضلهم، ولا يمتنع أن يكون هناك من يذهب إلى مذهب المجبرة (1) في أن الله تعالى يضل عن الدين، فرد بهذا الكلام عليه كما يقول أحدنا: إنما آتيت عبدي من الأموال ما آتيته ليعصيني ولا يطيعني، وهو إنما يريد الإنكار على من يظن ذلك به، ونفي إضافة المعصية إليه.
وهذا الوجه لا يتصور إلا على الوجهين: إما بأن يقدر فيه الاستفهام وإن حذف حرفه، أو بأن يكون اللام في قوله (ليعصيني) لام العاقبة التي قد تقدم بيانها. ومتى رفعنا من أوهامنا هذين الوجهين، لم يتصور كيف يكون الكلام خارجا مخرج النفي والانكار.
ورابعها: أن يكون أراد الاستفهام، فحذف حرفه المختص به، وقد حذف حرف الاستفهام في أماكن كثيرة من القرآن. وهذا الجواب يضعف لأن حرف الاستفهام لا يكاد يحذف إلا وفي الكلام دلالة عليه وعوض عنه، مثل قول الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط | غلس الظلام من الرباب خيالا |
لأن لفظة أم يقتضي الاستفهام، وقد سأل أبو علي الجبائي نفسه عن هذا السؤال في التفسير، وأجاب عنه بأن في الآية ما يدل على حذف حرف
____________
(1) المجبرة: أو الجبرية: فرقة تنسب إلى جهم بن صفوان تقول أن الانسان مجبر في أعماله.
|
وهذا ليس بشئ، لأن دليل العقل وإن كان أقوى من كل دليل يصحب الكلام، فإنه ليس يقتضي في الآية أن يكون حرف الاستفهام منها محذوفا لا محالة. لأن العقل إنما يقتضي تنزيه الله تعالى عن أن يكون مجربا بشئ من أفعاله إلى إضلال العباد عن الدين، وقد يمكن صرف الآية إلى ما يطابق دليل العقل من تنزيهه تعالى عن القبيح، من غير أن يذكر الاستفهام ويحذف حرفه. وإذا كان ذلك ممكنا لم يكن في العقل دليل على حذف حرف الاستفهام، وإنما يكون فيه دليل على ذلك لو كان يتعذر تنزيهه تعالى عن إرادة الضلال، إلا بتقدير الاستفهام.
فأما قوله تعالى: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (1) فأجود ما قيل فيه أنه عطف على قوله (ليضلوا) وليس بجواب لقوله (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) (2) وتقدير الكلام (ربنا إنك أتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.) وهذا الجواب يطابق أن يكون اللام للعاقبة، وأن يكون المعنى فيها لئلا يضلوا أيضا.
وقال قوم إنه أراد (فلن يؤمنوا) فأبدل الألف من النون الخفيفة.
كما قال الأعشى:
وصل علي حين العشيات والضحى | ولا تحمد المثرين والله فاحمدا |
أراد فاحمدن، فأبدل النون ألفا، وكما قال عمر بن أبي ربيعة:
وقمير بدا ابن خمس وعشرين | له قالت الفتاتان قوما |
____________
(1) يونس الآية 88.
(2) يونس الآية 88.
|
وقد ذكر أبو علي الجبائي أن قوما من أهل اللغة قالوا أنه تعالى نصب قوله تعالى: (فلا يؤمنوا) وحذف منه النون. وهو يريد في المعنى " ولا يؤمنون " على سبيل الخبر عنهم، لأن قوله تعالى (فلا يؤمنوا) وقع موقع جواب الأمر الذي هو قوله: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) فلما وقع موقع جواب الأمر وفيه الفاء، نصبه بإضمار أن، لأن جواب الأمر بالفاء منصوب في اللغة. فنصب هذا لما أجراه مجرى الجواب، وإن لم يكن في الحقيقة جوابا. ومثله قول القائل " أنظر إلى الشمس تغرب " (بالجزم)، وتغرب ليس هو جواب الأمر على الحقيقة، لأنها لا تغرب لنظر هذا الناظر، ولكن لما وقع موقع الجواب أجراه مجراه في الجزم، وإن لم يكن جوابا في الحقيقة.
وقد ذكر أبو مسلم محمد بن بحر في هذه الآية وجها آخر، وهو من أغرب ما ذكر فيها، قال: إن الله تعالى إنما آتى فرعون وملأه الزينة والأموال في الدنيا على طريق العذاب لهم والانتقام منهم لما كانوا عليه من الكفر والضلال، وعلمه من أحوالهم في المستقبل من أنهم لا يؤمنون. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (1). فسأل موسى عليه
____________
(1) التوبة الآية 55.
|
تنـزيه موسى عن سؤال الرؤية لنفسه:
(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) (1) أوليس هذه الآية تدل على جواز الرؤية عليه تعالى لأنها لو لم تجز لم يسغ أن يسألها موسى (ع) كما يجوز أن يسأله اتخاذ الصاحبة والولد؟.
(الجواب): قلنا: أولى ما أجيب به عن هذه الآية أن يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه، وإنما سألها لقومه. فقد روي أن قومه طلبوا ذلك منه، فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه تعالى. فلجوا به وألحوا عليه في أن يسأل الله تعالى أن يريهم نفسه، وغلب في ظنه أن الجواب إذا ورد من جهته جلت عظمته كان أحسم للشبهة وأنفى لها، فاختار السبعين الذين حضروا للميقات لتكون المسألة بمحضر منهم، فيعرفوا ما يرد من الجواب، فسئل عليه السلام على ما نطق به القرآن، وأجيب بما يدل على أن الرؤية لا يجوز عليه عز وجل.
ويقوي هذا الجواب أمور:
منها: قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) (2).
____________
(1) الأعراف 143.
(2) النساء 153.