الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى
فصل
في الكلام على ما اعتمده من دفع وجوب النص من جهة العقل
الواجب أن نقدم قبل حكاية كلامه، ومناقضة الدلالة على وجوب النص، ثم نعترض جملة ما أورده في هذا الفصل.
فمما يدل من طريق العقول على وجوب النص، أن الإمام إذا وجبت عصمته بما قدمناه من الأدلة، وكانت العصمة غير مدركة فتستفاد من جهة الحواس، ولم يكن أيضا عليها دليل يوصل إلى العلم بحال من اختص بها فيتوصل إليها بالنظر في الأدلة، فلا بد مع صحة هذه الجملة من وجوب النص على الإمام بعينه، أو إظهار المعجز القائم مقام النص عليه، وأي الأمرين صح بطل الاختيار. الذي هو مذهب المخالف، ومن أجله تكلفنا الدلالة على وجوب النص وإنما بطل (1) من حيث كان في تكليفه مع ثبوت عصمة الإمام تكليف لإصابة ما لا دليل عليه، وذلك في القبح يجري مجرى تكليف ما لا يطاق (2).
فإن قيل: ولم لا جاز مع ثبوت العصمة التي ادعيتموها تكليف الاختيار؟ بأن يعلم الله تعالى أن المختارين للإمام لا يختارون إلا
____________
(1) أي الاختيار.
(2) لأن تكليف ما لا يطاق ممنوع شرعا (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقبيح عقلا.
|
قلنا: ليس ما ذكرتموه بمخرج هذا التكليف من اللحوق بتكليف ما لا يطاق، ولا دليل عليه ولا معتبر بالعلم في هذا الباب، لأن علم الله تعالى من حال المكلف أنه يتفق له اختيار المعصوم ليس بدلالة على عين الإمام المعصوم، فقد آل الأمر إلى أنه تكليف لما لا دليل عليه، وقبح ذلك ظاهر.
وقد عورض من أجاز ما تضمنه هذا السؤال، وألزم إجازة تكليف اختيار الشرائع والأنبياء، والأخبار عما كان ويكون من الغائبات إذا علم أن من كلف ذلك يتفق له في الشرائع ما فيه المصلحة، وفي الأنبياء من يجب بعثه، وفي الأخبار الصدق منها دون الكذب، ولا فرق بين من أجاز اختيار المعصوم وبين من أجاز كل ما ذكرناه.
وفي الناس من ارتكب جواز اختيار الشرائع والأنبياء، وقد حكي ذلك عن مؤنس بن عمران (1).
فأما الأخبار عما لا يتعلق بالأحكام من الأمور الكائنات فإنه لم يتركب حسن تكليفها ولا فرق بين ما ارتكبه مما حكيناه وبين ما لم يرتكبه،
____________
(1) في " الشافي " المخطوط " مؤيس بن عمران " وفي المطبوع " يونس " تصحيف، وهو كما في طبقات المعتزلة ص 70 مؤيس بن عمران الفقيه قال: وكان يقول بالارجاء " ونقل القاضي في المغني 12 / 238 " إن الله تعالى يجوز أن يكلف العبد باختياره إذا علم أنه لا يختار إلا الصلاح " قال " وأنكر ذلك المعتزلة " وفي " تلخيص الشافي " ج 1 / 277 " موسى بن عمران " وعلق السيد بحر العلوم دامت إفاداته على ذلك بقوله: " في نفس الشافي: يونس بن عمران - من علماء الكلام - ولعله الأصح ". ولكن الصحيح في اسمه ما تقدم.
|
ويبين ما ذكرناه أنا نعلم وكل عاقل قبح تكليف أحدنا غيره الإخبار عما يفعله المكلف مستسرا به (1) وعن مبلغ أمواله التي لا طريق لمن كلفه الإخبار عنها إلى العلم بمبلغها، وليس يخرج هذا التكليف من القبح غلبة ظن المكلف بأن المكلف يصيب اتفاقا أو علمه بذلك فقد يجوز أن يعلمه من جهة نبي صادق وإذا قبح هذا التكليف وظهر سفه مكلفه لكل عاقل، ولم يكن العلة في قبحه إلا فقد الدليل وجب قبح كل نظير له من التكاليف، وهذا الدليل آكد ما اعتمد عليه في وجوب النص من طريق العقل، بل هو الذي يجب أن يكون التعويل عليه، ويتلوه في القوة ما استدل به كثير من أصحابنا أيضا على وجوب النص فقالوا: قد ثبت أن الإمام لا بد أن يكون أفضل الخلق عند الله تعالى وأعلاهم منزلة في الثواب في زمانه وعند ثبوت إمامته، لأنه إذا كان إماما للكل فلا بد أن يكون أفضل من الكل، وستأتي الدلالة على هذا الموضع فيما يأتي من الكتاب، وإذا ثبت كونه أفضل ولم يمكن التوصل إليه بالأدلة ولا بالمشاهدة وجب النص أو المعجز على الحد الذي رتبناه عند التعلق بالعصمة، وإذا سئل على هذا الدليل عما ذكرناه في دليل العصمة فالجواب عنه ما ذكرناه هناك لأن مرجع الطريقين إلى أصل واحد.
وقد استدل على وجوب النص على الإمام بكونه عالما بجميع الأحكام حتى لا يفوته شئ منها، وأن كونه عالما بها لا يمكن الوصول إليه إلا بالنص، ولو أمكن الوصول إليه بالامتحان لم يجز أن يكون الممتحن له
____________
(1) مستسرا به: مستخفيا.
|
وهذا الدليل ليس يرجع فيه إلى مجرد العقل بل لا بد فيه من ثبوت أمر لا يثبت إلا بالسمع، لأن التعبد بالأحكام الشرعية في الأصل كان يجوز في العقل سقوطه وارتفاعه عن المكلفين، ولا شئ من هذه الأحكام إلا والعقل يجوز أن لا يرد التعبد به بأن لا يكون فيه مصلحة وإذا كان العقل غير موجب لثبوت هذه الأحكام في حال فكيف يجب فيه كون الإمام عالما بها في كل حال ويجعل علمه بذلك من شروط إمامته؟ والذي يقتضيه مجرد العقل أن الإمام لا بد أن يكون مضطلعا (1) بما أسند إليه، عالما بما عول فيه عليه في التدبير (2).
فأما العلم بالأحكام الشرعية الواردة من طريق السمع فليس في العقل إلا أن السمع إذا ورد بها علمنا بالقياس العقلي أن الإمام لا بد أن يكون عالما بجميعها على ما سنذكره.
فأما قوله في هذا الفصل: " إنه غير ممتنع أن يعلم تعالى أن الصلاح أن لا يقام الإمام أصلا فكما يكوز ذلك فجاز أن يكون الصلاح إقامته بطريقة الاجتهاد إذا ثبت وبين موضعه، بأن يدل تعالى على الصفة التي إذا كان عليها من يقيمه كان صلاحا " فمما قد تقدم فساده بما دللنا به على وجوب الإمامة، وعلى أن الصفة التي لا بد من كون الإمام عليها لا يمكن أن يستفاد من جهة الاجتهاد، وأنها مما لا يقوم على مثله دلالة فيعلم من
____________
(1) اضطلع بالأمر: قام به مع ثقله وفي المخطوطة " مطلعا ".
(2) على تدبيره، خ ل.
|
فأما معارضته لنا بالأمراء والعمال والحكام، ثم بالشهود والأوصياء، والزامه التسوية بينهم وبين الأئمة في وجوب النص فغير لازمة، لأن جميع من ذكر من هؤلاء ليس يجب اختصاصه بصفة لا سبيل إلى الوصول إليها بالامتحان على حد ما قلناه في الإمام وقد فرقنا بين الإمام وأمرائه وسائر المتولين من قبله في العصمة بما يقتضي الفرق بينهم وبينه في وجوب النص أيضا، لأنه إذا كان ما أوجب النص عليه من الاختصاص بالعصمة غير موجود فيهم لم يجب مساواتهم له في وجوب النص عليهم، وجاز أن يرجع في ولايتهم إلى الاختيار والقول في الشهود والأوصياء كالقول في الأمراء والحكام في أنه لا صفة لهم يستحيل أن تعلم بالامتحان بالذي يعتبر فيهم من حسن الظاهر، والعدالة المظنونة دون المعلومة يمكن الوصول إليه ولا يجري مجرى العصمة التي لا سبيل إلى العلم بها بالامتحان والاختبار.
فأما إلزامه نفسه إقامة الأنبياء بالاجتهاد والاختبار قياسا على الأئمة. وقوله في الجواب: (إن الذي له يجب في الرسول أن يكون معينا هو كونه حجة فيما حمل من الرسالة فلا بد من أن يكون تعالى قد حمله من الرسالة بعينه، ثم لا بد من أن يدعي ويصدقه الله تعالى بدلالة الإعجاز لتحصيل البغية، وذلك لا يأتي في الإمام لأنه ليس بحجة في شئ يتحمله، وإنما يقوم بالأمور التي ذكرناها مما قد وجبت بالشرع.
فلنا إن نقول له: إذا أوجبت الدلالة على عين الرسول صلى الله عليه وآله وأبطلت
|
لأنا قد دللنا على وجوب عصمته، والعصمة مما لا يمكن أن تعلم بالاختيار فكان تحصيل السؤال الذي ذكرت وسألت نفسك عنه أن يقال:
لو جاز ثبوت الإمام مع وجوب عصمته بغير نص لم يمتنع مثله في النبي صلى الله عليه وآله وإنما عدلنا عن معارضته بكون الإمام حجة كما أن النبي حجة وإن كانت الدلالة قد سوت بينهما في معنى الحجة عندنا.
وقد تقدم ذكرها فيما مضى من الكتاب حيث دللنا على أن الإمام حافظ للشرع ومؤد له إلينا لأن دلالة كون الإمام حجة على هذا الوجه ترجع إلى أمر متعلق بالسمع، وكلامنا في هذا الفصل على ما يقتضيه مجرد العقول، فلا بد من العدول عما لا يعلم ثبوته إلا بالسمع.
فأما قوله في آخر الفصل: " على أن السمع قد ورد في باب الإمامة بما ذكرناه على ما سنبينه من بعد وثبوت السمع على هذا الوجه يدل على أن العقل لا يمنع من ثبوت ذلك بغير النص " فدعوى منه على السمع غير صحيحة، وليس يمكن أن يدعى سمع تقوم بمثله الحجة في باب الاختيار، وأكثر ما يمكن ادعاؤه (1) في السمع وروده بأن اختيارا وقع لبعض من ادعيت إمامته، ولم يثبت أن المختارين كان لهم فعل ما فعلوه، ولا أن الذي عقدوا له الإمامة تثبت له إمامة على الحقيقة، ونحن لم نمنع من اختيار من تدعى له الإمامة وليس بإمام على الحقيقة. وإنما منعنا من اختيار الإمام الذي تثبت إمامته وتصح، وسنتكلم على ما وعدنا بإيراده من السمع عند البلوغ إليه بعون الله تعالى.
____________
(1) خ " أن يدعى ".
|
وقد دل الدليل على أن إنكار هؤلاء كان لأصل الاختيار وإن لم يصرحوا به، واكتفوا بالنكير على الجملة، ولو لم يدل الدليل على ذلك لكان إنكارهم محتملا للأمرين، يعني إنكار أصل الاختيار جملة، وإنكار أمامة المختار في تلك (3) الحال، وإذا كان محتملا بطل ادعاؤه الإطباق، وأن أحدا من السلف لم يقل في الإمامة أنها لا تكون إلا بالنص، وصار محتاجا إلى أن يدل على أن الإنكار الواقع الذي بينا أنه محتمل للأمرين لم يكن إلا لأحدهما دون الآخر وأنى له بذلك؟ فإن عول صاحب الكتاب على ما لا يزال أصحابه يعتمدونه من رجوع من ذكرنا من المخالفين ووقوع الرضا منهم فسنبين بطلان هذا فيما بعد، وندل على أن الرضا لم يعلم وأكثر ما علم الكف عن النكير المخصوص، وذلك لا يدل على الرضا في مثل تلك الحال، على أن أحدا من المنكرين لإمامة أبي بكر ممن ذكرناه لم يقل أيضا أنه جائز عندي من طريق العقل الاختيار وإنما خلافي هذا في
____________
(1) الخطوب جمع خطب وهو الأمر العظيم.
(2) خ " جلة " ويقصد بهم عليا عليه السلام والمنحازين إليه يوم السقيفة كالزبير وسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار، وخالد وأبان ابني سعيد بن العاص، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابني حنيف، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي أيوب الأنصاري وأبي بن كعب وبريدة الأسلمي والعباس وأولاده بل بني هاشم كافة وغيرهم.
(3) خ " ذلك ".
|
وأما الشورى وما يدعونه من أن دخول الجماعة فيها كان على سبيل الرضا بالاختيار فسنبين أيضا أنه ليس كل الداخلين فيها كان راضيا بالاختيار إذا انتهينا إلى الكلام فيما يتعلق بالشورى، على أن الخطوب لم تجر في أن العقل يدل على فساد الاختيار أم على صحته وإنما جرت في أعيان المختارين وقد خولف في ذلك بما أقل أحواله أن يكون محتملا بإنكار أصل الاختيار كاحتماله لغيره وليس يجب على المنكر في كل حال أن يبني وجه إنكاره على سبيل التفصيل وجهته، فإذا لم يجب ذلك لم يكن ترك القوم للتصريح بأن إنكارهم إنما كان لأصل الاختيار دون فرعه إلا على أنهم لم يكونوا منكرين لأصله، لأن النكير على سبيل الجملة يكفي في مثل تلك الحال
|
فصل
في أبطال ما طعن به على ما حكاه من طرقنا
في وجوب النص
قال صاحب الكتاب: " أحد ما يعتمدون عليه ما تقدم القول فيه من أن الإمام لا بد أن يكون حجة، ومستودعا للشريعة يحفظها ويقوم (1) [ بأدائها، فلا بد من أن يكون معينا يتميز من غيره ] (2) وذلك لا يكون إلا بنص أو معجز، وربما قالوا: إذا كان يقوم بمصالح الدين التي لا بد منها من إقامة الحدود وما أشبهها (3) فلا بد من عصمته، ولا يكون كذلك إلا بالتعيين ".
قال: " وكل ذلك * مما تقدم الكلام عليه * (4) والجواب عنه لأنهم إذا بنوا النص عليه وقد بينا فساد التعلق به فيجب أن لا يصح إثبات النص من جهة العقل... " (5).
____________
(1) " يقوم " ساقطة من المغني والشافي وقد اقتضاها السياق.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من الشافي وأعدناه من المغني.
(3) عند المقابلة بين ما في المغني والمنقول عنه هنا يظهر أن كلمة " وما أشبهها " إجمال من المرتضى للمذكور هناك لأن الذي في " المغني " هكذا: (يقوم بمصالح الدين التي لا بد منها من إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وقسمة الفئ والغنيمة، وجباية الخراج، إلى غير ذلك، فلا بد أن يكون معصوما لا يزل ولا يضل، ولا يكون ذلك إلا بالتعيين الذي لا يكون إلا بنص أو معجز إلى سائر ما يشاكل ذلك مما قدمناه وكل ذلك) الخ.
(4) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(5) المغني 20 ق 1 / 103.
|
قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم وربما قالوا: لا بد لمن يكون إماما أن يكون على حال وصفة لا طريق للاجتهاد فيها، فلا بد من أن يكون بنص، وربما ذكروا في هذه الصفة كونه معصوما إلى سائر ما تقدم، والجواب عنه قد سلف ".
قال " وربما ذكروا غيره، بأن يقولوا: لا بد من أن يكون عالما بجميع الأحكام حتى لا يشذ عليه (1) شئ منها وإلا لزم ذلك أن يكون قد كلف القيام بما لا سبيل له إليه (2) ويحل ذلك محل تكليف ما لا يطاق فلا بد من نص عليه، لأنه لا طريق للمجتهدين إلى معرفة ذلك من حاله، لأنه إنما يعلم ذلك من حاله في استغراق المعلوم (3) من يعرف هذه العلوم أجمع لم تصح لهم معرفته، ولأن معرفة ذلك لا تصح إلا بامتداد الأوقات، وبالتجربة والامتحان، فإذا لم يكن وقوف أحد من الأمة عليه لم يجز أن يكلف الاجتهاد في ذلك فلا بد من النص " (4).
قال: " ثم يقال لهم: أمن جهة العقل تعلمون إن كونه عالما بجميع هذه الأحكام من شرط كونه إماما، أو بالسمع؟ فإن قالوا:
____________
(1) غ " لا يشذ منه ".
(2) الضمير في " له " للإمام، وفي " إليه " لما يكلف القيام به.
(3) غ: " هذه العلوم ".
(4) المغني 20 ق 1 / 104.
|
وأي دليل في العقل يقتضي ما ذكرتموه مع علمنا بأنه قد يجوز أن يقوم بكل ما فوض إليه على حقه وإن لم يكن عالما بجميع الأحكام " (3).
يقال له: أما الذي يدل على وجوب كون الإمام عالما بجميع الأحكام فهو أنه قد يثبت أن الإمام إمام في سائر الدين، ومتول للحكم في جميعه، جليله ودقيقه، ظاهره وغامضه وليس يجوز أن لا يكون عالما بجميع الدين والأحكام، وهذه صفته لأن من المتقرر عند العقلاء قبح استكفاء الأمر وتوليته من لا يعلمه، وإن كان لمن ولوه واستكفوه سبيل إلى علمه، لأن المعتبر عندهم كون المولى عالما بما ولي ومضطلعا به ولا معتبر بإمكان تعلمه وكونه مخلى بينه وبين طريق العلم لأن ذلك وإن كان حاصلا فلا تخرج ولايته من أن تكون قبيحة إذا كان فاقدا للعلم بما فوض إليه.
يبين ما ذكرناه أن الملك إذا أراد أن يستوزر بعض أصحابه ويستكفيه تدبير جيوشه ومملكته فلا بد أن يختار لذلك من يثق منه بالمعرفة والاضطلاع حتى أنه ربما جربه في بعض ما يشك فيه من حاله، وفيما لا يكون واثقا بمعرفته به واضطلاعه عليه، وليس يجوز أن يفوض أمر وزارته، وتدبير أموره وسياسة جنده إلى من لا علم له بشئ من ذلك، لكنه ممن يتمكن من التعلم والتعرف ولا حائل بينه وبين البحث والمسألة
____________
(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(2) ما بين المعقوفين معاد من المغني.
(3) المغني 20 ق 1 / 104.
|
____________
(1) خ " العلماء والحكماء ".
(2) شطر الشئ نصفه، والمراد هنا القيام ببعضها.
(3) خ " غلمانه وخدامه ".
|
وإنما بنينا الكلام في الدلالة على وجوب كونه عالما بجميع الأحكام على كونه إماما في سائر الدين، ولو جاز أن يكون إماما في بعض من الدين دون بعض لم يجب عندنا أن يكون عالما بالبعض الذي ليس هو إماما فيه، ومما يدل أيضا على ذلك أن الإمام قد ثبت كونه حجة في الدين، وحافظا للشرع بما تقدم من الأدلة، فلو جوزنا ذهاب بعض الأحكام عنه لقدح ذلك في كونه حجة من وجهين.
أحدهما: إنا لا نأمن أن يكون ما ذهب عنه من أمر الدين ولم يكن عالما به مما اتفق للأمة كتمانه، والإعراض عن نقله وأدائه، لأنا قد دللنا فيما مضى من الكتاب على جواز ذلك عليها، وإذا كنا إنما نفزع فيما يجوز عليها من الكتمان إلى بيان الإمام واستدراكه عليها فمتى جوزنا على الإمام أن يذهب عنه بعض الأحكام ارتفعت ثقتنا بوصول جميع الشرع إلينا، وهذا قادح في كون الإمام حجة بلا شك.
والوجه الآخر: أن تجويز ذهاب بعض الدين عنه، وإشكال بعض
|
____________
(1) المراد بالمحصلين طلاب العلوم وهو مصطلح حادث.
|
فأما حوالة صاحب الكتاب في أول ما حكيناه من كلامه في هذا الفصل على ما سلف له في إبطال كون الإمام معصوما، فما أحالنا عليه قد بينا بطلانه، واستقصينا الكلام عليه عند نصرتنا الأدلة في وجوب عصمة الإمام.
فأما قوله فيما حكاه عنا من الاستدلال: " وإلا أدى ذلك إلى أن يكون قد كلف القيام بما لا سبيل له إليه، ويحل محل تكليف ما لا يطاق " فإنا لا نعتمد على ما ظنه ولا نلزمه إياه أيضا بل الذي يؤدي إلى ذلك إليه من الفساد وفعل القبيح هو ما ذكرناه في صدر كلامنا هذا وأشبعناه.
وقد بينا أن العقلاء يستقبحون استكفاء الأمر من لا يعلمه وإن كان له إلى علمه سبيل، وليس إذا لم يقبح هذا الفعل من حيث كان تكليفا لما لا يطاق لا يجب قبحه، لأن جهات القبح كثيرة من جملتها تكليف ما لا يطاق، وقد يجوز أن يكون ما لم يقبح لهذا الوجه يقبح لغيره.
فأما قوله " أمن جهة العقل علمتم أن كونه عالما بجميع الأحكام من شرط كونه إماما أو بالسمع؟ ".
فقد بينا في الفصل المتقدم أن كون الإمام عالما بجميع الأحكام ليس
|
فإن أراد صاحب الكتاب بإضافة ذلك إلى العقل ما ذكرناه أولا فقد بينا إنا لا نجعل هذه الصفة من الشرائط العقلية الواجبة لتجويز العقل ارتفاع العبادة بالشرائع، وإن كان المراد ما ذكرناه ثانيا فليس يمنع من إضافته إلى العقل بمعنى إنا نعلم بالعقل وأدلته بعد استقرار الشرائع وجوب كون الإمام عالما بجميعها.
قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا كيف يصح أن يقوم بذلك والقيام بالعمل لا يصح إلا مع العلم؟
قيل لهم: بأن يستدل حالا بعد حال ويجتهد فيعرف ما ينزل من النوازل التي يلزمه الحكم فيها وبأن يرجع في كثير منها (1) إلى الرأي والاجتهاد كالجهاد وغيره، وقد يجوز أيضا أن يقوم بذلك على حقه بأن يراجع العلماء ويستشيرهم فيحكم بما ثبت عنده من أصح الأقاويل، وقد يجوز أيضا من جهة العقل أن يكلف القبول من العلماء، وأن يحكم بذلك كما يقول كثير من الناس في حكم الحاكم وكما نقوله [ فيما كلف به كثير من
____________
(1) غ " من ذلك ".
|
يقال له: هذا كلام من يظن إنا إنما قبحنا ولاية الإمام وهو لا يعلم جميع الأحكام من حيث لم يكن له إلى العلم بها سبيل، وقد بينا أن وجود السبيل في هذا الموضع كعدمها إذا كان العلم بما أسند إلى المولى مفقود أو أنه لا بد من قبح هذه الولاية مع فقد العلم، فلا حاجة بنا إلى الكلام على ما عددته من وجوه العلم التي يجوز أن يرجع الإمام إليها، لأنه لو ثبت في جميعها أنه طريق إلى العلم، وموصل إلى المعرفة بالأحكام لم يخل بما اعتمدناه فكيف وأكثر ما أوردته لا يوصل عندنا إلى علم بكنه (6) ولا إلى ظن صحيح.
وقد قدمنا الفرق بين التكليف والولاية، فليس لمتعلق أن يتعلق به.
ثم يقال له: فأجز قياسا على ما ذكرته أن يستكفي بعض حكماء ملوكنا أمر وزارته وتدبير مملكته، من لا يعلم شيئا من أحكام الوزارة
____________
(1) التكملة من " المغني ".
(2) ما بين المعقوفين من المغني.
(3) غ " قد ثبت بالدليل أنه حجة " فعليه يكون الضمير إلى " قول الأمة " وعلى ما في المتن الضمير إلى الأمة ".
(4) غ " التعبير به ".
(5) المغني 20 ق 1 / 105.
(6) كنه الشئ: نهايته، ومنه قولهم: أعرفه كنه المعرفة.
|
قيل له: وآي فرق هذا وبين ما أجزته في الإمام والعلة التي تطرقت إلى حسن ولايته مع فقده للعلم بالأحكام حاصلة فيما عارضناك به؟ وهي إمكان التعرف والتعلم.
فإن قال: ليس يشبه ما أجزته في الإمام ما عارضتم به، لأنني لم أجز أن يولى الإمامة من لا يعلم الأحكام، ويعدل بها عمن يعلمها، وإلزامكم تضمن هذا الوجه.
قيل له: لا بد من جواز ذلك على مذهبك لأنه ليس من شروط الإمامة عندك كونه (3) عالما بجميع الأحكام، كما أنه ليس من شروطها عندك أن يكون أفضل الأمة وأكثرهم ثوابا، وإذا لم يكن ما ذكرناه شرطا جاز أن يعدل عمن حصل فيه إلى غيره بعد أن يكون ذلك الغير ممن يتمكن من التعرف والتوصل لأن هذا هو الشرط عندك دون الأول.
فإن قال: إنما قبح من الملك أن يولي وزارته من لا يعلمها ويسند
____________
(1) أي جلها، ومنه جمهور الناس: أي جلهم.
(2) خ " والكفاية ".