الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى
ذلك اطراحه جملة فإذا كان القول ظاهرا في بعض فرق الأمة دون بعض لم يكن هذا حكمه.
فأما إزاحة العلة فقد بينا أن حكم الجميع فيها واحد وإن لم ينقل النص إلا فرقة من فرق الأمة دون الباقين.
قال صاحب الكتاب: " على أن ما جرت عليه أحوال الصحابة يمنع من ادعاء هذا النص في الأصل لأنه لو كان صحيحا لكان إنما يجوز أن يختلف حال النقل فيه أن جاز ذلك في عصر التابعين أو بعد ذلك، فأما في عصر الصحابة فغير جائز ذلك، وكان يجب أن يكون معلوما لجميعهم، ولو كان كذلك لكانت الأمور التي جرت في الإمامة لا تجري على الحد الذي جرت عليه، بل كان يجب أن يكونوا مضطرين إلى معرفة إمامة أمير المؤمنين كاضطرارهم إلى أن صلاة الظهر واجبة، وصوم شهر رمضان واجب، وحج البيت واجب، ولو كان كذلك ما صح ما قد ثبت عنهم من مواقف الإمامة والمنازعة فيها إلى غير ذلك، وهذا في أنا نعلم بطلانه باضطرار بمنزلة ما نعلمه من أنفسنا لأنا كما نعلم أنا لا نعلم في الإمامة ما ادعوه باضطرار، ونعتقد خلافه نعلم ذلك من حال الصحابة، وأنهم كانوا يعتقدون خلاف ذلك، ولا يمكن بعد ذلك إلا نسبة جميعهم إلى الارتداد والنفاق، وأنهم لذلك صح أن يخالفوا، وذلك مما لا يحل الكلام فيه لأنه طريق الشبه القادحة في النبوءات، وإنما ألقاه الملاحدة الذين طريقتهم معروفة، لأن اختصاص الرسول صلى الله عليه وآله بأكابر الصحابة، ومن يدعى لهم الإمامة، وما تواتر من تعظيمه لهم وإكرامه، إلى غير ذلك يقارب ما تواتر من الخبر في أمير المؤمنين عليه السلام وغيره، فمن يجوز فيهم الشرك والنفاق فإنما طعن على الرسول صلى الله عليه وآله وإذا تعلقوا في مثل ذلك بالتقية صار الكلام فيه أعظم مما تقدم، لأن
|
يقال له: الذي يذهب إليه أصحابنا وهو الذي أشار إليه أبو جعفر ابن قبة (2) رحمه الله في كتابه المعروف بـ (الإنصاف): " أن الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكونوا دافعين بأسرهم للنص وعالمين بخلافه مع علمهم الضروري به، وإنما بادر قوم من الأنصار لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلى طلب الإمامة، واختلفت كلمة رؤسائهم بينهم، واتصلت حالهم بجماعة من المهاجرين، فقصدوا السقيفة عالمين على إزالة الأمر عن مستحقه، والاستبداد به، وكان الداعي لهم إلى ذلك غلبة رغبتهم في عاجل الرئاسة، والتمكن من الحل والعقد، وانضاف إلى هذا الداعي ما كان في نفس جماعة منهم من الحسد
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 119 و 120.
(2) أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قبة - بكسر القاف - الرازي، من متكلمي الشيعة وحذاقهم، وكان قديما من المعتزلة ومن تلامذة أبي القاسم البلخي شيخ المعتزلة المعروف ثم انتقل إلى مذهب الإمامية، وجرد قلمه في نصرة مذهبهم والرد على خصومهم فألف كتاب (الرد على الزيدية) و (الرد على أبي علي الجبائي) و (المسألة المفردة في الإمامة) و (الإنصاف في الإمامة) المذكور في المتن، وعن هذا الكتاب قال ابن أبي الحديد في شرح الخطبة الشقشقية: " ووجدت كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب " الإنصاف ". " وقد نقض أبو القاسم البلخي هذا الكتاب بكتاب (المسترشد في الإمامة) فنقضه ابن قبة بكتاب (المستثبت في الإمامة) فنقضه أبو القاسم بكتاب (نقض المستثبت) ومات أبو جعفر في خراسان سنة 317. قبل نقض هذا الأخير في قصة لطيفة أنظر تفصيل ذلك في (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) ج 1 ص 310 و 314
|
وقد ذكر أبو جعفر رحمه الله: " إن وجه دخول الشبهة على القوم أنهم لما سمعوا الرواية عن الرسول صلى الله عليه وآله في قوله: (الأئمة من قريش) ظنوا أن ذلك إباحة الاختيار، وأن الأخذ بهذا القول العام أولى من الأخذ بالقول الخاص المسموع في يوم الغدير وغيره " وقال رحمه الله: " إن النص ينقسم على قسمين، نص وقع بحضرة الصحابة قليلة العدد، والنص الآخر وقع بحضرة الخلق الكثير.
____________
(1) ثم حادوا، خ ل.
|
وأما النص الذي وقع بحضرة العدد الكثير، فإنما كان يوم الغدير، وكلهم كانوا ذاكرين لكلامه عليه السلام غير أنهم ذهبوا عنه بتأويل فاسد لأنهم لما دخلت عليهم الشبهة توهموا أن لذلك الكلام ضربا من التأويل يجوز معه للرؤساء إذا وقعت الفتنة، واختلفت الكلمة، أن يختاروا إماما ".
هذه ألفاظه بعينها (1) وإن كنا في صدر كلامنا في هذا الفصل توخينا إيراد معنى كلامه وكثير من ألفاظه، ولم نأت بالجميع على وجهه، وهذه طريقة حسنة غير أنه يمكن مع هذا التقسيم لأحوال الصحابة والتنزيل أن لا نفرق بين النص الجلي والنص الواقع في يوم الغدير في الوقوع بحضرة الأكثر ويسوى بين النصين وكثرة السامعين له والشاهدين له لأنه لا يمتنع على هذا أن يكون النبي أسمع النص الجلي سائر من أسمعه خبر يوم الغدير، غير أنه لما وقعت الفتنة واختلفت الكلمة من المهاجرين والأنصار ما وقع العلل والأسباب التي ذكرنا بعضها ورأى الناس صنيعهم اعتقد كثير منهم مع العلم بالنصين والذكر لهما أن القوم الذين ركبوا الأمر وعقدوه لأحدهم لم يفعلوا ذلك إلا بعهد من الرسول صلى الله عليه وآله خاص إليهم، وقول منه تأخر عما علموه (2) من النص وكان كالناسخ له، وذهب عليهم أنه لو كان في ذلك عهد ينافي النص الظاهر الذي عرفوه لما جاز أن يكون خاصا، وأن النسخ في مثله لا يقع لأنه موجب للبداء إلى غير هذا
____________
(1) أي ألفاظ أبي جعفر بن قبة رحمه الله.
(2) في الأصل " عملوه ".
|
لو كان ما قدرتموه صحيحا لوجب أن ينقل الذين دخلت عليهم الشبهة جملة بفعل الأكابر النص ولا يعدلوا عن ذكره جملة لأن الشبهة المانعة لهم من العمل بموجبه غير مقتضية للعدول عن نقله كما أنهم عندكم لما اشتبه عليهم المراد بخبر يوم الغدير وما جرى مجراه حتى اعتقدوا بالشبهة أنه غير مقتض للنص لم يوجب عليهم ذلك عدولهم عن نقله وروايته، لأنه غير ممتنع أن يعدلوا عن نقله بالشبهة كما عدلوا عن العمل به وعملوا بخلافه بالشبهة، لأنهم إذا كانوا قد اعتقدوا أن القوم الذين أحسنوا الظن بهم لم يقع منهم ما وقع إلا بعهد إليهم أو شرط أو ما جرى مجرى العهد والشرط يسوغ ما فعلوه، فقد بطل عندهم حكم الخبر، وصار مما لا فائدة في نقله، وخبر الغدير مفارق للنص الجلي لأنه إذا اشتبه عليهم إيجابه للنص
|
فإن قيل: إذا كان الأمر في كتمان أهل الملة للنص على ما ذكرتم فألا نقله اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم من طوائف أهل الخلاف للملة، وقد علمنا أن جميع الدواعي الموجبة للأغراض التي ذكرتموها في أهل الملة عنهم مرتفعة، وأنهم قد نقلوا من أحوال الرسول صلى الله عليه وآله الظاهرة كتأميره الأمراء ونصه على الأحكام، وحروبه للأعداء إلى غير ذلك ما حال النص عندكم في الظهور كحاله والداعي إلى نقله لهم داع إلى نقل النص مع أن للنص مزية ظاهرة عندهم، لأنهم إذا نقلوه مع ما جرى من الناس من العمل بخلافه كانت فيه لهم حجة على أهل الاسلام واضحة ومعيرة (2) ظاهرة من حيث خالفوا فيه عهد نبيهم، وأقدموا على
____________
(1) يعني بالنصين الجلي والخفي وقد أوضحهما في المتن.
(2) معيرة: موضع عار، وهو السبة والتوبيخ.
|
قلنا: لو نقل من ذكرته من مخالفي الاسلام النص لكانوا إنما ينقلونه للوجه الذي لم ينقلوا الحوادث العجيبة والأمور البديعة الظاهرة، ومعلوم فيما كان سبب نقلة مثل هذا أن الخوف اليسير يمنع منه، ويقتضي العدول عنه، وليس يحمل نفسه عامل على تحمل الضرر والخطار (4) بالنفس فيما جرى هذا المجرى، وربما كان الخوف الشديد سببا لانقطاع نقل ما يرجع إلى الديانات فضلا على ما لا يرجع إليها ولا يعتقد المعرض عن نقله أنه قد ضيع بإعراضه فرضا، وأهمل واجبا، وإذا كان في نقل النص وإشاعاته وتداوله شهادة على أئمة القوم بالانسلاخ عن الدين، والمخالفة للرسول صلى الله عليه وآله وعلى كل تابع لهم، ومقتد بهم، ففي تعرض اليهود وأهل الذمة لهم فسخ لذمتهم، ونقض لعهدهم، وليس ينشط هؤلاء مع بقاء عقولهم أن يسفكوا دماءهم ويبيحوا حريمهم بما لا يجدي عليهم نفعا، وليس في تعبير المسلمين بخلافهم لنبيهم صلى الله
____________
(1) تمحلوه: إحتالوا في توجيهه.
(2) الخطار بالنفس: المخاطرة بها، بأن يعرضها لما فيه هلاكها.
|
فأما قوله: " بل كان يجب أن يكونوا مضطرين إلى معرفة النص ولو كان ذلك كذلك لما صح ما قد ثبت عنهم من مواقف الإمامة " فهذا إنما يقال فيما يتنافى ولا يصح ثبوته على الاجتماع، وقد كان يجب أن يبين من أي وجه يجب إذا كانوا يعلمون النص أن لا يقفوا في أمر الإمامة تلك الموقف وقد بينا أن جميعهم لم يدفع الضرورة في النص ولا عمل بخلافه على جهة التعمد وأنهم ينقسمون إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها، وإذا كان الذي أجزنا عليه تعمد الكتمان للنص مع العلم به وتعمد العمل بخلافه جماعة قليلة العدد، فكيف يصح أن يقال: إن النص لو كان حقا لم يجر من القوم ما جرى ولم يبق إلا أن يقال: لا يجوز على الجماعة القليلة أن تعمل بخلاف ما تعلمه، وتدفع ما تعرفه لبعض الأغراض القوية، وهذا مما إذا قيل عرفت صورة قائله، فإن خصومنا لا يمنعون ما ذكرناه في
|
(يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) (1) وقال جل ذكره: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) (2). وقد علمنا من جهة القرآن أيضا والأخبار ما وقع من ضلال قوم موسى عند دعاء السامري لهم إلى عبادة العجل، وكثرة من اغتر به ومال إلى قوله مع قرب عهدهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم وكثرة ما تكرر على أسماعهم من بيانه وحججه التي يقتضي جميعها توقي الشبهة بنفي التشبيه عن ربه تعالى، ولعل من ضل بعبادة العجل من قوم موسى عليه السلام كانوا أكثر من جميع المسلمين الذين كانوا في المدينة لما قبض الرسول صلى الله عليه وآله وإذا جاز الضلال والعدول عن المعلوم على أنه من الأمم فهو على جماعة من جملة أمة أجوز، والذي يقوله المخالفون عند احتجاجنا بقصة السامري من أن ضلال قوم موسى لعبادة العجل إنما كان للشبهة لا على طريق التعمد والعناد، وقولكم في النص يخالف هذا لأنه كان معلوما لهم عندكم فعدلوا عنه وعملوا بخلافه غير صحيح، لأن القوم الذين ضلوا بالسامري قد كانوا من أمة موسى عليه السلام وممن سمع حججه وبيناته، وعرف شرعه ودينه، وما كان يدعو إليه ونحن نعلم
____________
(1) البقرة: 146.
(2) النمل 14.
|
على أن قوله: (كان يجب أن لا يجري منهم في الإمامة ما جرى) إنما يحمل عليه حسن الظن بالقوم، وليس لحسن الظن مجال حيث يقع العلم، وإذا كنا قد دللنا على صحة النص بأدلة تقتضي العلم فلا معنى لدفعها بما يرجع فيه إلى حسن الظن، على أن جميع ما يقتضي حسن الظن بالقوم الدافعين للنص والقائمين مقام المنصوص عليه عليه السلام من الصحبة للنبي صلى الله عليه وآله وظهور الفضل قد حصل لغيرهم أو أكثره، ولم يكن ذلك نافيا عن الضلال، والعمل بخلاف الحق مع العلم به، ألا ترى أن طلحة والزبير مع صحبتهما وكثرة فضلهما في الظاهر، ومقاماتهما في الدين قد بايعا أمير المؤمنين عليه السلام طائعين غير مكرهين ثم عادا ناكثين لبيعته مجلبين (5) عليه ضاربين لوجهه ووجوه أنصاره
____________
(1) أي يحل فيها.
(2) طه 44.
(3) يقال: أجلب عليه وجلب أيضا - وأجلبوا تجمعوا وجلب فرسه: صاح بها واستحثها.
|
وهذا سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة (1) ممتنعان من بيعته عليه السلام مع انتفاء كل عذر يمكن أن يقام لهما.
وهذا معاوية وعمرو بن العاص مع صحبتهما أيضا قد جرى منهما من حرب أمير المؤمنين عليه السلام وإظهار عداوته ولعنه في قنوت الصلوات وما شهرته تغني عن ذكره وهم يسمعون النبي صلى الله عليه وآله يقول (حربك يا علي حربي وسلمك سلمي) (2) وقوله: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) (3) وقوله: (علي مع
____________
(1) محمد بن مسلمة صحابي من الأنصار امتنع من بيعة أمير المؤمنين واعتزل في حروبه مات بالمدينة سنة 43 وقيل 46.
(2) رواه الترمذي 2 / 320 باب فضائل فاطمة عليها السلام وابن ماجة 1 / 52 ح 145 وأحمد في المسند 2 / 422 والحاكم في المستدرك 3 / 149، وابن الأثير في أسد الغابة 3 / 11 و 5 / 523 وغيرهم بألفاظ متقاربة ومعنى واحد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام: (أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم) كما يظهر من بعضها أنه صلى الله عليه وآله قال ذلك في أكثر من موطن.
(3) دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله (اللهم وال من والاه الخ) تقدم تخريجه وسيأتي أيضا.
|
____________
(1) حديث (علي مع الحق) تقدم أيضا.
(2) عدل عن سنن الطريق: مال عنه، وفي السين ثلاث لغات بالضم والفتح والكسر.
|
وقد كنا ذكرنا فيما مضى من هذا الكتاب ما يمكن أن يعارض به هاهنا حيث قلنا لصاحب الكتاب: إذا جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قد بين صفات الإمام التي من جملتها أن يكون من قريش، وصفات العاقدين للإمامة، ثم حضر الأنصار مع ذلك طالبين للأمر ومنازعين فيه، فألا جاز عليهم وعلى من طلب الأمر من المهاجرين أن يطلبوه مع علمهم بالنص للوجه الذي له طلبت الأمر الأنصار؟
وبينا أنه إن قال إن الأنصار لم تسمع النص على صفات الإمام وصفات العاقدين مع أنهم من أهل الحل والعقد وممن قد خوطب بإمامة الإمام.
قيل له: فأجز أيضا أن يكون النص لم يسمعه القوم الذين استبدوا بالخلاف وتمالؤا على جرها إليهم، وقد أشبعنا هذه المعارضة فيما مضى، ونتمكن أن نذكر في هذا الموضع مقابلة لكلامه المبني على حسن الظن بالقوم، حيث يقول: (لو كان ما يقولونه في النص حقا لما فعلوا كذا وكذا).
فيقال له: ولو كان ما تدعيه من النص على صفات الإمام
|
فأما قوله: " وهذا في أنا نعلم بطلانه باضطرار بمنزلة ما نعلمه من أنفسنا لأنا كما نعلم أنا لا نعلم في الإمامة ما ادعوه باضطرار، ونعتقد خلافه نعلم ذلك من حال الصحابة " فطريف لأنه لا سبيل إلى العلم بما كان يعتقده القوم باطنا في النص، وأكثر ما يدل عليه حالهم كونهم مظهرين لاعتقاد خلافه وما سوى ذلك غير معلوم، ولو كان ما ذكره معلوما باضطرار له ولأصحابه لوجب أن تعلمه الشيعة كعلمهم بأنه ليس يمكن أن يدعى فيه طريق يختص، ولا فصل بين من ادعى ذلك من المخالفين وبين من ادعى من الشيعة أنه يعلم ضرورة أن القوم كانوا يعتقدون النص ويعلمونه، وإن كانوا عاملين في الظاهر بخلافه، وليس يشبه ما يعلمه الانسان من نفسه ما يعلمه من غيره لأنه يجد نفسه معتقدا للشئ ضرورة ثم يفصل بين أن يكون معتقدا لبعض المذاهب وبين أن لا يكون كذلك، ولا سبيل له إلى أن يعلم أن غيره معتقد لبعض المذاهب إلا على شروط، وبأن يظهر القول بالمذهب منه في أحوال قد علم أنه لا داعي يدعو إلى إظهاره إلا الاعتقاد والتدين ويقطع على انتفاء كل أمر يمكن صرف الإظهار إليه وهذا مما له خصائص وشرائط تدل عليها الأحوال ومشاهدتها، فكيف يمكن أن يدعي العلم باعتقاد غائب لا سبيل فيه إلى هذه الطريقة، ويجوز أن يكون ما أظهره من الاعتقاد لأسباب وأغراض كثيرة ليست للتدين، على أن المعلوم من مذهب مخالفينا أنهم لا يقطعون على بواطن الصحابة إلا فيمن علموا بالدليل موافقة باطنه لظاهره، وأنهم يجوزون أن يكونوا مبطنين لخلاف ما هم له مظهرون، فكيف يدعي العلم باعتقادهم في النص والقطع على باطنهم فيه دون غيره، وأحوالهم في الكل متساوية، ونحن نعلم أن إظهارهم لاعتقاد خلاف النص كإظهارهم جميع
|
فأما تعلقه بإكرام الرسول صلى الله عليه وآله للقوم وتعظيمه لهم، وأن الخبر بذلك متواتر، فمما لا يؤثر فيما ذهبنا إليه، لأن جميع ما روي من التعظيم والاكرام - إذا صح - فليس يقتضي أكثر من حسن الظاهر وسلامته في الحال، فأما أن ينفي ما يقع منهم في المستقبل من قبيح فغير متوهم، وإذا كان دفع النص والعمل بخلافه إنما وقع بعد الرسول صلى الله عليه وآله فكيف يكون مدحه في حياته لهم وإكرامه ينافيه ويمنع منه؟
فإن قال: إنما عنيت إن الاكرام والمدح والإعظام يمنع من وقوع النفاق في تلك الحال.
____________
(1) الحشوية: في تاج العروس مادة حشا 10 / 90 " الحشوية طائفة من المبتدعة " كأن اسمهم مأخوذ من الحشو في الكلام أي الزيادة فيه بما لا طائل تحته.
|
وقد قيل: إنه غير ممتنع أن يمدح النبي صلى الله عليه وآله من علم خبث باطنه إذا كان مظهرا للحق والدين، كما أنه صلى الله عليه وآله مع علمه بالمنافقين وتمييزه لهم من جملة أصحابه قد كان يجري عليهم أحكام المؤمنين، ولا يخالف بينهم في شئ منها إلا فيما نطق به الكتاب من ترك الصلاة على أحدهم عند موته والقيام على قبره وإجراء أحكام المؤمنين عليهم، ودعاؤهم في جملتهم ضرب من المدح والتعظيم فلئن جاز هذا جاز الأول.
وليس يمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن يعرف المنافقين بأعيانهم لأن القرآن يشهد بأنه صلى الله عليه وآله قد كان يعرفهم
|
قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا: إن طريق الإمامة وإن كان ما ذكرناه فإن النقل انقطع بالكتمان (3) لأنا نجوز على الخلق العظيم أن يكتموا.
قيل له: قد بينا إن الحجة لا تقوم إلا من هذا الوجه، والمصلحة للأمة ألا تعلم الإمامة إلا من هذا الوجه، فلا بد لأمر يرجع إليه حكمة المكلف (4) من أن يمنع مما يقطع هذا النقل فلو جاز الكتمان بالعادة على ما ذكرتموه لوجب أن يقطع فيما هذا حاله أنه لم يقع فكيف والكتمان في ذلك لا يصح كما لا يصح في سائر الأمور الظاهرة.
وبعد، فإن ذلك إن صح أوجب كوننا معذورين على ما قدمناه، بل يوجب أن الحجة كما لم تقم علينا لم تقم عليهم... " (5).
يقال له: قد بنيت السؤال على ما لم تسأل عنه، لأنك إن أشرت بانقطاع النقل من أجل الكتمان إلى انقطاعه من جميع الأمة، حتى أنه لم
____________
(1) التوبة 84.
(2) سورة محمد: 30.
(3) غ " للكتمان " وكذلك في خ.
(4) غ " ولا بد أن يرجع الأمر إلى حكمة المكلف ".