تنـزيه الأئمة عليهم السلام
أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام
حول نص النبي صلى الله عليه وآله على خلافة علي (ع) وعدم منازعته للمتآمرين:
(مسألة): ان قال قائل إذا كان من مذهبكم يا معشر القائلين بالنص ان النبي صلى الله عليه وآله نص على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة بعده، وفوض إليه امر أمته، فما باله لم ينازع المتآمرين بعد النبي في الامر الذي وكل إليه وعول في تدبيره عليه أوليس هذا منه اغفالا لواجب لا يسوغ اغفاله؟ فإن قلتم انه لم يتمكن من ذلك فهلا اعذر وأبلى واجتهد، فإنه إذا لم يصل إلى مراده بعد الاعذار والاجتهاد كان معذورا. أوليس هو عليه السلام الذي حارب أهل البصرة وفيهم زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله، وطلحة والزبير، ومكانهما من الصحبة والاختصاص والتقدم مكانهما، ولم يحشمه ظواهر هذه الأحوال من كشف القناع في حربهم حتى اتى على نفوس أكثر أهل العسكر، وهو المحارب لأهل صفين مرة بعد أخرى مع تخاذل أصحابه وتواكل أنصاره، وانه (ع) كان في أكثر مقاماته تلك وموقفه لا يغلب في ظنه الظفر ولا يرجو لضعف من معه النصر. وكان عليه السلام مع ذلك كله مصمما ماضيا قدما لا
|
وبعد، فكيف لم يقنع بالكف عن التفكير والعدول عن المكاشفة والمجاهرة حتى بايع القوم وحضر مجالسهم، ودخل في آرائهم وصلى مقتديا بهم، وأخذ عطيتهم ونكح من سبيهم وانكحهم، ودخل في الشورى التي هي عندكم مبنية على غير تقوى، فما الجواب عن جميع ذلك اذكروه، فإن الامر فيه مشتبه والخطب ملتبس؟.
(الجواب): قلنا أما الكلام على ما تضمنه هذا السؤال فهو مما يخص الكلام في الإمامة، وقد استقصيناه في كتابنا المعروف بالشافي في الإمامة، وبسطنا القول فيه في هذه الأبواب ونظائرها بسطا يزيل الشبهة ويوضح الحجة، لكنا لا نخلي هذا الكتاب من حيث تعلق غرضه بهذه المواضع من إشارة إلى طريقة الكلام فيها.
فنقول: قد بينا في صدر هذا الكتاب ان الأئمة عليهم السلام معصومون من كبائر الذنوب وصغائرها، واعتمدنا في ذلك على دليل عقلي لا يدخله احتمال ولا تأويل بشئ، فمتى ورد عن أحدهم عليهم السلام فعل له ظاهر الذنب، وجب ان نصرفه عن ظاهره ونحمله على ما يطابق موجب الدليل العقلي فيهم، كما فعلنا مثل ذلك في متشابه القرآن المقتضي ظاهره ما لا يجوز على الله تعالى، وما لا يجوز على نبي من أنبيائه عليهم السلام.
فإذا ثبت ان أمير المؤمنين عليه السلام إمام فقد ثبت بالدليل العقلي أنه معصوم عن الخطأ والزلل، فلابد من حمل جميع افعاله على جهات الحسن ونفي القبيح عن كل واحد منها. وما كان له منها ظاهر يقتضي الذنب علمنا
|
فان قيل: فما يمنع من أن يكون انكار المنكر مشروطا بما ذكرتم، إلا أنه لابد لارتفاع التمكن وخوف الضرر عن الدين والنفس من امارات لايحة ظاهرة يعرفها كل أحد، ولم يكن هناك شئ من امارات الخوف وعلامات وقوع الفساد في الدين. وعلى هذا فليس تنفعكم الجملة التي ذكرتموها لان التفصيل لا يطابقها.
قلنا: أول ما نقوله ان الامارات التي يغلب معها الظن بأن انكار المنكر يؤدي إلى الضرر، انما يعرفها من شهد الحال وحضرها واثرت في ظنه، وليست مما يجب ان يعلمها الغائبون عن تلك المشاهدة. ومن اتى بعد ذلك الحال بالسنين المتطاولة. وليس من حيث لم تظهر لنا تلك الامارات ولم
|
وبعد، فان الذي نذهب إليه من سبب التقية والخوف مما لابد منه، إذا فرضوا ان مذهبنا في النص صحيح، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد نص على أمير المؤمنين (ع) بالإمامة في مقام بعد مقام وبكلام لا يحتمل
|
وإذا فرضنا ان ذلك إليه، جاء منه كل الذي ذكرناه. ثم يقال لهم إذا سلمتم ان وجوب انكار المنكر مشروط بما ذكرناه من الشروط، فلم أنكرتم ان يكون أمير المؤمنين عليه السلام انما أحجم عن المجاهدة بالانكار، لان شروط انكار المنكر لم تتكامل، إما لأنه كان خائفا على نفسه أو على من يجري مجرى نفسه، أو مشفقا من وقوع ضرر في الدين هو أعظم مما أنكره. وما المانع من أن يكون الامر جرى على ذلك؟.
|
قلنا: وأي امارة للخوف هي أقوى من الاقدام على خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله في أوثق عهوده وأقوى عقوده، والاستبداد بأمر لاحظ لهم فيه. وهذه الحال تخرج من أن يكون امارة في ارتفاع الحشمة من القبيح إلى أن يكون دلالة، وإنما يسوغ أن يقال لا امارة هناك تقتضي الخوف وتدعو إلى سوء الظن إذا فرضنا ان القوم كانوا على أحوال السلامة متضافرين متناصرين متمسكين بأوامر الرسول صلى الله عليه وآله، جارين على سنته وطريقته. فلا يكون لسوء الظن عليهم مجال ولا لخوف من جهتهم طريق.
فأما إذا فرضنا انهم دفعوا النص الظاهر وخالفوه وعملوا بخلاف مقتضاه، فالامر حينئذ منعكس منقلب وحسن الظن لا وجه له، وسوء الظن هو الواجب اللازم. فلا ينبغي للمخالفين لنا في هذه المسألة ان يجمعوا بين المتضادات، ويفرضوا ان القوم دفعوا النص وخالفوا موجبه، وهم مع ذلك على أحوال السلامة المعهودة منهم التي تقتضي من الظنون بهم أحسنها وأجملها على أنا لا نسلم انه (ع) لم يقع منه إنكار على وجه من الوجوه، فإن الرواية متظافرة بأنه عليه السلام لم يزل يتظلم ويتألم ويشكو أنه مظلوم ومقهور في مقام بعد مقام وخطاب بعد خطاب. وقد ذكرنا تفصيل هذه الجملة في كتابنا الشافي في الإمامة وأوردنا طرفا مما روي في هذا الباب، وبينا ان كلامه (ع) في هذا المعنى يترتب في الأحوال بحسب ترتبها في الشدة واللين، فكان المسموع من كلامه عليه السلام في أيام أبي بكر لا سيما في صدرها، وعند ابتداء البيعة له ما لم يكن مسموعا في أيام عمر، ثم صرح عليه السلام وبين وقوى تعريضه في أيام عثمان، ثم انتهت الحال في أيام تسليم الامر إليه إلى أنه (ع) ما كان يخطب خطبة ولا يقف موقفا الا ويتكلم فيه بالألفاظ المختلفة والوجوه المتباينة، حتى اشترك في معرفة ما في نفسه الولي والعدو والقريب والبعيد. وفي بعض ما كان (ع) بيديه ويعيده
|
فأما محاربة أهل البصرة، ثم أهل صفين، فلا يجري مجرى التظاهر بالانكار على المتقدمين عليه (ع)، لأنه وجد على هؤلاء أعوانا وأنصارا يكثر عددهم ويرجي النصر والظفر بمثلهم، لان الشبهة في فعلهم وبغيهم كانت زايلة عن جميع الأماثل وذوي البصائر، ولم يشتبه امرهم إلا على اغنام وطغام ولا اعتبار بهم ولا فكر في نصرة مثلهم. فتعين الغرض في قتالهم ومجاهدتهم للأسباب التي ذكرناها. وليس هذا ولا شئ منه موجودا فيمن تقدم، بل الامر فيه بالعكس مما ذكرناه لان الجمهور والعدد الجم الكثير، كانوا على موالاتهم وتعظيمهم وتفضيلهم وتصويبهم في أقوالهم وافعالهم. فبعض للشبهة وبعض للانحراف عن أمير المؤمنين عليه السلام والحبة لخروج الامر عنه، وبعض لطلب الدنيا وحطامها ونيل الرياسات فيها. فمن جمع بين الحالتين وسوى بين الوقتين كمن جمع بين المتضادين. وكيف يقال هذا ويطلب منه (ع) من الانكار على من تقدم مثل ما وقع منه (ع) متأخرا في صفين والجمل، وكل من حارب معه (ع) في هذه الحروب، إلا القليل كانوا قائلين بامامة المتقدمين عليه (ع) ومنهم من يعتقد تفضيلهم على سائر الأمة، فكيف يستنصر ويتقوى في اظهار الانكار على من تقدم بقوم هذه صفتهم، وابن الانكار على معاوية وطلحة وفلان وفلان من الانكار على أبي بكر وعمر وعثمان لولا الغفلة والعصبية، ولو أنه (ع) يرجو في حرب الجمل وصفين وسائر حروبه ظفرا، وخاف من ضرر في الدين عظيم هو أعظم مما ينكره، لما كان إلا ممسكا ومحجما كسنته فيمن تقدم.
في بيعة علي للمتآمرين:
فأما البيعة، فإن أريد بها الرضا والتسليم، فلم يبايع أمير المؤمنين عليه السلام القوم بهذا التفسير على وجه من الوجوه. ومن ادعى ذلك كانت عليه
|
وانما دعاه إلى الصفقة واظهار التسليم ما ذكرناه من الأمور التي بعضها يدعو إلى مثل ذلك.
في حضوره مجالسهم:
واما حضور مجالسهم فما كان عليه الصلاة والسلام ممن يتعمدها ويقصدها، وانما كان يكثر الجلوس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فيقع الاجتماع مع القوم هنا، وذلك ليس بمجلس لهم مخصوص.
وبعد، فلو تعمد حضور مجالسهم لينهى عن بعض ما يجري فيها من منكر، فإن القوم قد كانوا يرجعون إليه في كثير من الأمور، لجاز ولكان للحضور وجه صحيح له بالدين علقه قوية. فأما الدخول في آرائهم، فلم يكن عليه السلام ممن يدخل فيها إلا مرشدا لهم ومنبها على بعض ما شذ عنهم، والدخول بهذا الشرط واجب.
في الصلاة خلفهم:
وأما الصلاة خلفهم، فقد علمنا أن الصلاة على ضربين: صلاة مقتد مؤتم بامامه على الحقيقة، وصلاة مظهر للاقتداء والائتمام وإن كان لا ينويها فإن ادعي على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام انه صلى ناويا للاقتداء، فيجب ان يدلوا على ذلك، فإنا لا نسلمه ولا هو الظاهر الذي لا يمكن النزاع فيه. وان ادعوا صلاة مظهر للاقتداء فذلك مسلم لهم، لأنه الظاهر. إلا أنه غير نافع فيما يقصدونه، ولا يدل على خلاف ما يذهب إليه في امره (ع)، فلم يبق إلا أن يقال فما العلة في اظهار الاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به؟ فالعلة في ذلك غلبة القوم على الامر وتمكنهم من الحل والعقد، لان الامتناع من اظهار الاقتداء بهم مجاهرة ومنابذة، وقد قلنا فيما
|
في أخذه أعطيتهم:
فأما أخذه الأعطية، فما اخذ عليه السلام إلا حقه ولا سأل على من اخذ ما يستحقه، اللهم الا ان يقال إن ذلك المال لم يكن وديعة له (ع) في أيديهم ولا دينا في ذممهم، فيتعين حقه ويأخذه كيف شاء وأنى شاء. لكن ذلك المال انما يكون حقا له إذا كان الجابي لذلك المال والمستفيد له ممن قد سوغت الشريعة جبايته وغنيمته، إن كان من غنيمة. والغاصب ليس له ان يغنم ولا ان يتصرف التصرف المخصوص الذي يفيد المال.
عن ذلك انا نقول: ان تصرف الغاصب لامر الأمة إذا كان عن قهر وغاية، وسوغت الحال للأمة الامساك عن النكير خوفا وتقية يجري في الشرع مجرى تصرف المحق في باب جواز اخذ الأموال التي تفئ على يده، ونكاح السبي وما شاكل ذلك. وإن كان هو لذلك الفعل موزورا معاقبا، وهذا بعينه عليه نص عن أئمتنا عليهم السلام لما سئلوا عن النكاح في دول الظالمين والتصرف في الأموال.
في نكاح السبي:
فأما ما ذكر في السؤال من نكاح السبي فقد قلنا في هذا الباب ما فيه كفاية لو اقتصرنا عليه لكنا نزيد في الامر وضوحا، بأن نقول ليس المشار بذلك فيه الا إلى الحنفية أم محمد رضي الله عنه، وقد ذكرنا في كتابنا المعروف بالشافي انه عليه السلام لم يستبحها بالسبي بل نكحها ومهرها، وقد وردت الرواية من طريق العامة فضلا عن طريق الخاصة بهذا بعينه فان البلاذري (1) روى في كتابه المعروف بتاريخ الاشراف، عن علي بن المغيرة بن
____________
(1) البلاذري: (أحمد بن يحيى) مؤرخ عربي ولد في بغداد ودرس فيها، واشتهر بالنقل عن الفارسية. أهم مصنفاته كتاب فتوح البلدان وكتاب أنساب الأشراف. اعترف له الجميع بصحة الرواية والنقد.
|
فأما انكاحه عليه السلام إياها، فقد ذكرنا في كتابنا الشافي، الجواب عن هذا الباب مشروحا، وبينا انه (ع) ما أجاب عمر إلى انكاح بنته إلا بعد توعد وتهدد ومراجعة ومنازعة بعد كلام طويل مأثور، اشفق معه من شؤون الحال ظهور ما لا يزال يخفيه منها، وان العباس رحمة الله عليه لما رأى أن الامر يفضي إلى الوحشة ووقوع الفرقة سأله (ع) رد أمرها إليه ففعل، فزوجها منه. وما يجري على هذا الوجه معلوم معروف انه على غير اختيار ولا إيثار. وبينا في الكتاب الذي ذكرناه انه لا يمتنع ان يبيح الشرع ان يناكح بالاكراه ممن لا يجوز مناكحته مع الاختيار، لا سيما إذا كان المنكح مظهرا للاسلام والتمسك بسائر الشريعة. وبينا أن العقل لا يمنع من مناكحة الكفار على سائر أنواع كفرهم، وانما المرجع فيما يحل من ذلك أو يحرم إلى الشريعة. وفعل أمير المؤمنين عليه السلام أقوى حجة في احكام الشرع، وبينا الجواب عن الزامهم لنا، فلو اكره على انكاح اليهود والنصارى لكان
|
فأما الدخول في الشورى، فقد بينا في كتابنا المقدم ذكره الكلام فيه مستقصى، ومن جملته انه عليه السلام لولا الشورى لم يكن ليتمكن من الاحتجاج على القوم بفضائله ومناقبه. والأخبار الدالة على النص بالإمامة عليه، وبما ذكرناه في الأمور التي تدل على أن أسبابه إلى الإمامة أقوى من أسبابهم، وطرقه إلى تناولها أقرب من طرقهم، ومن كان يصغي لولا الشورى إلى كلامه المستوفى في هذا المعنى. وأي حال لولاها لكانت يقتضي ذكر ما ذكره من المقامات والفضائل، ولو لم يكن في الشورى من الغرض الا هذا وحده لكان كافيا مغنيا.
وبعد، فان المدخل له في الشورى هو الحامل له على اظهار البيعة للرجلين، والرضا بإمامتهما وامضاء عقودهما، فكيف يخالف في الشورى ويخرج منها وهي عقد من عقود من لم يزل (ع) ممضيا في الظاهر لعقوده حافظا لعهوده، وأول ما كان يقال له انك انما لا تدخل في الشورى لاعتقادك ان الإمامة إليك، وان اختيار الأمة للامام بعد الرسول باطل، وفي هذا ما فيه. والامتناع من الدخول يعود إليه، ويحمل عليه. وقد قال قوم من أصحابنا انه انما دخل فيها تجويز ان ينال الامر منها. ومعلوم ان كل سبب ظن معه، أو جواز الوصول إلى الامر الذي قد تعين عليه القيام به يلزمه (ع) التوصل به الهجرة له. وهذه الجملة كافية في الجواب عن جميع ما تضمنه السؤال.
|
عن عدم افتائه بمذاهبه في أيام المتآمرين:
(مسألة): فإن قيل: إذا كنتم تروون عنه (ع) وتدعون عليه في أحكام الشريعة مذاهب كثيرة لا يعرفها الفقهاء له مذهبا، وقد كان عليه السلام عندكم يشاهد الامر يجري بخلافها، فإلا أفتى بمذاهبه ونبه عليها وارشد إليها. وليس لكم ان تقولوا انه (ع) استعمل التقية كما استعملها فيما تقدم، لأنه (ع) قد خالفهم في مذاهب استبد بها وتفرد بالقول فيها، مثل قطع السارق من الأصابع، وبيع أمهات الأولاد، ومسائل في الحدود، وغير ذلك مما مذهبه (ع) فيه إلى الآن معروف. فكيف اتقى في بعض وأمن في آخر؟ وحكم الجميع واحد في أنه خلاف في احكام شرعية لا يتعلق بإمامة ولا تصحيح نص ولا ابطال اختيار؟
(الجواب): قلنا: لم يظهر أمير المؤمنين عليه السلام في أحكام الشريعة خلافا للقوم إلا بحيث كان له موافق وان قل عدده، أو بحيث علم أن الخلاف لا يؤول إلى فساد ولا يقتضي إلى مجاهرة ولا مظاهرة. وهذه حال يعلمها الحاضر بالمشاهدة أو يغلب على ظنه فيها ما لا يعلمه الغائب ولا يظنه، واستعمال القياس فيما يؤدي إلى الوحشة بين الناس ونفار بعضهم من بعض لا يسوغ، لأنا قد نجد كثيرا من الناس يستوحشون في أن يخالفوا في مذهب من المذاهب غاية الاستيحاش، وان لم يستوحشوا من الخلاف فيما هو أعظم منه وأجل موقعا، ويغضبهم في هذا الباب الصغير ولا يغضبهم الكبير. وهذا انما يكون لعادات جرت وأسباب استحكمت، ولاعتقادهم ان بعض الأمور وان صغر في ظاهره، فإنه يؤدي إلى العظائم والكبائر. أو لاعتقادهم ان الخلاف في بعض الأشياء وإن كان في ظاهر الامر كالخلاف في غيره، لا يقع الا مع معاند منافس. وإذا كان الامر على ما ذكرناه لم ينكر أن يكون أمير المؤمنين (ع) انما لم يظهر في جميع مذاهبه التي خالف فيها القوم اظهارا واحدا، لأنه (ع) علم أو غلب في ظنه ان اظهار ذلك يؤدي من
|
" اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي " يعني (ع) من تقدم موته من أصحابه والمخلصين من شيعته الذين قبضهم الله تعالى وهم على أحوال التقية والتمسك باطنا بما أوجب الله جل اسمه عليهم التمسك به. وهذا واضح فيما قصدناه. وقد تضمن كلامنا هذا الجواب عن سؤال من يسأل عن السبب في امتناعه عليه السلام من رد فدك إلى يد مستحقها لما افضى التصرف في الإمامة إليه (ع).
|
في مسألة التحكيم:
(مسألة): فان قيل: فما الوجه في تحكيمه عليه السلام أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص؟ وما العذر في أن حكم في الدين الرجال. وهذا يدل على شكه في إمامته وحاجته إلى علمه بصحة طريقته؟ ثم ما الوجه في تحكيمه فاسقين عنده عدوين له. أوليس قد تعرض لذلك ان يخلعا إمامته ويشككا الناس فيه وقد مكنهما من ذلك بأن حكمهما، وكانا غير متمكنين منه ولا أقوالهما حجة في مثله؟ ثم ما العذر في تأخره جهاد المرقة الفسقة وتأجيله ذلك مع امكانه واستظهاره وحضور ناصره؟ ثم ما الوجه في محو اسمه من الكتاب بالإمامة وتنظيره لمعاوية في ذكر نفسه بمجرد الاسم المضاف إلى الأب كما فعل ذلك به، وأنتم تعلمون ان بهذه الأمور ضلت الخوارج مع شدة تخشنها في الدين وتمسكها بعلائقه ووثايقه؟.
(الجواب): قلنا كل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز ان نرجع عنه ونتشكك فيه لأجل امر محتمل، وقد ثبت امامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ وبراءته من الذنوب والعيوب بأدله عقلية وسمعية، فليس يجوز ان نرجع عن ذلك اجمع، ولا عن شئ منه، لما وقع من التحكيم للصواب بظاهره، وقبل النظر فيه كاحتماله للخطأ ولو كان ظاهره أقرب إلى الخطأ وأدنى إلى مخالفة الصواب، بل الواجب في ذلك القطع على مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل، أو صرف ماله ظاهر عن ظاهره، والعدول به إلى موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل. وهذا فعلنا فيما ورد من آي القرآن التي تخالف بظاهرها الأدلة العقلية مما يتعلق به الملحدون أو المجبرة أو المشبهة، وهذه جملة قد كررنا ذكرها في كتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لكانت مغنية كافية، كما انها كذلك فيما ذكرناه من الأصول. لكننا نزيد وضوحا في تفصيلها ولا نقتصر عليها كما لم نفعل ذلك
|
فنقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام ما حكم مختارا، بل أحوج إلى التحكيم وألجئ إليه لان أصحابه (ع) كانوا من التخاذل والتقاعد والتواكل إلا القليل منهم على ما هو معروف مشهور، ولما طالت الحرب وكثر القتل وجل الخطب ملوا ذلك وطلبوا مخرجا من مقارعة السيوف، واتفق من رفع أهل الشام المصاحف والتماسهم الرجوع إليها واظهارهم الرضا بما فيها ما اتفق، بالحيلة التي نصبها عدو الله عمرو بن العاص، والمكيدة التي كادبها لما أحس بالبوار وعلو كلمة أهل الحق، وأن معاوية وجنده مأخوذون قد علتهم السيوف ودنت منهم الحتوف، فعند ذلك وجد هؤلاء الأغنام طريقا إلى الفرار وسبيلا إلى وقوف أمر المناجزة. ولعل فيهم من دخلت عليه الشبهة لبعده عن الحق وغلط فهمه، وظن أن الذي دعى إليه أهل الشام من التحكيم وكف الحرب على سبيل البحث عن الحق الاستسلام للحجة لا على وجه المكيدة والخديعة، فطالبوه عليه السلام بكف الحرب والرضا بما بذله القوم فامتنع (ع) من ذلك امتناع عالم بالمكيدة ظاهر على الحيلة، وصرح لهم بأن ذلك مكر وخداع، فأبوا ولجوا فأشفق (ع) في الامتناع عليهم والخلاف لهم وهم جم عسكره وجمهور أصحابه من فتنة صماء هي أقرب إليه من حرب عدوه، ولم يأمن ان يعتدى ما بينه وبينهم إلى أن يسلموه إلى عدوه أو يسفكوا دمه، فأجاب إلى التحكيم على مضض. ورد من كان قد اخذ بخناق معاوية وقارب تناوله وأشرف على التمكن منه، حتى أنهم قالوا للأشتر رحمه الله تعالى وقد امتنع من أن يكف عن القتال وقد أحس بالظفر وأيقن بالنصر، أتحب انك ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين عليه السلام بمكانه قد سلم إلى عدوه وتفرق أصحابه عنه. وقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام عند رفعهم المصاحف اتقوا الله وامضوا على حقكم، فإن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وانا
|
فأجاب (ع) إلى التحكيم دفعا للشر القوي بالشر الضعيف، وتلافيا للضرر الأعظم بتحمل الضرر الأيسر، وأراد ان يحكم من جهته عبد الله بن العباس رحمة الله عليه فأبوا عليه ولجوا كما لجوا في أصل التحكيم، وقالوا لابد من يماني مع مضري. فقال (ع) فضموا الأشتر وهو يماني إلى عمرو، فقال الأشعث بن قيس: الأشتر هو الذي طرحنا فيما نحن فيه. واختاروا أبا موسى مقترحين له (ع) ملزمين له تحكيمه، فحكمهما بشرط ان يحكما بكتاب الله تعالى ولا يتجاوزاه، وانهما متى تعدياه فلا حكم لهما.
هذا غاية التحرز ونهاية التيقظ، لأنا نعلم أنهما لو حكما بما في الكتاب لاصابا الحق. وعلمنا ان أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام أولى بالامر، وانه لاحظ لمعاوية وذويه في شئ منه. ولما عدلا إلى طلب الدنيا ومكر أحدهما بصاحبه ونبذا الكتاب وحكمه وراء ظهورهما، خرجا من التحكيم وبطل قولهما وحكمهما، وهذا بعينه موجود في كلام أمير المؤمنين عليه السلام لما ناظر الخوارج واحتجوا عليه في التحكيم. وكل ما ذكرناه في هذا الفصل من ذكر الاعذار في التحكيم والوجوه المحسنة له مأخوذة من كلامه عليه السلام.
وقد روي ذلك عنه عليه السلام مفصلا مشروحا.
فأما تحكيمهما مع علمه بفسقهما فلا سؤال فيه، إذ كنا قد بينا ان الاكراه وقع على أصل الاختيار وفرعه، وأنه عليه السلام ألجئ إليه جملة ثم إلى تفصيله، ولو خلى عليه السلام واختياره ما أجاب إلى التحكيم أصلا، ولا رفع السيوف عن أعناق القوم. لكنه أجاب إليه ملجأ كما أجاب إلى ما اختاروه بعينه كذلك. وقد صرح (ع) بذلك في كلامه حيث يقول: لقد أمسيت أميرا وأصبحت مأمورا، وكنت أمس ناهيا وأصبحت اليوم منهيا.
|
واما قول السائل، فإنه (ع) تعرض لخلع إمامته ومكن الفاسقين من أن يحكما عليه بالباطل، فمعاذ الله ان يكون كذلك، لأنا قد بينا انه (ع) انما حكمهما بشرط لو وفيا به وعملا عليه، لاقرا إمامته وأوجبا طاعته، لكنهما عدلا عنه فبطل حكمهما، فما مكنهما من خلع إمامته ولا تعرض منهما لذلك. ونحن نعلم أن من قلد حاكما أو ولى أميرا ليحكم بالحق ويعمل بالواجب فعدل عما شرط عليه وخالفه، لا يسوغ القول بأن من ولاه عرضه لباطل ومكنه من العدول عن الواجب، ولم يلحقه شئ من اللوم بذلك، بل كان اللوم عائدا على من خالف ما شرط عليه.
فأما تأخيره جهاد الظالمين وتأجيل ما يأتي من استيصالهم، فقد بينا العذر فيه، وان أصحابه (ع) تخاذلوا وتواكلوا واختلفوا، وان الحرب بلا أنصار وبغير أعوان لا يمكن. والمتعرض لها مغرر بنفسه وأصحابه.
____________
(1) القصص 49.
|
في أن عليا لم يندم على التحكيم:
(مسألة): فان قيل فإذا كان عليه السلام من أمر التحكيم على ثقة ويقين فلم روي عنه (ع) انه كان يقول بعد التحكيم في مقام بعد آخر:
لقد عثرت عثرة لا تنجبر | سوف أكيس بعدها واستمر |
أوليس هذا اذعانا بأن التحكيم جرى على خلاف الصواب؟.
(الجواب): قلنا قد علم كل عاقل قد سمع الاخبار ضرورة ان أمير المؤمنين عليه السلام
وأهله وخلصاء شيعته وأصحابه كانوا من أشد الناس اظهارا لوقوع التحكيم من الصواب
والسداد موقعه، وان الذي دعي إليه حسن، والتدبير أوجبه، وأنه (ع) ما اعترف قط بخطأ
فيه ولا اغضى عن الاحتجاج على من شك فيه وضعفه، كيف والخوارج انما ضلت عنه وعصته
وخرجت عليه، لأجل انها ارادته على الاعتراف بالزلل في التحكيم فامتنع كل امتناع
وأبي أشد اباء وقد كانوا يقنعون منه ويعاودون طاعته ونصرته بدون هذا الذي أضافوه
إليه (ع) من الاقرار بالخطأ واظهار الندم. وكيف يمتنع من شئ ويعترف بأكثر منه،
ويغصب من جزء ويجيب إلى كل هذا مما لا يظن به أحد ممن يعرفه حق معرفته. وهذا الخبر
شاذ ضعيف، فإما ان يكون باطلا